تحية للجميع و نتابع الحوار،
يقول العاقل،
اقتباس:بما أن الكون محكوم بنظام وقوانين ، فوجوده ناتج عن إرادة ، لا عن عبث .
قبل البدء بمعالجة القضايا التي يثيرها العاقل تبعا لهذا المبدأ المذكور أعلاه، أود أن أشير الى شيء غاية في الأهمية بالنسبة للقوانين الفيزيائية. إن استخدام الفيزيائيين لكلمة "قانون" عادة ما يثير لغطاً كبيرا لدى البعض، إذ أنهم يفهمون كلمة قانون على أنها تشريع و سُنـّة. و هذا غير صحيح. القانون العلمي هو بمثابة وصف و ليس تشريع.
يعني مثلا لنأخذ القانون القائل بأن لكل فعل ردة فعل مساوية له في القوة و معاكسة له في الاتجاه. عندما يسمع البعض كلمة "قانون" هنا، يتخيلون أن هناك دستورا مكتوبا، اطـّلعت عليه الاجسام الكونية و درسته، و من ثـَمّ أطاعته. كل ما في الأمر هو أن العلماء درسوا طبيعة الأجسام، و وجدوا أنها تتصرف بحيث تكون لحركاتها ردة فعل مساوية في القوة و معاكسة في الاتجاه. اذن فلسفيا يمكن أن نطلق على ذلك "طبيعة" الأشياء و ليست "قوانينها". القانون هو المعادلة المكتوبة الذي نستعمله نحن لتحليل الامور، و هو يصف أمرا و لا يشرّعه.
سأعطي مثالا لتبيين المشكلة في طرح العاقل و اعتماده على "قانون" الكون. لو فرضنا مثلا أننا اذا قسنا حركة الاشياء، و وجدنا أن كل ردة فعل لها ردة فعل أقل منها في السرعة، و بإتجاه 45 درجة معاكسة لاتجاهها. عندها سيقول العاقل أن هناك قانونا يحكمها و يجبرها على أن تكون أقل منها في السرعة و بذلك الاتجاه. اذن فهنا نرى أن العاقل يفترض ما يستنتجه مسبقا، و مهما كانت طبيعة الاشياء، فهو سيدعي أن هناك قانونا يحكمها. فما هي يا ترى الحالة التي سترضي العاقل لكي يقبل بأنه لا يوجد قانون يحكمها؟ أن لا يكون لها طبيعة على الاطلاق؟ هذا مستحيل، فكل شيء موجود له طبيعة و وصف، و ما لا طبيعة له أو صفة، هو غير موجود.
اذن فالقوانين الفيزيائية هي مجرد صفات تتصف بها الأشياء، و ليست تشريعات تحكمها. و استخدام كلمة قانون هنا هو استخدام مجازي في الرياضيات و الفيزياء و غيرها.
يضيف العاقل قائلا،
اقتباس:ونجد هذا الإثبات واضحا في القانون الثاني للديناميكا الحرارية ، الذي ينص على أن الانتروبي ، درجة الفوضى ، هي دائما في ازدياد . وإذا كانت الفوضى تزداد ، فهذا يعني أن النظام يقل ، وهذا يعني أن النظام موجود ، وحاكم للكون وهو في تناقص .
القانون الثاني للديناميكا الحرارية ينطبق على المساحات (1) الثابتة و (2) المغلقة. يعني مثلا لو وضعنا كمية من الغاز في صندوق محكم الاغلاق، فإن الغاز سيزداد في الانتشار و الفوضى الى أن يصل الى أقصى درجة من الانتروبي (الفوضى) و الاستقرار. لكن هذا يحدث في الصندوق لأنه مغلق و ثابت.
أما الكون فهو نظام متمدد و ليس ثابتا. و هذا يعطي فرصة متكررة لإنقاص الانتروبي فيه في اماكن مختلفة على مدار الزمن، مما يسمح بتكوين نظم متعددة هنا و هناك، قبل أن تعود الانتروبي فيه و تزداد (الفوضى) و عندما تصل الى مرحلة قصوى من الازدياد نصل الى مرحلة الثقوب السوداء.
هناك أيضا مبدأ الاستعارة. يعني هناك مناطق محلية في الكون تستعير بعضا من الانتروبي من الخارج، فيتكون نظام فيها، بينما تزداد الانتروبي خارجها. الشمس هي خير مثال اذا اعتبرنا الارض نظاما. الانتروبي تزداد في الشمس عندما تنتج الحرارة، و هذه الحرارة يتم استعمالها في تكوين نظام الشجرة مثلا، و في مقابل نقصان الانتروبي في الشجرة، تزداد في الشمس، و عندما تصل الشمس الى حالة قصوى من الانتروبي، تبدأ الارض في التحلل أيضا.
عندما بدأت نقطة الانفجار العظيم، كانت على درجة قصوى من الانتروبي، و لكن عندما بدأت تتمدد، انتشار الكون في مجال الزمكان سمح بتكوين نظم محلية قليلة الفوضى.
اذن بهذا أكون قد فسرت المعنى العلمي للـ "قوانين" الكونية على أنها قوانين رياضية و فيزيائية استنتجناها من طبيعة الاشياء و وصفها، و ليس من تشريع او سُـنـّة. و بينت أن النظام في الكون هو أمر طبيعي في مجال مفتوح و متمدد كالكون، و هو متفق تماما مع قوانين الديناميكا الحرارية و لا يخالفها بل يتماشى معها.
الآن ننتقل الى القضية الثانية. يقول العاقل،
اقتباس:احتكام وجود الشيء للنظام يقتضي مسبوقيته – أي مسبوقية وجود هذا الشيء – بالإرادة . وهذه القضية يمكن إثباتها بالقياس وبالاحصاء. الإنسان عندما يرى منزلا يعلم أن وجوده مسبوق بإرادة مهندس .
في هذه القضية، يفترض العاقل بدون داع أن وجود النظام (و الذي بينـّا أنه وصف و طبيعة، و ليس تشريعا) هو دليل على وجود الإرادة. و يستخدم العاقل مثالا لشيء صنعه الانسان، و يبني فرضيته هذه على القياس الاحصائي. هذه القضية مملوءة بالمشاكل المنطقية و الرياضية، لذلك سأبدأ بالترتيب:
أولا: اذا كان النظام يقتضي وجود ارادة سابقة له، فهذه الارادة (التي هي نظام أيضا) تقتضي وجود إرادة سابقة لها أيضا. و نقع هنا في فخ السلسلة اللانهائية، فإذا كان النظام يحتم وجود نظام سابق له، فذلك النظام أيضا مسبوق بنظام.
و يمكن للعاقل هنا أن يحاول التخلص من هذه المشكلة بطريقتين:
أ- فإما أن يقول أن السلسلة فعلا لانهائية، و هذا مستحيل لأن عدم وجود نظام أول ينفي وجود الأنظمة التي نتجت عنه.
ب- أو يقول أن النظام السابق لنظام الكون (أي الإرادة الموجـِدة له) هو أول الانظمة و لا سابق له. و هذا كلام يبين افتراض العاقل لما يستنتجه بدون دليل و عن سبق الاصرار و الترصد و ليس بالاستنتاج المنطقي. فإذا كان العاقل هنا يقر و يعترف بأنه من الممكن لنظام معين (الإرادة الخالقة للكون) أن يكون موجودا لوحده هكذا و لا سابق له، فلماذا لا نقول مثلا أن النظام الكوني ذاته هو موجود بذاته و لا إرادة سابقة له؟ يعني لماذا يخترع العاقل قانونا فرضيا يطبقه على النظام الكوني لكي يصل بنا الى ما افترضه مسبقا (وجود إرادة سابقة) و عندما نحاول تطبيق هذا القانون الفرضي على الإرادة السابقة يلغيه العاقل و يقول أنه لا ينطبق عليها؟ أليس من الأسلم لنا أن نكتفي بوجود النظام الكوني و لا نضيف له أنظمة فرضية لا حاجة لها؟ ثم أيهما الأسهل تصديقا، أن النظام الكوني المعقد لا إرادة سابقة له، أم أن تلك الارادة المزعومة، التي هي أكثر تعقيدا بمراحل، لا إرادة سابقة لها؟
ثانيا: يقول العاقل أن وجود صانع للأشياء هو أمر يُستدل عليه بالاحصاء، فالمنزل مثلا شيء مصنوع و له صانع. هذا برأيي استخدام غير موفّق للإحصاء. لو فرضنا مثلا أن انسانا حياديا جاء ليحصي الامور على الارض، الاصطناعي منها و الطبيعي، و كلما وجد شيئا، حاول البحث عن صانعه. فاذا وجد له صانعا، وضعه في خانة، و إن لم يجد، وضعه في خانة أخرى.
سيأتي هذا الرجل و يجد سيارة، و سيكتشف أن صانعها هو شركة التويوتا، فيضعها في خانة الامور التي وجد صانعها. و سيجد شجرة، و لا يجد صانعها، فيضعها في خانة الأمور التي لم يجد لها صانعا. يا ترى، كم من الاشياء الاصطناعية سيجد، و كم من الاشياء الطبيعية؟ بلا شك، اذا أحصى كل الاشجار و البكتيريا و الكواكب و النجوم و الحيوانات، الخ، فإن 99% من الامور التي سيحصيها هي امور طبيعية لا اصطناعية. و احصائيا، فإن الامور المصنوعة هي جزء يسير لا يكاد يُذكر، و هكذا فإحصائيا يجد أن الغالب في الامور عدم الصنع بل الوجود او التشكل الطبيعي. فكيف للعاقل أن يستدل على صنع بلايين الامور في الكون، بإستخدام الامثلة المحدودة التي صنعها الانسان؟
الآن أحب أن أقدم بدائل لفرضيات العاقل، و هي أيضا فرضيات ممكنة لتفسير النظام الكوني يمكن الاستعاضة بها عن فرضية الخالق، لإثبات أن فرضية الخالق ليست تفسيرا محتوما حتى لو فرضنا أنه تفسير ممكن (و هو ليس كذلك كما بينت أعلاه). طالما أننا في الاحصاء، أقول أن وجود نظام معين في بحر من الفوضى هو امر محتمل بدون وجود تنظيم. أنظر مثلا الى السلسلة العشوائية اللانهائية التالية من الارقام: ... 167867812345787897978... . لو أعدت النظر و دققت في السلسلة، ستجد السلسلة المنظمة 12345. بمعنى آخر، فإن النظام الكوني الذي نعيش فيه هو مجرد جزء يسير من بحر كبير من الاكوان الفوضوية. و العاقل هنا كالرقم "3" المحصور في منتصف النظام الجزئي، فينظر حوله و يرى الارقام منظمة بشكل منطقي، فيظن بأن الكون كله منظم، و لا يعلم أن نظامه الصغير هذا موجود عشوائيا في بحر من الفوضى. هذه الفرضية العلمية اسمها Multiverse و تقول أن الكون الذي نعيش فيه هو مجرد احتمال واحد من عدد لانهائي من الاكوان موجودة حولنا. و تكونه مجرد حتمية احصائية كان لا بد لها ان تحدث.
الفرضية العلمية الاخرى هي فرضية الكون النابض القائلة بأن الكون يتمدد، و بعدها اما يتقلص اخرى ليعاود التمدد، او يموت و يصدر عن مجال الزمكان كون آخر. و تقول الفرضية ان هذا حدث بلايين المرات قبل وجود كوننا هذا، و سيحدث ايضا بلايين المرات بعده. و في معظم المرات، نتجت اكوان لم توجد بها حياة. و لكن في هذا الكون بالذات، صدف و وُجدت الحياة، و هنا ايضا نحن بصدد حتمية احتمالية.
و اذا درسنا سويا جميع الامكانيات الكثيرة، نجد أن معظمها يخلو من المشاكل المنطقية التي تحيط بفرضية "الارادة السابقة" التي نقضتها أعلاه.
يضيف العاقل متكلما عن الاعراب الذين ظنوا ان الهاتف من صنع الشيطان،
اقتباس:هنا نحن أمام أفراد لم يرو هذه الآلات من قبل ، ولم يروا أحدا يصنعها ، ولم ينسبوها لبشر . ولكنهم رغم كل هذا ، لم ينسبوها للهباء والعدم والصدفة ، بل وضعوا لها إرادة مسبقة ، هي إرادة الجن .
هذا مثال يمكن استعماله ضدك و ليس لصالحك. اذا كان الانسان بجهله ينسب كل شيء الى صانع معين، فمن غير المستغرب ان ينسب الاخوان الهاتف الى الشيطان. و سبب اعتقاد الانسان القديم بوجود الآلهة أصلا يرجع الى جهله و الى انسنته لكل شيء. الانسان القديم ايضا انسن الرعد و جعل منه آلهة مزمجرة، و آمن بأن الامراض سببها لعنة الاخرين عليه و حسدهم. مسألة أنسنة الاشياء هي عملية سيكولوجية تنتج عن اعتقاد الانسان الاول بان كل شيء في الدنيا له صفات انسانية (و هو ما ادى الى الوثنية). هذا يشبه الكلب الذي يعيش بين البشر، فيعتقد نفسه انسانا مثلهم او انهم كلابا مثله! فلا أجد أنه من مصلحتك الاستدلال بالخرافات و اشخاص جهلة على وجود خالقك المزعوم.
يقول العاقل أيضا،
اقتباس:هناك ظاهرة أخرى ، أبلغ في الإثبات . عندما نرمي طفلا صغيرا بحجر ، فإنه سيلتفت بسرعه على البشر الموجودين حوله لا على الجدران وغيرها ، وفي هذا دلالة على أن قضية " الفعل لا بد له من فاعل " قضية لا تنشأ بحكم التعود بل تنشأ إذا ارتبط الفعل بغاية ونظام .
مسألة التفات الطفل للبحث عن رامٍ للحجر هي أيضا غريزة موجودة في الحيوانات كما في الانسان. فاذا وقع حجر عن الحائط، نرى القطة التفتت بسرعة و استعدت للدفاع عن نفسها. و هذه غريزة تطورية في الحيوانات كافة مبنية على افتراض وجود العدو دائما للحيطة و الحذر، و هي صفة ضرورية لصراع البقاء و لا علاقة لها بالفطرة الدالة على "الفاعل".
يضيف العاقل،
اقتباس:فقبول التعليل بالـ " تعود " ، يقتضي القبول بالـ " فطرة "
يا عزيزي هناك البلايين من الناس (هندوس و بوذيين و غيرهم الكثير) ممن لديهم الفطرة القائلة بأن الكون و المادة هو الخالق و لا خالق سابق له. اذا قبلنا بالفطرة، فالشعوب اختلفت فطرها و تنوعت، فلن نصل الى حل. الاستدلال بعادات العرب و فطرتهم خصيصا هو أمر ناجم عن نظرة ضيقة للموضوع.
اقتباس:وقضية " اقتضاء النظام وجود ارادة سابقة عليه " ، يمكن اثباتها بدليل آخر غير القياس ، وهو الاحصاء .
لنتسائل : ما هو الاحتمال الآخر لوجود هذا النظام ؟
ما هي الدراسة الاحتمالية التي قمت بها؟ يعني هل درست مثلا جميع الاكوان الممكنة و الموجود و فحصتها بعناية، و قمت بعدها بتصميم القرائن و المعادلات الرياضية لنقوم سويا بحساب احتمال وجود هذا الكون؟ أم أنك ترمي كلمة "احتمال" هنا جزافا؟
يا عزيزي أنت هنا كرجل فاز في سحب اليانصيب، و ربح مليون دولار من بين مليون متسابق. فعندما أخذ المال و عاد الى بيته، جلس و قال، "يا سلام، ما هو احتمال أن اكون فزت حقا في اليانصيب من بين مليون متسابق؟ الاحتمال ضئيل جدا، فلا بد أن أحدا في شركة السحب قام باختيار الارقام خصيصا لكي أربح أنا."
و طبعا، فمهما كان الفائز، فإنه سيفكر بنفس الامر. نحن نعيش في كون وجوده أصبح حقيقة واقعة، و ليس من المنطقي أن نعتبره أمرا خاصا جدا لمجرد وجوده، مع جهلنا المطلق بكافة الاحتمالات الاخرى.
اقتباس:وكل هذه الاحتمالات باطلة . فالصدفة لا تنتج نظاما
بل تنتج كما بينت لك سابقا في سلسلة الارقام العشوائية.
اقتباس:، والعلم أثبت أن لهذا الكون نقطة بداية ، ما " الإنفجار الكوني " إلا إحدى النظريات في تفسير تلك البداية ووصفها ، وكونه علة نفسه هو تفسير الماء بالماء.
حسنا، إذا سألتك يوما عن علة وجود الخالق، و قلت لي أنه هو علة وجود نفسه، سأقول لك أنك تفسر الماء بالماء.
و هكذا نستنتج أن أدلتك كما بينت أنا أعلاه 1) مبنية على فهم خاطئ للمفردات العلمية (مثل كلمة قانون) 2) تفترض استنتاجات مسبقا، 3) متناقضة داخليا، 4) تحتوي على معلومات علمية خاطئة بخصوص الديناميكا الحرارية، 5) تستند على فرضيات احتمالية جزافية و ليست مدروسة، 6) تستعمل مثال غريزة الاطفال بشكل مناقض للعلم، 7) تستعمل عقلية خرافات القبائل العربية و ايمانهم بالجن للاستدلال، 8) تستند على مدلولات الفطرة لبعض الشعوب دون غيرهم.
و هذا لن يقنع أي انسان عاقل محلل للأمور بشكل سليم.