تمضي أيام صالح متشابهةً رتيبةً، لا يدري كيف استسلم للروتين أو متى؟ تقتصرُ أيامُه على عمله وبيتِهِ الهادئ البسيط؛ حين يعود إليه يفتح التلفزيون ويرفعُ صوَته عالياً؛ لا يتابع برنامجاً أو مسلسلاً بعينه، بل ليشعر بالحياةِ. يتساءل: "هل التلفزيون حَيْ؟!". يرتبك كلما اضطرّ لعمل صيانة في منزله: سباكة، كهربة، أو نجارة، يزعجه غسل ملابسه كثيراً ثم إرسالها للمكوجي، وغيرها من الأمور البسيطة؛ التي تشغل باله وتؤرّقه بينما تمر عاديةً بحياة الآخرين دون أن تؤثّر على أيامهم.
تكررتْ في دفتر مذكّراته جملة: "لا بد أن أتغيّر!".
***
كان من عاداته أن يجلس كل مساءٍ في حديقةٍ عامة، يلجأ فيها إلى مقعدٍ خشبي لم يفكّر في استبداله منذ زيارته الأولى، يتأمل كلَّ ما حوله بحيادية، لا يتحدّث إلى أحدٍ كما لا يتحدّث إليه أحدٌ. يحب رائحة العشب، وأشجار السّروِ، يتساءل: "كم صيف وشتاء مرَّا على أغصانها وفروعها، هل تعرف الأشجارُ أسماءَ زارعيها؟ هل تشعرُ بالوحدةِ أم تنشغل بقصصِ من تفيئوا بظلّها؟!"
***
يأخذ حماماً ساخناً استعداداً للنّوم. كان قد تخلّى عن عادته في متابعة التلفزيون، أوالقراءة في السرير، لم تفلح معه حيلة، يتعبهُ الأرق، أقلّ الأمورِ أهميّةً تقدر على حرمانه من النوم فيترك سريره، ويكتب في دفتر مذكراته.
كتب في إحدى اللّيالي: "لماذا لم أنصح سليم أن يراعي صحّته أكثر؟ سمنته الزائدة سببٌ في ارتفاع الكوليسترول والضغط. لماذا حواري مع زملائي لا يتعدى حدود العمل والرسميات؟! ماذا يؤّثر على العمل إن حضرنا بالبيجاما؟ تعيقني البدلة الرسمية عن الحركة".
كتب كثيراً تلك الليلة وختمها بـ: "أيّها اللّيل السهران، لستُ وحدي في هذا العالم!"
***
بينما كان يجلس في الحديقة؛جلستْ امرأة إلى جانبه، فكّر؛ أن أحداً لم يشاركه مقعده من قبل، لم يتبادلا الحديث، غير أنه شعر بأُنسٍ لم يألفه من قبل، حاول أن ينظر إلى وجهها، لا يوجد وجهٌ يعنيه على وجه الخصوص، فالوجوه جميعاً تترك الأثر نفسه في روحه. تكرّر جلوسها بجانبه، لم يسألها عن اسمها كما لم تسأله، قدّم لها قطعةً من الشوكولاته، أعطته منديلاً حين دلق كوبَ قهوةٍ على قميصه، عدا ذلك كانا يلوذان بالصمّت، مكتفيين بعفويّة اللقاء.
كتب في دفتره: " صارتِ المرأةُ الحديقة"
***
كان يدركُ ما تحدثه الوحدة في روحه، يتعاظم إحساسه بالعزلة في عطلة الأسبوع والأعياد. الساعات طويلة، لكن شراء حاجيّات البيت وإعداد الطعام لا يأخذ وقتاً طويلاً. فكّر بالذهاب إلى السينما، تمنّى دعوة امرأة الحديقة، لكنه لم يعد يراها.
كتب في دفتره: " كيف تكون الحياة بأيامٍ متشابهة، وهل يحيا من يخاف حياةً جديدة؟!"
***
احتار كيف يحتفي بنفسه. تذكّر عيدَ ميلاده الثامن. كان طفلاً مليئاً بالنشاط، فرحاً بالزينة معلقة في أرجاء البيت، قالب الكعك والشمعات الثمانية فوقه، طرابيش كرتونية ومزامير. بدا له الزمن قريباً، حنوناً، جميلاً، مُحاطاً بوالديه وأخوته وأطفال آخرين لا يذكر أسماءهم.
كتب في دفتره: "أحقاً كان عيد ميلادي رائعاً؟ أم أن شَرَك الحنين إلى الماضي يورّط صاحبه؟!"
***
اشترى سجّادةً جديدةً لغرفة المعيشة. أجهد جسده بتنظيف المنزل. زيّن الغرفة، اشترى قالب كعك، واسطوانة موسيقى برتمٍ سريعٍ، وشمعات معطّرة. استبدل دفتر مذكراته بدفترٍ جديدٍ، ليبدأ حياةً مختلفة. كتب في أول صفحةٍ: "لن أكتب الليلة، سأحتفل دون كتابة!"
أخذ حمّامه المعتاد، أضاء الشمعات. غلبه بالنعاس فنام. أيقظته أشعة الشمس، نظر حوله؛ كانت الشمعات قد انطفأت، لمح الزينة وقالب الحلوى والدفتر الجديد؛ كُلّ تلك التحضيرات تؤكّد أنّه احتفى بنفسه جيّداً ليلة البارحة. نهضَ فرحاً على غير عادته، ثُمّ ذهب إلى عمله الذي يكثر فيه المتعبون المطحونون...
26/12/2008
الجمعة