{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
العقليات: تاريخ مبهم
سيناتور غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,957
الانضمام: Mar 2007
مشاركة: #1
العقليات: تاريخ مبهم
أحفظوها للفائدة



جاك لوغوف

ترجمة: محمد حميدة



"العقلية، كلمة تروقني. ثمة كلمات جديدة نُصدِرُها"

مارسيل بروست



يشهد حقل التاريخ، في الوقت الراهن، مقولة جديدة ومبتذلة في آن واحد. إنها العقلية. فنحن نتكلم كثيرا عن تاريخ العقليات، غير أننا لم نقدم سوى بعض النماذج المقنعة. فبينما لا يزال الأمر يتعلق بجبهة ريادية، بفضاء بكر، نتساءل عما إذا كانت العبارة تغطي واقعا علميا أو تحوي تجانسا مفاهيميا أو تملك فاعلية إبستيمولوجية. لكن، وهي في بداياتها، تبدو وكأنها تشيخ تحت تأثير الموضة. فهل نساعدها على البقاء أم على الاختفاء؟

I - التاريخ - البؤرة:

تكمن الجاذبية الأولى لتاريخ العقليات، بالتحديد، في عدم دقته، في منحاه نحو بقايا التحليل التاريخي.

ابتداء من 1095، تحرك الأفراد والجماعات في العالم المسيحي الغربي وشاركوا في المغامرة العظمى للحروب الصليبية. فالنمو الديموغرافي وبداية الاكتظاظ السكاني والأطماع التجارية للمدن الإيطالية وسياسة البابوية المضادة للبدع والرامية إلى إعادة وحدة المسيحية المتفككة، كلها عوامل تعجز عن تفسير كل شيء، وربما حتى ما هو أساسي. يحب مراعاة جاذبية القدس الدنيوية وثنائيتها السماوية واندفاع صور العقلية الجماعية المتراكمة حولها. فهل بإمكاننا فهم الحروب الصليبية دون التنبه للعقلية الدينية؟

وما ذا تعني أيضا الفيودالية؟ مؤسسات، نمط إنتاج، نظام اجتماعي، أسلوب في التنظيم العسكري؟ أجاب جورج دوبي عن ذلك ببعد نظر. فقد ألح على "تمديد التاريخ الاقتصادي عبر تاريخ العقليات"، واعتبار "الرؤية الفيودالية للخدمة". الفيودالية؟ أليست "عقلية وسيطية"؟

ومنذ القرن 16، نما مجتمع جديد في الغرب: المجتمع الرأسمالي. فهل هو ثمرة نمط إنتاج جديد، إفراز للاقتصاد النقدي، بناء بورجوازي؟ دون شك. لكنه أيضا نتاج مواقف جديدة إزاء العمل والنقد، نتاج عقلية ترتبط منذ أبحاث ماكس فيبر بالأخلاقية البروتستانيتية.

تشمل العقلية إذا فضاء ما وراء التاريخ وتسعى إلى إرضاء فضول المؤرخين الراغبين في الذهاب بعيدا وأيضا في معانقة العلوم الإنسانية الأخرى.

لقد أقر مارك بلوك، وهو يحاول تطويق "العقلية الدينية" الوسيطية، "تعددية المعتقدات والممارسات… الموروثة عن سحر الأزمنة الغابرة، أو التي ظهرت في فترة متأخرة نسبيا ضمن حضارة مشبعة هي الأخرى بخصوبة أسطورية كبيرة".

هكذا يقترب مؤرخ العقليات من الاثنولوجيا، ذلك العلم الذي يلاحق المستوى الأكثر استقرارا والأشد ثباتا للمجتمعات. "يتخلف الاجتماعي عن الاقتصادي والذهني عن الاجتماعي"، حسب عبارة إرنست لابروس. ومن جهته، طبق كيث طوماس، بكل تفتح، في دراسته للعقلية الدينية لرجال العصر الوسيط والنهضة، المنهج الاثنولوجي، متأثرا بالخصوص بإيفانس بريتشارد. فمن دراسة الطقوس والممارسات الاحتفالية يصعد الاثنولوجي نحو المعتقدات وأنساق القيم. هكذا اكتشف مؤرخو العصر الوسيط، بعد مارك بلوك وبيرسي شرام وإرنست كانطوروفيتش وبيرنارغيني، روحانية ملكية وعقلية سياسية من خلال التتويجات والشفاءات الخارقة وشعارات السلطة والمداخل الملكية، وجددوا بالتالي التاريخ السياسي للعصر الوسيط. فإذا كان اهتمام أخصائيي القداسة قد انصب في الماضي على القديس، فإن المحدثين ينشغلون بالقداسة وما يبررها في أذهان المؤمنين، بسيكولوجية السذج، بعقلية مؤلف القداسة. على هذا النحو أثرت الاثنولوجليا الدينية في التاريخ الديني وجعلته يغير نظرته جذريا.

إلى جانب الاحتكاك بالاثنولوجيا، يجب على المؤرخ الانفتاح على السوسيولوجيا، علم الجماعي. فعقلية شخصية تارخية ما، على عظمتها، ليست سوى تعبير عما تشتركه مع معاصريها. لننظر إلى شارل الخامس ملك فرنسا. لقد مجده جل المؤرخين لحسه الاقتصادي والإداري والسياسي. إنه الملك الحكيم الذي قرأ فلسفة أرسطو وبرع في الحساب وأعاد بناء مالية الدولة وشن على الإنجليز حرب استنزاف مكنته من اقتصاد الأموال. لكن ماذا عن إلغائه لضريبة المنازل سنة 1380 وهو يشرف على الموت. إشارة محيرة. فمن المؤرخين من رأى فيها فكرا سياسيا صعب التحديد، ومنهم من فسرها بلحظة تيهان الروح. لكن لماذا لا نرجع، وببساطة، ما اعتقده الناس زمنئذ: ملك خاف الموت وخشي آخرة مشحونة بكراهية رعاياه؟ ملك ترك، في آخر لحظة، عقليته تتفوق على سياسته. فهل هو فوز الاعتقاد الجماعي على الإيديولوجية السياسية الشخصية؟

ومن جهة أخرى، يلتقي مؤرخ العقليات، على نحو خاص، بعالم النفس الاجتماعي. فكلاهما يتعاملات بصورة أساسية مع مفهوم السلوك أو الموقف. فكلما ألح علماء النفس الاجتماعي، وفي طليعتهم كلوكون، على دور الرقابة الثقافية في السلوكات البيولوجية، كلما اتجهت السيكولوجيا الاجتماعية نحو الاثنولوجيا، ومن ثم نحو التاريخ. تظهر هذه الجاذبية المتبادلة بين تاريخ العقليات وعلم النفس الاجتماعي عبر مجالين: الأول، نمو مجموعة من الدراسات التاريخية حول الإجرام والمهمشين والمنحرفين، والثاني، تصاعد موازي لاستطلاعات الرأي والتحاليل التاريخية للسلوكات الانتخابية.

في هذا السياق تتكشف بعض فوائد تاريخ العقليات: دفع السيكولوجيا التاريخية نحو تيار آخر كبير في البحث التاريخي المعاصر، ألا وهو التاريخ الكمي. فبإمكان تاريخ العقليات، على الرغم من اهتمامه ظاهريا بالمتحرك والفروق الدقيقة، استعمال المناهج الكمية التي يشتغل بها علماء النفس الاجتماعي، وذلك مع بعض التكييفات. فمنهج المستويات السلوكية، على النحو الذي يؤكد عليه أبراهام مول، يمكن من الانطلاق من "ركام الوقائع والآراء والتعبيرات الشفهية التي تظهر في تنافر كلي أول الأمر"، والكشف في نهاية التحليل عن "مقياس" هائل يلائم مجموع الوقائع المدروسة. هكذا تبرز إمكانية تحديد هذه الكلمة المبهمة، أي "العقلية"، على غرار المقولة الشهيرة لبينيت: "الذكاء ما قاسه اختياري".

أيضا وبفضل الاحتكاك بالاثنولوجيا يستطيع تاريخ العقليات اللجوء إلى ترسانة أخرى كبيرة في العلوم الإنسانية الحالية. إنها المناهج البنيوية. العقلية، أليست بنية في حد ذاتها؟

لكن لا تكمن جاذبية تاريخ العقليات فقط في سهولة العلائق مع العلوم الإنسانية المجاورة، بل أساسا في الاغتراب الذي يلقي به إلى مستوى التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، وبالتحديد في الوجه العامي للماركسية.

حقا أن التحرر من التاريخ التقليدي المرتبط بالعناية الإلهية أو الشخصيات الجسام، ومن التصورات الهجينة للتاريخ الوضعي القائم على الحدث أو الصدفة، مكن التاريخ الاقتصادي والاجتماعي المتأثر بالماركسية من تقديم أسس متينة للتفسير التاريخي. لكن سرعان ما تبين عجزه عن تحقيق البرنامج الذي رسمه ميشلي للتاريخ سنة 1869: "لا يزال التاريخ ضعيفا في منهاجيه: فهو أقل مادية (…) وأقل روحانية؛ يتكلم عن القوانين والأفعال السياسية، لا عن الأفكار والأخلاق(…)". فحتى المؤرخون الماركسيون أنفسهم الذين كشفوا عن آليات أنماط الإنتاج وصراع الطبقات، لم ينجحوا في المرور، وبصفة مقنعة، من البنيات التحتية إلى البنيات الفوقية. إن التركيز على الاقتصاد لا يظهر سوى صدى باهت لتصورات مجردة، ويخفي بالتالي الوجوه وحيويتها. فالإنسان لم يعش بالخبز فقط. بل إن الخبز نفسه لم يشغل المؤرخين بقدر ما شغلتهم رقصات الأموات. يجب إذا إيجاد ميزان من طراز آخر لهذه الآليات العارية. هذا الطراز تمنحه العقليات.

غير أن تاريخ العقليات لا يتحدد فقط بالاحتكاك مع العلوم الإنسانية الأخرى وبزوغ حقل تاريخي جديد. فهو يشكل أيضا بؤرة لمستلزمات متعارضة مجبرة على الحوار بفعل الدينامية الخاصة بالبحث التاريخي الراهن. إنه يتموضع عند نقطة التقاء الفردي والجماعي، الزمن الطويل واليومي، اللاوعي والإرادي، البنيوي والظرفي، المهمش والعام.

يعالج تاريخ العقليات مستوى أساسيا: اليومي والآلي. أي ما ينفلت من الأفراد ويكشف عن المضمون اللاشخصي لتفكيرهم. إنه المستوى الذي يلتقي فيه القيصر وجنديه، سان لوي وفلاحه، كريستوف كولومب وملاحه. إن ما يجمع تاريخ العقليات وتاريخ الأفكار هو نفسه الذي يربط بين تاريخ الثقافة المادية والتاريخ الاقتصادي. لقد تغذى رد فعل رجال القرن 14 حول وباء الطاعون، الذي نظر إليه كغضب إلهي، بالدرس القديم واللاشعوري للمفكرين المسيحيين من سان أغستان إلى سان طوماس الإكويني. إنه يفسر بمعادلة المرض: الإثم، التي وضعها كهنة العصر الوسيط الأعلى. لكنها معادلة تغفل كل التمفصلات المنطقية وكل الحجج العقلية لتحافظ فقط على الوعاء الفظ للفكرة. هكذا تنبثق الأشياء اليومية كالأواني والملابس من القوالب المذهلة التي تخلقها الحركات السطحية للاقتصاد والموضة والذوق. هنا بالتحديد نفهم نمط مرحلة ما بأعماقها اليومية. فحينما نعت ويزينغا جون دوساليزبوري بـ "الروح ما قبل القوطية"، واعترف له بالتفوق في التوقعات التاريخية عبر السابقة، عبر تعبير يثير فيه الروح معنى العقلية، فإنه جعل منه شاهدا جماعيا لعصره، على نفس النحو الذي تعامل به لوسيان فيفر مع رابلي حينما انتزعه من مغالطة أخصائي الأفكار وأعاده إلى التاريخانية الملموسة لمؤرخي العقليات.

إن الخطابات، على إيقاعاتها، سواء اليقينية أو الانفعالية أو التفخيمية، ليست في الغالب سوى لمامة من الأفكار الجاهزة، من المواقع المشتركة، من المبتذلات الثقافية التي تشكل متنفسا ملفقا من حطام ثقافات وعقليات ذات أصول وأزمنة متعددة.

هذا ما يفسر المنهج الذي يفرضه تاريخ العقليات على المؤرخ: بحث حفريائي في بادئ الأمر حول مقاطع الأركيو سيكولوجيا - بالمعنى الذي يتكلم عنه أندري فارانياك بخصوص الأركيو حضارة- لكن، مع ذلك، تظل هذه الحطامات مجتمعة في ترابطات ذهنية، إن لم نقل منطقية. ثم الكشف في مرحلة ثانية عن الأنساق السيكولوجية القريبة من التلفيق الثقافي الذي يقترن بالفكر الهمجي حسب كلود ليفي ستروس.

في الكتاب الرابع من محاورات كركوار الأكبر، المؤلف بين سنتي 590 و600، يحكي البابا قصة راهب في أحد أديرة روما، كان قد اعترف لأخيه، وهو على فراش الموت، أنه أخفى ثلاث قطع نقدية من الذهب، الشيء الذي يتنافى مع الأحكام الداعية إلى التملك الجماعي. فكان رد فعل كريكوار، وهو قس للدير زمنئذ، أن تركه يلفظ أنفاسه في عزلة تامة بعيدا عن كل مواساة، لكي يتطهر من ذنبه ويكون موته في الغم عبرة للرهبان الآخرين. لماذا يصدر هذا السلوك من قس مثقف؟ لماذا لم يعمل على تزكية روحه عبر الاعتراف والتوبة؟ فقد هيمنت على كريكوار فكرة العقاب عبر رموز خارجية: موت ودفن مخزيان (رمي الجثة في الزبل). لقد تراجعت القاعدة أمام التقليد الوحشي للعقاب الجسدي الموروث عن القوط أو الباعث من أعماق النفس العتيقة. إنه فوز العقلية على المذهب.

فالأشياء التي تظهر مجردة من الأصل، مرتجلة، لا إرادية، وأيضا الحركات الآلية والكلمات العفوية، تأتي كلها من بعيد وتشهد على الصدى الطويل لأنساق التفكير.

يفرض تاريخ العقليات على المؤرخ الاهتمام عن قرب ببعض الظواهر الأساسية لمجاله: المواريث التي تمكننا من فهم الاستمرارية والخسائر والقطائع؛ التقليد، أي الأساليب التي يعاد بها، ذهنيا، إنتاج المجتمعات والتفاوتات الناتجة عن تأخر الأذهان عن التكيف مع المتغيرات والسرعة اللامتساوية لتطور مختلف قطاعات التاريخ. إنه حقل فكري مميز لنقد التصورات الخطية للتاريخ. إنه قصور ذاتي، تلك القوة التاريخية المركزية التي تنتج عن الأذهان أكثر مما تنتج عن المادة، لأن هذه الأخيرة غالبا ما تكون أشد فورية من الأولى. فالناس يستخدمون الآلات التي يصنعونها، لكن يحافظون على عقليات ما قبل هذه الآلات. فلأصحاب السيارات قاموس الفرسان، ولعمال مصانع القرن 19، عقلية أجدادهم الفلاحين. العقلية هي ما يتغير ببطء شديد. تاريخ العقليات هو إذا تاريخ البطئ في التاريخ.

II - نحو أصل تاريخ العقليات:

من أين ينحدر تاريخ العقليات؟ من صفة "mental" التي ترتبط بالروح "esprit"، وكلمة "mens" اللاتينية. لكن النعت اللاتيني "mentalis"، الذي تجهله اللاتينية الكلاسيكية، ينتمي إلى قاموس السكولاستيكية الوسيطية. وتشير القرون الخمسة التي تفصل بين كلمتي "mental" (أواسط ق 14) و"mentalité" (أواسط القرن 19) إلى استجابة الاسم لحاجيات أخرى وظرفية مغايرة.

وفي اللغة الفرنسية لا تنحدر "mentalité" بصورة طبيعية من "mental"، لأن أصل الكلمة إنجليزي. فقد استخرج الإنجليز منذ القرن 17، "mentality" من "mental". إنها وليدة الفلسفة الإنجليزية لهذا القرن. لقد أشارت الكلمة إلى التلون الجماعي للحياة النفسانية، إلى الأسلوب المميز للتفكير والإحساس "لشعب ما، لجماعة ما من الناس، الخ". لكن في الوقت الذي ظل فيه المصطلح الإنجليزي منحصرا داخل اللغة التقنية للفلسفة، وظفه اللسان الفرنسي على نطاق واسع. ويبدو أن المقولة التي أدت إلى مفهوم وكلمة عقلية قد ظهرت في القرن 18 في الميدان العلمي وبخاصة ضمن رؤية جديدة للتاريخ. لقد ألهمت فولتير في كتابه "دراسة في أخلاق وروح الأمم" (1754) الذي يشعرنا ببداية امتداد كلمة "mind" الإنجليزية. فحينما ظهرت الكلمة سنة 1842، حسب معجم روبير، كان معناها يقترب من "mentality " أي من منزلة ما هو "mental". لكن ليتري جسدها سنة 1877 بفقرة مأخوذة من الفلسفة الوضعية لستوبوي حيث يتسع مدلول الكلمة لكن يظل دائما، من "الناحية العلمية"، ذا "صورة نفسية"، ما دام الأمر يتعلق، من باب الصدفة أو الإسناد غير العرضي لعصر الأنوار، ب "تغير العقليات المدشن من طرف الموسوعيين". ثم حوالي 1900 أخذت الكلمة معناها المتداول. لقد مثلت البديل الشعبي للمصطلح الألماني weltanschauung الرؤية العامية للعالم، عالم ذهني مقولب وسديمي في آن واحد.

إنها بالتحديد رؤية تحريفية للعالم: التخلي عن الغرائز النفسية السيئة. فالكلمة تتضمن نوعا من التحقير. يشير اللسان إلى ذلك عبر ملازمة نعت قدحي صريح أو عبر قلب المعنى: "عقلية خشنة" أو عقلية رفيعة" أو عن طريق استعمال صيغة المطلق: "يا لها من عقلية!". احتفظت الإنجليزية أيضا بهذا المعنى بخصوص الصفة: "mental "، بإشارتها إلى المتخلف أو المعتوه.

تغذى هذا التلون اللساني بتيارين علميين. الأول: الاثنولوجيا. فقد أشارت "mentalité" في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، إلى نفسانية "البدائيين"، التي ظهرت للمهتمين كظاهرة جماعية، لكن ظلت في نفس الوقت لصيقة بأفراد تتكون حياتهم النفسية من ارتكاسات وآليات، تختزلها عقلية جماعية تقصي الشخصية عمليا. لقد ألف لوسيان ليفي برول بهذا الشأن كتاب حول "العقلية البدائية" سنة 1922.

الثاني: سيكولوجية الطفل. هنا أيضا يبقى الهدف من تصغير شخصية الطفل هو جعله قاصرا من الناحية العقلية. وإذا كانت كلمة عقلية تنعدم في المعاجم التقنية الفرنسية الخاصة بالفلسفة وعلم النفس والتحليل النفساني، فإننا نجد تعريفا لعقلية الطفل في قاموس "علم النفس التربوي والطب النفسي للطفل" (1970). لقد ربط هنري فالون منذ 1928، في مقال له بالمجلة الفلسفية بين العقلية البدائية وعقلية الطفل، وهو الربط الذي أدانه كلود ليفي ستروس في "البنيات الأولية للقرابة".

يستدعي التعمق أكثر في تحليل تاريخ العقليات إبراز فرضيتين مسبقتين. تتمثل الأولى في كون كلمة "عقلية" لم تلعب عمليا أي دور في علم النفس ولم تشغل أي حيز في القاموس التقني السيكولوجي. لقد أبانت دراسة فيليب بينار حول تردد مصطلح "عقلية" في فهارس علم النفس، عن مدى الإهمال الذي لحق به. كيف يمكن إذا للتاريخ السيكولوجي، أو بالأحرى تاريخ السيكولوجيات الجماعية، أن يستثمر المصطلح، ومن ورائه مقولة استبعدتها السيكولوجيا؟

تاريخ العلوم مليء بنماذج انتقالات المقولات والمفاهيم. فكم من كلمة، من مقولة، تظهر في حقل ما، لكن سرعان ما تذبل لتنتقل إلى مجال حيث تنمو وتزدهر. يبدو أن كلمة "عقلية" قد عرفت في التاريخ النجاح الذي لم تلقه في علم النفس. فالاستعمال الجيد للكلمة لم يحصل في علم النفس إلا في وقت متأخر بواسطة مصطلح "Gestah" الوارد عبر اللسانيات والبنيوية. ومهما يكن، يبقى التاريخ هو المنقذ العلمي للكلمة. كما أن استعمالها في الفرنسية هو الذي أعاد إدخالها إلى الإنجليزية ونقلها إلى الألمانية والإسبانية والإيطالية. هكذا أمنت المدرسة التاريخية الفرنسية الجديدة -وهو أمر استثنائي- نجاح الكلمة والتعبير والنوع، وذلك بفضل المنظرين الرئيسيين لتاريخ العقليات: لوسيان فيفر، 1938، جورج دوبي، 1961، روبير موندرو، 1968.

وتتجلى الفرضية الثانية في الثقل الذي قد يمارسه التيار القدحي للكلمة على تاريخ العقليات. حقا لقد أكد ليفي برول، مثلا، على انعدام الفرق الطبيعي بين عقلية البدائيين وعقلية أعضاء المجتمعات المتطورة. لكنه خلق جوا مكفهرا منذ البداية حينما كتب سنة 1911 "الوظائف العقلية للمجتمعات السفلى". حقا أيضا أن مؤرخ العقليات لاحق الكلمة في المياه العكرة للتهميش والشذوذ والمرضية الاجتماعية وحرص على عدم إغلاقها في جحيم الذاكرة الجماعية. لكأن العقلية انكشفت بالأحرى في فضاء اللامعقول والخارق. هذا ما يفسر تكاثر الدراسات، الجيدة أحيانا، حول الشعوذة والهرطقة والألفية. هذا ما يفسر أيضا تنبه مؤرخ العقليات للإحساسات الجماعية أو الجماعات الاجتماعية المندمجة، واختياره عن طيب خاطر لمواضيع محددة مثل المواقف اتجاه الكرامات أو الموت، أو أصناف مبتدئة كالتجار في المجتمع الفيودالي. وفي رؤية مجاورة، نجد رالف تورنير، وهو أيضا إخصائي في علمي النفس والاجتماع، يختار في بحثه حول تصرف الجمهور، سنة 1964، "السلوك الجماعي"، ملاحظة الكارثة المولدة للرعب ويستعمل المعطيات المجمعة من طرف "مجموعة البحث حول الكوارث".

III - كتابة تاريخ العقليات ومآزقها.

يبحث المؤرخ، أولا وقبل كل شيء، بصفته رجل مهنة، عن أدوات عمل. فأين تتجلى تلك المرتبطة بتاريخ العقليات؟ تتمثل صناعة تاريخ العقليات بالأساس في القيام ببعض القراءة لأي نص كان. فكل شيء يعد مصدرا بالنسبة لمؤرخ العقليات. لنأخذ مثلا وثيقة ذات طبيعة إدارية وضريبية كسجل المداخيل الملكية للقرن 13 و14. أي أبواب تعكس، أي تصور للسلطة تحمل، أي موقف إزاء العدد تظهره أساليب الإحصاء؟ لنأخذ أيضا متاع قبر من القرن 7: أدوات (إبرة، خاتم، إبزيم الحمالة)، قطع نقدية فضية، منها ما هو موضوع على فم الميت إبان الدفن، أسلحة (مطرقات، ملاقط، مناقر، مناقش، مبارد، مقص، الخ). إنها طقوس جنائزية غنية بالإشارات حول المعتقدات، حول موقف المجتمع الميروفانجي إزاء صانع ذي حظوة شبه مقدسة: الحداد -الصائغ والمحارب في نفس الوقت.

يرتبط هذا الطراز من قراءة النصوص بالتحديد بالجوانب التقليدية والشبه الآلية للمصادر والمآثر: فديباجات وعبارات المواثيق المليئة بالحوافز الصادقة أو الخادعة تشكل هيكلا للعقليات. لقد أدرك أرنست روبير كورتيس، لكن دون النفاذ إلى تاريخ العقليات، أهمية هذا الركن الأساسي ليس فقط للأدب، على النحو الذي فكر فيه، بل أيضا لعقلية زمن ما: "إذا كانت البلاغة تظهر للإنسان الحديث كشبح مكشر، كيف لنا استمالته إلى الطوبيكيا التي لا يعلمها إلا القليل، حتى الأديب الذي يتجنب عمدا سراديب الأدب الأوروبي، التي هي أساسية، مع ذلك؟! للأسف أن مثقفا مرموقا مثل كورتيس لم يهتم بالكم الثقافي، غنيمة تاريخ العقليات. هذا الخطاب المحتوم والآلي الذي نبدو فيه وكأننا نتكلم دون أن نقنع، الذي تظهر فيه بعض الفترات تحت رمز الرب والشيطان أو السلطة والنفوذ، هو الصياح الأعمق للعقليات، النسيج الضام لروح المجتمعات، الغذاء الأشد قيمة لتاريخ يتنبه لما هو أساسي أكثر مما يهتم بالغاية الخفية لموسيقى الماضي.

ويتوفر تاريخ العقليات على مصادر مفضلة تشكل أحسن من غيرها مدخلا للسيكولوجيا الجماعية للمجتمعات. لكن يبقى على المؤرخ جردها، وتلك أحد مهامه الرئيسية.

هنالك أولا النصوص التي تشهد على الإحساسات، على السلوكات الحادة أو الهامشية التي تنير بحكم جانبيتها العقلية الجماعية. ولنبق في العصر الوسيط. تلقي أدبيات القداسة الأضواء على بنيات ذهنية أساسية: الشفافية بين العالم المحسوس والعالم الغيبي، التماثل الفطري بين ما هو جسدي وما هو نفسي، الشيء الذي يفسر إمكان الكرامة، وعموما العجيب. ثم إن هامشية القديس، والتي توحي بعمق الأشياء، تفضي إلى الهامشية النمطية لما هو شيطاني: المملوكون، الهراطقة، المجرمون. هنا تكمن أهمية مجموعة من النصوص: اعترافات الهراطقة، المحاضر الجنائية، رسائل الغفران الموجهة للمذنبين والتي تفصل في آثامهم، وثائق قضائية، وعموما كل آثار الزجر.

صنف آخر من الوثائق المفضلة لدى تاريخ العقليات: النصوص الأدبية والفنية. فالاهتمام بتمثلات الظواهر وليس بالظواهر الموضوعية نفسها، يجعل تاريخ العقليات ينهل وعلى نحو طبيعي من نصوص المتخيل. لقد أبان ويزينغا في كتابه الشهير "أفول العصر الوسيط" عن إسهام استعمال النصوص الأدبية في إدراك حساسية وعقلية زمن ما. لكن الأدب والفن يحملان أشكال ومواضيع نابعة من ماض لا ينتمي إليه بالضرورة الوعي الجماعي. ينبغي الاحتراس من إفراطات التاريخ التقليدي للأفكار والأشكال التي تنتجها عبر توالد عذري يجهل السياق غير الأدبي وغير الفني لظهورها، لأنها -أي الإفراطات، قد تخفي الإطار الزمني المتحكم في الإبداعات الأدبية والفنية. فلوحات القرن 14 تشهد على موقف جديد اتجاه المجال، اتجاه المشهد المعماري، اتجاه مكانة الإنسان في الكون. لكأن العقلية "ما قبل الرأسمالية" مرت من هناك. على أن بيير فرانكا ستيل الذي تعامل وبشكل جيد مع نسق رسومات هذا القرن كجزء من كل أكثر سعة، ينبهنا أيضا إلى "خصوصية الرسم كنمط من التعبير والتواصل لروحنا الصعبة الاختزال".

ينبغي إذا الربط بين تحليل العقليات ودراسة مواقعها وأساليب إنتاجها. لقد قدم لوسيان فيفر، الرائد الأول في هذا المضمار، نموذجا للجرد وصفه بالأدوات الذهنية: قاموس، نحو، مواقع مشتركة، تصور المجال والزمن، إطارات منطقية. فحسب إخصائيي الفيلولوجيا، طرأت تغيرات محيرة على روابط النسق اللغوية إبان تفكك اللاتينية الكلاسيكية في العصر الوسيط الأعلى، مما يعني تحولا كبيرا في الألفاظ المنطقية للخطاب الشفهي أو المكتوب. هكذا دخلت مجموعة من الروابط مثل "لكن"، "إذا"، "حينئذ"، الخ في نسق فكري جديد ذي ترتيبات مختلفة‍!

وتلعب بعض الأنظمة الجزئية داخل العقليات دورا بالغ الأهمية. يتعلق الأمر بـ"الأنماط" التي تفرض نفسها لزمن طويل كأقطاب جذب للعقليات. فلقد تهيأ النمط الكنسي في العصر الوسيط الأعلى وانتظم حول مفاهيم العزلة والزهد، ثم ظهرت فيما بعد قوالب أرستقراطية تمحورت حول مقولات السخاء والمروءة والجمال والإخلاص. اخترق بعضها القرون إلى اليوم: المجاملة.

وعلى الرغم من أن العقليات تستعير من تقاليد قديمة فهي لا تفسر لا بغياهب الأزمنة الغابرة ولا بأسرار النفسية الجماعية. فنحن نعرف أصلها وانتشارها انطلاقا من مراكز تكون الأوساط المؤسسة والمعممة، ومن الطوائف والحرف الوسيطة. فالقصر والكنيسة والحصن والمدرسة، كلها مراكز صقلت العقليات طوال العصر الوسيط. لقد كون الناس نماذج أو تلقوها في مرافق تشكيل العقليات: الطاحونة، محرف الحدادة، الحانة. ثم إن الموصلات هي ناقلات وقوالب مميزة للعقليات. فالقسم والصورة، رسما ونحتا، يمثلان، قبل ظهور الطباعة، السديم الذي بلورها.

ومن جهة أخرى، تحافظ العقليات على علاقات معقدة ووطيدة مع البنيات الاجتماعية. فهل للمجتمع، في مرحلة ما من تاريخه، عقلية مهيمنة أم عقليات متعددة؟ لقد ندد لوسيان فيفر بالصورة المجردة لإنسان العصر الوسيط أو النهضة، والفارغة من كل أساس تاريخي. ينبني تاريخ العقليات، وهو في محاولته الأولى، على تجريد واقعي مرتبط بالإرث الثقافي، بالمطابقة الاجتماعية، بالتحقيب. قد نستعمل كفرضية للعمل بخصوص العصر الوسيط مرة أخرى، مقولات مثل العقلية الهمجية، المهذبة، الرومانية، القوطية، السكولاستيكية. فبإمكان التجميعات الإيحائية أن تشتغل حول هذه العلامات. لقد قارب إرفين بانو فسكي بين الفن القوطي، باعتباره يندرج في نفس البنية الذهنية، والسكولاستيكية. وربطه روبير مارشال بكتابة العصر: "يمكن اعتبار الكتابة القوطية كتعبير قوطي عن جدل معين. فالتماثلات بين هذه الكتابة من جهة وفن العمارة من جهة ثانية، والتي قد يدركها الملاحظ، ليست مرئية تماما. فهي ذات نبرة فكرية. إنها نتيجة لتأثر الكتابة بأسلوب استدلالي لصيق بجميع إنتاجات الفكر". يشكل تعايش عقليات متعددة في نفس العصر وفي نفس الذهن أحد المعطيات المعقدة ولكن الأساسية لتاريخ العقليات. لويس 11 الذي برهن في السياسة عن عقلية حديثة "ميكيافيلية"، أظهر في الدين عقلية خرافية وتقليدية.

من العسير أيضا فهم متغيرات العقليات. متى تتفكك العقلية ومتى تظهر أخرى؟ كم هو صعب الكشف عن المتحول في حقل الثابت. هنا ينبغي على دراسة المواقع أن تقدم لنا إسهاما حاسما. متى يظهر مقام مشترك ومتى يختفي، بل الأصعب من ذلك متى يصير مجرد أثر؟ يجب تفحص بغبغة العقليات هاته عن كثب لكي يستطيع المؤرخ رصد اللحظة التي ينفصل فيها المقام الجماعي عن الواقع ويفقد فيها تأثيره. لكن هل من حالات خالصة؟

حقا لقد نبع تاريخ العقليات من رد فعل اتجاه هيمنة التاريخ الاقتصادي، لكنه ليس نهضة لروحانية متجاوزة تحتجب تحت المظاهر الغامضة للنفس الجماعية المبهمة، ولا بقاء لماركسية عامية تبحث عن تحديد هين لبنيات فوقية ناتجة آليا عن بنيات تحتية اجتماعية واقتصادية. فالعقلية ليست انعكاسا.

ويتميز تاريخ العقليات عن تاريخ الأفكار. فلقد نشأ في تقابل معه. ليست أفكار طوماس الإكويني أو بونافونتير هي التي قادت الأذهان ابتداء من القرن 18، بل ذلك السديم الذهني الذي تفاعلت داخله الأصداء المحرفة لمذهبيهما والبقايا الضحلة والكلمات المرتجلة. لكن يجب النظر فيما ما وراء هذه الأفكار الهجينة الكائنة في العقليات. وعليه تستلزم كتابة تاريخ العقليات احتكاكا كبيرا بتاريخ الأنظمة الثقافية وانساق المعتقدات والقيم والأفكار حيث تكونت العقليات وترعرعت وتطورت. من هذه الزاوية يظهر فضل الاثنولوجيا على التاريخ.

وقد يمكن الانفتاح على تاريخ الثقافة من تجنب مآزق ابستيمولوجية أخرى. ثم إن الارتباط بالإشارات والسلوكات والمواقف، على غرار السيكولوجيا، يدفع تاريخ العقليات إلى الاحتراس من تأثير "السلوكية" التي قد تختزله في آليات لا تستند إلى أنساق فكرية، والتي قد تقصي إحدى المظاهر الأساسية لإشكاليته، ألا وهي حصة الوعي بهذا التاريخ.

تبدو العقلية رغم طابعها الجماعي الصرف وكأنها خارجة عن تقلبات الصراعات الاجتماعية. فمن غير المنطقي استئصالها من البنيات والدينامية الاجتماعية. فهي تمثل، على العكس من ذلك، عنصرا رئيسيا في التوترات والنزاعات الاجتماعية. يزخر التاريخ الاجتماعي بالأساطير التي تبرز نصيب العقليات في تاريخ لا هو بالإجماعي ولا بالثابت: أظافر زرقاء، أطواق بيضاء، مائتا عائلة… ثمة عقليات طبقية بجانب عقليات جماعية. لكن يبقى على الباحث دراسة نظامها.

وأخيرا لا يهمل تاريخ العقليات المتغيرات على الرغم من هيمنة الزمن البطيء. لنأخذ مثلا ظاهرة ازدهار المدن في الغرب الوسيطي من القرن 11 إلى 13. عصر بزغ فيه مجتمع جديد حامل لعقلية جديدة تتجلى في السعي إلى الأمن والتبادل والاقتصاد، وتستند إلى أشكال جديدة من الأنس والتآزر: العائلة الضيقة، الهيئة، الجمعية، الشركة، الحي… فأين موقع العقليات من هذه التحولات ضمن إطار التاريخ الشامل؟

فعلى الرغم أو بالأحرى بسبب طابعه المبهم، يقوم تاريخ العقليات اليوم بترسيخ مكانته في حقل الإشكالية التاريخية. فإذا تجنبنا تحويله إلى حقيبة سفر، إلى ادعاء فارغ، إلى عذر للاسترخاء الإبستيمولوجي، إذا منحناه أدواته ومناهجه، فإنه سيلعب دوره كتاريخ مغاير عن ذلك الذي يجازف بتفسيراته على الجانب الآخر من المرآة
06-28-2007, 12:23 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
سيناتور غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,957
الانضمام: Mar 2007
مشاركة: #2
العقليات: تاريخ مبهم
ماكس فيبر: سياسي قومي وأحد أهم روّاد علم الاجتماع
عالم الاجتماع ماكس فيبر
عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر ترك بصماته على أهم العلوم الإنسانية وما زالت أعماله مرجعية مهمة للمهتمين والدارسين. فيبر الذي ولد في مدينة إيرفورت وتوفي في ميونيخ خلّف وراءه إرثا يعتبر من أهم ركائز علم الاجتماع

إن تحجيم ماكس فيبر (1864 ـ 1920)، أحد أهم روّاد علم الاجتماع ومؤسسيه على مقالة تعريفية هو إجحاف بحق عالم الاجتماع والسياسي الذي ترك بصماته على أهم العلوم الإنسانية وما زالت مدرسته وأفكاره تلاقي اهتماما متزايدا بين علماء معاصرين يحاولون تفسير مستجدات الساحة الاجتماعية واستكشافها من جديد. ولأننا سنحاول من خلال هذه السطور المتواضعة إلقاء نظرة على السيرة الذاتية لمؤسس علم الاجتماع في ألمانيا وتعريف القارئ به دون الخوض في فلسفة أعماله وتأثيرها، فإننا سنقتصر على التطرق إلى محطاته الحياتية وأهم إنجازاته وأعماله. ويجمع المؤرخون على أن دراسات عالم الاجتماع الألماني تتمحور حول الجدل الدائر بخصوص نشوء المجتمعات الصناعية وظهور الرأسمالية كأسلوب إنتاج جديد. وفي حين ركّز مواطنه كارل ماركس على العوامل الاقتصادية في ظهور الرأسمالية، أعطى فيبر أهمية كبيرة للمعتقدات الدينية والقيم في نشوء وظهور هذا النظام الاقتصادي.

الجمعية الألمانية لعلوم الاجتماع

وُلد ماكس فيبر في الثاني والعشرين من شهر نيسان/ابريل عام 1864 في مدينة إيرفورت (ولاية تورينغن) وترعرع في عائلة محافظة. وبعد أن أنهى دراسته، التحق عالم المستقبل بجامعات عديدة في برلين وهايدلبرغ ودرس علوم الحقوق والفلسفة والتاريخ والاقتصاد القومي. وعند بلوغه سن الثلاثين دُعي فيبر للعمل كبروفسور في كلية الاقتصاد القومي في جامعة فرايبورغ (جنوب ألمانيا). وبعد ذلك، انتقل الى جامعة هايدلبرغ. ولكنه بعد انتقاله الى هذه الجامعة العريقة، أُصيب بمرض نفسي أجبره على مزاولة عمله على مدى سبع سنوات بشكل متقطع. وكان عام 1904 بمثابة ولادة جيدة لفيبر، فقد بدأ من جديد بنشر أعمال كان أهمية كبيرة في مجال علوم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد. وفي عام 1909 شارك فيبر في تأسيس الجمعية الألمانية لعلوم الاجتماع. ومن ثم بدأ فيبر عام 1913 بكتابة أحد أهم أعماله وهو "الاقتصاد والمجتمع" والذي نُشر لأول مرة عام 1922، أي بعد وفاته. وبدأت تظهر اهتمامات فيبر بالأمور السياسية الراهنة عام 1915. هذا ويُعتبر فيبر أحد المؤسسين للحزب الديمقراطي الألماني عام 1919. وفي نفس العام كتب عملين مهمين هما "العلم كمهنة" و" السياسة كمهنة".

"الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"

صحيح أن رائد علم الاجتماع ألّف أعمالا كثيرة، ولكن أبرز هذه الأعمال وأكثرها تأثيرا في الفكر الاجتماعي كان كتاب "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" وبحسب المؤرخين، فإن هذا الكتاب كان قراءة لدور القيم الدينية في ظهور قيم وأخلاق العمل في المجتمعات الصناعية الجديدة التي كانت أساس ظهور النظام الرأسمالي. وتأتي أهمية دراسات وأطروحات فيبر من اهتمامه منقطع النظير بفلسفة العلوم الاجتماعية ومناهجها. وفي هذا الخصوص، استطاع العالم تطوير المفاهيم والجوانب التي أصبحت بعد وفاته من ركائز علم الاجتماع الحديث. ومن أهم المصطلحات التي أثرى بها علم الاجتماع وتعتبر جزءا مهما منه ومرجعا كبيرا للمهتمين بهذا العلم الإنساني هي "العقلانية" و"الكاريزما" و"الفهم" و"أخلاق العمل".

مؤتمر فرساي

وفي عام 1919 رافق فيبر الوفد الألماني إلى باريس لحضور مؤتمر فرساي الذي وضع حدا للحرب العالمية الأولى. وبعد أن تبين لمستشار الوفد الألماني أن الحلفاء ـ حسب المؤرخين ـ لا يرمون من خلال المؤتمر إلى إحلال السلام، بل إلى استغلال ألمانيا وإذلالها، بعد ذلك غادر المؤتمر احتجاجا على ذلك. وفي عام 1920 توفي فيبر في مدينة ميونيخ عن عمر يناهز 56 عاما متأثرا بمرض الالتهاب الرئوي وتاركا خلافه إرثا ما زال يعتبر مرجعية مهمة في علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة.




دويتشه فيله

06-28-2007, 05:19 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Awarfie غير متصل
متفرد ، و ليس ظاهرة .
*****

المشاركات: 4,346
الانضمام: Dec 2001
مشاركة: #3
العقليات: تاريخ مبهم
اخي البشري ، بصراحة و صدق ، اقولها .انت تأتنا بموضوعات ، ذات مستوى عال . و من النمط الذي قل من يقراه أو يعطيه الاهمية المناسبة . على كل ، اتمنى لو تأتنا بموضعات ، او نصوص كتبها اولئك المفكرين بانفسهم ، اذا كانت هناك من امكانية لذلك !

شكرا لك . (f)

:Asmurf:
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 06-28-2007, 08:16 PM بواسطة Awarfie.)
06-28-2007, 08:13 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
سيناتور غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,957
الانضمام: Mar 2007
مشاركة: #4
العقليات: تاريخ مبهم
تسرقني هذه الموضوعات النخبوية (f)
06-28-2007, 09:53 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بهجت غير متصل
الحرية قدرنا.
*****

المشاركات: 7,099
الانضمام: Mar 2002
مشاركة: #5
العقليات: تاريخ مبهم
البشري.
هذا شريط مميز جدا ، في تقديري أن تلك هي الموضوعات الفكرية وأن معظم ما يطرح في هذه الساحة هي قضايا سياسية و ليست فكرية سوى في أقل القليل ، إني أحتفظ بمثل هذا الشريط حتى أقرأه بهدوء و لكن عادة عندما يتوفر لنا هذا الوقت يكون الشريط قد خرج من الخدمة !، لهذا سأحاول ان أضع تعليقاتي تباعا لو كان هذا ملائما .
كل تقدير لهذا الشريط و نظائره و لزميل متميز يشف عن ثقافة رفيعة من مداخلاته الأولى .
06-29-2007, 05:37 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
د. رائق النقري غير متصل
عضو فعّال
***

المشاركات: 153
الانضمام: Aug 2003
مشاركة: #6
العقليات: تاريخ مبهم
الصديق البشري المحترم تحية الحياة وبعد

لفتني الموضوع ولفتني - على ماذكر الان - عدة مداخلات لك وبالطبع معرفتي بمستوى الاصدفاء القدامى تجددت بساعه واحده وانا مندهش لهم ومعجب حتى بمن يناقضني
هذا الموضوع له مشكة ونصف
اما نصف المشكله فهو غياب رايك او على الاقل مافتك غيه وانعكاسه -ان امكن على بعض حورات المنتدى ومحاوريه- ؟؟
وفيما عدا ذلك لايتعرض الى اي قضية تهم القارئ العام اي قراء المنتديات الذين باتون مثلك باسماء مستعاره ..؟
وحتى المتخصص منهم قد لابمهه متابعة مثل هذا الموضوع هنا على الاقل

اقول ذلك وقد استوقفني اشارتان ونصف ؟
الاولى عن القس الذي ترك الراهب المعترف يموت اشنع ميته لصراحته قبل الموت

والتانيه هذا التأبين المتكررللماركسيه كما نجده في هذا المقطع
Arrayقا أن التحرر من التاريخ التقليدي المرتبط بالعناية الإلهية أو الشخصيات الجسام، ومن التصورات الهجينة للتاريخ الوضعي القائم على الحدث أو الصدفة، مكن التاريخ الاقتصادي والاجتماعي المتأثر بالماركسية من تقديم أسس متينة للتفسير التاريخي. لكن سرعان ما تبين عجزه عن تحقيق البرنامج الذي رسمه ميشلي للتاريخ سنة 1869: "لا يزال التاريخ ضعيفا في منهاجيه: فهو أقل مادية (…) وأقل روحانية؛ يتكلم عن القوانين والأفعال السياسية، لا عن الأفكار والأخلاق(…)". فحتى المؤرخون الماركسيون أنفسهم الذين كشفوا عن آليات أنماط الإنتاج وصراع الطبقات، لم ينجحوا في المرور، وبصفة مقنعة، من البنيات التحتية إلى البنيات الفوقية. إن التركيز على الاقتصاد لا يظهر سوى صدى باهت لتصورات مجردة، ويخفي بالتالي الوجوه وحيويتها. فالإنسان لم يعش بالخبز فقط. بل إن الخبز نفسه لم يشغل المؤرخين بقدر ما شغلتهم رقصات الأموات. يجب إذا إيجاد ميزان من طراز آخر لهذه الآليات العارية. هذا الطراز تمنحه العقليات.[/quote]

واهم مثقفي النادي مع هواهم الماركسي القدسين لايجدوا في ذلك شيئا يستحق الاهتمام طالما ان من يطرح غفل؟؟ ولايطرح البديل؟؟


ام نصف الاشارة التي استوقفتني فهي في توقيعك الذي تقول فيه


Array
محمد الحقيقي موجود في منتدى هجر [/quote]

وخبرتي الشخصيه في منتهى السوء حيث الهوى سيستاني مؤيد للاحتلال ؟؟ فغن اي لورنس تتحدث عنه في نادي الفكر؟
اما ان الامر في هذا المقال وفي هذا المقال مجرد
طفولة ومراهقة فكريه وسياسيه مؤقتة :21:

ومع انه لابد ان يكون لك فيما اخترته اسما من نصيب فانني انتظر ان تبشرني بشيئ لااراه فيك؟:109:
06-29-2007, 06:50 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Awarfie غير متصل
متفرد ، و ليس ظاهرة .
*****

المشاركات: 4,346
الانضمام: Dec 2001
مشاركة: #7
العقليات: تاريخ مبهم
Array
الصديق البشري المحترم تحية الحياة وبعد
واهم مثقفي النادي مع هواهم الماركسي القدسين لايجدوا في ذلك شيئا يستحق الاهتمام طالما ان من يطرح غفل؟؟ ولايطرح البديل؟؟
ام نصف الاشارة التي استوقفتني فهي في توقيعك الذي تقول فيه
وخبرتي الشخصيه في منتهى السوء حيث الهوى سيستاني مؤيد للاحتلال ؟؟ فغن اي لورنس تتحدث عنه في نادي الفكر؟
اما ان الامر في هذا المقال وفي هذا المقال مجرد
طفولة ومراهقة فكريه وسياسيه مؤقتة :21:
ومع انه لابد ان يكون لك فيما اخترته اسما من نصيب فانني انتظر ان تبشرني بشيئ لااراه فيك؟:109:
[/quote]

عزيزي د. رائق ، انت تتحدث بالغاز ، فهل من ضرورة لذلك !
ليتك توضح و تضع نقاطا على حروفك !

مع الشكر .

:Asmurf:
06-29-2007, 08:45 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
سيناتور غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,957
الانضمام: Mar 2007
مشاركة: #8
العقليات: تاريخ مبهم
بهجت العزيز أسعدني جداً حضورك في الموضوع (f)


د. رائق النقري أشكرك كثيرا على صراحتك و على تعليقك الجميل. (f)
إهتماماتي ...
الحضارات والثقافات الإنسانية
والأدق ... التنمية في المكسيك والثقافة فى إيطاليا مثلاً


Awarfie (f)
06-30-2007, 01:17 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
سيناتور غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,957
الانضمام: Mar 2007
مشاركة: #9
العقليات: تاريخ مبهم
العقل المستقيل في الموروث القديم


Par Mohamed Abed -Al-Jabri




ان الانطلاق في فحص طبقات الموروث القديم في الثقافة العربية من الصورة التي تقدمها لنا عنه المؤلفات العربية القديمة قد جعلنا أمام أمشاج من الآراء الفلسفية والدينية لا نجد لها مكاناً في التاريخ "الرسمي" للفلسفة السائد اليوم.

وهذا ليس راجعاً إلى أن تلك الأمشاج خالية تماماً من كل ما يثير اهتمام الفيلسوف ومؤرخ الفلسفة، بل لأن تاريخ الفلسفة "الرسمي" المعاصر تحكمه "المركزية الأوروبية"، وبالتالي فهو لا يهتم إلا بالطريق الذي سلكته الفلسفة من بلاد اليونان موطنها الأصلي الى روما وأوروبا العصور الوسطى ثم أوروبا الحديثة. أما الطريق الذي سلكته الفلسفة من أثينا إلى الشرق، خلال فتوحات الاسكندر وبعدها إلى أن استقرت في بغداد عاصمة العباسيين، فهو لا يهتم بها. وإذا مر مرور الكرام بمدرسة الاسكندرية في القرن الثالث الميلادي فليشير فقط إلى أن أفلوطين (205م _ 270م) درس بها، على شخص يحيط به الغموض اسمه أمونيوس ساكاس، قبل أن يرحل إلى روما حيث أقام هناك مدرسته المشهورة التي ستستأثر وحدها باسم "الأفلاطونية المحدثة".

هكذا يغيب عن المسرح، مسرح تاريخ الفلسفة "الرسمي"، الطريق الاخر الذي سلكته الفلسفة، أثناء فتوحات الاسكندر وبعدها، نحو الشرق. والنتيجة تجاهل اسكندرية ما قبل وما بعد أفلوطين وما تفرع عنها من مدارس أخرى كمدارس فلسطين، وتجاهل انطاكية وامتداداتها كمركز ثقافي خصب شمل اشعاعه سورية كلها، وتجاهل المدارس "الشرقية" الأخرى في العراق وفارس وخراسان. وبعبارة أخرى إن ما هو غائب في هذا التاريخ "الرسمي" للفلسفة هو بالضبط ما نحن في حاجة اليه هنا، هو تاريخ المراكز الثقافية في كل من مصر وفلسطين وسورية والعراق وايران، هذه المراكز التي احتضنت العلم والفلسفة "اليونانيين" مدة تزيد على عشرة قرون، ما بين موت الاسكندر سنة 323 ق م وعصر التدوين في الاسلام (القرن الثامن الميلادي).

نعم، يبرز كثير من المستشرقين دور المدارس السريانية في انطاكية ونصيبين وحران (بشمال سورية والعراق) وجنديسابور (جنوب فارس) في نقل الفلسفة والعلوم اليونانية إلى العربية. وبعضهم يريد أن يلتمس لهذه المدارس تأثيراً في النواحي الثقافية الأخرى في الإسلام كعلم الكلام مثلاً. ومع تقديرنا، التقدير الكامل، للدور الذي قام به أساتذة هذه المدارس السريانية وتلامذتها في حركة الترجمة في الاسلام، فإننا مع ذلك لا نجد فيها، أو على الأقل فيما يقدّم لنا عنها، ما يلبي حاجتنا. فلقد "كان ما يعلم في تلك المدارس ذا صبغة دينية غالباً ومتصلاً بالنصوص المقدسة، وكان موجهاً بحيث يواتي حاجة الكنيسة". لقد كانت هذه المدارس مشغولة بتحديد العلاقة بين اللاهوت والناسوت في ذات المسيح، والنزاع كان أساساً بين اليعاقبة الذين أكدوا على وحدته فجعلوا منه إلهاً وبين النسطوريين الذين أثبتوا له خصائص بشرية في الوجود والإرادة والفعل مميزين بينها وبين ما فيه من عنصر إلهي. وقد استعان "المتكلمون" المسيحيون بالمنطق الأرسطي في معالجة هذه المشكلة الدينية. وغني عن البيان القول إن هذه المناقشات كانت تشكل أو تنتج ما يمكن التعبير عنه بـ "المعقول" الديني للمسيحية الشرقية، وهو يقع بعيداً عن تيارات اللا معقول "العقلي" التي تهمنا هنا أصولها وفصولها، تلك التيارات التي تحدث عنها الشهرستاني باسم آراء "الروحانيين من الصابئة" من جهة، وباسم فلسفة "الحكماء السبعة" من جهة أخرى.

نعم هناك مدرسة حران التي لم يَنتصّر أهلها والتي احتفظت بسبب ذلك بالطابع اليوناني الوثني، مع عناية خاصة بالعلوم الفلكية التي انتقلت إليها من بابل مع ما يرتبط بها من عبادة الكواكب والاشتغال بالتنجيم والسحر. وتزداد أهمية حران بالنسبة لموضوعنا لكونها كانت مقراً للصابئة الذين تشكل فلسفتهم الدينية الهرمسية أحد التيارين الرئيسيين في قطاع اللا معقول في الموروث القديم، هذين التيارين اللذين نريد التعرف على مصادرهما وتاريخ تشكلهما والنظام المعرفي الذي يؤسسهما.

نعم لقد قام الحرانيون بدور كبير في حركة النقل والترجمة في الاسلام وبكيفية خاصة في مرحلتها الثانية، فنقلوا كثيراً من تراث مدرستهم العلمي والفلسفي الى العربية بما في ذلك بعض المؤلفات الهرمسية. غير أن معلوماتنا الراهنة عن مدرسة حران لا تسعفنا كثيراً في موضوعنا، فكل ما نعرفه عنها أنها اشتهرت منذ أوائل الميلاد، وأنها قد عنيت بالعلوم الكلدانية الى جانب عنايتها بتيارات من الفلسفة اليونانية. وأهم حدث علمي يرتبط اسمه بحران هو انتقال "مجلس التعليم" (= الكتب والأساتذة) إليها في خلافة المتوكل التي دامت من سنة 232ه‍ إلى 247ه‍ . وكان "مجلس التعليم" هذا قد استقر قبل ذلك لمدة مائة وأربعين سنة في انطاكية التي كان قد انتقل اليها من الاسكندرية أثناء خلافة عمر بن عبد العزيز أي ما بين سنة 99 ه‍ وسنة 101 ه‍. ونحن نعرف أن هذا "المجلس" لم يدم مقامه طويلاً في حران إذ انتقل إلى بغداد في خلافة المعتضد التي دامت من سنة 279ه‍ إلى سنة 289ه‍، "وعلى هذا لم تستمر الدراسة في حران أكثر من أربعين سنة"، وهي فترة تقع كما قلنا ما بين خلافة المتوكل وخلافة المعتضد. وبما أن الأدبيات الهرمسية كانت قد انتشرت في الثقافة العربية الإسلامية قبل هذا التاريخ، فإن مدرسة حران، أو على الأقل "مجلس التعليم" الذي انتقل اليها، لا يمكن أن يكون المصدر الوحيد للهرمسية في الإسلام، فلابد أن يكون هناك مصدر أو مصادر أخرى سابقة. وبما أن موطن الهرمسية الأصلي هو الاسكندرية، فإننا نرجح أن يكون انتقال الأدبيات الهرمسية الى الثقافة العربية الإسلامية قد تم على مرحلتين: في المرحلة الأولى كان المصدر هو الإسكندرية نفسها ولربما أيضاً بعض فروعها في فلسطين. أما في المرحلة الثانية فلقد كانت مدرسة حران هي المصدر الأساسي. ومن دون شك فإن ما نقل من حران يرجع معظمه الى مدرسة الاسكندرية التي كان مجلس تعليمها قد انتقل إليها.

يبقى بعد هذا ذلك الخليط من الآراء الفلسفية المنحولة لـ "الحكماء السبعة"، وفي مقدمتهم امبادوقليس المنحول الذي كان المصدر الخصب الذي غرفت منه التيارات الباطنية في الإسلام مشرقاً ومغرباً. ومع أن تلك الآراء الفلسفية المنحولة ذات النزعة الغنوصية الواضحة تلتقي في كثير من جوانبها الأساسية مع العناصر الرئيسية في الفلسفة الدينية الحرانية الهرمسية فإن كون الشهرستاني يعرضها على أنها تمثل رأي الفلاسفة "الأوائل"، تمييزاً لها عن فلسفة أرسطو وشراحه من جهة، وعلى أنها من جهة أخرى غير مرتبطة بآراء الروحانيين من الصابئة (= الهرمسية) التي عرضها عرضاً مستقلاً باعتبار أنها لا تدخل في "الفلسفة"، إن هذا وذاك يشيران إلى أن المصادر التي استقى منها الشهرستاني تلك الفلسفة المنحولة لـ "الحكماء السبعة" هي غير المصادر التي استقى منها آراء الصابئة الحرانيين. وإذا رجعنا إلى ابن النديم والبيروني، وقد عاشا قبل الشهرستاني (الأول بنحو قرن ونصف والثاني بنحو قرن) فإننا سنجد لديهما ما يزكي هذا الفصل الذي اقامه الشهرستاني بين آراء الصابئة وحكمة "الحكماء السبعة"، فالحديث عندهما عن الصابئة ومعتقداتهم يَرِدُ منفصلاً عن الفلسفة والفلاسفة، مما يؤكد فعلاً أن الأمر يتعلق بمصدرين مختلفين.

هناك جانبان آخران يلفتان النظر في العرض الذي قدمه الشهرستاني عن الفلسفة والفلاسفة ويتصلان بموضوعنا. الجانب الأول يتمثل في إشارته إلى أن فلاسفة الاسلام قد أغفلوا ذكر "الحكماء السبعة" و "أهملوا ذكر مقالاتهم" مما يدل على وعيه التام بأن فلسفة هؤلاء الحكماء تختلف عن فلسفة فلاسفة الإسلام "الرسميين" (= الكندي، الفارابي، ابن سينا) الذين يقول عنهم إنهم "قد سلكوا كلهم طريقة أرسطوطاليس في جميع ما ذهب اليه وانفرد به، سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين"، أما الجانب الثاني الذي يلفت الانتباه في عرض الشهرستاني فهو تصنيفه لأفلوطين (= باسم "الشيخ اليوناني") ضمن الفلاسفة المتأخرين الذين يضع على رأسهم ارسطو والذين يضعهم جميعاً في الطرف المقابل لفلسفة "القدماء" فلسفة "الحكماء السبعة".

والواقع أن أفلوطين (205م _ 270م) غائب تماماً عن الفضاء الفلسفي في الإسلام.

هناك إذن مصادر لم تصل الينا استقى منها الشهرستاني ما عرضه من الآراء الفلسفية المنسوبة إلى "الحكماء السبعة"، وفي وضعية كهذه لا يبقى أمامنا إلا طريق واحد للبحث عن أصولها وفصولها، وهو مقارنتها بما يمكن أن يكون مصدراً لها، قريباً أو بعيداً. إن الارتباط الممكن إقامته في هذه الحالة هو الارتباط البنيوي بين الأفكار وليس رد هذه الأفكار إلى أشخاص تربطهم علاقة التلمذة: بمعنى أننا لا نستطيع أن ننسبها لشخص أو أشخاص معينين، ولكننا نستطيع _إن وجدنا إلى ذلك سبيلاً _ ربطها بهذا الفيلسوف أو ذاك، بهذا الاتجاه أو ذاك، على أساس القرابة البنيوية بين المذاهب. وإذا كنا نلح كل هذا الالحاح على تحديد مصدر تلك الفلسفة المنحولة فلأنها لقيت رواجاً كبيراً في الثقافة العربية الاسلامية وبكيفية خاصة لدى الاتجاهات الباطنية من اسماعيلية ومتصوفة. وبعبارة أخرى إن الأمر يتعلق أساساً بالبحث عن أحد المصادر الرئيسية للا معقول "العقلي" في الفكر العربي الإسلامي، المصدر الذي شكل مع الهرمسية تياراً قوياً في هذا الفكر منذ بداية عصر التدوين واستمر يحتل مواقع رئيسية داخله إلى أن اكتسح ساحته كلها تقريباً في "عصر الانحطاط". إنه تاريخ ما يهمله "تاريخ الفلاسفة في الاسلام" وما يسكت عنه تاريخ الفلسفة "الرسمي" الأوروباوي النزعة الذي يؤرخ لـ "العقل الأوروبي" وحده، تاريخ "اللا معقولة العقلي" في الثقافة العربية الإسلامية.

فإلى أين سنتجه؟

من حسن حظنا أن أبحاثاً حديثة نسبياً تنتمي "رسمياً"، في الثقافة الأوروبية، إلى "تاريخ الأديان"، تسعفنا بعض الشيء فيما نحن بصدد البحث عنه، فضلاً عن أنها تلقي أضواء كاشفة على الحياة الفكرية في مركزين هامين من المراكز التي تشكلت فيها بعض طبقات الموروث القديم، وبالخصوص منها طبقات "اللا معقولة العقلي" موضوع بحثنا، فهي تقدم لنا من جهة دراسة علمية وافية عن الهرمسية وتاريخ تشكلها ومضمونها الديني والفلسفي و "العلمي"، كما تضع أمامنا من جهة أخرى صورة واضحة عن الأفلاطونية المحدثة في صيغتها المشرقية التي نقرأ فيها بوضوح العناصر الأساسية للفلسفة المنحولة لـ "الحكماء السبعة" كما عرضها الشهرستاني.

لعل أحدث وأوفى دراسة عن الهرمسية، هي تلك التي قام بها الباحث الفرنسية المقتدر فيستوجيير الذي حقق النصوص الهرمسية وترجمها إلى الفرنسية.

يستعرض فيستوجيير العوامل الإجتماعية والتاريخية التي أدت أو ساعدت على تفكك العقلانية اليونانية وانحلالها مع القرن الأول للميلاد، وفي مقدمة تلك العوامل التمزق الإجتماعي والنفسي الذي تسببت فيه الحروب المتوالية منذ فتوحات الإسكندر في القرن الرابع قبل الميلاد إلى ما بعد قيام الامبراطورية الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد. ومع إبرازه لهذه العوامل التاريخية الإجتماعية فإنه يؤكد بكيفية خاصة على التمزق الذي أصاب العقلانية اليونانية بعد أرسطو مباشرة حيث تعددت المدارس الفلسفية المتناحرة، وظهر الشكاك وانتشرت أطروحاتهم مما جعل العقل اليوناني يبدو "وكأنه يلتهم نفسه". ويعزو فيستوجيير هذا الإنفجار الداخلي للعقلانية اليونانية إلى اعتمادها على المنشآت الفكرية الاستنباطية دون اللجوء إلى التجربة، بله الاحتكام اليها. لقد أطلق العقل اليوناني العنان لنفسه محتقراً التجربة مستنقصاً من المعرفة الحسية معتمداً كل الاعتماد على ديالكتيكه الداخلي "فكان من الحتم أن تكون تلك القوة الديالكتيكية، التي كانت تتميز عند الاغريق بكيفية خاصة بالمرونة والدقة والنفاذ، والتي تولت التشييد، كان من الحتم أن تكون هي نفسها التي تتولى تقويض البناء" الذي شيدته.

ويضيف فيستوجيير قائلاً: "هكذا قامت العقلانية الاغريقية، بعدما قوضت نفسها بنفسها، برد فعل مشؤوم ووجهت الناس إلى اللا معقول، إلى شيء ما يقع، فوق العقل أو تحته أو خارجه على الأقل، يقع على مستوى الحدس الصوفي أو على مستوى الإشراق وأسراره أو على مستوى السحر وعجائبه، وأحياناً اتجه الناس إلى هذه المستويات جميعاً. لقد تعب الناس من تلك الحجج التي لم تكن تصلح إلا في إظهار العقل بمظهر المتناقض المتهافت. وفي انتظار (= الحصول على مصدر للمعرفة مباشر ويقيني أي في انتظار "الكشف") كان لابد من العيش، لابد من إعطاء معنى للحياة، وبالتالي فإن ما كان الناس في حاجة اليه هو تعليمات تصدر إليهم، هو سلطة تطلب منهم الخضوع لها، هو الإيمان والتسليم. لم يعودوا يرغبون في البراهين فلقد كانوا يريدون ان يؤمنوا (...) لقد كانوا يبحثون عن الوحي والإلهام النبوي. ذلك لأنه لما كان الله هو وحده الذي يُحسن الكلام عن نفسه فإنه من الضروري توجيه السؤال إليه. ولا فرق بين أن يجيبك شخصياً بواسطة أحد العرافين أو يكلمك خلال رؤيا ينعم بها عليك، وبين أن تصدق برسله الذين كانوا على اتصال به في ماض سحيق والذين سجلوا في كتب مقدسة ما أخذوه منه"، ومن هنا اتجهت الأنظار إلى بلاد الشرق، الى "الشعوب التي ترى قبل غيرها اشراقة الشمس".

تتجلى هذه الميول اللا عقلانية، أولا وقبل كل شيء، وفي مجال الفلسفة بالذات، في الإقبال على بعث الفيثاغورية وتجديدها. ويقرر فيستوجيير "أن الإيمان بفيثاغورس كان يزداد بمقدار ما كان يتناقص سلطان العقل". ويفسر ذلك بأن ما كان يشكل قوة الفيثاغورية الجديدة هو أنها لم تكن فلسفة، أي منظومة من الأفكار المتكاملة المتناسقة حول الله والعالم والإنسان، فهي لم تكن تعتمد البرهان، وإنما كانت عبارة عن نظام كهنوتي يكرس الانقياد الأعمى لما يقوله كائن يأتيه الوحي والإلهام، لا يهتم بإقناع الناس، بل يريد أن يسلموا له تسليماً. لقد كان على كل نقاش أن يتوقف بمجرد ما يرتفع صوت يفوه بتلك الكلمة التي كان لها فصل الخطاب، كلمة: "نطق المعلم فقال..". أما هذا "المعلم" فهو إما إله أو نبي أو ولي، وعلى كل حال فآيته الإتيان بالخوارق والكرامات، وبالتالي امتلاك للحقيقة".

لقد كانت الفيثاغورية الجديدة في جوهرها قراءة لأفلاطون بواسطة فيثاغورس، الشيء الذي يعني "تتويجه بتاج النبوة".

العودة إلى فيثاغورس وإلى من هم أقدم منه من الفلاسفة وأصحاب النبوة وأهل الحكمة العتيقة، ذلك هو الإتجاه الذي ساد القرن الثاني والثالث للميلاد في الامبراطورية الرومانية وبكيفية خاصة في جزئها الشرقي مصر _سوريا... الخ. والنتيجة هي ذلك التيار الفلسفي الديني الذي يحمل امشاجاً من آراء فلاسفة ما قبل سقراط معروضة عرضاً افلاطونياً دينياً على الشكل الذي رأيناه عند الشهرستاني في حديثه عن الفلاسفة الاوائل "اساطين الحكمة" أو "الحكماء السبعة".

ففكرة الإله المتعالي والقول بالعنصر الأول ثم بالعقل الذي فيه صورة العالم، ثم بالأصل الالهي للنفس وبالتطهير... كل تلك عناصر مشتركة اساسية نجدها منسوبة إلى الحكماء السبعة كلاً أو بعضاً وبالخصوص منهم إلى انبادوقليس، وهي نفس العناصر التي تأسس عليها أساس الفلسفة الالهية وعرفانه المشرقي.

عندما مات الاسكندر سنة 323 قبل الميلاد (أي قبل وفاة استاذه ارسطو بسنة واحدة) اقتسم قواده امبراطوريته الشاسعة: فكانت بلاد اليونان ومقدونياً في يد القائد انتيجونس وعاصمته اثينا وكانت البلاد الاسيوية في يد القائد سلوقوس مؤسس دولة السلوقيين وعاصمته انطاكية، اما مصر فقد كانت من نصيب بطليموس واسرته وعاصمتها الاسكندرية. وكما توزعت السلطة بين هذه العواصم الثلاثة فقد توزع الفكر اليوناني، علماً وفلسفة، بينها ايضاً. غير ان نصيب الاسكندرية كان أكبر واغنى.

فما هي الهرمسية، ما حقيقتها وما نوع الفلسفة والعلوم التي كانت تنشرها وما طبيعة النظام المعرفي الذي يؤسسها؟

الهمرسية نسبة إلى هرمس "المثلث بالحكمة" كما هو شائع في المؤلفات العربية أو "المثلث بالنبوة والحكمة والملك" كما ورد في كتاب المبشر بن فاتك.

وهرمس في الاصل اسم لاحد آلهة اليونان المرموقين عندهم. وقد طابقوا بينه وبين اله مصري قديم هو الاله طوط، كما طابق بعض اليهود بين هرمس طوط هذا وبين النبي موسى. أما في الميثولوجيا المصرية القديمة فقد ظهر طوطا كاسم لكاتب الإله أوزيرس اله الدلتا المسؤول عن الموتى والمصير البشري. ومن وظيفة طوط كـ "كاتب" نسب إليه اختراع الكتابة، وبالتالي جميع الفنون والعلوم التي تعتمد الكتابة وتمارس في المعابد كالسحر والطب والتنجيم والعرافة. ثم ارتقى الاله طوط درجة في سلم الالوهية داخل الأساطير المصرية فنسب إليه خلق العالم بصوته لانه كان مطلعاً على قوة تأثير الصوت والكلمة. وتقول الأساطير المصرية ان صوته يتكثف بنفسه فيصير مادة، ومن هنا كانت قوة طوط كامنة في صوته، أي في "النفخ" الصادر عنه، ومن هذا النفخ يخلق كل شيء، فهو إذن الإله الخالق والمعلم. هذا في الاساطير المصرية القديمة، أما في الأساطير اليونانية فلقد كان هرمس محترماً عندهم إذ كان ابنا للإله الأكبر زوس وقد نسبوا اليه هم أيضاً اختراع الكتابة والموسيقى والتنجيم والاوزان والمقادير... أما في الأدبيات العربية الهرمسية فقد كان هرمس يقدم على انه النبي ادريس المذكور في القرآن وانه أول من علم الكتابة والصنعة والطب والتنجيم والسحر... الخ.

أما الهرمسية كعلوم وفلسفة دينية فترجع إلى مجموعة من الكتب والرسائل تنسب إلى هرمس المثلث بالحكمة الناطق باسم الاله وأحياناً يقدم على أنه هو نفسه اله، ولذلك كانت تعتبر تلك المؤلفات وحياً إلهياً. غير ان البحث العلمي الحديث (= دراسة فيستوجيير خاصة) اثبتت بما لا يقبل لاشك ان تلك المؤلفات ترجع في جملتها الى القرنين الثاني والثالث للميلاد، وأنها كتبت في الاسكندرية من طرف اساتذة يونانيين، او من طرف اساتذة قبطيين يعرفون اليونانية، وانها مستمدة في جانبها الفلسفي الديني من الفيثاغورية الجديدة والافلاطونية المحدثة وفي جانبها العلمي (= التنجيم خاصة) مما انتقل الى مصر من العلوم الكلدانية عندما كانت تحت السيطرة الفارسية. أما الكيمياء الهرمسية فهي مزيج من الكيمياء النظرية اليونانية وفن صناعة الذهب المصرية. هذا بالإضافة إلى تأثرها بالزراديشتية والعلوم السحرية المجوسية التي كانت منتشرة في مصر، إذ يقدر بعض المؤلفين حجم الأدبيات الزراديشتية في مصر عام 200 ق.م بنحو مليوني سطر.

والآن ما هو مضمون التعاليم الهرمسية، مضمونها الفلسفي الديني خاصة؟

تقدم لنا الهرمسية نظرية كونية بسيطة: "ففي قمة الكون وفوق سماء النجوم الثابتة يقيم إله متعال، لا يقبل الوصف، منزه لا تدركه العقول ولا الابصار، مالك العالم. وازاءه توجد المادة غير المتعينة، وهي مبدأ الفوضى والشر وميدان النجاسة والقذارة. أما العالم السماوي وكل ما يشتمل عليه وكذلك الإنسان فقد تولى صنعه الاله الصانع القابل للمعرفة والادراك، وذلك بتكليف من الاله المتعالي. هذا من جهة ومن جهة أخرى فان عالم ما تحت فلك القمر خاضع كله لتأثير الكواكب السبعة وافلاك البروج. ومن هنا توزع البشر الى سبعة اصناف يخضع كل صنف منهالخصائصبرج من البروج الفلكية السبعة. والإنسان مؤلف من جسم مادي، أي غير طاهر، يسكنه الشر ويلابسه الموت، ومن نفس تشتمل على جزء شريف ينحدر من العقل الكلي. هذه النفس الشريفة _بل هذا الجزء الشريف من النفس _ يعيش في صراع دائم مع الرغبات والاهواء التي سببها وجود الجسم. ولجعل حد لهذا الصراع جاء الإله هرمس، الوسيط بين الإله المتعالي والإنسان بتوسط العقل الكلي ليعلن الخلاص ويبين طريق النجاة. غير ان أقلية من الحكماء والاصفياء هي وحدها التي تستطيع ان تتحمل اشراقة العقل (= الكلي) الهادي الى طريق المعرفة الحق، طريق اندماج النفس في الله _= الفناء باصطلاح متصوفة الاسلام). وهؤلاء الحكماء الحقيقيون، المطهرون المقدسون المجتنبون لكل نقص، هم وحدهم الذين يتحررون من المادة ويفلتون من قبضة القدر (= الضرورة) فتصعد نفوسهم الناجية إلى السماء بينما تندمج أجسامهم، بعد الموت، مع جسم كوكب من الكواكب. وقد ترتقي النفس في معراجها الى السماء الثامنة (= السماء العليا) محفوفة بجوقة من الملائكة حراس الاجواء العليا. ذلك هو مصير الحكماء، أما النفوس غير المطهرة فان الزوابع الجوية تلقي بها في سحيق جهنم"، وتشاهد النفس في معراجها هذا كائنات روحية عديدة، ملاك الحياة، ملاك المادة، ملاك الفرح، ملاك الراحة، ملاك الخوف، الإله المنزه من الرغبات الذي ذكره افلاطون في محاورة فادن وطيماوس والإله الأرفي (نسبة إلى النحلة الارفية) كما تشاهد "البرزخ الذي يقول عنه الرواقيون والمنجمون انه يفصل العالم السماوي عن العالم الارضي".

واضح من هذا الملخص، الذي نقرأ فيه، رغم تركيزه كثيراً من الأفكار التي راجت فيما بعد في الثقافة العربية الاسلامية، وفي أوساط المتصوفة والتيارات الباطنية خاصة، ان المسائل الرئيسية التي تعالجها الفلسفة الدينية الهرمسية تدور حول قضية الالوهية ونشوء العالم، وقضية النفس وخلاصها، وقضية وحدة الكون وتبادل التأثير بين اجزائه.

هذا باختصار عن مسألة الالوهية في الأدبيات الهرمسية. أما عن قضية النفس، اصلها وطبيعتها ومصيرها فهي مسألة يعني بها بكيفية خاصة التيار المتشائم الذي يتبنى نظرية الإله المتعالي. ان اصحاب هذا الاتجاه اذ يقيمون فاصلاً لا نهائياً بين الله والعالم واذ يؤكدون بالتالي ان الله لا تدركه العقول ولا الابصار، يؤكدون من جهة أخرى ان الطريق إلى معرفة الله هي النفس لأنها جزء من الإله. انها تستطيع معرفته حق المعرفة عندما تتمكن من الاتصال به والعودة اليه. اما العقل فهو في نظرهم انما يستمد مدركاته من الاجسام وما في حكم الاجسام، والاجسام لا يمكن ان تؤدي باية صورة من الصور الى معرفة الله.

هذا الطريق، طريق معرفة الله بالنفس لا بالعقل، يقول به جميع الغنوصيين (= العرفانيين). غير ان ما يميز غنوصية الهرمسية هو تأكيدها على الاصل السماوي _الإلهي للنفس. والنصوص الهرمسية تشرح ذلك من وجهين: اما القول بأن النفس هي من اصل الهي لكونها "بنت الله" حسب حرفية بعض النصوص، واما القول بأنها عبارة عن مزيج، من عناصره "شي من الله نفسه". وتؤكد نصوص هرمسية أخرى ان الله لم يخلق من الانسان الا ذلك الجزء الذي هو من طبيعة الهية، أي النفس، والذي يحمل في ذاته صورة الله في الانسان، وهذا هو المعنى الذي تعطيه هذه النصوص للعبارة الرائجة يومئذ والقائلة: "خلق الله الإنسان على صورته" بإعادة الضمير إلى الله.

النفوس البشرية كائنات الهية، كانت تعيش في الأصل في العالم الإلهي، ثم ارتكبت ذنباً فكان عقابها هبوطها إلى الابدان سجنها. فكيف يمكن تخليص النفس والنجاة بها من الضياع في المادة وما يتبع ذلك من سوء المصير: سحيق جهنم؟

ليس هناك شيء يُخلَّصُ النفس البشرية في نظر الأدبيات الهرمسية غير "المعرفة". ولكن أية "معرفة"؟ انها تلك التي يرشد إليها هرمس الذي جاء يعلن الخلاص. وهذه المعرفة لا تعني "العلم"، أي اكتساب معارف، بل بذل مجهود متواصل قصد التطهير والتخلص من المادة والاندماج من جديد في العالم الإلهي، لا بل الفناء في الله. انه التصوف الهرمسي الذي نقرأ ملامحه واضحة في التصوف الاسلامي.

والواقع أن التصوف الهرمسي بنوعيه الانتشاري (= الاتحاد، الفناء) والانكفائي (= الحلول) ليس سوى مظهر من مظاهر هذه النظرة الواحدية إلى الكون ونتيجة من نتائجها. ذلك أن القول بالأصل الالهي للنفس وهبوطها إلى البدن عقاباً لها، ثم القول بإمكانية عودتها إلى أصلها للاندماج في الله معناه القول بوجود قوة روحانية في العالم تسري فيه سريان النفس في الجسد. وإذا كانت هذه النظرة قد سادت العالم القديم كله بما في ذلك الفكر اليوناني في أوج عقلانيته، فإن الفرق كبير جداً بين التوظيف العلمي الفلسفي لهذه الفكرة من طرف العقلانية اليونانية وبين التوظيف اللا عقلاني _ السحري لنفس الفكرة.

وحدة الكون، الترابط بين أجزائه، تبادل التأثير بينها بالتجاذب والتنافر.. تلك هي الأسس التي يقوم عليها التصور الهرمسي للكون والذي يؤسس في ذات الوقت العلوم "السرية" الهرمسية من كيمياء وتنجيم وسحر.

دمج العلم في الدين والدين في العلم علامة من العلامات البارزة التي يكشف فيها "العقل المستقيل" عن نفسه وهويته. إنه يطلب أن "يعقل عن الله" حتى تلك الأمور التي تركها الله للانسان كي يعقلها مباشرة عن الطبيعة فيسخرها لمصلحته أو يتخذ منها دليلاً وهادياً إلى إثبات وجود الله نفسه، هذا فضلاً عن تلك الأشياء التي قال فيها نبي الإسلام (ص): "أنتم أدرى بشؤون دنياكم". فلنتبع آثار ومواقع هذا "العقل المستقيل" في الثقافة العربية الإسلامية التي استشرى خطره فيها رغم الحديث المذكور، بل رغم كل ثقل "المعقول الديني" البياني العربي.

...............................

المصدر:تكوين العقل العربي
06-30-2007, 07:55 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  الحضارة الغربية هي أعظم حضارة في تاريخ البشرية ... العلماني 30 1,608 09-22-2014, 02:54 AM
آخر رد: Dr.xXxXx
  تاريخ الخلافة السعيد حائر حر 17 3,672 12-20-2011, 07:24 AM
آخر رد: S E 7 E N
  حقد على الحجاب أم تاريخ منسي للمرأة الغربية؟ الحوت الأبيض 34 9,368 10-25-2011, 04:20 PM
آخر رد: على نور الله
  أهمية طرح تاريخ الدولة الأسلامية الأن الحكيم الرائى 28 6,446 06-03-2011, 05:01 AM
آخر رد: عاشق الكلمه
  العثمانيون غزاة أم فاتحين ?? إعادة كتابة تاريخ الأتراك يثير خلافا في مصر بسام الخوري 5 3,841 10-04-2010, 10:41 AM
آخر رد: tornado

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS