اقتباس: العلماني كتب
فإذا كان "العوج" من الدستور، فكيف ينصلح حال القوانين الإجرائية "والتفاصيل"؟ وكيف يتم، على المدى الطويل، تدارك تداعي بنيان الدولة نفسها وتفسخه؟
أي إعلان بعلمنة الدولة أو لبرلتها أو مركستها أو طوأفتها يترتب عليه تفاصيل كالتي تتفضل بها!
وهنا سننحني جميعا لهذه التفاصيل كما يحصل دائما في تركيا وفرنسا وغيرهما، وستمارس ضدنا بعض الضغوط والتدخلات في أحوالنا الشخصية والعامة وإلا حسبنا في عداد التمرد والخروج على الدستور ولم يكن لنا كيان قانوني ولو بعد عقود!!
حسنا، والمخرج الديمقراطي من وجهة نظرنا يتمثل في الانصياع للرغبة الديمقراطية دون إملاء أو وصاية أو إقصاء أو تزوير وتحايل!
ما تقرره الأمة وتتراضى عليه على أنه هوية فيجب أن يكون ملزما للجميع لا للأغلبية البرلمانية التي صوتت عليه فحسب...
وطبعا نحن نعلم أن التقريرات والتعديلات الدستورية تتطللب أغلبية خاصة هي أغلبية الثلثين لا مجرد الأغلبية المطلقة كما في سائر القوانين...
حين تتراضى أغلبية الأمة ديمقراطيا على هذه الهوية ففيم النزاع إذن، وهل يمكن هدر حقوق الأقليات إذا اتبعنا قانون الأغلبية الدستوري المعمول به عالميا؟!!
طبعا ما هو خيار الأمة المفترض دون ضغط أو إكراه، إنه المكون العقائدي والثقافي الذي يثبت حضوره بالقطع في تحديد ملامح المرجعية العامة للأمم والشعوب.
وفي تناول عام لهذا المكون نشير إلى أن لكل أمة من الأمم (ذاتيتها) و(هويتها) المتمثلة في عقائدها، وموروثها الفكري والثقافي، المكتوب والمنقول، وكذا (رموزها) و(تجاربها)، والذي يشكل ما يعرف (بالثقافة) أو (التراث) ويتشعب هذا الموروث في فنون الفكر والعلم والمعرفة.
ويشكل هذا (المكون) بطيفه الواسع؛ الشخصية الإنسانية، ويحكم رؤيتها بطريقة شعورية حينا ولا شعورية أحيانا، حتى ليبدو من العسير على الموقف الإنساني أن ينفك من مكوناته الثقافية، بكل ما يكون فيها من تموج أو تضاد.
في عملية تاريخية تمحيصية تتحرك الأمم بدأب غير منقطع في تصحيح تراثها الثقافي، وتجاوز بعض معطياته أو انعكاساته التي تشهد على خللها شواهد الأيام. بينما تتأكد في حياة هذه الأمم القيم الإيجابية الفاعلة، وتتسع دوائر فهمها، وأساليب التبشير بها، والتعامل معها بجهد مباشر وقاصد، من دعاة التغيير أو الإصلاح، وبأسلوب يؤكد نمو هذه الأمم، وبقدرتها على تجاوز السلبي من تراثها الثقافي، الذي يشتمل على (معلومة خاطئة) أو قيمة سلبية أو مثبطة.
في حديثنا عن المكون العقائدي والثقافي لمرجعيتنا تبرز خصوصيتنا الإسلامية، التي تشكل مصدرا أساسيا ومتميزا ومهيمنا للمرجعية المطلقة للدولة الحديثة التي ندعو إليها. ونعتبرها أساس مشروعنا الحضاري. ولكن تقريرنا للخصوصية الإسلامية، لا يجوز من الناحية المنهجية أن يحشرنا في إطار الدولة (الثيوقراطية) ولا أن يقابل بالرفض المسبق، وإن كنا نرى سعة لمن أراد أن يساجلنا الحوار في ميدان التقريب والتسديد.
دعوني أتكلم بوضوح عن بعض ملامح مرجعيتنا وهي أكثر تفصيلا من موضوع الهوية الذي يستنكره الزميل العلماني، وإن كانت تدخل في سياقها، وأكرر قبلا أننا سنطرحها من خلال برنامجنا الإسلامي ديمقراطيا ولن نفرضها على أحد فرضا:
إن ربانية الإسلام، وعصمة نصوصه (الكتاب وصحيح السنة) تشكل المرجعية الشاملة للسواد الأعظم من أبناء أمتنا، كما أن التراث الثقافي المنبثق عن ثوابت الشريعة، والمتفرع عنها يتغلغل في ضمير الفرد والجماعة، ويشكل المكون الثقافي المهيمن والمتفرد، حتى في (لاوعي) أولئك الذين يتظاهرون بالتمرد على الإسلام، أو بمحاولات الانخلاع منه.
كما أن اشتراك الإسلام مع المسيحية في التأكيد على منظومة القيم ذاتها، باعتبارهما دينين سماويين. صدر أصلا عن مشكاة واحدة، يعزز قيمة هذه المرجعية (القيمية) المطلقة، ويبسط سلطانها على مجموع أبناء شعبنا.
وإلى جانب هذه المشاركة العامة بالمرجعية (القيمية) ثمة التوحد بالاعتزاز بالإنجاز الحضاري الذي تم عبر تاريخ مشترك متجذر في أعماق التاريخ. وتتمثل الإنجازات الحضارية الإسلامية برمزيتها الإنسانية في: عدل عمر، وشجاعة خالد، وإنسانية صلاح الدين وفروسيته، كما يشكل البناء الحضاري الفكري والثقافي والمنهجي خلفية مشتركة تصلح أساسا للبناء.
نعتقد أن القليل من (المخالفين) ينازعوننا حول المرجعية (القيمية) في الحق والباطل، أو الخير والشر أو الحسن والقبيح. وإن فعلوا ذلك فإنما يفعلونه في فرعيات دون أن يقدموا على المجاحدة في تقويم الكليات من الفعل الإنساني. وربما يدرك بعضهم أن إفصاحهم عن نهايات آرائهم في هذا الميدان سيفضي بهم، حسب الظروف الموضوعية لواقع الأمة إلى ضرب من الانتحار السياسي.
وإنما يكثر المراء والجدل حول المنطلقات والمناهج أكثر منه حول الحقائق والقيم، فمازال الصدق عند مجموعنا زينًا، وما زال الكذب شينًا ولم يطلع علينا حتى الآن من يطالبنا بإعادة النظر في منظومة القيم، وإن كان وراء الأكمة بعض الشنشنة حول هذه القيمة أو تلك.
إن الإسلام: العقيدة والشريعة والثقافة والمنهج هو المكون الأساسي للوعي الفردي والجماعي لأبناء هذه الأمة. وهو في الوقت نفسه المعزز والمتمم لحقائق القانون الطبيعي (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). إن أي حركة مقترحة خارج إطار هذه المرجعية بأبعادها: العقائدية والتشريعية والحضارية إنما هي حركة عبثية تطوح بأصحابها فكأن أحدهم (خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).
الهوية أو المرجعية التشريعية التي نتحدث عنها هي جملة القواعد الشرعية التي تحدد معالم (المعروف والمنكر) و(الحق والباطل) و(الخير والشر) وترسم الملامح العامة للمجتمع الرشيد. وفي مصطلح (المعروف والمنكر) من الإشارة الزمنية لموقف متطور ضمن الضوابط العامة ما يعتبر دليلاً على حيوية هذه الشريعة وقدرتها على تلبية احتياجات المجتمع في كل حين.
إن الضوابط العامة للمرجعية الشرعية ترسى الأسس لمشروع حضاري متكامل (ما فرطنا في الكتاب من شئ). ولكن هذه الأسس على شمولها ووضوحها وصلابتها وقوة شأنها تترك للإنسان في الزمان والمكان، مساحة للاختيار بين تلك الثوابت لكي ينتقل في حياته مرقاة بعد أخرى للقيام بواجب الخلافة (إني جاعل في الأرض خليفة).
ولقد تضمنت المرجعية الإسلامية نظاما قانونيا مؤسساً على أساس الشمول والصلوح لجميع البيئات والظروف. لأنها تشتمل على المبادئ الثابتة، وعلى التدابير الموقوتة، والأحكام الاستثنائية لأحوال الضرورات، وعلى الأحكام المربوطة بالأعراف والظروف الخاصة، وتتبدل وتتطور بحسب تبدل تلك الأعراف وتطور الظروف مع المحافظة على الفكرة الأساسية فيها وهي العدل والإنصاف.
لقد ألقت الشريعة الإسلامية الأحكام الربانية النهائية في صورة مبادئ وقواعد كلية ثابتة وتركت إلى جانب تلك المبادئ والكليات مجالاً واسعاً للاجتهاد في التفصيل، ونصيباً كبيراً للعقل في التطبيق وقرنت الأحكام بعللها وأسبابها كي يفهمها المكلفون ويتمكنوا من القياس عليها بعقولهم، وفقاً لمقاصد الشريعة في العدل والإحسان وجلب المصالح ودرء المفاسد.
وفي جميع الميادين أتت نصوص الشريعة الأصلية في القرآن والسنة النبوية بمبادئ أساسية عامة وتركت التفصيلات للاجتهاد في التطبيق، بحسب المصالح الزمنية. إلا قليلا من الأحكام تناولتها بالتفصيل كأحكام (الأسرة) و (الميراث) وبعض العقوبات. فكان الأصل في التشريع الإسلامي الإجمال وليس التفصيل.
وفي حدود هذه المرجعية التشريعية العامة يبقى للإنسان الحرّ المختار دائرة تحرك واسعة ينشئ فيها من الأنظمة والقوانين ما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد، حسب مقاصد الشريعة، إذ حيثما تكون المصلحة الشرعية فثم شرع الله.
وهذا ما يعين على بناء مجتمع عمراني متطور قادر على القيام بأعباء الرسالة، رسالة التكليف الأولى (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) أو رسالة البلاغ والشهادة على الناس (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).
وفي حدود هذه المرجعية الشرعية المجملة للقواعد التشريعية الإسلامية يتحرك الإنسان المدني لينشئ دولته، ويحقق تقدمه في ظل اختيار حر منضبط ورشيد.
على أنني أعود وأقول بأن إثباتنا لهذه المرجعية وهذه الهوية لن يكون إلا بأسلوب حضاري نخضع له مهما كانت نتائجه وسنناضل طويلا حتى نقنع شعبنا به وثقتنا بنضج الشعب ولو بعد حين لا تدانيها إلا ثقتنا بالله سبحانه الذي أصلح شريعته وأحكم دينه وتركنا على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، وكلنا أمل بأن نضالنا لتقرير ذلك لن ستنفذ الوقت الطويل بمجرد أن ترفع أنظمة القمع عوائقها التي تفرضها منذ أمد طويل تاركة المجال لاستفراد غيرنا وبرطعته في الساحة كما يشاء!
واسلموا تواصلا واحتراما(f)