جماليات العنف و القسوة
شاهده :علي سفر
" لا رجعة فيه " و " الحتمي " و " غير قابل للنقض " و القابل للعكس " , أربعة عبارات محتملة لترجمة عنوان فيلم " Irréversible " للمخرج الفرنسي في الأرجنتين غاسبار نوي , الذي أنتج في العام 2002 و عرض في مهرجان كان السينمائي 2003 و حاز عدد من الجوائز الهامة , تاركاً ورائه سيلاً جارفاً من ردود الأفعال المتباينة ..
و لعلها المصادفة أو الجهل هما من أتاح لي مشاهدته , بعد أن وجدته في محل فيديو عادي دون أن تمارس عليه الرقابة سلطتها , و الطريف في الأمر أن مقص الرقابة لو أعمل في هذا الفيلم , فإنه لن يستطيع قص أي لقطة فيه بل إنه سيجد نفسه مضطراً لشطب الفيلم كله من قائمة المشاهدة , بسبب من موضوعه و بسبب من طبيعة لقطاته ...!!
هذه المصادفة قادتني لأن أتمكن من مشاهدة ساعة و نصف من الاشتغال البصري , على حكاية شبه عادية تحدث في أي مكان في الدنيا , و لكنها في هذا الفيلم تتحول إلى " إنجاز " بصري , يلعب المخرج من خلال كاميرته على تحويله إلى أطروحة فكرية أخلاقية , تمس الذهنية التقليدية و تبعثر فيها أشواك المحتمل و غير المحتمل ..!
تبنى قصة الفيلم على ثيمة اغتصاب امرأة ( أليكس : مونيكا بلوتشي ), في ممر سفلي من قبل رجل شاذ جنسياً بشكل عنيف , وتتمحور تفاصيل الفيلم حول بحث صديقها أو رجلها ( ماركوس : فنسنت سامورا ) عن المغتصب , للانتقام منه برفقة صديقه ( بيير : ألبرت دو بونتيل ) الذي كانت تربطه بها علاقة حب سابقة , و إذ يقوم بيير بقتل المغتصب أو شخص يشبهه , في ناد للشاذين جنسيا يستطيع المغتصب قبل موته أن يكسر يد ماركوس كما حطم وجه عشيقته حين قام باغتصابها !!
هذه الحكاية البسيطة و المفعمة بالتشويق و الإثارة قدمها مخرج الفيلم بطريقة مباغتة و غير متوقعة فالفيلم يبدأ من نهايته بشكل سردي معكوس
( المشهد الأخير يعقبه المشهد الذي قبله و هكذا... ) , و كل مشهد من هذه المشاهد هو لقطة واحدة مستمرة بدون قطع , و قد تبدو هذه الطريقة السردية المعكوسة أمراً محتملاً و بشدة في الأطوار الجديدة التي تعيشها اللغة السردية الفيلمية حالياً , و لكن التدقيق فيها و بحسب ثيمة الفيلم يجعلنا أمام معادلة مدهشة , تهدف إلى تفريغ الإثارة و التشويق و الرغبة بالانتقام من ذات المتلقي , و إحلال الرغبة في تأمل النتائج بدلا من تأمل مؤديات الأفعال , فهنا و عبر عكس السرد لا يمكن للمشاهد أن يترقب الأفعال العنيفة بقدر مراقبة أثرها على نفسه , و كمثال على هذه الرؤية يمكن للمشاهد أن يتوقف ملياً عند مشهد قتل المغتصب تينيا , و مراقبة تهشم وجهه حين يهاجمه بيير بمطفأة حريق ليفتت جمجمته , و كذلك يجد المشاهد نفسه مستغرقاً في متابعة مشهد الاغتصاب حيث يستمر المشهد لتسعة دقائق كاملة تقدمها مونيكا بلوتشي بشكل مؤثر جداً ... !!
الطبقة الفكرية التي تغلف خيارات الشخصيات في الفيلم تبنى هاهنا بشكل شبه غيبي , تطرحه أليكس في أحد مشاهد الفيلم حين تتحدث عن كتاب تقرأه تخبرها معلوماته بأن الإنسان يرى مستقبله في أحلامه , و أن ما يراه في هذه الأحلام غير قابل للتغيير , و حين تخبر صديقها ماركوس و هما في الفراش بذلك يصبح الأمر موضع شك إذ تبرر رؤيتها للحلم بانقطاع دورتها الشهرية و الذي يصبح إشارة لكونها تحمل في أحشائها طفلاً ..!!
و في تأمل أليكس لمشروع الأمومة يمكن لنا و إذا عكسنا السرد المتحقق في الفيلم أن نعثر على نقطة بدايته ...!!
و بينما تمر بنا و عبر مشاهد الفيلم الأحاديث المهمة عن الرغبة بالحب و الاشتغال عليه , نرى إلى أي ضفة يقودنا المخرج حين تنقسم عوالمه إلى عالمين متحققين اجتماعيا , الأول هو عالم الفعل ( الشواذ الذي يحكم الحركة على الأرض في الواقع العملي ) , و عالم اللافعل ( عالم الطبقة الوسطى المحكوم بأشخاص مثل بيير يرغبون بالحب و بالجنس و لكنه يؤدي بشكل وظائفي يجعله بعيدا عن الاستمتاع الشخصي و بعيد أيضاً عن إمتاع الأخر ) ..!
هذا الخطاب الاجتماعي و الأخلاقي الذي يرسمه الفيلم تشتته الكاميرا في حركتها الفوضوية الغرائبية و غير المحتملة في عالم التصوير السينمائي التقليدي , حيث تركز العدسة على الأفعال و لا تذهب إلى المناخ أو الفضاء الذي يجري فيه الحدث بشكل مجاني , و حين نصل إلى الذروة في الحدث نرى كيف ينقلب الفضاء ليكون هو بطل المشهد كما في مشهد البداية حين يعثر ماركوس و بيير على المغتصب تينيا ..!
إن الكاميرا تبني عالم الحكاية من زاوية غير متوقعة , و هي لا تختفي وراء حرفيتها بقدر ما تستند على حرفية الممثلين الذين يؤدون الأفعال , و حين نعلم أن هذا الفيلم قد صنف من أهم الأفلام التي استعملت تكنيك اللقطة الطويلة ( on shot ) , لابد سندرك أن غاسبار نوي لم يكن راغباً في العمل على إثبات التكنيك قدر رغبته في إثبات الرؤية و هو يعترف في أحد لقاءاته أن مشهد الاغتصاب قد تم تنفيذه وفقاً لرؤية مونيكا بلوتشي ذاتها الممثلة المؤدية للشخصية التي تغتصب ...!!
أثار الفيلم حين عرضه حالة من الدهشة و الصدمة لدى المتفرج الفرنسي و غير الفرنسي , و قد نقلت الأخبار أن عدد كبيرا من مشاهديه في مهرجان كان , قد انسحبوا من الصالة بعد أن استفزتهم جرعة القسوة التي تقدمها مشاهده , و قد احتجت عدة جمعيات إنسانية على مخرج الفيلم متهمة إياه بالإفراط في استخدام العنف و القسوة على مشاهديه , و بادلها المخرج المناوشة حين أعترف بتعمده استخدام العناصر الواقعية الموغلة في حقيقيتها رغم كونه قد لجأ لعدة تقنيات رقمية قربت بين الممكن الواقعي و بين اللاممكن السينمائي , و في تبريره لهذا الاستخدام يفترض غاسبار نويه أن السرد التقليدي للحكاية كان سيؤدي لردود أفعال عادية أخلاقياً بينما يريد هو أن يكون الموقف الأخلاقي ممسوكاً و متعمداً و مترابطاً , و عن استخدامه لعكس السرد كتقنية يعترف بأن هذه الفكرة قد حببت إليه بعد أن قرأ كتاباً عن ستانلي كيوبريك يوضح فيه رغبته بصناعة فيلم يبدأه من نهايته و بشكل عكسي ...
فيلم " Irréversible " عمل يستحق المشاهدة في حال توفره بين أيديكم في الأسواق العربية ..!
و أنصح بمشاهدته دون تردد مع الأخذ بعين النظر كونه غير مناسب للأطفال و المراهقين و المعتوهين على العموم ..!!
مقتبس من موقع الجدار
ملاحظة:ممكن تحميل الفيلم من مواقع تورنت ,وبحق اكثر شي شد انتباهي الكاميرا ,لم اعهد هكذا انسيابة وفوضوية في الحركة مثل هذا الفيلم.,
محاب النور
يشع بالنور والحب