ما هي صدقية قصة الراهب بحيرى
مع من سافر محمد في طفولته إلى بلاد الشام , وما هي صدقية قصة الراهب بحيرى , وما هي تفاصيل الأحداث التي جرت مع عمه أبي طالب , وكيف جرت إعادته ومع من؟
الحجاز في عهد محمد كما هو اليوم ليس فيه زراعة ولا صناعة , وكان أهله لا يملكون من موارد العيش ومصادره سوى مواشيهم يركبون ظهورها ويأكلون لحومها ويشربون ألبانها , ولا ينتفعون انتفاعاً كبيراً بأوبارها وأصوافها لفقد الصناعة فيهم, فهم بطبيعة الحال محتاجون إلى استيراد مرافق الحياة وأسباب العيش من البلاد المتاخمة لبلادهم كبلاد اليمن في الجنوب وبلاد الروم في الشمال وبلاد فارس في الشرق , فهذه الحاجة هي التي جعلت أناساً منهم يتِّجرون , وهي التي خلقت لهم المواسم والأسواق التي كانوا يقيمونها في أوقات معينة للبيع والشراء
وكان أهل مكة بين سائر أهل الحجاز هم القائمين لهم بهذه المهمة أعني التجارة , فكان أبناء مكة كلهم ( وإن شئت فقل قريشاً ) أهل تجارة وكانت قوافلهم وعيراتهم مستمرة في الذهاب والإياب إلى الشام وإلى اليمن , يحملون من بلادهم الأدم من جلود مواشيهم وما يتبعها من وبر وصوف يبيعونها في أسواق تلك البلاد , ثم يرجعون حاملين إلى بلادهم ما تحتاج إليه من ميرة وبز وغيرهما من المنسوجات والمأكولات , فيبيعونها في أسواقهم , وكانت سائر قبائل العرب تأتي أسواقهم في المواسم فيبيعون ويشترون
وكانت هذه المواسم لا تقام إلا في الأشهر الحرم وهي أشهر الحج أو قبيلها بقليل , فكانت تقام في عكاظ وهو بين نخلة والطائف , وفي ذي المجاز وهو خلف عرفة , وفي مجنة وهو بمر الظهران , فكانت العرب تقيم سوق عكاظ شهر شوال , ثم تنتقل إلى سوق مجنة فتقيم فيه عشرين يوماً من ذي القعدة , ثم تنتقل إلى ذي المجاز فتقيم فيه إلى أيام الحج فكانت هذه المواسم تبتدئ بالبيع والشراء وتنتهي بالحج , وما كانت الأشهر الحرم ولا هذه المواسم إلا تمهيدا ً للحج ويجوز أن تقول ما كان الحج إلا لأجل هذه المواسم والأسواق التي تكون فيها تجارة قريش رائجة رابحة
ولا شك أن تمخض الأسواق في المواسم بهذه الحركة في البيع والشراء كان يدر لقريش الخير والبركة لأنهم تجار هذه الأسواق , ولأنهم هم ولاة البيت المهيمنون على الحج , فلهذا السبب كانت قريش أغنى العرب , ولهذا السبب أيضاً كانت لقريش رئاسة دينية على العرب , ولا ريب أن رؤساء الدين في ذلك العهد هم رؤساء الدنيا أيضاً في كل مكان , وإذا علمنا أن أهل مكة , أعني قريشاً , كانوا أهل تجارة , فقد علمنا أنهم كانوا أهل سفارة أيضاً , لأن التجارة هي أم الأسفار في جميع الأمم , ولذلك قل منهم من لم يسافر إلى البلاد المتاخمة , وقل فيهم من لم يضرب في الأرض متاجراً
وإذا كانت قريش أهل تجارة وأسفار على نحو ما ذكرنا , وكان محمد من قريش فلا عجب أن نرى له أسفاراً عديدة سافرها للتجارة
فأسفاره هذه هي التي تستحق العناية بدرسها ومعرفة تفاصيلها حق المعرفة , إذ بها وحدها تنكشف لنا أسرار كثيرة في حياة محمد قبل النبوة , ولكنا ( مع الأسف ) نراها غامضة أيضاً كحياته قبل النبوة , ( انظر مقالنا تحت عنوان محمد قبل النبوة) , كما نراها قليلة بالنسبة إلى ما يلزم أم تكون عليه من كثرة , فإن الأسفار التي سافرها محمد قبل النبوة ينبغي أن تكون أكثر مما ذكروا خصوصاً إذا علمنا أنه كان يتجر قبل أن يتجر لخديجة , فإن المشهور أن سفره للتجارة ابتدأ باتجاره لخديجة وهو في الخامسة والعشرين من العمر , وذلك عدا سفرته الأولى في صغره مع عمه أبي طالب إلى الشام , ولكنهم ذكروا أنه كان يتجر , قبل إتجاره لخديجة , ففي السيرة الحلبية أنه كان يتجر قبل النبوة قبل أن يتجر لخديجة وكان شريكاً للسائب بن أبي السائب صيفي
قال ولما قدم عليه السائب يوم فتح مكة قال له مرحباً بأخي وشريكي كان لا يداري ولا يماري (1) وإذا صح ذلك فلا بد أن تكون له أسفاره قبل بلوغه الخامسة والعشرين أي قبل اتجاره لخديجة , لأن المشتغل بالتجارة في ذلك الزمان لا بد له من السفر , وذلك بأن يسافر هو نفسه أو أجيره أو شريكه , فيأتي بما يتجر به في بلاده , ولم تكن التجارة في ذلك العهد كما هي اليوم بأن يكتب التاجر في بغداد مثلاً إلى التاجر في لندن فيرسل إليه بما أراد , وليس محمد من التجار أولي الثروة واليسار حتى يرسل أجيراً يسافر بدلا منه , فإذا كان يتجر قبل أن يتجر لخديجة كما قالوا فلا بد له من أن يسافر هو نفسه في تجارته , فمن هذا نستنتج ما قلناه آنفاً من أنه لا بد أن تكون له أسفار قبل بلوغه الخامسة والعشرين أي قبل اتجاره لخديجة , وإن لم يذكروا لنا شيئاً من ذلك 0 ومما لا ريب فيه أن أول سفرة سافرها محمد قبل النبوة هي :
سفره مع عمه إلى الشام
ذكروا أن أبا طالب خرج إلى الشام في تجارة , فلما تهيأ للرحيل صبّ به محمد ( الصبابة وهي رقة الشوق والولع الشديد بالشيء ) , وفي بعض الروايات خبث به ( أي لزمه وقبض عليه بكفه ) وكان ابن تسع سنين على الراجح , فرقّ له أبو طالب فأخذه معه (2) وأهم ما ذكروه في هذه السفرة قصة بحيرى ( بفتح الباء وكسر الحاء وسكون الياء آخره ألف مقصورة ) , وهو لقب لراهب اسمه جرجيس وقيل برجيس , كان انتهى إليه علم النصرانية وكان في صومه له ببصرى , ( وهي قصبة كورة حوران من أعمال دمشق يقال لها اليوم اسكي شام ) , وقيل كان بحيرى من أحبار يهود تيماء قال صاحب السيرة الحلبية : ولا منافاة لأنه يجوز أن يكون تنصر بعد أن كان يهودياً كما وقع لورقة بن نوفل (3) وقال ابن عساكر : أن بحيرى كان يسكن قرية يقال لها الكفو بينها وبين بصرى ستة أميال (4) ولم أرَ لهذه القرية ذكراً في معجم البلدان وقبل كان يسكن البقاء من أرض الشام بقرية يقال لها ميفعة (5) ولم أرَ هذه أيضاً في معجم البلدان , والبقاء كورة من أعمال دمشق قصبتها عمّان
وقيل أن نذكر هذه القصة نسترعيك السمع والبصر إلى بعض ما قلناه فيما تقدم من أن كل ما ذكروه في كتبهم مما يتعلق بحياة محمد قبل النبوة إنما هو كلام جرى فيه التلفيق والتزويق لأنهم لم يعنوا به ولم يأبهوا له إلا بع أن تم ّ لمحمد ما تمّ من أمر النبوة فلذلك كان للتلفيق فيه مجال وقد ظل هذا المجال متسعاً للرواة حتى جاء إمامهم محمد بن إسحق في القرن الثاني فدوّنه
وها نحن نذكر لك قصة بحيرى من رواية ابن إسحق كما هي مذكورة في السيرة الهشامية ومنها تعلم حقيقة ما قلناه
قال ابن إسحق : ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجراً إلى الشام , فلما تهيأ للرحيل , وأجمع المسير صبّ به رسول الله , فيما يزعمون , فرقّ له وقال : والله لأخرجنّ به معي ولا يفارقني , ولا أفارقه أبداً , أو كما قال فخرج به معه فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام , وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له , وكان [ انتهى ] إليه علم النصرانية , ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب , إليه يصير علمهم عن كتاب فيها فيما يزعمون يتوارثونه كابراً عن كابر فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى وكانوا كثيراً ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام , فلما نزلوا به قريباً من صومعته صنع لهم طعاماً كثيراً , وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته , يزعمون أنه رأى رسول الله , وهو في صومعته , في الركب حين أقبلوا , وغمامة تظله من بين القوم قال : ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريباً منه , فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة , وتهصرت ( أي مالت ) أغصان الشجرة على رسول الله حتى استظل تحتها فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع , ثم أرسل إليهم فقال : إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش , فأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم قال له رجل منهم : والله يا بحيرى أن لك لشأناً اليوم , مل كنت تصنع هذا بنا , وقد كنا نمر بك كثيراً فما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرى : صدقت , قد كان ما تقول , ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً فتأكلون منه كلكم , فاجتمعوا إليه , وتخلف رسول الله من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة فلما نظر بحيرى في القوم ولم يرَ الصفة التي يعرف ويجد عنده , قال : يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي , قالوا له : يا بحيرى ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام , وهو أحدث القوم سناً , فتخلف في رحالهم , فقال : لاتفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم قال : فقال رجل من قريش مع القوم : واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبدا لله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء في جسده , وقد كان يجدها عنده من صفته , حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا , قام إليه بحيرى فقال : يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عمّا أسألك عنه , وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما , فزعموا أن رسول الله قال : لا تسألني باللات والعزى شيئاً , فوالله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما فقال له بحيرى : فبالله ما أخبرتني عمّا أسألك , فقال له : سلني عمّا بدا لك , فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره , فجعل رسول الله يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته , ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده فلما فرغ , أقبل على عمه أبي طالب فقال له : ما هذا الغلام منك ؟ قال : ابني , قال له بحيرى : ما هو بابنك , وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً , قال : فإنه ابن أخي , قال : فما فعل أبوه ؟ قال : مات وأمه حبلى به , قال : صدقت , فارجع بابن أخيك إلى بلده , وأحذر عليه يهود , فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغينه شراً , فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم , فأسرع به إلى بلده فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام , فزعموا فيما روى الناس أن زريراً وتماماً وجريساً , وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب , فأرادوه فردهم عنه بحيرى وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته , وأنهم أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه , ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم , وصدقوه بما قال , فتركوه وانصرفوا عنه (1)
وفي رواية أخرى أن أبا طالب بعثه مع بعض غلمانه إلى المدينة كما في الهدي وهذه الرواية تقتضي أنه رجع من عند بحيرى ولم يذهب به عمه إلى داخل الشام وفي رواية أخرى وهي أغرب أن الذي بعثه معه بلالاً هو أبو بكر (1)
أما الحقيقة المعلومة فهي أنه لم يكن الركب في هذه السفرة أبو بكر ولا بلال وأنهما إذ ذالك صبيان صغيران , وأن أبا بكر أصغر سناً من محمد , وأن بلالاً أصغر من أبي بكر , وأنه لم ينتقل لأبي بكر ولم يكن مولى له إلا بعد هذه السفرة بأكثر من ثلاثين عاماً كما في السيرة الحلبية نقلاً عن الأصل (2) فلا أبو بكر إذ ذاك أهل لأن يكون مرسلاً ( بصيغة الفاعل ) ولا بلال أهل لأن يكون مرسلاً ( بصيغة المفعول ) , ولكن هذه الروايات جاءت مؤيدة ما قلناه
يتبع
(1) السيرة الحلبية 2/244
(1) السيرة الحلبية , 3/102
(2) السيرة الحلبية , 1/ 117
(3) السيرة الحلبية , 1/118
(4) السيرة الحلبية , 1/118
(5) السيرة الحلبية , 1/118
(1) سيرة ابن هاشم , 1/180 – 183 0
(1) السيرة الحلبية , 1/ 120 0
(2) السيرة الحلبية , 1/ 120 0
من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب – معروف الرصافي
|
بحث
قائمة الأعضاء
التقويم
وثائق المساعدة
