النمو
النمو
إن نمو البنيات أو ضمورها يشمل كافة أنواع ومستويات البنيات وله خصائصه وعناصره وآلياته الأساسية .
فهناك نمو النبات ونمو الحيوان , ونمو المدن , ونمو الرأسمال , ونمو السكان , ونمو المعارف ...الخ ,
والنمو يمكن أن يكون موجباً- زيادة وتوسع- ويمكن أن يكون سالباً- تناقص و ضمور .
والتطور نوع من النمو وهو نمو في التعقيد , ولكل نمو خصائصه وآلياته.
هناك خصائص أساسية لكل أشكال النمو, وهناك حدود لكل نمو ولا يمكن أن يستمر أي نمو إلى ما لانهاية . لكل نمو حدود إذا تم تجاوزها يحدث تفكك أو انقسام, وكل نمو تابع لخصائص عناصره وآليات تفاعل هذه العناصر.
ولكل نمو زمن معين يستغرقه , ولا يمكن اختصار هذا الزمن إلا بنسبة محدودة , ولا يمكن حدوث نمو دون عناصر وقوى محركة.
ويعتمد النمو بشكل أساسي على السيالات - أي التغذية- وعلى الخزانات لتجميع السيالات التي تحدث النمو, والنمو يحتاج إلى قوى محركة - قوى لضخ السيالات - وكذلك يحتاج لآليات تنظم التحكم بالنمو واستمراره, فعناصر نمو أي بنية هي:
1ً – وجود سيالات المواد أو البنيات اللازمة للنمو
2ً – وجود حافظ أو خزان يحدث النمو فيه
3 –وجود آليات- أنظمة- وقوى محركة لتحريك وتنظيم المواد والتفاعلات الجارية ضمن البنية, وهضم وتمثل المواد أو البنيات التي تضاف للبنية- تمثل وهضم ما يتم تناوله-
4 –وجود تبادل تأثير مع الوسط الخارجي – اتصالات- واستمداد المواد والقوى اللازمة للنمو من هذا الوسط
إن لكل بنية مهما كانت بداية - أي ولادة - أو نشوء ثم فترة نمو وتطور- عمر- ثم ضمور أو تفكك واضمحلال- أي موت-
أن ثالوث الولادة والنمو والموت يشمل كافة بنيات الوجود فهناك
أولاً ولادة أو تشكل البنية , ثم نموها وتطورها الذي يتضمن التغيرات أثناء النمو, ثم في النهاية الضمور أو التفكك والموت.
وللنمو أنواع ومستويات متعددة , فهناك النمو الكمي والنمو الكيفي أو النوعي , والنمو في المكان والنمو في الزمان .
ويجب أن نميز بين النمو من جهة وتشكل البنيات من جهة أخرى, فمفهوم النمو يتضمن المحافظة- ضمن حدود معينة-على البنية وخصائصها, وعندما يحدث تغير للبنية أثناء النمو ضمن هذه الحدود نقول أنه يحدث تطور وبالتالي تغير لهذه البنية , والتطور المستمر وإن كان متدرجاً وبسيطاً يؤدي إلى تشكل بنيات جديدة ومختلفة عن البنيات الأساسية وإن كانت استمراراً لها, فالبنيات الجديدة تتكون بطريقتين: إما نتيجة تفاعل و مشاركة بين بنيات معينة , أو نتيجة التطور الكبير للبنية ذاتها, ويمكن أن تتكون نتيجة الطريقتين معاً أي تطوراً ومشاركة معاً.
إن نمو أي بنية يكون نتيجة عناصر وقوى وتفاعل بنيات مع بعضها, فعناصر وقوى النمو لأية بنية تؤثر على البنيات المجاورة لها وكذلك على البنيات الداخلية لهذه البنية.
فعناصر وقوى نمو الرأسمال أو نمو مؤسسات الدولة أو نمو الأسرة.... مثلاً تؤثر على الكثير من البنيات الأخرى , فنمو بنية ما قد يجرف معه ويدمر الكثير من البنيات الأخرى .
السيالات الخزانات والبوابات وطرق النقل وعلاقتها بالنمو.
إذا أردنا نقل أو تمرير سائل أو غاز أو أية كمية من المواد من مكان إلى آخر, فإن هذا النقل يكون تابعاً لخصائص هذه المواد وكميتها, وتابعاً لخصائص وسائل ووسائل النقل, وخصائص البنية المنقول منها وظروفها وأوضاعها والبنية المنقول, إليها بالإضافة إلى العناصر الموجودة المؤثرة وقواها, فيمكن مثلاً أن يحدث ارتداد أو انسداد لحركة النقل, أو أن يمتلئ المكان أو الخزان المنقول إليه أو تتغير خصائصه, ويمكن أن يفرغ الخزان المنقول منه أي تنتهي كمية المواد المنقولة, ويمكن أن يحدث ما يعيق النقل.
وكما ذكرنا إن خصائص حركة السيالات أو البنيات هذه, أو نموها تحدث في المجال الفيزيائي و الحيوي و الاجتماعي و الاقتصادي وحتى الفكري بطرق واحدة.
هناك أمثلة كثيرة وواضحة في المجال الفيزيائي- السيالات الغازية والمائية و الصلبة والكهربائية- .
مثال : نجم أو كوكب كبير يجذب- أو يبتلع- كل مادة تقترب منه,إن له بوابة دخول واسعة وقدرة هائلة على الابتلاع,
هل يستمر إلى ما لا نهاية بابتلاع المواد ؟ طبعاً لا.
يمكن أن يقترب منه كوكب أو نجم ويتجاذبان - يحاول كل واحد ابتلاع الآخر- فيتصادمان ويمكن أن ينفجر أحدوهما أو كلاهم.
ويمكن أن يستمر نمو النجم إلى أن يصل إلى عتبة حدية معينة تابعة لخصائص النجم والعناصر المكون منها, فيحدث خلل في تماسكه نتيجة نشؤ قوى جديدة- قوى التحام نووي جديدة- تكون أكبر من قوى التماسك الناتجة عن قوى الجاذبية , وعندها يحدث انفجار جزئي أو كلي يفتت هذا النجم.
لنأخذ مثالاً لكائن حي
ليكن لدينا أحد الحيوانات- هر- مثلاً وأردنا تمرير الطعام إلى معدته عبر فمه, يجب أولاً أن يكون في حالة جوع- أي هناك قوى تعمل على القيام بالعملية- وأن يكون الهر قادراً علي تناول الطعام, فإذا رمينا له الطعام ببطء فسوف يلتهمه بسرعة ودون ضياع شيء منه , وإذا استمرينا بإلقاء الطعام له فسوف يستمر بالتهامه حتى يصل إلى الاكتفاء والشعور بالشبع وعندها يتوقف عن تناول ما يلقى إليه ويتراكم الطعام وتتوقف عملية نقل الطعام لمعدته , ولا يمكن أن تعود إلا بعد هضم الطعام الذي تم تناوله , وإحساسه بالجوع مرة أخرى .
مثال آخر:
أغلب الناس إن لم يكن جميعهم يجمعون النقود , ويمكنهم جمع أية كمية تتاح لهم, ولا تتوقف عملية الجمع طالما كان الإنسان حياً وقادراً, ولكن ليس إلى ما لا نهاية فمصادر النقود محدودة وهناك جذب لها من باقي الناس-الصراع والتنافس عليها- , ويمكن أن تؤخذ بدل من أن تجمع , ونتيجة لذلك يحدث تجمع وتراكم لهذه النقود لدى لأفراد والجماعات حسب الأوضاع والقوى العاملة, فتتجمع وتتشتت لدى الأفراد والجماعات, أي يكون دوماً هناك ما يشبه الخزانات الصغيرة والكبيرة تملأ وتفرغ باستمرار, وتتشكل أيضاً خزانات جديدة وتلغى خزانات قديمة, وذلك حسب عناصر وآليات معقدة كثيرة
مثال آخر:
الحيوانات أثناء تطورها ونموها كأفراد وكأنواع تخضع لعناصر وآليات النمو, فالنمو لأي منها لن يستمر إلى ما لا نهاية لأن العناصر والظروف والآليات محددة ولا تسمح بنمو مستمر, لنأخذ نمو الذئاب والأرانب والحشائش معاً , هناك نمو متغير لكل منها, ولكنه مرتبط بنمو الأخيرين.
النمو والنضوج
إن الكثير من أشكال نمو البنيات يمكن أن تكون على شكل نضوج أي وصول إلى مرحلة معينة مستقرة للبنية , وتكون على الأغلب هي ذروة النمو, وتتم في هذه المرحلة التغيرات الأساسية التي تنتج عن النمو, وغالباً يعقب هذه المرحلة بعد زمن قصير أو طويل التقهقر والانحلال والتفكك, وهذا ليس دائماً , فيمكن أن يحدث تطور ملائم يؤدي إلى مراحل نضوج جديد وبالتالي استمرار بقاء البنية ولكن بشكلها الأكثر تطوراً وبالتالي أكثر تكيفاً مع الأوضاع , وهذا يسميه البعض الارتقاء .
والنضوج يعني أيضاً تشكل ونمو البنيات التحتية اللازم والضروري التي تكسب البنية خصائصها الأساسية, فبناء حاملة طائرات لا يمكن أن تقوم به أية دولة فلابد من أن تكون الكثير من البنيات التحتية الاقتصادية والصناعية والعلمية قد نمت -ونضجت لديها بشكل مناسب وكافي .
وهذا كما قلنا يحصل لكافة أنواع البنيات المادية أو الحية أو الفكرية أو الاجتماعية أو الصناعية أو الاقتصادية.
الجمع والتملك والنمو بالنسبة لنا
إن ظاهرة جمع المال , التحف, الحلي والذهب, الطوابع أو التحف, تملك الأراضي , جمع المعلومات والأفكار, و الحسنات..... الخ موجودة لدى غالبية الناس, ويمارسونها برغبة وهوس شديد, وهم يشعرون بسعادة ولذة كلما جمعوا وازداد ما جمعوا, فهم غالباً يولون هذا الجمع الأولوية, وهو يستغرق ويشمل أغلب دوافعهم وتوجهاتهم في الحياة, ويطغى على باقي مناحي حياتهم, وهم يرون الحياة بمنظار هذه الرغبة الشديدة في الجمع والتملك, ولا يرتوون ولا يشبعون أبداً.
إن وجود هذه الظاهرة وانتشارها الكبير, واستمرار وجودها لدى البشر, يوجب إن يكون لها دور ووظيفة حيوية واجتماعية هامة.
ونحن نلاحظ ظاهرة الجمع لدى الكثير من الأحياء, فالنمل والنحل والكثير من القوارض وبعض المفترسات تقوم بالجمع, فالتركيز على جمع مادة أو مواد هامة وأساسية لحياة الكائن الحي , موجود لدى الكثير من أنواع الكائنات الحية, وهي تكون مبرمجة وراثياً على ذلك .
ولكن وجودها لدى الإنسان يأخذ وضعاً مختلفاً, فأحياناً لا تكون المادة التي تجمع لها دوراً ضرورياً أو حيوياً, ومع ذلك يسيطر دافع التملك على الإنسان ويوجهه نحو جمع هذه المادة وتملكها , ربما يكون لها دور اجتماعي أو نفسي أو فكري- مكتسب- وهنا ينتج الاختلاف عن باقي الكائنات الحية .
وظاهرة التفوق, والإنجاز الأكبر, أو الأفضل, هي نوع من الجمع(وتهدف إلى رفع المكانة), فالسعي إلى التفوق في القوة الجسمية أو في المهارات الجسمية أو العقلية- كافة أشكال الرياضة والمهارات العملية والعقلية والاجتماعية- يشمل مناحي واسعة جداً- المعرفي والعلمي والفني والأدبي....- .
هذا النوع من الجمع أو التملك والنمو لعدد كبير من المهارات أو القوى أو المعارف , يظهر دور ووظيفة دافع الجمع والتملك الهام والضروري للفرد والجماعة. ودافع الجمع والتملك هو أيضاَ_ كما نشاهد_ مولداً للتنافس والصراع .
نواتج دوافع التملك والنمو
ملكي, لي, ملكتها, حصلت عليها, حققتها, أوجدتها, بنيتها..... كلها تتضمن الحصول على شيء وضمه لبنية الفرد , وكذلك السيطرة على شيء والتحكم في شيء والتصرف به, مثل التحكم بالمال أو غيره وتوظيفه في خدمة بنية الفرد, هو نوع من التملك, وكذلك الوصول للمركز الاجتماعي أو السياسي... هو يهدف للتوسع في تحكم بالخيارات لخدمة البنية المتحكمة .
وامتلاك الأشياء ,أو المال ,أو القدرات , أو المكانة.... من قبل إنسان ما هو توسع أو نمو له, فمجال ومقدار تأثير هذا الإنسان يكبر ويزداد(ينمو), وهذا يعني أن هناك بنيات أو قوى انضمت إليه.
ويمكن أن نقول أنه تكون إنسان مختلف عن السابق نتيجة هذا النمو.
إن تملكي شيئاً - أي أن يصبح لي - يعني أن يتصل بي أو ينضم إلي ويصبح جزءاً مني, وبالتالي يصبح علي المحافظة عليه ورعايته وحمايته لأنه أصبح جزءاً مني, وإذا حدث ضرر له أو فقدته فإن هذا يشعرني بأنني فقدت جزءً من ذاتي , وهذا يؤلم أو يحزن مثال : ملك عندما يفقد جزءاً من بلاده يشعر كأن جزءاً منه قد فقد أو انتزع.
ودافع التملك القوي لدى الإنسان يجعله أحياناً يضم إليه أو يربط به أشياء ليست ضرورية له أو هو ليس بحاجة إليها. فالإنسان خلال حياته يسعى بكل قواه وقدراته إلى تنمية بنيته بواسطة التملك والسيطرة, فهو كما ذكرنا مبرمج على ذلك غريزياً وفكرياً واجتماعياً, فكل الناس تسعى للتملك سواء كان مادياً أو معنوياً - نفسي فكري اجتماعي- , وهذا نتيجة دوافع مغروزة فيهم .
إذاً التملك هو توسيع لبنية الإنسان, ونحن نسعى للتملك بدوافع غريزية من أجل توسيع خياراتنا وإمكانياتنا والاحتياط للظروف السيئة أو الضارة , وجعل الخيار البديل متوفر لدينا دوماً.
والتملك دون معرفة وتبصر يجعل الإنسان يربط - أو يضم- ببنيته أشياء ليس بحاجة إليها, أو هي ضارة وقد تعيق نموه , ويكون في الوقت نفسه ملزماً بالمحافظة عليها.
والمعارف والأحكام الدقيقة تخفف كثيراً من سعينا للتملك غير المجدي أو الضار.
مثال: شخص حقق نمواً وتملك الكثير من المال الذي مكنه من امتلاك بضعة سيارات ومنازل فاخرة بالإضافة إلى امتلاك الكثير من المواد الاستهلاكية الفاخرة, إنه سوف يتفاخر بنجاحه وتفوقه وقدرته على التملك وسوف يحصل على اللذة والسعادة, وسوف تتسع دائرة نفوذه وتحكمه, ولكن سوف يفرض عليه المحافظة على ما يملك , وسوف يتعرض للغيرة والحسد والكراهية أحياناً , وكذلك سوف يتعرض لضغوط أخرى من قبل البقية, فالأفراد المنتمون إليها أصدقاءه وأقرباءه سوف يفرحون بنجاحه, ولكن سوف يطالبون بجزء من هذا النجاح, وبالتالي سوف تترتب عليه التزامات وضغوط , أما أعداؤه ومنافسوه فسوف يحسدونه ويكرهونه ويسعون لإعاقته والإضرار به, أي أن هذا الشخص سوف يتعرض إلى ضغوط من قبل الجميع نتيجة نموه وتملكه الزائد, وكذلك يحقق بنموه الزائد السلطة والأتباع ولذة المكانة العالية.
ونحن نشاهد أنه كلما زاد النمو والتوسع زادت صعوبة المحافظة عليه, وزادت كلفة هذه المحافظة, وكذلك زاد الهدر والضياع, وهذا يشبه زيادة الضغط في الغازات أو السوائل الناتج عن نموها حجماً وكماً, الذي يؤدي لزيادة صعوبة المحافظة عليه, بالإضافة إلى زيادة التسرب والهدر.
إن التركيز على النمو والتملك وزيادته دون حدود هو ليس فقط نتيجة دوافع الفرد الذاتية, بل هو أيضاُ من دوافع بنية المجتمع الأساسية, إن بنية المجتمعات البشرية بشكل عام تشجع النمو والتملك الفردي لأهميتها في نمو وتطور المجتمع ككل .
وهذا ما أعطى الضوء الأخضر للعمل والنمو والتملك الفردي, فالفرد يجمع ويبني بأقصى طاقته عندما يعمل لذاته , ولكن يظل المرجع النهائي لما تملك وجمع يعود لبنية المجتمع لأنه سوف يموت ويبقى ما جمع للمجتمع.
النمو والأحاسيس
تتميز أغلب الكائنات الحية وبالذات نحن البشر عن باقي بنيات الوجود بالأحاسيس والمشاعر , والإنسان يمتاز أيضاً بالوعي والإدراك المتطور, ونحن ( كأفراد ) نعتبر أن هذه الأحاسيس والمشاعر والوعي هي المرجع الأول والأساسي لوجودنا, فكل ما هو غير مدرك أو محسوس لا يكون موجوداً بالنسبة لنا- كأفراد- .
وقد بدأنا في الفترة الأخيرة نطور أحكامنا و تقييمنا لأنفسنا و باقي بنيات الوجود ونتجاوز مرجعنا الأساسي- الأحاسيس والمشاعر- , فقد كانت أغلب العقائد والأديان والنظم والعادات الاجتماعية والثقافات تقيم كل شيء في الوجود من خلال وبالاعتماد على الأحاسيس والمشاعر بشكل أساسي, وقد تم تجاوز هذا فمثلاً الدين الإسلامي بالذات اهتم بالتنظيمات والتشريعات الاجتماعية والاقتصادية... بالإضافة إلى المشاعر والأحاسيس الذاتية, وكذلك تهتم بعض الجماعات- السلام الأخضر مثلاً- بكافة البنيات الحية وبنيات البيئة الأرضية, والحفاظ عليها وعلى استمرارها وبغض النظر عن اللذة والألم والأحاسيس.
وكذلك أصبحت التشريعات الدستورية والقانونية لكافة الدول تركز على أحكام وتقييمات ليست تابعة للأحاسيس الذاتية الفردية بل تراعي العناصر والتأثيرات والتفاعلات الموضوعية الواقعية للبنيات الاجتماعية ككل, وتهدف إلى نموها واستمرارها.
إن الكثير من الأحاسيس والعواطف والانفعالات التي كانت مرجع الأحكام والتقييمات في المجتمع, لم يعد لها هذا التأثير الهام مثل الانتقام والأخذ بالثأر والحقد ....الخ, فالمجرم الآن لا يعاقب بدافع الحقد والانتقام أو بدافع غيرة ناتج عن شعور أو انفعال, بل يعاقب من أجل ردع الآخرين, ومن أجل حماية المجتمع- الحق العام-, وكذلك من أجل إصلاحه وتقويمه, ونحن نشاهد في الأزمات والحروب أن الأحاسيس الذاتية يتم السيطرة عليها ويتم تجاوزها, فنجد التضحيات الفردية وتحمل الآلام والمعانات , فالدوافع الذاتية الاجتماعية تفرض قواها وتأثيراتها.
وقد وجدنا الفلسفة الوجودية تضخم الأحاسيس والأفكار الذاتية , وتجعلها المرجع الوحيد والأساسي وتهمل وتتجاهل كل ما عداها , فهي جعلت البنية الفردية الذاتية هي المرجع الوحيد وأنها أساس كل الوجود وتجاهلت باقي بنيات الوجود, فالتضحية بالذات, أو الانتماء لبنية أخرى غير وارد في هذه الفلسفة, لذلك لم تعش إلا لفترة قصيرة فقد قاومتها بنية المجتمع.
السعي للنمو من أول مسببات الصراع
إن السعي لتحقيق النمو المادي أو المعنوي يولد التنافس والصراع, وهو يأخذ حيزاً واسعاً من أعمال واهتمامات كافة الناس, وهذا التنافس والصراع على النمو هو أيضاً المحرك الأول لنمو المعارف والعلوم والتكنولوجيا..., وهو الأساس لتشكل ونمو الكثير من البنيات الاجتماعية.
وإن التنافس والصراع على المراكز الاجتماعية والسياسية- المكانة- هو من أول الوسائل المستخدمة لتحقيق النمو المادي , فالهدف الأول من الوصول إلى المراكز المتقدمة هو تأمين النمو المادي.
وقد أصبح الوصول للمراكز الاجتماعية المتقدمة- المكانة- لدى بعض الناس هو الهدف الأول ولم يعد النمو المادي هو الهدف, وفي هذه الحالة يكون الدافع والهدف هو الأحاسيس والمشاعر الناتجة عن تحقيق الوصول للمكانة العالية.
وكذلك تصبح الأحاسيس الناتجة عن تحقيق النمو المادي أو غيره هي الهدف الأول لدى بعض الناس , أي يصبح طلب الأحاسيس المرغوبة هو الأساس , وهذا يعود إلى طبيعة وخصائص الجهاز العصبي وكذلك للتربية والعلاقات الاجتماعية. فالأحاسيس والمشاعر تعود وتصبح هي المتحكم الأول لدى غالبية الناس.
وفي المقابل هناك القلائل الذين يسعون للواجب والمفيد الجماعي والذاتي ويطبقون الأنظمة والقوانين والواجبات والأخلاق بالدرجة الأولى, فأهدافهم ودوافعهم وتصرفاتهم ليست ذاتية فردية, إنهم منتمون بقوة إلى بنيات اجتماعية أو فكرية أو عقائدية وهي التي تحدد أحكامهم ومراجع قيمهم وبالتالي تصرفاتهم.
نمو البنيات الزائد وتأثيراته
يحدث أن يستمر نمو بعض البنيات بقوة وبقدر كبير ولفترات طويلة, فيحدث نمو مفرط زائد تكون له تأثيراته على باقي البنيات المجاورة , وكذلك يمكن أن يحدث نمو زائد في بعض المجالات لإحدى البنيات أو الأفراد أو الجماعات أو الأنواع , وبالنسبة لنا نحن البشر يمكن أن تنمو بعض قدرات أو ممتلكات فرد أو جماعة نتيجة ظروف داخلية أو خارجية مناسبة , إلى درجة كبيرة, وهذا يؤدي لحدوث تأثيرات على باقي الأفراد والجماعات المجاورة. فالإنسان أصبح الآن يملك قدرات ودوافع كثيرة لكي يسعى ويحقق النمو المفرط في بعض المجالات, وهذا نشأ نتيجة التنافس والصراع المستمر بين الأفراد ومع الظروف, فالأكثر قوة والأكثر ذكاء أوتوالداً أو تملكاً أو مكانة أو سلطة....غالباً ما يكون هو الفائز وهو الذي يورث خصائصه.
فزيادة الطلب على النمو وخاصة التملك المالي والعيني والحصول على المكانة العالية والسلطة الكبيرة الواسعة , وباستخدام كافة الوسائل المتاحة سواء كانت مادية أو فكرية أو اجتماعية, يشمل كل البشر وإن كان بدرجات متفاوتة. ونحن نشاهد كيف يسعى البعض للحصول على المال والممتلكات والمكانة بشتى الطرق وباستعمال كافة ألإمكانيات المتاحة, إنهم يشبهون البالوعة التي تجذب وتبتلع كل سائل يقترب منها إنهم يبتلعون الأموال والممتلكات والنفوذ... ويهضمونها وينمون نتيجة لذلك في القوة والمكانة والسيطرة التي بدورها تسمح لهم بدورها بزيادة قدرتهم على الابتلاع والنمو, وهذا يجعلهم ينمون إلى درجة كبيرة جداً, فالإسكندر , وهتلر, وملوك الصناعة , وملوك التجارة والمال الكبار...... هم من هؤلاء, وقد كان تأثيرهم كبيراً. وقد ذكرنا تأثير الأقوياء على خلق وفرض الانتماءات ,
|