بقلم: برهان غليون
خلاف الديمقراطيين والليبراليين العرب يقوم حول مسألتين: شرعية المطابقة النظرية بين الديمقراطية والليبرالية ، ونجاعة مثل هذه المطابقة من الناحية العملية أو الاستراتيجية التي تعنى بنقل الفكرة الديمقراطية إلى الواقع الاجتماعي وممارستها على الأرض.
ميدل ايست اونلاين
أثار مقالي الأخير حول ضرورة التمييز بين الديمقراطية والليبرالية ردوداً كثيرة من قبل ناشطين سياسيين وأصحاب رأي، ربما كان أكثرها إثارة الانتقادات التي نشرها الزميل كمال اللبواني صاحب المبادرة إلى تأسيس حزب ليبرالي سوري، والذي حصل لي شرف التعرف عليه قبل أن يلقى القبض عليه ويقدم لمحكمة أمن الدولة خلال الندوة اليتيمة التي أقامها منتدى الحوار الديمقراطي في 5 أيلول/ سبتمبر 2001 في منزل النائب رياض سيف في دمشق. وكنت قد أعجبت بنقاء فكره وشجاعته وروحه النضالية، كما كان في الواقع حال القسم الأكبر من الذين التقيتهم تلك الليلة التي ألقيت فيها أول محاضرة لي في دمشق منذ خروجي من سورية عام 1970. وقد سررت بالفعل لقراءة هذه الردود، أولاً لما عكسته من انطلاق الحوار الجدي بين تيارات الفكر العربي المعاصر الأساسية، وثانياً لأنها نقلت الحوار من سياق المماحكة مع نظم الحكم العربية التي ترفض أي شكل من أشكال الحوار باستثناء ما تعبر عنه محاكم أمن الدولة والأجهزة الأمنية التي تخدمها من أحكام، نحو أرضية النقاش بين أطراف المجتمع العربي نفسه وفي سبيل بناء مستقبله. فلم يعد الحوار حوار طرشان يقف فيه فكر نقدي معارض وليد محروم من كل وسيلة تعبير مشروعة؛ في مواجهة حملات التشهير والتزوير والتضليل المنظمة لفكر السلطة المطلقة الذي لا يهمه من عناصر المنطق والحجة العقلية، إلا ما يساهم في إخراس الخصم ووصمه بالخروج عن الإجماع وتجاوز الثوابت والخطوط الحمراء والسقوف الوطنية التي لا تكف عن الانخفاض، حتى لم يبق نفحة هواء لحياة ممكنة في بيت الوطنية. لقد أصبح نقاشاً بين أصحاب رأي، أي حواراً بناءً يهدف إلى بلورة منظومات القيم والخيارات السياسية والاجتماعية الكبرى لعالم ما بعد الشمولية والاستبداد، ويجري بين أشخاص أحرار تدفعهم الرغبة المشتركة في بناء حياة ديمقراطية وإنسانية تختلف تماماً عن الأوضاع الراهنة ولا تعميهم المصالح الخاصة والأنانية.
لكن إذا كنا ننتمي نحن الديمقراطيين والليبراليين؛ إلى معسكر واحد هو معسكر الحرية أو الدفاع عن الحريات الفردية، فعلى ماذا نختلف إذن؟ بالتأكيد نحن لا نختلف حول تقدير قيمة الحرية واعتمادها كأساس لأي حياة سياسية واجتماعية سليمة. إن خلافنا يقوم حول مسألتين أخريين، أولاً حول شرعية المطابقة النظرية بين الديمقراطية والليبرالية مما يعطي للتيارات الليبرالية الحق في الاستحواذ على رصيد الديمقراطية كله ومصادرتها الكاملة له، وثانياً حول نجاعة مثل هذه المطابقة من الناحية العملية أو الاستراتيجية التي تعنى بنقل الفكرة الديمقراطية إلى الواقع الاجتماعي وممارستها على الأرض.
1– مسألة الشرعية وتطابق المفاهيم النظرية:
في البداية ينبغي القول إن الليبرالية والديمقراطية وغيرها من المفاهيم ليست مفاهيم ثابتة وجامدة، وإنما تولد ثم تغتني بالمعاني مع الزمن ومن خلال الخبرة العملية التاريخية. فالليبرالية مطلقاً تشير إلى فلسفة جديدة ارتبطت منذ البداية بالنزعة الانسانية والرفض المطلق لكل أشكال التقييد من حرية الفرد وحقوقه، أي لكل أشكال الاضطهاد السياسي سواء أجاء من طرف السلطة أم من طرف الهيئات الاجتماعية. وفي هذا المستوى تشير الليبرالية إلى فكرة وفلسفة ايجابية في الاستخدام اليومي مقابل النظم الدينية أو القومية التي تنكر الفردية الحرة وتركز على الحقوق الجماعية.
بيد أن معنى الليبرالية لم يجمد على هذا المستوى خلال التاريخ الماضي بأكمله. فقد قادت النظم الليبرالية الكلاسيكية التي عرفتها البلدان الصناعية في القرن التاسع عشر إلى أزمات اجتماعية كبرى بسبب تجاهلها أثر العوامل الاقتصادية والاجتماعية في ممارسة الحرية. وكان التعبير الأعمق في نظري عن هذه الأزمات، نشوء الشيوعية نفسها بوصفها فلسفة النقد الجذري والشامل للمسلمات الرئيسية لليبرالية وكنقض منهجي وعملي لها. وفي مقدمة هذه المسلمات فكرة التطابق التلقائي أو العفوي بين الحريات الاقتصادية والحريات السياسية وفكرة الانسجام الطبيعي بين المصالح الفردية والمصالح الجمعية. فقد بينت الماركسة، وكانت هنا على حق، أن الليبرالية تقود حتما كما أظهرت ذلك التجربة العملية إلى نقيض ما تقول في أمرين أساسيين على الأقل: أولاً احتكار القرار السياسي من قبل فئات معينة من السكان وسيطرة قلة من أصحاب المصالح الكبرى على الحياة الاقتصادية ومن ثم السياسية والاجتماعية والمعنوية مما دعا البعض إلى اتهام الحريات بأنها أصبحت شكلية. وثانياً اشتغال نظام الليبرالية على المستوى الاقتصادي كلياً لصالح القلة المنعمة ضد مصالح الأغلبية الاجتماعية التي لم تعد تملك لا سلطة ولا موارد اقتصادية كافية ولا وعياً مستقلاً بذاته. وهذا ما يفسر نشوء ظواهر الفقر والحرمان والتهميش الجماعي الذي شهدته الحقبة الصناعية الأولى، وهي الظواهر التي شكلت التربة الخصبة لتغذية مشاعر وأفكار الثورة الشيوعية والتي جاءت كرد فعل عنيف على عيوب النظم الليبرالية التي تجاهلت المسألة الاجتماعية، تماماً كما تأتي الليبرالية العربية اليوم كرد فعل عنيف على النظم الاشتراكية السوقية التي انتجت الاستعباد السياسي ومن دون أن تقدم أيضاً أي مكافأة اقتصادية.
لكن في إطار الرد على الشيوعية ومواجهة الثورة الاجتماعية التي فجرتها في الدول الصناعية حصلت أول طفرة داخل الفكر الليبرالي نفسه، باتجاه الاعتراف بخطأ الاعتقاد بالتطابق التلقائي والانسجام الطبيعي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية، وبين المصالح الفردية والمصالح الجمعية. وقام الاقتصاديون، وعلى رأسهم كينز، بتطوير نظرية تدخل الدولة في الاقتصاد عن طريق التوجيه والانفاق وسياسات الأجور، فكسروا لأول مرة "تابو" أو محرم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. وفي موازاة، ذلك حصل تحت تأثير الكفاح اليومي للمنتجين والطبقات العاملة تطور مماثل في الفكر السياسي الليبرالي في اتجاه القبول بتطوير نظام من الحقوق والضمانات الاجتماعية التي أصبحت شرطاً من شروط المشاركة في الحياة الوطنية والاندراج فيها. ومنذ ذلك الوقت تطور المصطلح السياسي في الدول الصناعية، حتى لم يعد هناك تشكيلات سياسية كثيرة تربط اسمها بالليبرالية، بينما سمت الأحزاب التي قادت أوروبا للخروج من أزمة الثلاثينات الطاحنة نفسها بأسماء الديمقراطية، سواء أكانت ديمقراطية اشتراكية أم ديمقراطية مسيحية. والهدف من ذلك أن تشير إلى أن هذه التجارب السياسية الكبرى تجاوزت الليبرالية الكلاسيكية التي تجرم وتحرم تدخل الدولة في عملية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي لصالح مفهوم الحرية الفردية الذي يترجم مع غياب شروط المنافسة المتكافئة بين الأفراد إلى حرية الأقوى. وقد تجاوزتها باسم الديمقراطية، أي باسم تعميم قيمة الحرية نفسها وترسيخها، وليس باسم إلغائها أو استبدالها بالشيوعية أو الاشتراكية. ومن هنا لم يعد الخلاف بين الليبراليين والاجتماعيين الديمقراطيين خلافاً مبدئياً يدور حول قيمة الحرية في النظام السياسي الاجتماعي، وإنما هو خلاف سياسي يتعلق بتحديد أفضل وسيلة لتحقيق الحرية وضمان استمرار نظامها السياسي وتعميم ممارستها في الوقت نفسه. ولا ينبع انتقاد التيارات الديمقراطية الراهنة لليبرالية من التشكيك بالحرية الفردية أو من كونها تتحدث عن أولوية قيم الحرية، وإنما بسبب ما لا تتحدث عنه من وقائع اجتماعية واقتصادية تهدد أو قد تهدد ممارسة الحرية، أي أنها تنتقدها انطلاقاً من التمسك بمبدأ الحريات الفردية. فبتجاهل الليبرالية الشروط الاقتصادية والاجتماعية لممارسة الحرية تهدد بأن لا نحصد من الدعوة للحرية المجردة إلا أشكالاً جديدة من التهميش والحرمان. لم تخطئ الماركسية في تشخيص نقاط التناقض في الفكرة الليبرالية، ولكنها أخطأت في تحديد الدواء لها. فإذا كانت الحرية المجردة أو المنظور إليها من خارج شروط الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفرد لا تقيم ديمقراطية فعلية، فلا يمكن أيضاً إقامة مثل هذه الديمقراطية بنفي الحرية أو الحريات الفردية. إن الديمقراطية تستدعي الحرية بالماهية، لكنها تحتاج كي تتحقق إلى إحاطة نظام الحرية بمنظومة من الإصلاحات السياسية والإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي تحفظ حق ممارسة الحرية للجميع ولا تترك فئة صغيرة من أصحاب السلطة المالية أو الاقتصادية تسيطر سيطرة مطلقة على موارد السلطة السياسية أو الثقافية أو الإعلامية. ومن هنا تستدعي الحرية المساواة، وإن المساواة لا تستقيم من دون حد أدنى من العدالة الاجتماعية.
لكن هناك لحظة ثالثة لا يمكن تجاهلها عندما نتحدث عن معنى الليبرالية والديمقراطية ومفهومهما اليوم، وأعني لحظة الردة الراهنة على الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. فمما لا شك فيه أن الركود الاقتصادي وتراجع معدلات النمو وانتشار البطالة والأزمة المالية والتضخم، كل ذلك قد حضر لانقلاب فكري جديد ضد الديمقراطية الاشتراكية أو النزعة الاجتماعية وفي سبيل العودة إلى مباديء الليبرالية الأولى. وكان على رأس هذا الانقلاب مارغريت تاتشر ثم دونالد ريغان، ثم انتشرت الفكرة في ما بعد في العالم أجمع الذي يعيش اليوم عودة الليبرالية وانتصارها - كما قال فوكوياما - على كل ما عداها من عقائد اجتماعية، باستثناء الاسلام الذي لا يزال على زعمه يقاوم الحداثة وأصولها.
ما هي أطروحات النيوليبرالية أو الموجة الليبرالية الجديدة؟ ثلاث رئيسية. لقد اعتبر النيوليبراليون أولاً أن سبب الأزمة الاقتصادية الرئيسي هو تدخل الدولة الكبير في تنظيم الحياة الاقتصادية، خاصة عن طريق المشاركة بقطاع عام واسع وزيادة الانفاق العام وتمويل مشاريع الضمانات الصحية والاجتماعية. وطالبوا الدولة بالرجوع عن ذلك، وترك قوانين السوق الاقتصادية التنافسية المعتمدة على العرض والطلب تعمل بصورة طليقة أو شبه طليقة، مما يعني التقليل من الضمانات الاجتماعية المقدمة خلال الحقبة الماضية للعمال والمنتجين، والتي جمدت حسب اعتقادهم التنافس وفرضت أعباء كبيرة على أرباب العمل. وهذا هو مضمون برامج الخصخصة والتكييف الهيكلي الذي فرضته المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي على البلاد النامية، من أجل الاستمرار في تقديم القروض والتسهيلات المالية. أما الأطروحة الثانية فهي العمل على توسيع دائرة التبادل التجاري وخلق سوق اقتصادية عالمية هي وحدها التي تستطيع أن تقدم الإطار الذي يسمح باستمرار النمو والتراكم الاقتصادي العالمي وتقديم حلول للأزمات التي تعاني منها الدول الصناعية وفي مقدمها تضاؤل النمو وتفاقم البطالة. والأطروحة الثالثة هي تلك المتعلقة بالتحرر من عقدة الذنب القديمة تجاه الشعوب المستعمرة سابقا والعودة من جديد إلى تأكيد تفوق الثقافة الغربية وقيمها كما عكسه كتاب هنتنغتون. وفي هذا السياق، تستعاد التجربة الاستعمارية التي حصلت في سياق ليبرالي أيضاً كتجربة إيجابية كما تتبلور نزعات متجددة لفرض الوصاية بطريقة أو أخرى من قبل الدول الكبرى باسم مبادئ الليبرالية والديمقراطية على الشعوب الأخرى.
وهكذا ترتبط اليوم فكرة السياسة الليبرالية بتحرر الدولة من التزاماتها الاجتماعية والسعي لتخصيص كل القطاعات العامة في التعليم والصحة والمجتمع المدني عموماً، وإخضاعها لقانون العرض والطلب والسوق، كما ترتبط بسياسة بناء السوق العالمية الكبرى التي تفتح المنافسة على أشدها بين جميع البلدان في الميدان الاقتصادي، والتي تستفيد منها بشكل أكبر الدول الأكثر قدرة على المنافسة، فتصبح سوقاً مقتسمة عملياً بين الدول الصناعية، ولا أحد يعرف ماذا سيكون عليه مصير الدول الصغيرة الأخرى في شراكات لا تزال محدودة وغير مضمونة النتائج. كما ترتبط أخيراً بتنامي نعرة تفوق غربية ونزعة محورة إثنية أوروبية قوية تبخس الثقافات العالمية قيمتها، بل تحول الثقافة إلى سلعة تجارية وتميل إلى نشر الفكر الواحد وتصفية بقايا سياسات دعم التعدد والتنوع الثقافي الذي كانت تدافع عنه اليونسكو في الحقبة الماضية. وهو ما يثير في المقابل كرد فعل تمسك الشعوب الصغيرة بثقافاتها ونزوعها إلى التقوقع حول مفاهيم وقيم الهوية والسيادة الرمزية والاستقلالية.
ليس هدفي من هذا العرض إدانة الليبرالية كنزعة فلسفية وسياسية، وإنما إظهار ما تعنيه اليوم في بداية القرن الواحد والعشرين. فعندما تستخدم كلمة ليبرالي في الفكر العالمي المعاصر، فليس ذلك للإشارة إلى مضمونها الأول الذي يجعل منها فلسفة الدفاع عن حرية الفرد في وجه الإكراهات الجمعية أو السلطوية العديدة التي كانت تعيق نمو الذاتية الانسانية باسم الدين أو الدولة أو العلم. وإنما تستخدم بمعناها المعاصر الذي يشير إلى مذهب سياسي يركز على أسبقية المنطق الاقتصادي في التنظيم الاجتماعي على حساب منطق المجتمع والسياسة والثقافة معاً، ويشير إلى سياسات تميل إلى التقليل من تدخل الدولة لتحقيق التوازنات الاجتماعية والتقسيم العادل للثروة لصالح التأكيد على منطق المنافسة الحرة بين الأفراد والبقاء للأصلح، كما تميل إلى مسايرة استراتيجيات الدول الصناعية الكبرى في مسألة بناء سوق عالمية واحدة خاضعة للمنافسة الدولية، وتجاهل ما يمكن أن ينجم عن هذه السياسات من آثار سلبية على حياة ملايين البشر من أصحاب الدخول الضعيفة أو المنتمين إلى الدول النامية. إنها تستخدم لتشير إلى سياسات يمينية تساير مصالح الأقوياء والمتنفذين وأصحاب الأموال من طبقات ودول. ويكفي للتدليل على انفصال الليبرالية عن الديمقراطية؛ النظر إلى ما يدور في بلداننا نفسها. فلا تكف الحكومات العربية عن الحديث عن الليبرالية وسياسات الانفتاح الاقتصادي في الوقت الذي ترفض فيه أي تحولات سياسية ديمقراطية.
ويبدو لي أن من الضروري أن يكون الرأي العام العربي العادي والمثقف على دراية بهذا الاستخدام الثاني للكلمة حين يدعو إلى تكوين أحزاب ليبرالية. وأعتقد أن ما يقصده المثقفون العرب بالليبرالية هو في الحقيقة الديمقراطية، وليست السياسات اليمينية هذه التي تميل إليها الدول الصناعية الكبرى وشبكات المصالح المافيوزية التي تعمل على هامش ممارستها التجارية ودعماً لها في البلدان العربية. لكن إذا كان هناك فريق عربي يميل إلى أطروحات الليبرالية الجديدة بالفعل بما تعنيه اليوم من سياسات اقتصادية واجتماعية مقابل سياسات الديمقراطية الدولية التي لم تعد سياسات شيوعية ولا ماركسية ولكنها تتركز على الدفاع عن الضمانات الاجتماعية بالدرجة الأولى وعن دور أكبر للدولة في تحقيق التوازن بين المصالح المختلفة، فله كامل الحق والشرعية في تبني هذا المصطلح والدفاع عنه، تماماً كما أن هناك العديد من تيارات الفكر السياسي العالمي التي تتبنى اليوم عقيدة الليبرالية الجديدة. لكن شرعية هذا الفريق في تبني أطروحات الليبرالية لا تلغي شرعية الأطراف الأخرى في تبني شكل آخر من الديمقراطية الاجتماعية أو التي تولي أهمية كبرى لقيم المساواة والعدالة وتعميم ممارسة الحرية، ولا تبرر اتهام من لا يقول بالسياسات اليمينية والعولمية بالستالينية والشيوعية. فجوهر النقاش الدائر اليوم في الفكر السياسي العالمي لا يتعلق باليمين واليسار بالمعنى القديم أي بمواجهة معسكر الرأسمالية مع معسكر الاشتراكية أو الشيوعية، وإنما بالضبط بالديمقراطية والسبل الأنجع لتوسيع دائرتها وتعميقها. وللتبسيط يمكن القول إن الصراع يدور اليوم بين ليبرالية توسم أحياناً بالمتوحشة؛ لأنها تنزع إلى القضاء على كل التراث المعاصر من حماية بيئة العمل والطبقات المنتجة لحساب تأمين حرية أكبر لأصحاب رأس المال وتحقيق التنافس الأمثل في الإنتاجية من جهة، ومن جهة ثانية ديمقراطية تسعى إلى إخضاع قوانين السوق في ميدان البضاعة والخدمات وميدان العمل معاً لحد أدنى من الضبط والتنسيق، باسم المزيد من الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وليس ضد الحرية الفردية أو الجماعية. وبشكل عام، هذا ما يدفع إلى التمييز بين نموذج الديمقراطية الأوروبية عموماً ونموذج الديمقراطية الأمريكية التي لا تزال تخضع لإرث كبير من الليبرالية البدائية.
بالنسبة لي، لا أرى أن حل أزمة الرأسمالية العالمية يكمن في العودة إلى تقديم منطق السوق على منطق الاتساق المجتمعي أو في إعادة بناء المجتمع والعلاقات الاجتماعية كلها انطلاقاً من فكرة السوق الاقتصادية التنافسية وعليها. وليس هناك ما يمنع في نظري من بلورة سياسات اقتصادية وطنية ودولية بديلة، من دون تهديد الحريات ولا الخروج من الديمقراطية الحقيقية وليس الشعبية النافقة.
2- مسألة النجاعة العملية أو في بناء استراتيجية الممارسة الديمقراطية:
لكن في ما وراء التفاهم حول أهمية وصلاح قيم الليبرالية وفي مقدمها الحرية الفردية والحريات العامة جميعاً، ومن وراء الخلاف النظري حول مضمون الديمقراطية التي نريد لمجتمعنا أن يبنيها، يطرح موضوع الديمقراطية قضايا استراتيجية جوهرية لا يمكن الحديث في الديمقراطية، ليبرالية كانت أم اجتماعية، المرور عليها من دون مناقشة. والمقصود بهذه القضايا مسائل الاستراتيجية العملية التي تعنى بتأمين شروط التحول الديمقراطي التاريخية. وهذه هي ملاحظتي الثانية التي تتعلق بقضية النجاعة العملية وليس بالمسائل النظرية والتحديدات المفهومية. وأول ما يخطر في قضية النجاعة، أي تحقيق المشروع الديمقراطي، هو مسألة بناء منظومة القوى الديمقراطية القادرة على التغيير والتحويل الديمقراطي للدولة والمجتمع معاً، وهي عملية طويلة ومركبة وشاقة تستدعي جهوداً سياسية وفكرية وتنظيمية متعددة. وعلى هذا المستوى، لا يتعلق الأمر بتأكيد شرعية قيام حزب ليبرالي أو تعميم ونشر الفلسفة الليبرالية أم لا، وإنما ببناء قطب ديمقراطي واسع قادر على التغيير. وأشك في أن ينجح التيار الليبرالي الذي يعزل نفسه عن هذه النخب؛ في أن يتجاوز موقع الأقلية السياسية، وأن يكون قادراً على التغيير المنشود.
إن نجاحنا يتوقف على قدرتنا على أن نضم إلى هذا القطب الديمقراطي، بالإضافة إلى النخبة الليبرالية الناشئة والمتنامية في وسط المثقفين والطبقة الوسطى وما تميل إليه من نزعة علمانية وتحررية، النخب الأخرى الجديدة والقديمة التي بدأت تقطع مع النظام الشمولي، وتبحث هي أيضاً عن مخرج لها من المأزق الذي وضعها فيه هذا النظام. وفي اعتقادي أننا لن نتمكن لا في سورية ولا في العالم العربي؛ من تأمين شروط التحول الديمقراطي الحقيقي وبناء القاعدة السياسية والفكرية الضرورية لاستقرار الديمقراطية، وقطع الطريق على احتمال مصادرتها من جديد من قبل مجموعات المصالح والأجهزة البيرقراطية والأمنية، ما لم ننجح في جذب هذه النخب نحو المنظومة الديمقراطية التي تستطيع وحدها أن تقدم لها المخرج من مأزقها، سواء ما تعلق منها بالنخب الإسلامية أو النخب القومية أو النخب اليسارية. ولن يمكن تحقيق ذلك من دون إعادة بناء هذه المنظومة بما يسمح باستيعاب الفكر الديمقراطي لكل الحساسيات المناوئة للاستبداد والنازعة إلى الارتداد عليه.
بالتأكيد ليس من المنتظر أن يتحول القسم الأكبر من النخب الإسلامية إلى ما نطمح إليه من ديمقراطية إسلامية، أي إلى إنزال برامجها الإسلامية في قالب الديمقراطية وقيمها الأساسية. وليس من المؤكد أيضاً أن ينجح قسم كبير من النخب القومية التي اختارت الشعبوية، ولا تزال رهينتها في أن يواكب في تحوله قيم الديمقراطية الحقيقية. كما أنه ليس من المؤكد أن يهجر اليسار أو قسم كبير منه هواجسه الدولوية ويتوافق مع قيم الديمقراطية. لكن في المقابل، ليس من حقنا ولا من حق أحد أن يصادر مثل هذا الاحتمال ولا أن يقطع الطريق عليه حتى لو كان احتمالاً ضئيلاً. وليس هناك ما يدعونا إلى قطع الأمل من مثل هذا التحول في ظروف الانهيار الكامل الذي عرفته الفكرة الشمولية في العالم أجمع، وتحت تأثير التحولات الفكرية والسياسية والجيوسياسية المتسارعة أيضاً. ولا شيء يدعونا إلى أن نحكم بالإدانة المطلقة والنهائية على أصحاب هذا الفكر أو ذاك وتناقضهم الحتمي والدائم مع قيم الديمقراطية وروحها. بالعكس، إن كل العوامل الراهنة تشير إلى أن الجميع يتطلع إلى الفكرة الديمقراطية كمخرج من الأزمة الطاحنة التي يعاني منها. ولا يحق لنا أن نغلق الباب أمام أحد كما لا يتوجب علينا عدم السعي بكل ما نملكه من وسائل نظرية وعملية من أجل توسيع قاعدة الحركة الديمقراطية الاجتماعية.
هل يؤثر دخول هذه التيارات التي لم تكن ذات اختيارات ديمقراطية في الماضي، وليس من المؤكد أن تكون خياراتها الديمقراطية الجديدة متسقة ومتكاملة في المستقبل، على قوة التيار الليبرالي أو اتساقه. بالعكس، إنها ستعززه بقدر ما تجعله تياراً ديمقراطياً بين تيارات عديدة يشكل وجودها وتميزها وتعبيرها عن الحساسيات الاجتماعية المختلفة أساس توازن النظام الديمقراطي القادم. وبفضل هذا الإغناء لفكر الديمقراطية وجمهورها معاً نستطيع أن نضمن أن تصب جميع النضالات وجميع المعارضات في الخيار الديمقراطي، كما نضمن أن يظل الصراع داخل النظام القادم في الإطار الديمقراطي أي السلمي. وفي المقابل، لن يخدم استعداء التيار الإسلامي أو القومي، بالرغم من عدم اتساق أفكارهما، ولا تهميشهما ووضعهما في المعكسر المعادي للديمقراطية أو في تناقض معه القضية الديمقراطية، ولن يساهم في مساعدتهما على تطوير استجابات سلمية وسليمة للمشاكل الوطنية.
المسألة الاستراتيجية الثانية المهمة تتعلق بتحديد طبيعة برنامج الديمقراطية العربية والسورية القادمة. ذلك أن الديمقراطية ليست بحد ذاتها برنامجاً قائماً بذاته أو مكتفياً بنفسه. إنها إطار سياسي يقبل تطبيق برامج متعددة ومختلفة قد تتباين في خياراتها الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية العليا أو الاستراتيجية. وفي الولايات المتحدة يتنازع حزبان ديمقراطيان على الحكم بسبب هذا الخلاف بين البرامج، لا بسبب الاختلاف في تقدير أهمية القيم الديمقراطية أو قيم الحرية. ومع تحول الديمقراطية إلى ديمقراطية عالمية أو عولمية، تصبح الاختيارات أكثر تنوعاً وتعقيداً معاً. إن بلورة برنامج ديمقراطي فعلي، أي تأسيس نظام الحريات السياسية والفكرية وتعميمها، يختلف باختلاف البلدان والمهام المطلوبة لتحرير الإنسان أي باختلاف العوائق التي تحول دون هذا التحرير.
إن الليبرالية هي برنامج واحد من برامج الديمقراطية الممكنة اليوم، وليس برنامجها الوحيد. والتنافس داخل الديمقراطية العربية المنشودة سيكون بين هذا البرنامج الذي يعكس تطلعات قطاعات من الرأي العام الأكثر حساسية لمسائل التحديث الفكري والاجتماعي، والبرامج الأخرى الميالة إلى التركيز على مسائل توزيع السلطة والثروة والجاه، أي على المزيد من المساواة في شروط الوجود التي لا تقوم الحرية من دونها.
أما المسألة الاستراتيجية الثالثة فتشير إلى دور المثقفين كفاعل اجتماعي مهم جداً في مرحلة التحول الديمقراطي الراهن للمجتمعات العربية. ومن أكبر الأخطار التي تهدد هذا التحول نزوع المثقفين إلى التقوقع على ذواتهم وتشربهم بالفكرة الأصنافية "الكوربوراتية" التي تجعل منهم فريقاً منغلقاً على ذاته، وغارقاً في همومه الخاصة ومتطلباته الخصوصية التي تشده نحو قيم الحداثة ومفاهيمها، وتضعه في مواجهة أغلبية اجتماعية مشدودة بالقدر نفسه أو أكثر نحو قيم التراث وتقاليده. وأخشى أن تدفع الليبرالية التي تنطوي على قسط كبير من الاعتداد بالنفس وتأكيد قيم التفوق والمبادرة إلى فصل المثقفين من جديد عن مجتمعهم كما حصل في النظام السابق، وبالتالي تحييدهم والحؤول دون تأثيرهم القوي في إعادة تفعيل هذا المجتمع وتثقيفه بالثقافة الديمقراطية، بل بالثقافة عموماً.
وأخيراً، ومهما كان الحال من أمر الليبرالية والديمقراطية، ليس الكلام في الاجتماع والسياسة علماً محضاً ولا يمكن أن يكون. إنه في الوقت نفسه بناء أو إعادة بناء للفكر السياسي في السياق الخاص التاريخي، ومن وجهة نظر المصالح العديدة الحاضرة التي لا يمكن للديمقراطية أن تقوم من دون أخذها جميعا بالاعتبار. وغاية كل ذلك أن لا تتحول الديمقراطية إلى شعار يقتصر رفعه على أولئك الذين يأخذون بفلسفة المجتمع الليبرالية، وهم بالضرورة الآن - وسيبقون لفترة طويلة - أقلية بالمقارنة مع التيارات العريضة للرأي العام العربي عموماً والسوري خصوصاً، مما يعني دفع قطاعات واسعة من الرأي العام العربي الإسلامي والقومي واليساري التوجه إلى معاداة الديمقراطية ونظامها ومفهومها، بوصفها تجسيداً لقيم فريق اجتماعي محدد، ومنافية بجوهرها لقيم أساسية غير مرتبطة بها أو غير مستمدة منها. وغايته كذلك أن لا يتحول التيار الليبرالي المتنامي في وسط النخبة العربية الجديدة إلى شرك يوقع بالنخبة العربية نفسها، ويجعلها تنقطع عن المجتمع أو تنحو نحو توجيه اللوم إليه بسبب طبيعة القيم التي تحركه وتنافيها بشكل أو آخر مع قيم الليبرالية وفلسفتها، وبالتالي تحول الليبرالية إلى فلسفة لمعارضة المجتمع والثورة عليه، كما حصل مع الفكرة الماركسية في الماضي، مع ما يحمله هذا التوجه من خطر تحولها إلى ايديولوجية نخبوية معادية للمجتمع وعزل النخبة المرتبطة بها عن الرأي العام وانعدام قدرتها على التأثير فيه.
ليس هناك من يعارض أو يعترض على إنشاء حزب سياسي يحمل على عاتقه نشر وتعميم أفكار الليبرالية وفلسفتها بالمعنى الكامل للكلمة. بل لقد قلت في مرات سابقة إنني مع نشوء هذا الحزب، مثلما أنا مع نشوء أي حزب آخر؛ لأن الحياة السياسية لا تستقيم من دون وجود تيارات فكرية سياسية متعددة ومتباينة تعكس المصالح المختلفة داخل كل مجتمع وتساهم في خلق التوازن المطلوب في القيم السياسية والأخلاقية أيضاً. إن ما أردت أن أقوله هو أن من مصلحة الديمقراطية أن لا تكون حكراً على تيار فكري وأيديولوجي وسياسي معين، وأن تصبح مشاعاً للجميع، وفي مقدمهم أولئك الذين كانوا البارحة يرفضونها أو يتأففون منها. بل إن التحدي الحقيقي للديمقراطيين على مستوى الاستراتيجية يكمن في تحويل الديمقراطية إلى فكرة سياسية جامعة، لا قصرها على فريق من دون غيره من الفرقاء. فبذلك ننجح في تحويلها إلى إطار سياسي مقبول من كل الأطراف للتوصل إلى حلول متفاوض عليها في جميع المسائل التي تتعلق بحياة الجماعة الوطنية من مسألة تداول السلطة وحسم النزاع عليها بالطرق السلمية؛ إلى مسألة تطبيق القانون بالتساوي مروراً بتقرير السياسات والخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. الديمقراطية باختصار هي من تلك الأفكار والنظم النادرة التي يزداد رصيدها بقدر ما يعم انتشارها ويقتسم رأسمالها بين البشر.(اخبار الشرق)
برهان غليون
كاتب سوري – باريس
وفيما يلي لقاء مطول مع الدكتور غليون لمن يريد :
http://www.middle-east-online.com/?id=24154
(f)