هل كان محمد أميا ً ؟ هل كان يقرأ ويكتب ؟ وما هو مصطلح الأمي حينذاك ؟
وإذا كان محمد لا يتظاهر بالكتابة ولا يتعاطاها قبل النبوة , وإن كان يحسنها فكتابته الكتابة بيده يوم الحديبية لا ينافي ما جاء في القرآن من قوله : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ) , لأن النفي الوارد في هذه الآية إنما هو بالنظر إلى الواقع , والواقع هو أنه لم يتفق له أن كتب شيئاً قبل النبوة , وإن كان يعرف الكتابة , ولا يلزم من معرفة الكتابة وقوعها
ومما يدل على أن محمداً كان يقرأ ويكتب وإن العباس كان يعرف ذلك منه دون غيره من الناس ما جاء في كتب السير من قصة اليهودي مع العباس في اليمن , وذلك أنهم ذكروا عن العباس بن عبد المطلب أنه قال : خرجت في تجارة اليمن في ركب فيه أبو سفيان بن حرب , فورد كتاب حنظلة بن أبي سفيان أن محمداً قائم في أبطح مكة يقول أنا رسول الله أدعوكم إلى الله , ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن , فجاءنا حبر من اليهود فقال : بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ماقال , قال العباس : فقلت : نعم أنا عمه , قال : نشدتك الله هل كانت لابن أخيك صبوة ؟ قلت : لا والله ولا كذب ولا خان وما كان اسمه عند قريش إلا الأمين , قال : هل كتب بيده ؟ فأردت أن أقول نعم فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويرد علي ّ , فقلت : لا يكتب , فوثب الحبر وترك رداءه وقال : ذبحت يهود وقتلت يهود , وقال العباس : فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان / 265 / : يا أبا الفضل أن يهود تفزع من ابن أخيك ! فقلت : قد رأيت لعلّك تؤمن به , فقال : لا أؤمن به حتى أرى الخيل في كداء , قلت : ما تقوله ؟ قال : كلمة جاءت على فمي , إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلاً تطلع على كداء (1) 0
فانظر إلى العباس لما سأله اليهودي هل كتب بيده ؟ كيف قال : فأردت أن أقول نعم , فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني , وما ذلك إلا أنه كان يعرف أن محمداً يكتب , وأن أبا سفيان لا يعرف ذلك فخوفه من تكذيب أبي سفيان منعه من أن يقول نعم , فقال : لا يكتب , وإلا فإن محمد لا يكتب كما قال , فلماذا أراد العباس أن يقول نعم ؟ وهل هناك داع إلى أن يكذب على اليهودي في جوابه الثاني بعد أن صدقه في جوابه الأول لما سأله هل كان لابن أخيك من صبوة ؟ 0
ومن ذلك أنه أمر بإحصاء من معه لما خرج من غزوة بدر فإذا هم ثلاثمائة وثلاث عشر ففرح بذلك وقال : عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر (1)0
ومع ذلك انه لما قسم الغنائم يوم حنين , قال بعض المنافقين (قيل هو متعب ) : هذه القسمة ما عدل فيها , ولا أريد فيها وجه الله , فأخبر بذلك رسول الله , فتغير وجهه الشريف حتى صار كالصرف ( بكسر الصاد المهملة وهو شيء أحمر يدبغ به الجلد ) , وفي رواية : فغضب غضباً شديداً واحمر وجهه , وقال : من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله , رحمة الله على أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر (2) 0
قالوا : أشار بذلك إلى قصة قارون ابن خالة موسى أو أبن عمه لما جعل لامرأة بغي جعلاً إذ ترمي موسى بنفسها (3) 0
ومن ذلك أنه جاءه رجل وهو بالجعرانة مرجعه من حنين , فوقف على رأسه فقال : يا رسول الله , أن لي عندك موعداً , فقال له : صدقت فاحتكم , فقال : أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها , فقال رسول الله : هي لك , وقد احتكمت يسيراً , ولصاحبه موسى التي دلته على عظام يوسف كانت أحزم وأجزل حكماً منك حين حكمها موسى , فقالت : حكمي أن تروني شابة وأدخل معك الجنة (1) 0 / 267 /
ومع ذلك أنه لما وفد عليه رهط من بني أسد سألوه عمّا كانوا يفعلونه في الجاهلية من العيافة والكهانة, فنهاهم عن ذلك فقالوا : يا رسول الله , خصلة بقيت , قال : وما هي ؟ قالوا : الخط ( أي خط الرمل ) فقال علمه نبي فمن صادف مثل علمه علم , وفي رواية لمسلم فمن وافق خطه فذاك وإلا فلا 0 وكأنه قال لهم لو علمتم موافقته لكن لا علم لكم بها (2) 0
ومن ذلك انه لما عزم على أن يرسل إلى الملوك كتباً يدعوهم بها إلى الإسلام , وتكلم مع أصحابه في ذلك , خرج على أصحابه يوماً فقال : أيها الناس أن الله بعثني رحمة وكافة فأدوا عني رحمكم الله ولا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم , فقال أصحابه : وكيف اختلف الحواريون على عيسى يا رسول الله ؟ قال : دعاهم لمثل ما دعوتكم له , فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم , وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وأبى , فشكا ذلك عيسى إلى ربه , فأصبحوا وكل رجل منهم يتكلم بلغة القوم الذي وجه إليهم (3) 0
ومن ذلك ما قاله لعدي بن حاتم لما وفد عليه , قال عدي : لمّا جئته فدخلت عليه قال : من الرجل ؟ فقلت : عدي بن حاتم , فقام وانطلق إلى بيته حتى إذا دخل تناول وسادة بيده من أدم محشوة ليفاً فقدمها لي , وقال : اجلس على هذه , فقلت : بل أنت فاجلس عليها , قال : بل أنت , فجلست عليها وجلس رسول الله بالأرض , ثم قال لي : يا عدي بن حاتم اسلم تسلم , قالها ثلاثاً , فقلت : إني على دين ( كان عدي نصرانياً ) قال : أنا أعلم بدينك منك , فقلت : أنت أعلم بديني , قال : نعم ألست من الركوسية , ألست من القوم الذين لهم دين ؟ فقلت : بلى , فقال : ألم تكن تسير في قومك بالمرباع ( أي تأخذ ربع الغنيمة , وكان الأشراف في الجاهلية يأخذون ربع الغنيمة ) ؟ قلت : بلى , قال : فإن ذلك لم يكن يحل لك دينك , / 268 / فقلت : أجل والله , وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل , إلى آخر الحديث (4) 0 إن الأحاديث التي هي من هذا القبيل كثيرة ولكننا نكتفي بما ذكرناه منها وكلها كما تراها تدل بصراحة دلالة واضحة على أن محمداً كان يقرأ الكتب القديمة وأنه كان على علم بقصص الأنبياء الأولين وأخبار الماضين 0
وأحسن ما يؤتى في هذا الباب ما قاله النبي في أم سليم لما توفي ابنها فصبرت وحملت زوجها أبا طلحة على الصبر , إذ قال لما بلغه خبرها : الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل صابرة بني إسرائيل , فقيل : يا رسول الله ما كان من خبرها , قال كان فيبني إسرائيل امرأة , وكان لها زوج وكان له منها غلامان وكان زوجها أمرها بطعام تصنعه ليدعو عليه الناس ففعل , واجتمع الناس في داره فانطلق الغلامان يلعبان فرقعا في بئر كانت في الدار , فكرهت أن تنغص على زوجها الضيافة فأدخلتهما البيت وسجتهما بثوب , فلما فرغوا دخل زوجها فقال : أين ابناي ؟ قالت , هما في البيت , فنادهما أبوهما فخرجا يسعيان , فقالت المرأة : سبحان الله ! والله لقد كانا ميتين ولكن الله أحياهما ثواباً لصبري , انتهى نقلاً عن السيرة الحلبية (1) 0 فهذه القصة التي ذكرها محمد عن المرأة الإسرائيلية تدل على انه كان يقرأ الكتب القديمة 0
إن الغرض الذي نرمي إليه في مبحثنا هذا هو أن محمداً كان عالماً بأخبار الماضين وأقاصيصهم ووقائعهم , وإن علمه بذلك حاصل له من قراءة الكتب القديمة , وانه كان يحسن القراءة والكتابة 0 ويجوز أن يعترض علينا معترض بأنه لايلزم من علمه بأخبار الماضين لا بقراءة الكتب القديمة ( وهو / 269/ اعتراض وجيه , وقد اعترض به علينا الأستاذ زكي مبارك أديب مصر وعالمها , وذلك يوم اجتمعنا به في الفلوجة 0قلنا في الجواب عليه : لا فرق عندنا أن يكون علمه بأخبار الماضين حاصلاً له بالسماع أو حاصلاً له بالقراءة , فالسماع أيضاً كالقراءة يتم به غرضنا , وهو أنه كان عالماً بأخبار الماضين , ونحن إنما نريد إثبات العلم له بذلك أن نتوصل إلى حل مشكلة الوحي الذي يأتيه به جبريل من الله , وفي شيء كثير من أخبار الماضين وأقاصيصهم , كما هو ظاهر من أول كلامنا الذي تقدم تحت عنوان " هل لمحمد كلام بعد النبوة " وإذا كان الأمر كذلك فالسماع يثبت الدعوى أيضاً وتنحل به مشكلة الوحي كالقراءة , فليس في هذا الاعتراض ما ينقض الدعوى بل كل ما فيه انه يجوز إثباتها من طريق قراءة الكتب إلى طريق السماع من الناس 0
على أننا مع اعترافنا بصحة هذا الاعتراض من حيث أنه موافق لدعوانا , نقول بأن هناك ما يدفعه ويدل على أنه علم محمد بأخبار الماضين كان حاصلاً له عن طريق قراءة الكتب القديمة لا من طريق السماع من الناس , كالخبر الذي ذكرناه عن العباس وغيره مما تقدم ) 0 يتبع 00

(1) السيرة الحلبية , 1/185 / 0
(1) السيرة الحلبية , 2/ 149 / 0
(2) السيرة الحلبية 3/ 121 / 0
(3) المصدر نفسه
(1) السيرة الحلبية , 3/ 129 / 0
(2) السيرة الحلبية , 3/ 235 /
(3) السيرة الحلبية , 3/ 241 – 242
(4) السيرة الحلبية 3 / 226 0

* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب – معروف الرصافي -