حول المنتديات والمواقع الثقافية الإلكترونية.. دعوة للمساءلة
توطئة:
هل نستطيع ان نحظى بتواصل ثقافي، بدون تواصل انساني؟ نحقق تواصلا يكون ثقافيا 100% بعيدا عن الآخرين عندما يجيئون جحيماً، او حتى فردوسا؟ اليس ذلك هو المطلوب: تواصل ثقافي حقيقي، موضوعي، محايد؟
السؤال: كيف نستطيع ان نغيب شخصا ونحضر نصا؟ بكل ما تحمله تلك العبارة من لا مجازية؟ كيف نموت، نحن، ونختبر من بعيد قدرة النص على التواجد بعيدا عنا، مثل كائن بيولوجي مستقل، يملك قدرته الذاتية على التطور والنمو والتضاؤل والفناء؟ هل يمكن تحقيق ذلك؟
المتن:
هل وفرت الانترنت - متمثلة بالمنتديات الثقافية - ذلك؟
لا اريد ان اكون، لا اريد ان احضر، اريد غيابا حقيقيا، وكوّة اراقب من خلالها - ومن مسافة كافية - نصوصي وهي تكيف نفسها مع الزمن او تنقرض، اريد شيئا كهذا، شيئا بهذه الحقيقة وهذه الاصالة، لم تستطع المنتديات (اي منتدى!) تحقيقه كما ازعم، لانها - بمرور الوقت - تتحول الى مجتمعات صغيرة، مجتمعات مكثفة، فيها قوى وعلاقات مهيمنة، تتغير مع الوقت لتهيمن على المكان (او اللا مكان) علاقات اخرى، إننا بقدر ما نجأر للحرية الحرة (على حد تعبير رامبو) بقدر ما نفشل.. ونتحول الى علاقات تحكمها درجة من الاريحية المكذوبة، والفضائحية المزورة، شيء يحولنا - كأعضاء - الى مراقبين بعضنا لبعض، ويحول المنتدى الثقافي الى مدينة اشباح.
وما يحدث بالضبط بعد ان يتجاوز عمر عضويتك السنتين، وانت مازلت عضوا في منتدى الكتروني ثقافي، ان تصل انت وبقية الاعضاء الى حالة شلل، او عجز، عن التواصل مع ذلك ومعهم بصفتك تجربة او مشروعا ادبيا / فكريا / ثقافيا، بل تصبح رغما عنك شخصا، خاضعا للعلاقات ومثقلا بالعلاقات، ويصبح التواصل بينكم شائها، او كاذبا، اما ممعنا في الاطراء او موغلا في التجريح، ما يحدث هو عكس ما ينبغي ان يحدث، تعيش انت ويموت نصك، نصك الذي - على الارجح - كان السبب في صيرورتك الالكترونية بالدرجة الاولى.
من السهل ان نقول عن المنتديات الالكترونية بانها اختصرت علينا الوقت والمكان، ولكنني اقول انها قوضت المكان وقتلت الزمن، لقد دمرت كل اشكال السعي الذي يجعل من الهم الثقافي هما حقيقيا، تتحول المنتديات كل يوم الى ديوانية لعشاق التذمر والتباكي، وتصبح حياتنا الشخصية - رغم انوفنا - مشاعا امام الجميع، ويصبح من الطبيعي جدا ان نقرأ لشخص تعليقا على شاكلة «ذهبت الى السوق واشتريت نعلا» واشياء اخرى تصبح فجأة ذات طابع ثقافي او ادبي لانها بدرت من اسم ثقافي، وننسى - في خضم ذلك كله - اننا في الوقت الذي نؤرخ فيه لمشروعنا او مسيرتنا الثقافية، نؤرخ فيه لمسيرتنا الانسانية، وقد يريد بعضنا بذلك، ولكنها ليست الرغبة التي يشحذها الهم الثقافي الاصيل، واعتقد ان هذا الزحف الخبيث للعلاقات والشخوص هو ما يقوض فاعلية المنتديات الثقافية، كمشاريع ثقافية، كما نزعم على الاقل.
ثم دعونا نسائل حقيقة كونها «ثقافية» من خلال مساءلة المصطلح نفسه، ما معنى ثقافة؟ ما معنى مثقف؟ ولماذا تبدو هذه الكلمة - من بين جميع الكلمات - مترهلة ومثقلة بالترهات واللبس؟ لان شخصا يضع ردا يستخدم فيه كلمة مثل «شيزوفرينيا» او «مكيافيللي» أو «ملوخية».. هل يجعل ذلك من تواصلنا ثقافيا؟ لماذا لا نكون اكثر حقيقية ونعترف بان ثمة منتديات ومواقع ابعد ما تكون عن الهاجس الفكري والادبي ولكنها اكثر فاعلية ثقافيا؟ ولماذا لا نعترف بان ثقافة الكثيرين لا تتجاوز كونها ثقافة اسماء، نتف مصطلحات مأخوذة من هنا أو هنا، لا اكثر!
اليست العملية الثقافية، في جوهرها، بمثابة حراك، او معراج، او خلق لرؤى، او تدشين لآلية تفكير جديدة وطرق مبتكرة للنظر الى الحياة / الآخر / الذات / العالم / الكتابة؟ اليست الثقافة هي كيف نستطيع أن نوسع مداركنا بتبني فكرة جديدة، مغايرة، أخرى.. ندخلها الى اذهاننا ونجعلها جزءا منا ومن المجتمع ومن وعينا كعضو آخر غير محسوس نضيفه الى اجسادنا؟
ما يحدث في المنتديات، انها تحمي نفسها بأهداف مطاطة، شيء على شاكلة نشر الثقافة والوعي، تنمية قيم التسامح، التواصل الانساني، ولكنها في الحقيقة لا تقود الى اي حراك لانها تفتقر الى رؤية، او منهجية، او توجه معين، وهي مصممة اصلا بطريقة لا تحتمل اي نوع من المنهجية، طالما انها تتكئ في حضورها على مئات الاشخاص الذين لا يربط بينهم شيء، لا هدف مشترك ولا رؤية مشتركة ولا حتى لغة مشتركة، اذ لا يمكنك ان تتوقع من تجمع عشوائي كهذا الكثير!
نعم قد يحدث ان اقرأ مادة عن كارل يونغ واخرى عن تولستوي فهل هذا يكفي؟ نحن لا نجد في المنتديات الثقافية توجها، حتى المواقع الثقافية، اذا سلمنا بكونها اكثر تخففا من عبء التواصل الانساني المفروض على المنتديات، واكثر ذكاء في التعامل مع الشللية والمحسوبيات، فهي تبدو مؤخرا وكانها تفرخ في كل مكان، دون ان تهبك اي خصوصية، انها لا تفعل اكثر من تكرار بعضها، الاسماء ذاتها التي نقرأها هنا، نقرأها هناك، النصوص ذاتها التي ننشرها هنا، ننشرها هناك، لان تأسيسها - اصلا - لا يترافق مع مشروع بحث حقيقي، فتصبح كل المواد ملائمة، واقصى الشروط التي يضعها البعض لضمان فرادة موادهم ان يمنعوا نشرها في مواقع اخرى! وكأن هذا هو كل ما يلزم فعله لكي تحقق هذه المواقع تفردها او تميزها، ويتحول الامر فجأة الى ما هو اشبه بالتجارة، ويصبح التنافس على توفير البضائع النادرة عوضا عن البحث في مجالات جديدة وحقيقية.
قد يكون الامر مدعاة للتفاؤل، أن عدد المواقع الثقافية قد تضاعف على الشبكة في العامين الاخيرين، ولكن دعونا نتساءل حول مصداقية ذلك بالدرجة الاولى، فقد صار البعض - لفرط سهولة الآلية - يعتقد انها طريقة جيدة ومضمونة ليضيف سطرا جديدا الى سيرته الذاتية لكونه مشرفا في هذا المنتدى، او مديرا لهذا الموقع، ومن شأن زيارة قصيرة لمجموعة عشوائية من المواقع الثقافية ان يرى التكرار المرعب للاسماء والمواد، والاهم هو غياب التوجه.
ما نريده، ليس موقعا جديدا بوجوه قديمة، ما نريده ليس لونا جديدا للموقع ذاته، ما نريده هو شيء آخر تماماً، هو ان تدار تلك المحطات التي تعتبر روافد للثقافة بدرجة اكبر من الجدية، واقل ما يتطلبه ذلك وجود خطة حقيقية، شيء آخر عدا الانتشار وتحقيق الشهرة! اذ لا يمكن ان تدار بقالة، او شركة نفط، او منتدى ثقافي، بدون ذلك التوجه المبيت سلفا، وبدون الرغبة الحقيقية في البحث والتحقيق، شيء يتجاوز ارسال الدعوات عبر الايميل لآلاف الكتاب حتى نضمن تفاعلهم، وشيء يتجاوز هذا التشعب المربك العشوائي الى مزيد من التخصص.. ولعل معظم المواقع الثقافية الموجودة على سطح الشبكة هي هنا بسبب فكرة مدغدغة، اكثر مما هي هنا بسبب حالة وعي بما ينبغي فعله، وبالفراغ المطلوب ملؤه.
قد يعتبر البعض هذه المقالة محبطة او متشائمة، وقد يجدها البعض الآخر مثيرة للجدل لانها تصدر من مشرفة سابقة لمنتديين ثقافيين، ولكنني اعتقد انها - لهذا السبب على الاقل - جديرة بالنظر كما آمل.
معبر:
يحق لنا ان نبتهج لان الاقبال على الصفحات قد تضاعف في السنوات الاخيرة، ولكن علينا - في الوقت ذاته - ان نبتهج بحذر، بطريقة لا تفقدنا موضوعيتنا ولا قدرتنا على اقامة «علاقة نقدية» مع انفسنا، وتذكيرنا بما ينبغي فعله.
بثينة العيسى
http://www.alqabas.com.kw/magazine_details...ls.php?id=28356