ولأني أحبها جداً فقد احترت ما الذي سأضعه.. سرد، شعرً أم شيء لذيذ من النثر.
هذا موقعها الشخصي لمن أراد أن يغتسل :)
www.bothayna.com
ملائكة الأنفاق الخائنة
لـــ بثينة العيسى**
أطلق سراح شراهتي ، جشعي القديم يزحف بأصابع تحترف التساقط ، لا ينقص هذه الأموال إلا بصمات تثبت جدارتي بها . لا شيءَ يسدّ فوهة فم العالم و عيونه إلا هذه الأوراق برائحة أيادي الأغنياء الذين تحسسوا جسدها بزهدٍ حتى وصلت إليّ ، تباً .. كم انتظرتها ! و هذه المرأة الراقدة تسعل دونما صوت ، تسيل الشهقات داخل صدرها لكي لا تثير ضجيج كرهي لهذا العالم ، يوغل الذبول في اختراقها ، يدرك أنها الجسد الأكثر تهافتاً ، الحركة تؤذيها ، و الحرّ يؤذيها، و رئتها الصغيرة لا تحتمل الكثير من رائحة عرقـي لكنها لا تمـلك خيارا آخر .
أمام ناظريّ : تموت و تختنق ، تبكي في آخر الليل بحرقة تثير الشلل ، تتشبث بي و تصرخ :
- أنا أسقط .. أسقط !
- أنتِ في يدي فأين تسقطين ..
- أنا أسقط بداخلي ، أسقط فيّ .. أضيع !
هذا ما تقوله ، و أنا لا أفهم من السقوط إلا ما أراه في حلمٍ ينتابني منذ طفولة فقري ، السقوط الأزلي نحو اللا قاع ، الهرب نحو نفق خائن لا يحمل في نهايته إلا نوراً مسروقاً من حشرات مضيئة ، أصرخ : أنتِ في يدي !! لكنّ أيادي الشياطين ليست خضراء كالجنة ، كأقدام الأمهات ، حالة السقوط المزمن التي تنتابها كلّ ليلة باتت تمارس ابتزازاً رخيصاً تجاه ثوابتي ..
- لماذا أنتِ ؟!
أسألها و أنا أدفن رأسي في صدرها و أنشج ..
- لماذا أنتِ ؟! لماذا يخصّكِ الله بعذابه ؟!
- كلمة أخرى تمس بها الله .. و أقسم أن ينتهي كلّ ما بيننا !
إصبعها يرقد فوق شفتيّ لكي لا أتفوه بالمزيد البشع ، هذه المرأة تحبني بقدر ما تقدّس أيْمانها الغليظة ، بحفيفٍ طفيف تتحسس جبيني ، شفتيّ ، أجفاني ، أنفاسي تهرب مذعورة و أنا أتأمل الإعياء السعيد يستوطن تلكم الملامح ، ابتسمت كما ينبلج صبح الملائكة في الأنفاق ، و بصوتٍ متشقق :
- يفعل الله ذلك لأنه يحبنا كثيراً !
عندما سألتني لأول مرة عن تخصصي أجبتها : " وسخ دنيا .. ! "
فهمت أنني أقصد التمويل ، ضحكت ، لم تكن تعرف بأنني مولعٌ بالأوساخ ، الاصفرار الشره ، الإعياء المتطاول و مكوثها في السرير كلعنة ، و الحرّ ابن ستين كلب .. كل هذا سيتغير بفضل وسخٍ ما ، يثير الأوساخ حيثما حلّ ، و إلا .. أي شيء يبرر وساخة أن تتمنى وفاة قريبٍ لك لكي ترث ؟!
أزحف ببطء إلى حيث تركتها ممدة ، تتنفس الثقل و الرطوبة ، أنثر الأموال تحت قدميها ، و أسفل وجهها ، بابتهاج تلطخه شهقات مجنونة :
- أنظري .. كلّ هذا .. ستكونين بخير .. سنخرج من هنا .. !!
أتساءل و حسب .. أيّ شيءٍ يجعلها تحتمل أن تراني بهذا التشوه ؟ أبالغ في الإيغال في جشعي لكي أجعلها تحيى بشكلٍ يرضيني ، ولا شيء يرضيني عندما يكون الأمر متعلقاً بها ، لا شيء إلا الجنة .
أنفاسها تصطك ، الصمت يشبك أصابعه فوق شفتيها فلا أسمعها تنبس إلا بسينات كثيرة ، سس .. سس ، هكذا أعرف بأنها تصلي ، كل الحروف تختبئ في شفتيها إلا السين ، حتى عندما أشتم الحياة و أركل الدولاب مع كل نوبة ألم تنتابها بوحشية ، كان صوتها يأتيني مرقوعاً بالمرض و غصص قديمة ..
- تعال .. !
أصمت فوراً و أجيئها جاثياً ألثم قدميها ، تضع رأسي على صدرها و تهمس بشيءٍ ما ، سينات متطايرة لا أعرف كيف أصنع منها جملة مفيدة ، لكنها تصيبني بالسكينة ، تحول غضبي الأهوج إلى حزنٍ نبيل يذوب في تعاسة الوجود ، في عالمٍ وقح و يقر بوقاحته و يحزن لذلك .
- سنغير الغرفة .. سيكون هناك جهاز تبريد في غرفتنا الجديدة ، أعدكِ !
لماذا لم تكن تهتم ، حتى الابتسامة المقصوصة من أطرافها كانت تحمل نكهة مجاملة ، ترفع رأسها بمرفقيها بتثاقل و تسأل :
- هل أدّيت واجب العزاء ؟
- هل هذا هو كل ما يهمّك ؟
تعود للرقود ، تطبق مقلتيها بألم و كأنما قد طعنها ردي بمدية ، يستفزني فيها هذا الأزل الأبيضُ من الصمت ، أهشمه باحتجاج :
- اسمعي ، أنا لا أحبك عندما تكونين ملاكاً .. أعني .. أنا أحبك أكثر عندما تكونين بشراً ، أو ربما شيطاناً ، و تفرحين معي لأسبابي الوضيعة و الرخيصة لمجرد أنني أحبك ..
- وقاحةٌ أن نبني سعادتنا من جماجم الآخرين .
- الله أراد ذلك .. لو كان الأمر بيدي لكنتُ قتلته ، لكن الله أنقذني من جهنم و أماته بمشيئته ، ولا أدعي أبداً أنني أستحق الجنة لكنني أحبك .
أدارت جسدها نحو الجنب الأيمن ، و بكت بخفوت محروق ، يدي الآثمة تمسّد شعرها ، أتمتم باعتذاراتي كدعـاء ، كل شيء يطاق في هذا العالم إلا بكاء الملائكة .
- ربما لا يجدر بملاكٍ أن يتزوج شيطاناً ، لكنني شيطانٌ عاشق ، و الحبّ ليس سيئاً حتى لو تلطخ بالخطايا ، ستكونين بخير .. ماذا تريدين ؟ فساتين ؟ حقائب ؟ أساور ؟!
- أطفئ النور .
كان صدري معتماً بما يكفي لكي أضمها إليه ، عندي ظلمة كافية لكي أسمع تشققات أنفاسها ، و أستنشق عفونة نقودي .. و دون أن أرى شيئاً ..
____________________________
* من مقال لنعيم عبد مهلل عن الكاتبة
** بثينة العيسى مواليد الكويت 1982، لها صفحة " شئون صغيرة " في مجلة بروز للشعر الشعبي، صدرت لها رواية مؤخراً بعنوان "سعار" ولها رواية أخرى لازلت في طور الطباعة.