تلك السيدة التي بالكاد تقرأ سطرين في كتاب أو اسم شارع دون أن تقع في خطأ لغوي ، جعلتني أغوص للمرة الألف بعد المائة في بحر النفس وأنا على طاولة جمعتنا صدفة مع أصدقاء !
سيدة في الأربعينيات من عمرها تعج بالحيوية والمرح تصبغ شعرها بلون ذهبي صارخ وترتدي ملابس زاهية وعيناها .. يالله يا عيناها! عصفوران يدوران في بستان مثمر يدعى هي! .. لم تكف عن التكلم بحرية وعفوية وبساطة عن حياتها وسنوات الغربة التي قضتها في أوروبا كامرأة عربية ضاقت الأمرين لتصل لما هي عليه الآن .. لفت انتباهي إعجاب الرجال الصارخ بشخصيتها رغم جمالها الذي يقال به "عادي" ! وأسلوبها القروي بتناول الطعام على المائدة ، فنصف الدجاجة المشوي بصحني لم أقوى على إكماله واثناء استغراقي بالإنصات لها امتدت يدها المكتنزة باللحم والحلي الذهبية إلى صحني وسحبت نصف الدجاجة إلى صحنها كما يسحب الأسد الفريسه لعرينه!وهم لم تتوقف للحظة عن الحديث .. وهاتفها المحمول لم يكف عن الرنين كلهم عشاق ومعجبين يرغبون بوصالها! صوتها الحازم يقول لأحدهم : قلت لك أنا الآن أتناول غذائي .. يووه لا وقت لي سأخابرك لاحقاً" وأقفلت الخط ليلتمع هاتفها الصغير من أثر الدهن العالق بأصابعها!
مسكينة!.. يا تري من ؟ .. كلمة خطرت ببالي، أهي الدجاجة ؟ أم هذه السيدة؟ أم أنا ؟ أم المرأة ؟ أم الدنيا ؟ والله ما عدت أدري!
هذه السيدة التي لم تتلقى من التعليم ما يعينها على قراءة جملة واحدة بدون خطأ تتكلم بـ"البزنس" أجدع من مدير شركة نفط عالمية في نيويورك! ..
سألتها من أين جمعت المال ؟ قالت لي من عرق جبينها فقد عملت خادمة و بيبي سيتر و ممرضة للعجائز المهجورين من قبل أولادهم! وشدت الحزام على الآخر لتجمع المال .. فقد علمتها الحياة بأن الرجل لا أمان له مطلقاً مطلقاً !
قالت وهي تلوح بيدها اللامعة بالدهن : الرجل مثل الدجاجة المذبوحة الفرق الوحيد بينهما أن الدجاجة تلقيها بالماء الساخن ثم تنتفي ريشها أم الرجل فانتفي ريشه قبل أن تضعيه بالماء الساخن حتى لا تبتلع شيء منه ..
زوجها لا يعبأ بها ولا يهتم لوجودها يجمعهما فقط الأولاد! وهي قررت أن تستمتع بحياتها .. سألتها عن أصدقائها الرجال ما نوع علاقتها بهم ؟
ضحكت وقالت لي : شم ولا تذوق .. فالرجل كالصائم وأنا الطعام ، وبما أنه يراني ويلمسني ولا يقو على تذوقي سأبقى غالية على قلبه ، لا توجد في قاموسي كلمة "وقت الإفطار" ! فالصائم مجرد أن يرتشف رشفة ماء ويأكل حبة تمر يزهد بالمائدة العامرة أمامه! فليبق جميع الرجال صيام ولأبقى أنا الطبق الأشهى .. فالمرأة الوحيدة التي تهز الرجل وتبق نقطة بيضاء في قلبه من كانت بين يديه وتمنعت عليه بشدة .. يبقى دائماً متسائلاً كيف لم أذقها؟!.. صمتت للحظة ثم أردفت قائلة : الرجل الوحيد الأحق بي رجل يملك مشاعري وعقلي .. فالحب رائع جداً وللأسف خانني حبيبي مع صديقتي وحين عاد إلي قال له قلبي أهلا بك وقال له لساني لا وألف لا! ولا زلت أحبه ..

لا أعلم مالذي شدني بحديث هذه السيدة ! أ كونها نوعية جديدة من البشر لم ألتقي بها سابقاً ؟ أم لأنها تمثل جانباً من الحياة أجهله أنا!
جانب من الحياة القاسية التي تعلم هؤلاء المهمشين والمعدومين كيف ينتصروا على قسوة الدنيا بدون علم وشهادات ووظائف ! كيف يتتلمذوا على يد الحياة ويتعلموا أهم مادة في هذا الزمن وهي "الفهلوة"
فأنت لست بحاجة لتكون مثقف وصاحب شهادات عالية وفلسفة معقدة لتنجح في حياتك! يكفيك فقط أن تكون "فهلوي" وليس بألأمر اليسير أن تكون فهلوي !

طلبت مني صديقتي أن أعد لها معي عدة مقالات ومواضيع في الأدب العربي للمقابلة التي ستجرى لنا في قاعة الإمتحان جلست أفكر بمادة أو موضوع يليق بصاحبتي ويحصد إعجاب دكاترة اللأدب العربي أمامها!
صديقتي التي لا تتقن جيداً العربية الفصحى مثلما أتقنها ! وتأمل بواحدة مثلي خريجة أدب عربي وسبق لها التدرب في قنوات الإذاعة العربية في فرنسا كيفية إعداد البرامج باللغة العربية أن تنجح في إعداد مقالات جيدة وبسيطة وليست معقدة بالنسبة لمستواها التعليمي باللغة العربية أن تتفهم مستواها باللغة وتسعفها بالمختصر المفيد!

وحين دار في بالي ثلاثة أرباع الأدب العربي من خطابة وشعر وقصة .. وتقافزت أمامي المعلقات السبع و دواوين البحتري و ابن زيدون والشنفري والمتنبي ووقف حماري في العقبة لأن صديقتي لا تعرف من هؤلاء ؟ ومن أين أتوا؟ وكلما حدثتها عن شيء نظرت لي بعيني متسائلة بتعجب عنهم مذكرة لي بمسرحية مدرسة المشاغبين حين سألت المدرسة عادل الإمام أو بهجت الأباصري عن ما هو المنطق ؟ فأجابها : أنا عارف العرب بجيبوا الأسامي دي منين؟! جعلتني أشعر بعقمي ومدى تخبطي وابتعادي عن مجال الآداب منذ أمد بعيد ! ولم يسعفني أنا وصديقتي سوى هذه المرأة التي كانت على الطاولة حين قالت لي ممازحة : أكتبي لها عن جحا فالكل يعرف جحا! حينها قفزت من السعادة صديقتي وقالت نعم نعم ! أريد نوادر لجحا وهبنقة أ ليسوا هم أيضاً من الشخصيات العربية التُراثية ؟
أطرقت برأسي متفكرة ومعجبة بهذه السيدة الفهلوية كيف حلت الأمر "بفهلوة" حين أمسكت العصا من المنتصف مقترحة علينا شخصيات عربية فكاهية مثل جحا وهبنقة !
فكل أسرة وبيت عربي من المحيط إلى الخليج يعرفون من هو جحا ومن هو هبنقة ويتجمعون بفرح ليستمتعوا بحكايات جحا التي تسرد على لسان الجميع !
لقد نجح جحا وهبنقة وحمقى ومغفلوا العرب بأن يحفروا اسمهم بالصميم في جسد التراث العربي و في ذاكرة كل عربي ليس لأنهم حمقى أو مغفلين .. بل لأنهم "فهلويون" مثل هذه السيدة الفهلوية !
فكم من مائة ابن رشد والمعري و أخوان الصفا وابن سينا وغيرهم وغيرهم جهلتهم الآف الأسر العربية بينما حفظت عن ظهر قلب اسم جحا الأحمق !
ويبقى السؤال : أليس جحا أيضاً فهلوي لأنه نقش اسمه بنوادره الحمقاء في ذاكرة كل عربي؟
يووووووووووه يا سيدة جحا للآن لا أعلم من المسكينة ، أنا أم أنتِ أم الدجاجة أم "الفهلوة" ؟!



لولوـ 2/5/2003

لولو(f)

جحا شخصية شعبية مثل أشعب وأبو زيد الهلالي وعنترة وتنتمي هذه القصص الى الموروث الشفوي / الشعبي. وكان الناس يتناقلونها قبل عصر المسلسلات والاذاعات والانترنت ونجوم السينما والغناء . كانت لها وظيفة هي الترفية والترويح عن الناس وربما لو قرأها أحد المختصين لوجدها محمّلة بشحنات عاطفية كانت تعتمل في الانسان العربي . والغالبية من أي مجتمع تميل الى الاشياء المسلية أكثر من ميلهم الى المعري او ابن رشد حتى قيل عن المهتمين بهؤلاء الادباء والفلاسفة بأنهم من "الصفوة" أو "النخبة" على عكس الشريحه الطاغية من المجتمع الذين يوصمون بالعامة أو الدهماء أو البسطاء ...ألخ

رائع هذا التوقيع يا لولو:hony:

اقتباس:لَيّسَ اللؤلؤ سُوى رَأي البَحرِ في الصَدَف .. ولَيّس المَاس سوى رأي الزمنِ في الفَحم ..

جبران

ذكرتيني بمشاعري وانا اقرا عن السوريه الفنانه الالمعيه التي لم تجد كيف تصل الى الناس بغير التعري
لقد حزنت بالفعل وانا اقرأ عن مواهبها التي كانت ضائعه وغير معروفه قبل التعري في ساحة نيويورك
ولاني اعرف ان بعض الاصدقاء من القراء ذوي الخلفيه الاسلاميه التكفيريه واطيافها وفروعها و الذين يدفعون بسبب وبدون سبب ثمنا باهظا لهزائم لم يتوقعوها وويعانون قهر مواجهة انظمه طالموا خدموها؟؟ وهاهي تشردهم وتلاحقهم في كل مكان من من واشنطن ؟ الى لندن؟ الى السعوديه ؟ افغانستان ؟؟ سوف يحاولون قراءة هذه المداخله فانني اضيف لهم
انهم اضاعوا فرصة التظلم التي كان يمكن لهاله فيصل ان تقدمها لهم بالكتابه على جسدها لو تفهموا حاجتها للانتقام ممن لايعطيها فرصة الظهور في وطنها ولو في منتدى الاتاسي في سوريا؟
واذا كانت تعرت كطريقه فهلويه لتحقيق نجاح زائف ومشين ؟ فانها لاتختلف عمن يتعرى من ارائه طمعا في نجاح يزيد خيبته ويؤكد عدم استفادته من تجاربه الماساويه
فكما ان اللؤلؤهو رَأي البَحرِ في الصَدَف و المَاس هو رأي الزمنِ في الفَحم فان الفهلويه هي راي الخائب في النجاح ؟

جوبيتير
لمرورك رائحة التاريخ
شكراً لمرورك!

لولو

اقتباس:  lulu   كتب/كتبت  
جوبيتير
لمرورك رائحة التاريخ
شكراً لمرورك!

لولو

شكرا لك أختي لولو . وأي خدمة أنا مستعد إسمي سعد ومولود في نجران السعودية أدرس ماجستير طب نفسي .

اقتباس:  Jupiter   كتب/كتبت  

اقتباس:  lulu   كتب/كتبت  
جوبيتير
لمرورك رائحة التاريخ
شكراً لمرورك!

لولو

شكرا لك أختي لولو . وأي خدمة أنا مستعد إسمي سعد ومولود في نجران السعودية أدرس ماجستير طب نفسي .

:h:
:lol::lol: