http://www.almasry-alyoum.com/article.aspx...ArticleID=38179
«المصرى اليوم» تنشر مقال فهمي هويدي الممنوع في «الأهرام» صفحة قاتمة يجب أن تطوي
هذا المقال للكاتب الكبير فهمي هويدي تم منعه من النشر أمس في الزميلة «الأهرام» .. و«المصري اليوم تنشره هنا دون تعليق.
هذه ثلاث حكايات مصرية، لا أريد أن أصدقها، ولا أستطيع أن أتجاهلها، وأتمني أن تكذب في أسرع وقت، شريطة أن يتم ذلك من خلال طرف يؤتمن علي تقصي واستجلاء وجه الحقيقة أو الادعاء في وقائعها.
(١)
ذات صباح، تلقيت من أحد الأصدقاء قرصاً مدمجاً (سي.دي) أبلغني أنه يتضمن شريطاً من المهم أن أراه، وحين شاهدته علي شاشة الكمبيوتر لم أصدق ما رأيت فيه وما سمعت، إذ روعني مضمونه، فسارعت إلي إغلاق الجهاز ولم أكمل المشاهدة، لكن الصور التي رأيتها والصيحات التي سمعتها ظلت تلاحقني مدوية في داخلي طوال الوقت، وإذ انتابني الشك في الشريط، خصوصاً أن لأهل الخبرة في هذا المجال كلاماً كثيراً عن تقدم فنون التركيب والافتعال في صناعة أمثال تلك الأقراص والأشرطة، فإنني طلبت ممن هو أدري مني بعالم الاتصالات وتقنياته أن يتحري المواقع التي تهتم بهذه الأمور. بعد حين جاءني من يقول إن الصور التي رأيتها موجودة علي شبكة الإنترنت، خصوصاً موقعي يوتيوب Youtube وميتا كافيه دوت كوم، والأول مشهور علي مستوي العالم، ويعد أكبر موقع معلوماتي لأفلام الفيديو. أضاف محدثي أن ثمة موقعاً باللغة العربية عن «التعذيب في مصر» تضمن تفصيلات كثيرة في الموضوع. وحين رجعت إلي تلك المواقع وجدت كلامه صحيحاً، حيث شاهدت مرة أخري -ولم أكمل- ذات الصور والمشاهد، وبعد يومين فوجئت ببعض الصور الصاعقة منشورة في صحيفة «الفجر» (عدد ١٣/١١)، مع تعليق قال فيه كاتبه ما نصه: وصلني علي البريد الإلكتروني فيديو تعذيب مواطن مصري في قسم بوليس. الفيديو منشور علي مدونة «الوعي المصري» التي قال محررها إنه مرسل إليه من مدونة أخري اسمها «دماغ ماك»، التي قال صاحبها إنه اكتشف الفيديو علي «موبايل» جاره، فقرر نشره رغم أنه مقزز.
من هذه القرائن أدركت أن الصور متداولة بين أيدي كثيرين، علي مواقع الإنترنت والهواتف النقالة ومن خلال الأقراص المدمجة. الأمر الذي يعني أن محيط انتشارها تجاوز النطاق المحلي إلي المستوي العالمي، ويعني أن الصور البشعة التي ظهرت والاستغاثات والصرخات التي ترددت خلالها ذاع أمرها في كل مكان، وفي غياب أي تعليق علي الموضوع أو إيضاح لملابساته وحدوده، فإن من يشاهد الصور سيتعامل معها باعتبارها حقيقة مسلماً بها.
تعجز الكلمات عن وصف محتوي الشريط، الذي يسجل واقعتين علي الأقل، لاثنين من المواطنين العاديين تم اقتيادهما إلي مكانين مختلفين، يرجح أنهما من أقسام الشرطة، أحدهما وقف ذليلاً وبائساً وهو يتلقي سيلاً من الصفعات علي وجهه وقفاه من ضابط ظل يسخر منه وهو يعاجله بها، في حين أن هناك آخرين جلسوا في المكان يتضاحكون، ويشجعون الضابط الذي ذكروا اسمه وظهرت رتبته العسكرية في الصور. المواطن الثاني ألقي علي الأرض، وبدا نصفه الأسفل عارياً، وساقاه مرفوعتان، وثمة صوت لضابط يتوعده وينهال عليه بالسباب والشتائم البذيئة. وهو في هذا الوضع جيء بعصا هتك بها عرض المواطن، الذي أصيب بلوثة جعلته يصرخ بأعلي صوته مسترحماً ومستغيثاً «بالباشا» الذي ظل يواصل إطلاق شتائمه الجارحة، التي كان سب الأم قاسماً مشتركاً بينها.
(٢)
الحكاية الثانية نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» في ١٠ نوفمبر الحالي، والشخصية الرئيسية فيها مواطن مصري حاصل علي حق اللجوء السياسي في إيطاليا، اسمه حسن مصطفي أسامة وشهرته «أبوعمر المصري»، صاحبنا هذا اختطف من ميلانو في عام ٢٠٠٣، إثر عملية قام بها عملاء المخابرات المركزية الأمريكية مع جهاز المخابرات الإيطالي. ما أثار القضية مجدداً هذه الأيام أن المصري المخطوف هرب برسالة من ١١ صفحة إلي صحيفة «كوريري ديلاسيرا» روي فيها كيف اختطف أثناء سيره في أحد شوارع ميلانو، وكيف نقل إلي مصر ليحقق معه اثنان من «الباشاوات»، أحدهما مصري والآخر أمريكي، وكيف تعرض للتعذيب عن طريق الصعق بالكهرباء إلي أن فقد السمع وتدهورت حالته الصحية. هذه الرسالة أثارت ضجة في روما، لأنها جاءت دليلاً آخر أثبت ضلوع المخابرات الأمريكية مع نظيرتها الإيطالية في ترتيب خطف أبوعمر، وأحدثت الضجة صداها في أوساط الاتحاد الأوروبي، التي أدركت أن حكومة سيلفيو برلسكوني السابقة تسترت علي العملية، كما اكتشفت أن رئيس المخابرات الإيطالية، أدلي بشهادة كاذبة حول الموضوع أمام البرلمان الأوروبي.
ما يهمنا في السياق الذي نحن بصدده هو المعلومات التي أوردها أبوعمر في رسالته المنشورة في روما، وعممتها الواشنطن بوست، وتحدثت عن وقائع التعذيب الذي تعرض له الرجل في مصر. الأمر الذي يضيف صفحة جديدة إلي سجل المعلومات التي سبق أن نشرتها الصحيفة الأمريكية ذاتها عن ترحيل السلطات الأمريكية بعد ١١ سبتمبر أعداداً من المشتبه فيهم إلي ثلاث دول عربية (حددتها بالاسم)، لانتزاع المعلومات منهم بالوسائل التي لا تجيزها القوانين الأمريكية أو الأوروبية.
رغم أن القصة نشرت في واشنطن في (١٠/١١)، كما أن صحيفة «المصري اليوم» عرضت في عدد (١٤/١١) تقريراً مفصلاً حول الموضوع أعده المركز الكندي لأبحاث العولمة، إلا أن الجهات المعنية في مصر التزمت الصمت إزاء المعلومات، الأمر الذي أسهم في ذيوع البلبلة والشك والحيرة.
الحكاية الثالثة لا أستطيع أن أطيل فيها أو أفصل، لأسباب عدة أهمها أن موضوعها شهادة لأحد المعتقلين السابقين، اسمه محمد الدريني، الذي قدر له أن يقضي خمسة عشر شهراً متنقلاً بين السجون والمعتقلات في محافظات مصر، وفي تجواله ذاك اقترب من العالم الآخر الذي تسمع عنه ولا تراه، وعاش بين القابعين في أرجاء ذلك العالم (بعضهم منذ ربع قرن علي الأقل، أي منذ اغتيال الرئيس السادات في عام ٨١) وسجل ما رآه وما سمعه في كتاب من مائتي صفحة صدر مؤخراً تحت عنوان «عاصمة جهنم».
رغم أن لي خبرة متواضعة في سجون مصر قبل نصف قرن، إلا أن الذي قرأته في الكتاب فاجأني وأفزعني، إذ وجدته يتجاوز حدود الخيال، ويرسم صورة لأهوال لا تخطر علي قلب بشر، غير أنني مازلت رافضاً تصديق ما فيه، لأن مؤلف الكتاب طرف وليس محايداً، مع ذلك فإن محتواه، الذي تضمن ما لا حصر له من المشاهدات والوقائع والأسماء، التي تحدثت عنها تقارير منظمات حقوق الإنسان بدرجة أو أخري، يرشحه لأن يكون نموذجاً للتحقيق والدراسة، سواء من جانب المنظمات المعنية أو أي لجنة برلمانية لتقصي الحقائق.
لأنه لا يوجد دخان من غير نار، فإنه يتعين علينا أن نعترف بأمور ثلاثة:، أولها أن التعذيب له تاريخ في مصر منذ العصر الملكي، وقصة «العسكري الأسود» الذي كان يؤمر بانتهاك عرض الرجال رمزاً لتلك الحقبة، الأمر الثاني أن نطاق التعذيب اتسع بشكل ملحوظ في أعقاب ثورة ٢٣يوليو، التي ذاع فيها أمر السجن الحربي وقائده حمزة البسيوني، وانضم إليه في تلك الحقبة معتقلا أبوزعبل والوادي الجديد. خريجو سجون تلك المرحلة لهم كتابات عدة صورت ما جري وراء جدرانها.
الأمر الثالث أن اغتيال الرئيس السادات في عام ٨١، وإعلان الطوارئ منذ ذلك الحين، كانا بمثابة نقطة تحول كبيرة في ذلك المسار، إذ في هذه المرحلة حدث تطوران مهمان، فمن ناحية ترتب علي اتساع نطاق المواجهة بين أجهزة الأمن وبين الجماعات المتطرفة والإرهابية، أن جري التوسع في عمليات الاعتقال والتعذيب، مما أدي إلي انتشار الظاهرة واستفحالها، بحيث شملت المواطنين العاديين وليس الإرهابيين أو المعارضين السياسيين وحدهم، يسر ذلك وشجع عليه أن قانون الطوارئ أطلق يد الأجهزة الأمنية في التعامل مع المجتمع خارج القانون، خصوصاً في حالات الضبط والاحتجاز.
من ناحية ثانية، فإن طول المدة التي طبق فيها قانون الطوارئ أحدث تغيراً في ثقافة وسلوك الأجهزة الأمنية، التي باتت تتصرف وكأن الطوارئ الأصل، أما العمل بقواعد القانون العادي وضماناته فقد صار في عرفها استثناء لا يلزم ولا يعتد به، وهو ما سوغ لبعض الباحثين أن يصفوا الحالة بحسبانها نوعاً من «ادمان» الطوارئ، الذي تمكن من سلوك الأجهزة الأمنية حتي أصبح علاجه أو التطهر منه مستعصياً ويتطلب مثابرة وجهداً كبيرين، ولعلنا لا نبالغ كثيراً إذا قلنا إن العمل بقانون الطوارئ لأكثر من ربع قرن أضفي علي التعذيب شرعية نسبية، في أوساط أجهزة الأمن علي الأقل، سمحت له بأن يستفحل وأن يصبح خارجاً عن السيطرة بمضي الوقت.
وفي هذا الصدد فإننا لا نستطيع أن نتجاهل الدور الذي اسهمت به أجواء ما بعد ١١ سبتمبر في إشاعة التعذيب وغض الطرف عنه، حيث اعتبر التعذيب لاستخلاص المعلومات، من «ضرورات» الدفاع عن الأمن، وهو المنطق الذي سوقته وسوغته الولايات المتحدة، وطبقته علي غير الأمريكيين بطبيعة الحال، الأمر الذي وفر غطاء مناسباً لممارسات الأجهزة الأمنية في كل العالم العربي بلا استثناء التي تذرعت بالحرب علي الإرهاب لكي تبرر سلوكها وتتوسع فيه، وهو ما سجلته تقارير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وغيرها من المنظمات الدولية المعنية بالأمر.
«٣»
يحمد للمناخ السائد في مصر الآن أنه بات يحتمل الحديث في الموضوع بقدر لا ينكر من الصراحة، وتلك إيجابية يلمسها أي قارئ للصحف المستقلة والمعارضة بوجه أخص، الأمر الذي يشجعني علي الدعوة إلي إغلاق ذلك الملف، ليس فقط دفاعاً عن كرامة الإنسان والمجتمع المصري، ولكن أيضاً حفاظاً علي صدقية الأطروحات التي تتحدث عن الإصلاح السياسي، ذلك أنه لا محل لإطلاق تلك الأطروحات، طالما بقي مواطن يعذب أو احتجز بريء في الأقبية والسجون.
أدري أننا بأزاء وضع معقد، استفحل فيه دور الأمن حتي تمددت أجهزته أفقياً ورأسياً، فتضخم عددها وصارت أذرعها حاضرة بقوة في مختلف مفاصل الدولة، وهو ما أحدث خللاً في موازين كثيرة، فتقدم الأمن علي السياسة، وتوترت العلاقة بين السلطة والمجتمع التي أصبحت قائمة علي التربص والخوف، إذ في ظل استمرار نظام الطوارئ، تم نسخ شعار «السلطة في خدمة الشعب»، الذي رفع يوماً ما. دلت شواهد الواقع علي أن الشعب صار في قبضة الشرطة.
ذلك وضع لا يستقيم مع أي «إصلاح»، فضلاً عن أنه ضد التاريخ، ولا يكفي في علاجه الإعلان عن إلغاء قانون الطوارئ واستبداله بقانون الإرهاب، لا يكاد يختلف عن سابقه إلا في العنوان، لأن الأهم والأخطر من الاثنين هو عقلية الطوارئ التي أدمنت إهدار القانون العادي وضماناته، وسوغت الاعتداء علي الحريات العامة، وتعاملت مع المجتمع باعتباره خصماً، تتعين مراقبته وتأديبه طول الوقت.
إن إغلاق ملف التعذيب وطي صحفته هو الخطوة الأولي للتقدم علي طريق الإصلاح المنشود الذي يلوح به هذه الأيام، ولن يتم ذلك إلا بالمصالحة مع المجتمع من خلال أمرين علي الأقل: أولهما إطلاق سراح المعتقلين الذين يجدد حبسهم لسنوات طويلة، رغم انتهاء محكومياتهم أو الحكم ببراءتهم، وثانيهما التطهر من ممارسات السنوات السابقة ومعالجة جراحاتها وأحزانها، وأكرر هنا ما سبق أن قلته داعياً إلي تمثل تجربة لجان «الحقيقة والمصالحة» التي شكلت بالمملكة المغربية، واستفادت فيها من تجربة جنوب أفريقيا بعد سقوط نظامها العنصري، وهي اللجان التي رعت إطلاق المسجونين وتعويض الذين تعرضوا للتعذيب أو الذين فقدوا معيليهم من جرائه، وفي الوقت ذاته اعتذرت للمجتمع بشجاعة عن الممارسات التي أدت إلي كل ذلك، وهو ما أكسب التجربة احترام الجميع وثقتهم، فضلاً عن أن السلطة كبرت بها ولم تصغر.
أخيراً.. إنني أكرر أن التعذيب والإصلاح نقيضان لا يجتمعان، تماماً كطريقي السلامة والندامة، وعلينا أن نحسم موقفنا منهما، بحيث نعرف بوضوح إلي أيهما ننحاز.