ملاحظة:
لست متفقة تماماً مع ما سيأتي، لكني - كثيراً- احترم الكاتب المفكر اليمني الكبير الأكثر تواضعاً عبد الباري طاهر.. له تحية (f)
صالح
بن شملان
بين برنامجين وشخصيتين
عبدالباري طاهر- نقلاً عن النداء:
تدخل اليمن طوراً جديداً من تجربتها الديمقراطية، فانتخابات الرئاسة الثانية وانتخابات الحكم المحلي المتكرر مختلفة نوعياً عن الانتخابات السابقة.
الانتخابات السابقة سواء للرئاسة أو المحليات كانت أشبه ما تكون بالسباق بين السهم والسلحفاة عند “زينون الأيلي”. وأذكر في بعض الدورات الانتخابية لمجلس الشورى أن أحد أبناء المشايخ لم يجد من يجرؤ على منافسته، فاضطر إلى تكليف سائقه بالترشيح لمنافسته، فقبل سائقه بالترشيح كمنافس، ولكنه صوت لرب العمل “ابن الشيخ”! كتحايل على قانون الانتخابات الذي يشترط التنافس.
ولا ننسَ أن منافس الرئيس صالح في انتخابات العام 99 كان من حزب الرئيس، وكان في حمى المنافسة يؤكد على سلامة نهج الرئيس وصواب سياساته وإجراءاته.
الانتخابات القادمة منافسة حقيقة بين برنامجين سياسيين ونهجين جد مختلفين وبين شخصيتين متمايزتين وينتميان سياسياً وفكرياً إلى مدرستين متنوعتين، كما أن لكل واحد منهما أنصاره ومحازبيه. لا يمكن إغفال الأشخاص: انتماءاتهم، منابتهم الاجتماعية، ومذاهبهم الاجتماعية الفكرية، وتجربتهم العملية وواقع ممارساتهم. إن التنافس بين الأشخاص -قبل البرامج- في مجتمع متخلف وأمي مسألة بالغة الأهمية. وفي بلد كاليمن تحتل فيه الأمية أكثر من 60% في الرجال، وأكثر من 70% في النساء، وتسوده أمية معرفية طاغية، وروابط مجتمعية تعود إلى ما قبل عصر الدولة- فإن الأشخاص في التنافس يمثلان أولوية. ويكون البرنامج والخطاب السياسي والحزب في مرتبة تالية.
ليس كثيراً على اليمن تجربة التنافس على منصب الرجل الأول، فاليمنيون شديدو الاعتزاز بثناء القرآن الكريم العاطر على قول جدتهم: “يا أيها الملؤ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون” الآية.
صحيح أن التجربة الديمقراطية الحالية تنتمي إلى حقل التجربة الرأسمالية الأوربية أكثر مما تنتمي إلى الشورى الإسلامية ملزمة أو غير ملزمة. وقد عرفت مدينة عدن التجربة اللبرالية في الأربعينيات والخمسينيات وشطراً من الستينيات. وقد رفد المهاجرون اليمنيون والتيارات السياسية المدنية الحديثة التجربة الليبرالية بقدرات وطاقات وإرث خلاق. اللافت أن التجربة التي ولدت في العام 1990م أو استعيدت وتحديداً في الـ22 من مايو، وكانت الإمكانية الوحيدة لقيام دولة ما تزال تنمو وتتطور رغم قطع الحرب الكريهة في صيف94م.
تنافس هذا العام له مذاق مختلف، فالمنافس فيصل بن شملان مرشح ما يشبه ألوان الطيف المجتمعي والسياسي والفكري. فهو مرشح أحزاب اللقاء المشترك: تجمع الإصلاح بجناحيه القبلي، والديني (الإسلام السياسي)، والاشتراكي ذي النفس العلماني واللبرالي، والوحدوي الناصري الاتجاه القومي وهو تجمع فتي وصاعد. ويستند ابن شملان إلى قاعدة عريضة من الطبقة الوسطى التي تتعرض للطرد من حلبة الصراع، وإلى العديد من الفلاحين الذين يرون في سياسة الجرع السعرية خراباً لزراعتهم، وتصحيراً لأرضهم، وجيش من الفقراء والعاطلين عن العمل والآلاف من الطلاب والخريجين الباحثين عن العمل ولقمة العيش الكفاف. ويستند الرئيس صالح، بل يتمسك بحماية الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية، وإلى إنجازات تاريخية لها قيمة كبيرة في الحياة وبالأخص الوحدة والديمقراطية التي وإن لم تكن هبة أو منة إلا أنها قد تحققت كمعطى من معطيات الوحدة برئاسة صالح ومشاركة الحزب الاشتراكي الطرف الثاني في الوحدة. ولايزال لصالح نفوذ شعبي تسنده إدارة الدولة وامتدادها في مختلف مناطق اليمن، وتؤازره قوة الجيش والأمن والمال العام والإعلام.
ويقيناًَ فإن غياب القضاء الكفء والنزيه يعزز فرص صالح إضافةً إلى قصور الوعي وضعف خبرة وأداء المعارضة السياسية التي لا يستبعد أن يكون رهانها على المحليات أكبر من رهانها على الرئاسة.
المهم أن المنافسة الجدية قد بدأت فعلاً وخطوة كهذه لو ابتعدت عن التزييف والعنف ستكون أنموذجاً يقتدى به في عموم المنطقة العربية والعديد من بلدان عالمنا الثالث.
والتسابق نفسه لو تعزز بالنزاهة والشفافية سيكون في جانب مهم محسوباً للرئيس على عبد الله صالح، وسيعيد اليمن حكومةً وشعباً إلى طليعة الديمقراطيات الناشئة التي تبوأتها بجدارة عقب الوحدة. وأياً تكن نتيجة الانتخابات؛ فإنها تفتح أفق المستقبل ويدرك الحاكم أنه ممثل لإرادة الأمة ونائباً عنها وليس مالكاً لها، خصوصاً إذا ما اتسمت المنافسة بالندية والتكافؤ، وقدرة المعارضة على جذب أصوات الغاضبين من فساد الحكم واستبداده على كثرتهم. ويبقى التحدي الحقيقي أمام الحكم والمعارضة على حد سواء هو الابتعاد عن الانزلاق لدوامة المواجهة والعنف وتقديم خطاب تنافس حر وديمقراطي يتسم بقدر عالٍ من المسؤولية والصدق والعقلانية. ولعل أخطر بواكير الحملة قتل رئيس اللجنة الإشرافية في الجوف، والتجاء الرئيس صالح إلى توظيف الدين في المعركة الانتخابية.
إنَّ الدين قاسم أعظم مقدس ومشترك بين الجميع ولا ينبغي اللعب به في معركة الانتخابات، والأخطر من ذلك أدلجته وتسييسه بما يضر بالبلاد والعباد. إنَّ فتنة اللعبة الطائفية شديدة الضرر والخطورة وتجربة العراق الدامية تدلل أن اللعب بهذه الورقة مدمر للجميع، ولن يستفيد منه حتى اللاعبون أنفسهم. ودماء اليمن ما تزال تنزف من جراح حرب 94 وحرب صعدة 2005 والمواجهات شبه المستمرة منذ نهايات حرب 94 بين الدولة والجهاديين. وخطورتها على اليمن وعلاقتها بدول الجوار والعالم وبالأخص أمريكا وأوروبا.
إن التنافس الحر والديمقراطي طريقنا الوحيد للانتصار على الفساد والاستبداد، وإذا ما تمكن شعبنا من حرية الاختيار وأعاد بناء شرعيته باختياره الديمقراطي والحر؛ فإنه بذلك يكون قد وضع أقدامه على أعتاب العصر، وتجنب الوقوع في شراك الأمبراطورية القادمة وتابعتها إسرائيل.