[CENTER]
حول نظرية "صدام الحضارات"
بداية, قد يبدو من المناسب أن نبدأ من قاعدة الموضوع و التعريف بمعنى "النظرية" بوجه عام ثم "النظرية" في حالاتها الخاصة حين تتعلق موضوعاتها بالمجتمعات البشرية.
و بوجه عام فالنظرية - أو ما يستحق أن يطلق عليه نظرية - هي عملية فكرية معقدة و تخص الجنس البشري دون باقي الأصناف - و هذا لما يتميز به مخه و عملياته الفكرية من عدة مميزات و أهمها القدرة على التجريد.
و بدون الدخول في تفاصيل قد لا تلزم موضوع هذا الشريط, فالنظرية هي سلسلة من التغذية المتبادلة بين الواقع و العقل و بين الإستقراء و الإستنباط و قد يبدو تبسيط تلك العمليات كالآتي:
-
ملاحظة و إستقراء ظواهر ما في العالم الخارجي - الواقع - ثم تصنيف تلك الظواهر.
-
طرح فرض مستنبط من تلك الظواهر يحوي في خواصه بجانب تجميعه و تفسيره لتلك الظواهر في قوانين - خاصية أن تتنبأ تلك القوانين بسلوك تلك الظواهر فيما هو أدق و أشمل من مجرد الإستقراء السابق.
-
العودة ثانية للعالم الخارجي لإختبار صحة الفروض التنبؤية للنظرية فيما يمكن أن نطلق عليه إختبارات التأييد / التكذيب.
و أي طرح فكري لا يبدأ من العالم الخارجي الواقعي - أو يتنبأ بما لا يمكن للعالم الخارجي الرد عليه لا يقع ضمن ما يصطلح على تسميته بالنظرية بمعناها الحالي.
و النظرية في حال تعلقها بالمجتمع الإنساني كموضوع لها - تعتبر حالة خاصة جدا كون موضوع النظرية هو كيان أو بنية واعية و قد تكون متأثرة بطرح تلك النظرية ذاتها و بحساسية خاصة للجزء الخاص بالتنبؤ بسلوك ذلك الموضوع.
و كمثال لبيان تلك الخصوصية نتخيل إجراء التجربة الآتية:-
- فنحن لو فرضنا طريق مستقيم يتكون من عدة حارات و ينتهي بحفرة عميقة. و عند نقطة بدايته وضعنا في إحدى الحارات إنسان عادي مع العلم أنه لا يرى الحفرة لظروف وضعها بالنسبة له أو لتغطية عينيه و بحارة أخرى وضعنا إنسانا آليا أو مجرد ماكينة - ثم أعطينا الأمر لكلا من المتسابقين ببدء سباق ما.
- ثم إفرض ملاحظ خارجي محايد يقف في موقف يسمح له بمشاهدة و قياس كلا المتسابقين و تحديد مسافاتهم بدقة من نقطة البداية عند زمن محدد منذ إنطلاقهم. من الممكن لذلك الملاحظ أن يحسب بدقة عالية تبعا لسرعات كلا من المتسابقين الوقت المحدد الذي سيسقط فيه كلا منهم.
- الآن إفرض أن هذا الملاحظ قد أعلن تنبؤه ذلك على الملأ في السباق بحيث يسمعه كل الحاضرين بمن فيهم المتسابقين في عبارة مثل "توجد حفرة بنهاية الطريق - سوف يسقط المتسابق أ (الإنسان) بعد عدد س من الثواني و سوف يسقط المتسابق ب (الماكينة) بعد عدد ص من الثواني".
الطرح السابق للملاحظ هو نظرية بالفعل - و الآن - كما سوف نتكهن جميعا فالماكينة سوف تسقط تبعا للنظرية و بدقة عالية لكن الأغلب أن الإنسان المتسابق سوف يتوقف عن السباق و لن يسقط في الحفرة معرضا النظرية للسقوط.
و لكن هل سقطت النظرية بالفعل و أثبتت عدم صدقها؟ أم أن النظرية بذاتها - و من حيث كونها كشفا - قد أثرت في موضوعها بشدة مسببة تغيير و إنحراف النتائج عما تنبأت به؟؟
يبدو بالفعل أن النظرية قد أثرت بموضوعها حال كونه واعيا مسببة إنحراف ما تنبأت به من نتائج.
بل و يمكننا أن ندعي أنه بقدر قوة و عقلانية النظرية - بقدر تأثير ذلك على إنحراف نتائجها - بشرط توافر قدرة المتلقي الواعي (موضوعها) على إستيعاب ذلك.
و في تجربتنا السابقة - لو إفترضنا حالتين:
* الأولى: أن يكون طرح الملاحظ كما يلي "يوجد شبح يتربص المتسابقين و إن لم ينتهوا سوف ينزل من السماء كي يختطفهم"
و أغلب الظن أن المتسابق الإنسان لن يعير إهتماما لطارح النظرية لضعفها و إنقطاع صلتها بالواقع.
* الثانية: أن يكون المتسابق الإنسان أحمق بما فيه الكفاية للتغاضي عن نظرية / تحذير الملاحظ و تأييد كافة المشاهدين لها بمطالبته بالوقوف.
و بوجه عام فبرغم صحة النظرية دائما حالة تطبيقها على الآلة المتحركة إلا أنه و في حالة كون موضوع النظرية بنية واعية و متأثرة بشبكة معقدة من العوامل منها - و في أحيان أخرى من أشدها - طرح النظرية ذاته فقد لا يكون من الإنصاف الحكم بسقوط النظرية حال فشل نبوؤاتها - بل و قد يعزى ذلك الفشل لقوة و دقة النظرية و ليس العكس.
و بوجه خاص فالنظريات ذات الموضوع الإنساني تتضمن فروضا ضمنية غير منطوقة و أهمها:
- فرض ثبات الوضع الحالي بدون تغيير ينشأ مثلا عن وعي ذاتي لموضوع النظرية.
- فرض عدم تدخل عوامل خارجية لتغيير الوضع.
و في مثالنا لو أضفنا تلك الفروض الضمنية لكان منطوق النظرية:
"توجد حفرة بنهاية الطريق - سوف يسقط المتسابق أ (الإنسان) بعد عدد س من الثواني و سوف يسقط المتسابق ب (الماكينة) بعد عدد ص من الثواني" + " و هذا في حالة أن يظل المتسابقون في طريقهم بدون أن يأخذوا تحذيري بجدية" + "أو يتدخل الجمهور لمنع المسابقة من الإستمرار" (*)
و بوجه عام و عودة لنظرية صدام الحضارات فكل ما سبق يمكن تطبيقه عليها:
- فالطرح يمثل نظرية حسب التعريف الحالي لذلك - فبداية الطرح كانت من الواقع عندما لاحظ المناطق الحمراء الملتهبة - بالفعل و ليس فرضا - لحدود المجتمع الإسلامي. و غيرها من مظاهر التوتر في الجسد الهائل للحضارة الإسلامية.
- ثم كان الفرض أو التفسير بوجود حالة من الصدام الحضاري القائم فعلا.
- ثم الجزء التنبؤي من النظرية بسيادة و إتساع الصدام .. إلخ.
"صدام الحضارات" إذا نظرية مبنية على الواقع و ليست دعوة عدوانية للصدام.
فسواء شئنا أم أبت أنفسنا "صدام الحضارات" طرح موضوعي و نظرية - التعامل معه يجب أن يكون على نفس مستوى موضوعيته. و من الممكن أن نقول ما نقول عن وجهة نظرنا في كيفية تعامل الغرب معها - على إختلاف أطيافه و طريقة تعاطيه تلك النظرية - إلا أنه و في كافة الأحوال فقد تعامل الغرب مع الطرح - بمنطوقه و بذاته - بموضوعية.
فمن الممكن التعامل مع النص بنقده موضوعيا و على أسس واقعية - و من الممكن الإشتغال بكيفية تجنب ذلك الصراع الدامي و بأي لطرق الموضوعية أيضا. بل و من الممكن - بغض النظر عن رأينا في ذلك - الإنشغال بوضع الخطط لإجهاض و محاولة تفكيك البؤر المنتجة لأيديولوجيا ذلك الصدام كما إتخذت الولايات المتحدة طريقها. كل ذلك يعد تعاملا موضوعيا مع النظرية.
لكن و من جانبنا هل تعاملنا نحن مع هذا الطرح بموضوعية؟ بل هل تعاملنا معه أصلا؟ أم أن معاملتنا مع اللفظ "صدام الحضارات" تأتي فيما لا يخص هذا الطرح من الأساس؟
فهل الهجوم المجرد على لفظ "صدام الحضارات" أو قائله شخصيا -بوصفه لا يصح أو غير أخلاقي يمثل أي مدخل موضوعي للتعامل مع هذا الطرح؟
هل تحوير الطرح ككل - بوصفه دعوة من الغرب الصليبي - للهجوم و الصدام مع الإسلام - ثم التعامل مع الطرح على هذا الأساس - يضعنا على قائمة المتعاملين الموضوعيين مع الطرح - أم أنه يبعدنا - عمدا أم سهوا - عن موضوعه إلى محاربة طواحين الهواء؟
ثم - و كنتيجة لهذا التحوير و هذا المدخل - هل يفيد هذا المدخل في تعاطي الطرح و التعامل معه - أم أنه و بالعكس يؤجج نار الصدام - بل و قد لا نبالغ إذا أكدنا أن التعامل بهذا المدخل يذكي شرعية الصدام من ناحيتنا بوصفه نابع من دفاع شرعي عن الذات بمواجهة معتدي - بدلا من البحث في كونه صدام مستمد من غياهب التاريخ نابع من خلفيات يجب تنقيتها؟
يتبع ,,
(*) ملحوظة: مثال آخر على موضوع النظريات ذات الموضوع المتعلق بالمجتمعات الإنسانية بمداخلة في شريط الزميل المحترم / عمر أبو رصاع:
المدخل للفلسفة المادية