لو عشت عمراً بعد عمري.. وكان لي أن أتمنى.. لتمنيت أن أكتب ما كتب أدناه.. (f)
امرأة للشعراء
وردة حمراء
وردة حمراء
وردة حمراء
أخذني من يدي إلى الحديقة
و في الظلام ركز وردة حمراء
في جدائل شعري المائس
بعدها
ضاجعني فوق بتائل الورد.
أيتها اليمامات المهيضة الجناح
أيتها الأشجار الساذجة العقيمة
و النوافذ العمياء
الآن
تنمو وردة حمراء في عمق أحشائي
كلطخة دم
أنا حبلى
حبلى
حبلى.
هذه قصيدة لفروغ فرخ زاده.
شاعرة من إيران. في 1967 (سنة ميلادي) أنهت حياتها عن 32 سنة.
كلماتها، هذه، الطالعة من الماضي، صرخة فرح بالحبل قادرة، كلما أقراها، على ضخ دم الشهوة في عروقي.
أيتها اليمامات، من قال إنك حرة؟ هل أنت حرة لمجرد أنك ترفرفين، بجناحين، في الهواء؟ حرية تافهة. جاهزة و ممنوحة لك بمجانية. هبة من الله. لم تكافحي لأجلها و لم تختاريها. يا مجبرة على الحرية، يا مكسورة الجناح. جربي مرة ان تكوني حرة هنا على الأرض. سيصطادونك. جربي، يا محرومة من الحبل، أن تحبلي. ستصيرين ثقيلة و تسقطين، ميتة، من السماء.
و أنت ايتها الاشجار. أنت حرة لأن شعرك يطير، على راحته، في الريح؟
إنك عاجزة عن أن تتحركي خطوة. عاجزة عن أن تنامي مثلي، على الأرض، و تفتحي فرعيك. يا خضراء، يا ساذجة، يا عقيمة. أية لذة في مضاجعة تتم، بالمراسلة، عبر الفراشات؟ أية ولادة هذه من دون دم و لا صرخات و لا مخاض؟
أنت أيضًا ايتها النوافذ. لا تستطيعين، دون عون، أن تفتحي ضلفتيك، مثلما أملك أنا حرية فتح ساقيّ. لا يدخلك رجل، و لا ينزل منك طفل. لا يدخلك و لا يخرج منك سوى الهواء.
جسد فرح بنفسه لهذا الحد، لم يكن ينتظر ليموت ميتة ناشفة. صاحبته ضاجعت الموت. حضنت شاحنة في احد ايام الخريف. قدمته وليمة لحم ساخن. مخروط، في صلصة من دم، على كفن (لا.لا. على طبق) من قماش أبيض لتأكله الأرض.
ثم ماذا؟
ثم يجيء الربيع
و تنبت الأرض
وردة حمراء
وردة حمراء
وردة حمراء
أخذني من يدي إلى الحديقة
و في الظلام ركز وردة حمراء
في جدائل شعري المائس
بعدها
ضاجعني فوق بتائل الورد.
أيتها اليمامات المهيضة الجناح
أيتها الأشجار الساذجة العقيمة
و النوافذ العمياء
الآن
تنمو وردة حمراء في عمق أحشائي
كلطخة دم
أنا حبلى
حبلى
حبلى.
أخت لهم
عاشت اليونانية كاراميتسا في الإسكندرية حوالي 20 عامًا. من أوائل الاربعينات إلى أوائل الستينات. حين اضطرت إلى الرحيل، كانت مصر قد افسدت حياتها تمامًا. سكنتها إلى الأبد. حرمتها، باستبداد معشوق، من أن ترى أماكن أخرى و ناسًا آخرين. "مصر تعذبني"، هكذا كانت تقول. ليلة الرحيل خرجت، في الفجر، لتودع شوارع إسكندرية، و منحتها دموعها الساخنة هدية أخيرة.
لكن ما الذي وجدته كيتي بابازاكي كاراميتسا هذه في الإسكندرية، بعد القاتل الذي اسمه كفافيس، لتكتبه؟ ماذا ترك لها بعد أن كرس نفسه شاعرها، و شارب روحها، و عارف دروبها، و أمين سر تواريخها و خباياها؟
وجدت ثغرة هائلة جدًا، و منسية جدًا.
في زحمة انشغال كفافيس بإحياء الموتى، كان قد نسي الحياة.
كاراميتسا كتبت الناس. كتبت اسكندرية الحية، لا اسكندرية الميتة. بحب حقيقي. حي و حار. لا عين سائحة، و لا صرعة فولكلور.
عن أي ناس كتبت كاراميتسا؟
عن "عزيزة" التي تبدو، بثوبها الأسود، المنفوخ بالهواء، كطائر مهيب. "امينة" حافية القدمين التي يقبّلها النيل حين يظهر وجهها على مياهه. عن "حسن" و "محمد" و "سليم" (وراءهم "نجية") الواقفين في صلاة المغرب و هي، كاراميتسا، قريبة منهم تردد معهم بنبضات قلبها، لا حركات جسمها: "لا إله إلا الله".
هذه واحدة من قصائدها:
رمضان
النيل هذه الليلة
يتوضأ بضوء القمر
رمضان نعسان
في قارب مربوط للشاطئ
قدماه حافيتان
و جلبابه الأبيض يعلوه التراب.
يرى في الحلم أنه امتلك قصرًا
زوجته تتحرك فرحانة
بين غرفه الكثيرة
ابتسامة جميلة على وجهها
و شعرها ينساب على كتفيها
و ودعت ملابسها الفقيرة إلى الأبد.
إبقَ نائمًا يا رمضان
ليطول حلمك العذب
و تنسى حياتك المرة
في انتظارك غدًا
يوم عمل لا يرحم.
إبقَ نائمًا يا رمضان يا حبيبي
جلبابك وسخ
لكن قلبك ناصع البياض.
.. و أم
حين أعلنوا نبأ فوزها بجائزة "نوبل"، كانت فيسوافا شيمبورسكا تؤنب نفسها في المطبخ، لأنها أحرقت فطيرة العشاء. أحد الشعراء قال: "أعطوا الجائزة لشيمبورسكا؟ إنها صارت أرخص من أن نتنافس عليها".
هي كانت في بيتها النائي عن الأضواء، باستثناء ضوء الشمس، خجلة قليلاً من كونها شاعرة. تحسد الفلاسفة لأنهم في وضع افضل، إذ يتغلبون على سخرية الناس منهم بواسطة تزيين عملهم بلقب علمي. يقولون: "بروفيسور في الفلسفة".. ذلك يبدو أدعى إلى احترام أكثر.
ربنا يطول في عمرك يا فيسوافا شيمبورسكا.
أحيانًا و أنا أتذكرها آخذ شهيقًا بعمق، ربما تكون الريح حملت نسمة من زفيرها إلى هنا، من بولندا.
أحب لها قصيدة تقول فيها:
"فلتسامحيني، ايتها الحروب الماضية، لأنني أحمل الزهور لبيتي.
أعتذر للمسافرين في محطات القطار، على نومي الهادئ في الخامسة صباحًا.
إغفروا لي، لأنني في تلك الصحاري لا أعدو بمعلقة ماء.
أعتذر للشجرة المقطوعة، التي أصبحت مائدة بأربعة أقدام".
لكنني لا أملّ أبدًا من قصيدة لها اسمها "مزمور":
"أوه، كم هي غير محكمة حدود الدول البشرية!
كم غيمة، بلا رادع، فوقها تجري.
كم رملاً صحراويًا ينهال من بلد لآخر.
كم حجرًا جبليًا يتدحرج في ممتلكات غريبة
بقفزات مستفزة".
أتذكر هذه الكلمات و أنا أتأمل صورتين لطفلين من كوريا بعد أن شطروها نصفين. نصف يأكل الموتى، و نصف يرمي القمح في البحر. أتأمل الطفلين، واحد يطفح صحة، و واحد يمكننا عدّ ضلوعه.
ما هذا الذي يفعله الناس بأنفسهم؟
كان الأطفال في كل كوريا متشابهين. كأنهم توائم من بطن أم واحدة بل إنه، أنا واثق، أن كل أم تتعرف، بصعوبة، على ابنها الحقيقي.
لنتصور معًا أن أمًا في كوريا الجنوبية تجلس على كرسي في حديقة، تطرز ثوبًا و طفلها يلعب بجانبها. و لنتصور أن أمًا في كوريا الشمالية تفتش عن لقمة في مزبلة، و طفلها يشد فيه الموت.
لو أن الطفل غافل أمه، و هي مستغرقة في التطريز، و تسلل من فتحة في السور، و لو ان الآخر زحف، حين نامت أمه من التعب، إلى الجهة المقابلة، فإن أمًا منهما، حين تفيق، ستخر على ركبتيها و تشكر الله، بينما الأخرى سيغمى عليها من الرعب.
http://www.geocities.com/emadabusaleh/emad6.html