يحكى أن عربجيا كان يسوق حنطورا، إذ أوقفه سائج أجنبي يريد أن ينقله إلى حارات مصر حتى يتعرف على المجتمع الشرقيكما هو...
المهم مر صاحبنا بمسجد يرتفع منه صوت أذان المغرب بصوت ندي آسر، حتى تملك جمال الصوت لب الخواجة السائح فقال للعربجي: (ما هذا؟!)
صاحبنا العربجي وجدها فرصة للتأثير على السائح الذي بدا تأثره بنداوة الصوت، فقال له هذا هو الإسلام، وهذا النداء الذي ينادي به المسلمون للصلاة......إلخ
الخواجة تفاعل مع الموقف تفاعلا آنيا، فأعلن عن رغبته بدخول الإسلام، وجهر بالشهادتين ومضى العربجي يعرفه على بقية حارات مصر، حتى إذا مر بحارة يرتفع من أحد مساجدها صوت أذان العشاء بصوت أجش من أنكر الأصوات التي خلقها ربنا!
وهنا حشد العربجي كل طاقته، وانهال على بغلته بالسوط قائلا:
حااااااااااه لايكفر!!
طبعا قصص من هذه الشاكلة لها دلالتها على سذاجة بعض العرب والمسلمين وعاطفيتهم، فهم يعتقدون أن الإسلام مظاهر ومجاملات وعواطف شكلية سرعان ما يبوح بها الآخر!
وكنت أمضيت في جماعة الدعوة والتبليغ بعض الفترات، وكان من تقاليد الدعوة في الجماعة ما يسمى بالبيان وجلسات الهداية، وكان البيان غالبا ما يتضمن تجارب الدعاة الذين سبقوا بالخروج في سبيل الله هنا وهناك، ليحدثونا عن ناتج جولاتهم وزياراتهم الدعوية، وكان من المعهود والمألوف جدا، بل من العجيب أن يكون الأمر بضده، أن يحدثك كل واحد من الخارجين عن العشرات بل المئات والألوف الذين أسلموا على يديه بالعشرات لمجرد أن أوصاهم في كلمات ساذجة بأهمية الكلمة الطيبة: (لا إله إلا الله)!
ويبدا الإخوة في جلسة البيان يكبرون ويهللون لما فتح الله على هذا وذاك من هداية للناس!
وتالله لو أسلم هؤلاء جميعا كما يظن بعض إخواننا لما كان على ظهر الأرض غير مسلم!
طبعا ليست مهمتي أن أكذب بإسلام أحد، أو أن أتحمس لإثبات ذلك، بل ولا أعتقد أن قضية إسلام كهذه تهم أحدا، لأنني أخشى أن صاحبنا كما أسلم بهذه الطريقة، سيكفر بعد الجنازة بدقائق حين يصادفه ذلك المهرجان الضخم للبيعة!
ليس من صالح أحد تضخيم الأمور حتى تخرج عن العقلنة!
نحن في القرن الحادي والعشرين، وحكامنا سواء كانوا إسلاميين أو يساريين أو ليبراليين أو قوميين ليسوا عمر الذي يلبس ثوبا مرقعا ويفترش وسادة من طين!
دعوني أتكلم بالعموم حتى آخذ راحتي في الكلام من جهة، ولأننا لا نتكلم عن حالة ما بقدر ما نتكلم عن ظاهرة اسمها (الحاكم العربي)
حكامنا ليسوا المسيح المخلص بالتأكيد...
ليسوا المهدي المنتظر
ليسوا الأنظف والأطهر والأقوم والأرشد...
هذا شأن، والخروج عليهم أو معاندتهم وشق عصا الطاعة لهم -كما يخشون- شيئ آخر...
حين تطالبني بالولاء لك كسلطة قد يكون الأمر مبررا خاصة حين يكون العهد إليك جاء بطريقة مشروعة، ولا مشكلة لدي أو لدى غيري بأن نبذل لك السمع والطاعة والنصيحة كما أراد الله منا..
لكن حين تستخفني لتزعم لي -كما يزعم حكام العرب قاطبة- بأنك لا تحب المنصب ولكنك مجبر بالنزول على إرادة الجماهير!
أو تزعم لي بانه لا خوف ولا إملاءات ولا محركات خارجية تخضع لها أحيانا أكثر مما تخضع لإرادة شعبك!
أو تزعم بأن دافعك الأوحد هو خدمة الشعب والإسلام والإنسانية والحرم، وليس لنفسك ولا لعائلتك ومعشرك أي حظ دون ذلك!
أو تزعم لي بأنك لا تنام الليل حبا في ركعة تصليها في الأقصى!
أو تزعم لي بأنك أو غيرك إنما أصابكم ما أصابكم من جلطة أو مرض وهزال بسبب بكائكم على حال الإنسان الممتهن في العراق وفلسطين والشيشان وأفغانستان ووو!
حينها فاسمح لي أيها السيد الحاكم هنا أو هناك بأن أقول لك: كلا كفاكم استخفاف بعقولنا!
يجب ألا نكذب على بعضنا وإلا استجهلنا المطلعون علينا من خارج أوطاننا واستخفوا بما نقول!
ومع هذا فقد لا ألومك كثيرا في جل ما تفعله، لأنني أعلم أن قيم السلطة والحكم غير!!
هناك حيث يذوي الإنسان والعاطفة والأخلاق العامة، لتستعلي قيم أخرى لها دور في حفظ الأمن للحاكم أولا، وحفظ هيبته، فما ثمة ما ينبغي نكرانه والتجاوز فوقه...
نعم تستطيع أيها الحاكم العربي أن تكون مقدرا ومحترما ومقبولا حين تكون سياساتك هي الأفضل...
ليس من الضروري سيدي الحاكم العربي أن تكون (التوب) في كل شيئ، وأن يشار لك بالبنان في كل خصلة ومنقبة وتخصص!
أنت في الأدب الروائي المبدع!
وفي الفكر الفيلسوف المنظر..!
وفي الخطابة يكاد يختفي بين يديك ذكر القس بن ساعدة...!
وفي الديانة أنت الفقيه المجتهد بالمطلق...
وفي الزهد أنت أزهد الناس بالمال والمنصب!
وفي التواضع والحام والشجاعة والكرم والبساطة والأنفة وووو أنت صاحب القدح المعلى!!!
كلا يا سيدي!
افلح بما أنت عليه من رعاية لسياسة الأمة في الداخل والخارج، وسنغفر لك كل ما سوى ذلك من هفوات!
ليس بالضرورة أن تكون أزهد الزاهدين ولا أورع الورعين ولا أفقه الفقهاء...
نقبلك بعجرك وبجرك والله مهما كان من شأنك إن أفلحت في فنك، وقدمت لأمتك ما تنتظره منك، وما تعقده على منصبك من آمال..
لن نلتفت لقصورك التي بالعشرات، وما فيها من بذخ وترف ورفاه...
ولن نقارنك بأحوال الرعية في مقارنات ظالمة
كل هذا لا يهمنا، ولن نلتفت إليه لأننا نعلم أنه من كان خيرا منك من صحابة وخلفاء، صنع شيئا مما تصنع!
فقط نريدك أن تكون حرا سيدا على الآخرين ولو بعشر معشار سيادتك على شعبك ونكون لك ممنونين..
لا نريد من تواضعك الذي يبشرنا به إعلامك إلا أن تعفينا من التسبيح بحمدك والتقديس لك كأنك أسطورة يفنى الكون بفنائها، ولا يجود الزمان بمثلها إلا كما تجود الأساطير ببيضة الديك!
والله يستر...
(f)