لن نكون مخطئين لو تحدثنا عما يمكن أن يكون جغرافيا فلسفية ، هذه الجغرافيا لا تعني فقط التوزيع الجغرافي لللأفكار بين الثقافات المختلفة ، بل تعني أيضا التوزيع الجغرافي للآساليب الفلسفية داخل الثقافة الغربية ، فيمكن توصيف الفلسفة في القارة الأوروبية بأنها فينومينولوجية ، بينما هي تحليلية في العالم الأنجلوساكسوني ، هذا يقودنا للبحث عن معني الظواهرية .
..الظواهرية هي مدرسة فلسفية هدفها الرئيسي هو دراسة ظاهريات أو شكليات التجارب الإنسانية ، مع محاولة عزلها عن حقيقتها الموضوعية أو ارتباطتها الذاتية ، إن الظواهر التي ندرسها هي تلك الخبرات المرتبطة بالأعمال الواعية خاصة المعرفية أو الأفعال الإدراكية ، كذلك تلك الأفعال مثل القيم الجمالية و الأحاسيس ، أي كلا من الخبرات العملية و الحسية معا .
أخذت الظواهرية شكلها الحالي في بداية القرن العشرين على يد ادموند هوسرل Edmund HUSSERL ، سعى هوسرل إلى تطوير أسلوب فلسفي لوصف الظواهر بالتركيز عليها فقط مبرئا من الإفتراضات المسبقة ، حتى تلك المرتبطة بأسبابها الخارجية أو حالتها خارج مدى الفعل الواعي المباشر ، وكان هدفه هو اكتشاف البنى الأساسية للظواهر و علاقاتها ، كذلك الأفعال الواعية التي تتبدى فيها تلك الظواهر ، و أن يقوم بهذا الاكتشاف بأعلى قدر من الأمانة بدون أن تداخله الافتراضات العلمية و الثقافية المسبقة .
في مفهومه الأساسي للظواهرية ، كانت فكرة هوسرل في رفض الافتراضات العلمية المسبقة تصل إلى انكار كل التعليقات السابقة لنظريات المعرفة ، سواء تلك الناتجة عن أنظمة فلسفية أو التفكير العادي ( الاتجاه الطبيعي the natural attitude ) ، و كان هدف هوسرل من هذا التوقيف أو العزل للتعليقات الخارجية هو الوصول إلى جوهر الأشياء أو كما دعاها الأشياء في ذاتها ، بعيدا عن الخيارات سواء للفلسفات المثالية أو الواقعية ، في أعماله الأخيرة توسع هوسرل في طريقته الظواهرية لتعطل ليس فقط الآراء الخارجية بل حتى المعتقدات الخاصة بالوجود الخارجي ذاته للأغراض . هذا التعطيل لكل المراجع الواقعية للشيء الذي يتم تجربته تترك الفيلسوف بدون أي شيء سوى التجربة ذاتها ، و نلاحظ أن الخط الفاصل بين الظواهرية و المثالية قد اهتز بشدة نتيجة أعمال هوسرل الأخيرة ، بالرغم أن هناك فارق بالفعل بين تعطيل الاعتقاد في حقيقة هدف الوعي كما تذهب الظواهرية و بين انكار وجوده كما تذهب المثالية ،.
توسع خلفاء هوسرل كثيرا في استخدام طريقته ، فقد طوع ماكس شيلر الظواهرية في التجارب الدينية والأخلاقية ، أما تلميذه الأشهر هيدجر HEIDEGGER، فانه استخدم طريقة هوسرل في مجال الجزع و الخوف و بالتالي ابتكر ما عرف بعد ذلك بالظواهرية الوجودية existential phenomenology، هناك أيضا الفلاسفة الفرنسيون أمثال جان بول سارتر و موريس ميرلو-بونتي و غيرهما الذين استخدموا الظواهرية في برامجهم الوجودية الخاصة ، الشيء نفسه فعله القيلسوف الألماني الشهير كارل-جاسبرز ، خلال هؤلاء الفلاسفة خاصة جاسبرز أثرت الطريقة الظواهرية على التفكير السيكولوجي خاصة الأوروبي ، كما أثرت على التفكير الديني للتوماسيين الجدد neo-Thomist، هناك أيضا ضرورة للتفرقة بين الظواهرية phenomenology و الظاهرية phenomenalism فالأخيرة تعني أن المعرفة البشرية محصورة في الظواهر ولا تتعداها .
في انتظار التعليقات سيكون لنا تكملة .:redrose:

مقال أكثر من ممتاز ويعد أرضية فرشة للفكرة ويعالجها بشكل مفصل ومقتضب بآن. الحقيقة المقال يثير أكثر من جانب عن ماهية الفينومينولوجيا ومناصريها وما آلت إليه في تطور الفكر الأدبي والديني والفلسفي. أتمنى أن نقف عند نظرة كل واحد من هؤلاء في التقييم الفينومينولوجي لمجاله الخاص به. لفت نظري ذكرك لإسم كارل جاسبرز ومنذ فترة قريبة وأنا مهتم بفلسفته بشكل أخص. أحب أن أضيف مقالات كاملة ولكن أغلبها بالإنكليزية ولا اريد تشويه الموضوع بوجود مقالات غير عربية مما يخل بالسياق العام. ما رأيك؟ شكرا جزيلا على هذه البادرة الجميلة والتي تحفزنا للإنطلاق في مجال آخر ونتوسع فيه. بالمناسبة أقرأ هذه الأيام كتاب تربية سلامة موسى وممتع جدا.

:redrose:

تحية للدكتور . بهجت

عندما سمعت بالفلسفة الظواهرية تحمست كثيراً لها , لأن منهج تفكيري مادي ويعتمد على العلوم الفيزيائية كأساس في بناء كافة المعارف , والفيزياء تعتمد على دراسة الظواهر المادية في بناء المعارف الدقيقة .
ولكن عندما تعرفت عليها جيدا , ووجتها تأخذ منحى فلسفي غير واقعي مادي يمكن دراسته بواسطة العلوم الفيزيائية , فهي لاتهتم بالظواهر المادية الفيزيائية .
وهي لا تستند على عمل الدماغ في بناء المعارف والأفكار والوعي .
فأنا لم أفرق بين الظواهرية والظاهرية في أول الأمر
لذلك فقدت الاهتمام بها عندما تعرفت عليها جيداً.

وفي " رأي " تبقى فلسفة , ونحن بحاجة لعلم واقعي دقيق .

تحياتي

الأستاذ / بهجت

كتبت
( و كان هدف هوسرل من هذا التوقيف أو العزل للتعليقات الخارجية هو الوصول إلى جوهر الأشياء أو كما دعاها الأشياء في ذاتها ، بعيدا عن الخيارات سواء للفلسفات المثالية أو الواقعية



، في أعماله الأخيرة توسع هوسرل في طريقته الظواهرية لتعطل ليس فقط الآراء الخارجية بل حتى المعتقدات الخاصة بالوجود الخارجي ذاته للأغراض)

أرجو أن تلقي بعض الضوء علي الأجزاء الملونة

كوكو

الزملاء الأعزاء (f)
فقط أعتذر عن التأخر في الرد التفصيلي لبضعة أيام لأسباب خاصة طارئة ، و للجميع تقديري ,

اقتباس:  coco   كتب/كتبت  
الأستاذ / بهجت

كتبت
>>>>>>>>>>>>>>>>>>
، و نلاحظ أن الخط الفاصل بين الظواهرية و المثالية قد اهتز بشدة نتيجة أعمال هوسرل الأخيرة ، بالرغم أن هناك فارق بالفعل بين تعطيل الاعتقاد في حقيقة هدف الوعي كما تذهب الظواهرية و بين انكار وجوده كما تذهب المثالية  )

أرجو أن تلقي بعض الضوء علي الأجزاء الملونة  

كوكو

عزيزي .(f).
كما نعرف المثالية Idealism هي مقترب فلسفي يقوم على الاعتقاد بأن كل خبراتنا ذات طبيعة عقلية و ليست مادية ، هذا يعني أننا لا يمكن أن نعرف أو نمارس الأشياء الخارجية ذاتها و كل خبراتنا هي نتيجة المعرفة المباشرة بمكونات العقل ، الفكر المثالي إذا لا يعترف بالوجود الخارجي المستقل للأشياء بل يؤكد أنه لا يوجد سوى العقل و مكوناته ، و أن كل خبراتنا هي مجرد نركيبات من الحقائق العقلية مثل الأفكار و المشاعر و المفاهيم و التصورات و الإرادة لا غير .القلسقة المادية materialism هي نقيض الفلسفة المثالية قي فهم حقيقة الوجود ، فهي ترى أن المادة لها وجود مستقل عن العقل ، لهذا يمكن القول أن الفرق بين المثالية و المادية هو حول طبيعة الوجود هل هو فكر كما يؤكد المثاليون أو مادة كما يذهب الماديون ، عندما نقارن هذه النتيجة بالظواهرية عند هوسرل في أعماله المتأخرة سنجد أنه لا ينكر الوجود الخارجي للأشياء و لكنه يرفض كل المعارف المرتبطة بهذا الوجود المستقل ،ولا يعترف سوى بالمدركات العقلية و الخبرة المرتبطة بالأشياء ، وهذا عمليا هو موقف المثاليين ، أي أن الظواهرية تعترف بالوجود المادي المستقل و لكنها لا ترتب أي نتائج على هذا الاعتراف ، هكذا نجد أن كل من المثالي الذاتي و الفينومينولجي يعتقد أن العقول و تجاربها تشكل الوجود كله ، بينما يختلف عنهما المثالي الموضوعي بأنه يرى أن التفكير أو الخبرة الكونية الشاملة هي التي تشكل الوجود ، و أن العالم مكون من حقائق عقلية مطلقة ،و معظم المثاليين يرون أن العالم الذي ندركه خلال تجاربنا هو ذاته العالم الحقيقي .
تحياتي ..