الغاية التي كان يرمي إليها محمد هي هذه
أن الغاية التي يرمي إليها محمد من الدعوة إلى الله أو من النبوة ليست دينية محضة بدليل أنه قبل الجزية من غير العرب من أهل الكتاب والمجوس , إ ذ لا ريب أن أخذ الجزية منهم وتركهم على ما هم عليه من الكفر والضلال ينافي أنه لم يرسل إلا لدعوة الناس كافة إلى التوحيد أي إلى عبادة الله وحده لا شريك له
فإن قلت أن أهل الكتاب هم أهل دين جاءهم به الرسل من الله , فدعوتهم إلى الإسلام إنما هي دعوة إصلاحية بخلاف دعوة المشركين فإنها إنقاذية , فلذا قـَبل من أولئك الجزية ولم يـُقبلها من هؤلاء , قلت أما المجوس فمحمد لا يعترف بأنهم أهل دين سماوي , فهم والمشركون سواء في نظره , وأما أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) فهم وإن كانوا أهل دين سماوي معترف به إلا أنهم في رأي محمد قد حرّفوه وغيروه وبدلوه حتى أصبح الدين الذين هم عليه غير كاف ٍ لنجاتهم من عذاب الله فهم كالمشركين يعذبون في جهنم خالدين كما نطقت به آيات القرآن , فلأجل هذا يجب أن تكون دعوتهم إنقاذية أيضاً لا إصلاحية
وأيضاً أن النصارى منهم من يجعل المسيح إلهاً على ما جاء في القرآن , منهم من يجعله ابن الله , وكذلك اليهود يقولون عزير ابن الله (3) , فلا فرق إذن بينهم وبين مشركي العرب , إذ لا فرق بين شرك وشرك بل الشرك شرك كيفما كان سواء أشركوك بالله رجلاً , أو أشركوك به صنماً أو شجرة أو كوكباً أو غير ذلك , فقبول الجزية من هؤلاء دون مشركي العرب يدل دلالة واضحة على أن الغاية ليست بدينية محضة , إنما الغاية التي يرمي إليها محمد هي إحداث نهضة دينية اجتماعية سياسية , تكون عربية المبتدأ عالمية المنتهى , أي يقوم بها العرب في بدء الأمر ثم تعمم وتشمل الناس جميعاً في النهاية
ولا شك أن مثل هذه النهضة تحتاج في سيرها وتكاملها إلى المال , ففتح لهم هذا المورد المالي بأخذ الجزية من غير العرب , على أن يكون هؤلاء الذين يؤدونها مع بقائهم على كفرهم أهل عهد وذمة تحت حماية العرب , وقد أشار أبو العلاء المعري في لزومياته إلى هذه الجزية بقوله :
المال يُسكت عن حق وينطق في بطل وتجمع إكراماً له الشيع
وجزية القوم صدت عنهم فغدت مساجد القوم مقروناً بها البيع
ولمّا كانت هذه النهضة عربية أي يقوم بها العرب دون غيرهم , وكان العرب كلهم أو أكثرهم مشركين وثنيين , وكانوا مع ذلك متخالفين متخاذلين يأكل بعضهم بعضاً , كان من الضروري لمحمد أن يجمع كلمتهم قبل كل شيء, فيكوّن فيهم وحدة دينية ويربطهم برابطة الإخاء الديني وكذلك فعل إذ أنكر عليهم عبادة الأصنام وشنع بها كل تشنيع وتفنن في إبطالها وتفنيدها بما هو مسطور في القرآن , ودعاهم بكلمة التوحيد (( لا إله إلا الله )) التي هي من مبتكراته , كما قلنا سابقاً , إلى عبادة الله وحده لا شريك له , وكان في أول الأمر مكتفياً في دعوتهم بالآيات القرآنية إذ لم تكن له قوة يستند إليها في إرغامهم على قبول ما يدعوهم عليه , وقد قاسى ما قاسى من عداوة قومه المشركين ولقي منهم أذى كثيراً هو وأتباعه القليلون المستضعفون
ولكنه بعد الهجرة إلى المدينة حصلت له تلك القوة , فصار يدعوهم وفي إحدى يديه القرآن وفي الأخرى السيف , فلا يرعى لهم إلاً ولا ذمة , ولا يقبل منهم عذراً ولا جزية إلا الإسلام , فكان يدعوهم إليه فإن أسلموا فبها وإلا سلّ عليهم السيف فلا يغمده حتى يسلموا
وإذا علمت ماذا يريد محمد من وراء دعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له , علمت سبب تشدده في تشنيعه عليهم وثنيتهم , وتشديده عليهم إنكار الشرك بالله حتى جعله من الذنوب التي لا تغتفر إذ قال : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )
مع أنه في الحقيقة ليس كذلك , لأن الشرك بالله لا يضر الله شيئاً , كما أنه لا يضر الناس مضرة مادية وإن كان عبثاً مزرياً بهم , ولو كان الشرك بالله يضر الناس مضرة مادية لهلك اليوم أهل العراق الذين هم أعادوا الوثنية جذعة بعبادتهم أهل القبور التي في القبب المسماة عندهم بالعتبات المقدسة , فإن الوثنية التي حاربها محمد بسيفه وقرآنه قد عادت بجميع طواغيتها على شكل أشنع وأفظع مما كانت عليه في الجاهلية , ومع ذلك ترى أهل العراق يسرحون ويمرحون كما لو كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له
بل الحقيقة أن الله يغفر أن يُشرك به ولا يغفر ما دون ذلك , لأن ما دون الشرك من المنكرات قد يتعلق بحقوق الناس بعضهم مع بعض فلا تجوز مغفرته , بخلاف الشرك بالله فإنه لا يضر الله شيئاً ولا يتعلق بحقوق الناس بعضهم مع بعض
أن محمد يعرف هذه الحقيقة جيداً , ولكن كما قلنا أن سبب تشدده في إنكار الشرك إلى هذا الحد هو ما يريد من جمع كلمتهم وتكوين وحدة دينية فيهم لكي ينهض بهم نهضة كبرى تكون عاقبتها الخير للناس جميعاً
وجعل لنهضتهم من المرغبات المادية أن أحل لهم الغنائم والنساء والسبايا في الحرب , وزاد أن ضرب لهم الجزية على غيرهم من أهل الأديان ولم تكن الغنائم في الأديان , السابقة حلالاً , فكان من خصائصه أن أًحلت له الغنائم كما يدعيه كتاب السيرة النبوية , والذي نراه أن أخذ الغنائم والسبايا من عادة العرب في الجاهلية فإنهم كانوا في حروبهم إذا أغار بعضهم على بعض أستاقوا الأنعام التي هي جل أموالهم وأخذوا النساء سبايا , فمحمد أقرهم على ما كانوا عليه لأن المصلحة اقتضت ذلك
وإذا علمت هذه المرغبات المادية والمعنوية وعلمت أن العرب كانوا بطبيعة بلادهم القاحلة يعيشون في ضنك من العيش محرومين من نعيم الحضارة كل الحرمان , وعلمت أيضاً أنهم كانوا ببداوتهم من أشد الناس بأساً وأشهرهم في الحروب شجاعة وإقداماً فقد انكشف لك سر الموفقيات والفتوح التي جنوها من نهضتهم الإسلامية المحمدية
شجاعة وإقدام مع شظف في العيش , حصلت بعدها وحدة في القوم جعلتهم جسماً واحداً , ثم انفتحت لهم أبواب الجنان من جهة , وتكدست أمامهم غنائم الحرب من جهة أخرى , فأي عجب يبقى بعد هذا من أن نراهم قد دخلوا البلاد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في مدة لا تزيد على ثلاثين سنة
دع الناس يختلقون المعجزات لمحمد , وانظر إلى هذه النهضة وآثارها الباهرة فإنها معجزة المعجزات التي لم يسبق لها نظير في البشر منذ عُرف التاريخ إلى يومنا هذا
وكيف ينكر علينا منكر ما قلناه من أن الغاية التي كان يرمي إليها محمد هي هذه , وقد صرح هو نفسه بها عدة مرات )
(3) سورة التوبة الآية : 30 0
(1) سورة النساء الآية : 48, والآية 116
الشخصية المحمدية , معروف الرصافي
أن قراءة كتاب الشخصية المحمدية , لمؤلفه – معروف الرصافي – بهدوء وموضوعية تعرف أيّ حياد كان يريده الرجل , حيث يترك للقارئ مساحات واسعة من الرأي والتفكّر
|