اقتباس: العلماني كتب/كتبت
:rose:
صحيح يا روزا : من هو "يوسف درويش" (على الصعيد التنظيري والثقافي)؟ هل كتب شيئاً ما مثلاً؟
واسلمي لي
العلماني
يوسف درويش..
ستة عقود من الشجاعة والمضي قدماً:
معركة ضد الظلم
تقديم فايزة راضي
التقيت به في أوائل الخريف، في شقة هادئة عند ناصية شارع يسوده هدوء خادع، سرعان ما تطغى عليه فوضى متطفلة بين الحين والآخر·
شقة يوسف درويش البالغ من العمر 91 عاماً شقة متقشفة ذات أثاث متواضع، تشير إلى كونها ورشة عمل أكثر مما هي مكان للسكن، ومازال الرجل على قدر من الأناقة ورقة الصوت، مرحباً ودافئاً يجعلك تشعر وكأنك في بيتك، ولكن على رغم هذه البساطة من الصعب ألا يشعر الإنسان بالتهيب أمام رجل ساعدت مساهمته في الحركة العمالية على تشكيل وتحديد مسار تاريخ النضال العمالي المصري·
يوسف درويش المحامي والمنظم الشيوعي يمتد سجله البارز على ستة عقود من الزمن، ولايزال التزامه متماسكا في مواجهة كل المتاعب، لقد دفع هو والكثير من رفاقه ثمنا باهظاً لجرأة أن يكون شيوعيا في مصر· لقد تعرض في الأربعينات والخمسينات والستينات والسبعينات للسجن بين فترة وأخرى، والتهمة هي الانتماء إلى تنظيم "هدام" يسعى حسب مزاعم السلطات إلى "تدمير الدولة"! يقول درويش متذكرا "اعتقلت عددا كبيرا من المرات، ووصل بي الحال أنه كلما ربت أحدهم على كتفي توقعت أن يكون مخبراً سرياً جاء لاعتقالي"·
كان للاعتقالات الواسعة للناشطين، وللتعذيب خلال الاستجواب، والأحكام بالسجن لمدة طويلة، والقمع خارج جدران السجون، أثرها المدمر على القيادة المنقسمة سلفاً على نفسها، ومن هنا جاء قرار حل الحزب في العام 1965·
ومع أن الحزب الشيوعي المصري عاد في نهاية المطاف إلى السطح في العام 1975، إلا أنه لم يكن يشبه طائر الفينيق الخارج من الرماد، لقد مضت تلك الأيام التي كان فيها الشيوعيون يحركون عشرات الآلاف من الطلبة والعمال في مسيرات تطالب بالاستقلال والخلاص من الاستعمار البريطاني، وتطالب بشروط وأجور عمل أفضل·
ومع ذلك ظل درويش لا يخشى شيئا: "مازلت شيوعياً، وأنا فخور بهذا"·
ويضيف شارحاً بعربية فصحى، أن الماركسية لا يمكن أن تنبذ لأن الاتحاد السوفييتي صار جزءا من التاريخ· فمثل هذه الإيديولجية البالغة القوة ليست موضة عابرة· الماركسية كما يقول "ستبقى مادام هناك مستغلون وأناس يتعرضون للاستغلال"·
أولاد البلد
هذا التماسك لم يكن سهلاً، بل خلاصة طريق صعب، ونتاج عملية تثقيف سياسي ذاتي قاسية، فقد كان درويش الفرد الوحيد المسيس بين أفراد أسرته، لقد استمد وعيه السياسي من مكان آخر·
كان والده أميا، وحرفيا ماهراً، إلا أنه أتاح لأولاده فرصة التعليم في أفضل المدارس المتوافرة آنذاك، وكان نصيب يوسف أن يكون أحد طلبة مدارس الأخويات الرهبانية الفرنسية في القاهرة، وما إن بلغ التاسعة عشرة من عمره حتى كان قد أصبح باحثا يقرأ كل ما وقعت عليه يده، وقادت عملية القراءة هذه إلى تسيسه· ويمكن القول إن كونه شابا يشعر أنه جزء من أقلية دينية كان له أثره في هذا·
لقد كانت عائلة يوسف درويش تنتمي إلى طائفة "القرائين" اليهودية، وهي طائفة منبوذة من قبل الطائفة اليهودية الأوسع بسبب رفض هذه الطائفة لتعاليم التلمود، وتمسكها بالنص التوراتي فقط، ولهذا السبب كانت تعتبر طائفة "كافرة" بالنسبة للجماعات اليهودية وحاخاماتها الأرثوذكس·
ولا يتذكر يوسف أنه واجه عداء للسامية، أو مشاعر عرقية أو اغتراباً دينياً في شبابه، باستثناء حادث يتذكره جيداً، تعرض له حين اعتدت عليه عصابة من الإيطاليين الفاشيين ذوي القمصان البنية في أحد شوارع القاهرة·
كان أعضاء طائفة "القرائين" يعتبرون أنفسهم "أولاد بلد" بالمعنى الشعبي المصري الشائع، وهم في الحقيقة من أقدم الجماعات اليهودية التي اندمجت في مجتمعاتها في البلدان العربية·
وكان هذا واقعاً قائما في مصر العلمانية في العشرينات والثلاثينات حين طبع شعار ثورة 1919 آثاره في نفسية الشاب يوسف: "الدين لله والوطن للجميع"، فأصبح وطنيا متحمسا لمصريته في سن مبكرة حين كان النضال من أجل الاستقلال يحظى بالأولوية·
ماركسي من المنبع
الفترة الحاسمة في حياته كانت خلال دراسته التجارة والمحاماة في فرنسا، فهناك تعرف لأول مرة على الأدب الماركسي، وكان طريقه إليه كما يقول قراءاته في التاريخ حيث ترسخت في نفسه مثل المساواة التي نادت بها الثورة الفرنسية· وفي أثناء دراسته للقانون في "أكس بروفانس" التقى بشابة عرفته بخلية محلية للحزب الشيوعي الفرنسي، ثم تتابعت لقاءاته مع آخرين من جنسيات مختلفة، وأشهرهم "بورشر" الماركسي الألماني الهارب من النظام النازي·
وسيكون على درويش بعد عودته إلى الوطن كمحام وماركسي ملتزم البحث عن رفاق سياسيين، ووجد ضالته في مقر رئاسة "اتحاد أنصار السلام" الدولية وكان فرعها في مصر يضم أشخاصا من جنسيات مختلفة، وفي بداية الثلاثينات انبثقت من هذا التجمع جماعة سرعان مانشطت لتظهر تحت اسم "الفجر الجديد" الذي كان عنوان مجلة بدأت بإصدارها في مايو 1945·
وبعدها حدثت اتصالات بالقيادات العمالية المصرية، وتعرف يوسف درويش على يوسف المدارك، ثم محمود العسكري سكرتير عام اتحاد عمال مصانع النسيج في شبرا الخيمة·
ومهدت هذه اللقاءات الطريق إلى التعاون الوثيق بين جماعة "الفجر الجديد" والنقابات العمالية في العقود اللاحقة·
وقاد هذاالتعاون بين الحركة الشيوعية والعمال إلى تشكيل منبر تقدمي ونضال مشترك، وتوسع النشاط العمالي، واتخذ أبعاداً سياسية بالترشيح للانتخابات البرلمانية، وأبعاداً دولية بحضور المؤتمر التأسيسي للاتحاد العالمي لنقابات العمال، في سبتمبر 1945·
ضد الصهيونية
هذا النشاط، إلى جانب مساهمة تيارات ذات اتجاهات شيوعية مثل "الحركة المصرية للتحرر الوطني" لهنري كوريل، و"تحرير الشعب" التي قادها مارسيل إسرائيل، والإيسكرا التي قادها هليل شفارتز، أثار انتباه السلطات المصرية آنذاك، وعلى إثر موجة من الاضرابات والتظاهرات المعادية للاحتلال البريطاني في العامين 1945-1946، أصدرت حكومة إسماعيل صدقي باشا قانونا لمحاربة الشيوعية في العام 1949، أدى في النتيجة إلى منع إقامة أي تنظيم شيوعي، فاضطرت جماعة "الفجر الجديد" إلى حل نفسها شكليا ثم الظهور مرة أخرى تحت اسم "الطليعة العمالية للتحرر الوطني"·
في العام 1947 طرح مشروع تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة، ووقفت الطليعة العمالية منذ البداية ضد الصهيونية، وعرفتها بوصفها "مشروعا استعماريا عنصريا" وفي ذلك الوقت انضم يوسف إلى جماعة تدعو اليهود الى الوقوف ضد الصهيونية·
يقول يوسف، "لقد رفضنا إقامة وطن يهودي في فلسطين، ولكن الحكومة المصرية حظرت أنشطتنا، بينما ظلت المنظمات الصهيونية تواصل عملها بحرية"·
إلا أن الحكومة المصرية اتخذت إجراءات صارمة ضد جميع من وقع عليهم نظرها، فاعتقل الناشطون العماليون، والشيوعيون والإخوان المسلمون والصهاينة ووضعوا وراء القضبان إثر اندلاع الحرب العربية - الإسرائىلية في مايو 1948·
في السجون المصرية
يعتقد يوسف درويش بناء على تجربته أن سجون فاروق الملكية كانت أكثر إنسانية من السجون التي جاءت فيما بعد، ومع ذلك كشرت حكومة صدقي عن أنيابها، فظل يدخل السجن ثم يغادره ليعود إليه، ولم يطلق سراحه من آخر اعتقال في عهد فاروق إلا في أبريل 1953 ومرة أخرى عاد إلى نشاطه، وليدفع الثمن مجددا، حيث أغلقت الحكومة مكتب المحاماة الخاص به بعد أن أنشأ مع رفاقه "حزب العمال والفلاحين المصريين" في العام 1957، واعتقلته، وهذه المرة بتهمة محاولة اغتيال جمال عبدالناصر ولم يطلق سراحه إلا بعد ضغط جماهيري واسع·
ولكن مع إطلاق سراحه بدأ يواجه وضعا مؤلما أكثر، ومن داخل صفوف حزبه، فقد كانت المفاوضات قائمة في العام 1958 بين الحركات الشيوعية المختلفة للاندماج في الحزب الشيوعي المصري، وباستخدام ذريعة أن نظام عبدالناصر كان معاديا للحركة لأنها تضع اليهود والصهيونية والشيوعية على قدم المساواة، تم إخراج يوسف درويش وأحمد صدقي سعد وريمون دوك من القيادة، وتحويلهم إلى أعضاء عاديين·
يقول يوسف "كان شرط إخراجنا الذي قدمه تنظيم "الراية" الستاليني الصغير كشرط للانضمام إلى الحزب، عنصريا بالطبع، ويناقض كل مبادىء المساواة التي اجتذبتنا إلى الماركسية في المقام الأول"·
ومع ذلك لم تتحقق هذه الوحدة، فبعد بضعة أشهر انقسم الحزب الشيوعي إلى فريقين، الحزب الشيوعي المصري، والحركة الديمقراطية للتحرر الوطني "حدتو" ولكن كل هذا كان لعبا في الوقت الضائع، ففي ديسمبر من العام 1958 قرر عبد الناصر وضع حد للنشاط الشيوعي باعتقال كل الناشطين البارزين·
وعن هذه الفترة المرعبة يتذكر يوسف أن سجون عبدالناصر امتلأت بالتعذيب والقتل: "فقد دفن عامل من شبرا الخيمة اسمه أبوزيد حيا، وضرب عضو الإيسكرا البارز شهدي عطية حتى الموت، وكذلك كان مصير الطبيب الفلسطيني فريد حداد الذي كرس مهنته لخدمة الفقراء" ويضيف درويش "هناك أشياء لا أستطيع حتى الحديث عنها وذات يوم لم أعد أحتمل فأضربت عن الطعام، ثم جاء الحارس ليهمس في أذني: "عليك أن تأكل، ألا تعرف أنهم يريدونك أن تموت؟"· ومنحتني هذه الكلمات الإنسانية البسيطة الشجاعة والقوة على المضي قدما ومواصلة الحياة والنضال"·
للعدالة.. نعم
ولم يتوقف التعذيب إلا حين شهد عبدالناصر ما أذهله خلال زيارته ليوغوسلافيا، حين وقف أعضاء البرلمان هناك دقيقة، صمت حدادا على روح شهدي عطية، وعندها تغيرت الأشياء· وفي مايو 1964 أطلق سراح يوسف درويش ورفاقه بعد خمس سنوات من السجن والتعذيب، وفي هذا الوقت كانت قيادة الحزب الشيوعي تجري مفاوضات سرية لحله، ولم يستطع الوقوف ضد هذا القرار لأنه لم يعد قياديا·
ولم يهزم درويش، وفتح مكتبا للمحاماة، وانضم إلى رابطة المحامين الديمقراطية الدولية، وسافر بوصفه سكرتيراً للرابطة إلى مختلف العواصم الأوروبية محاضرا في القضية الفلسطينية، واعتقل في العام 1973، ومرة أخرى بالتهمة نفسها، أي "التحريض الشيوعي" وأطلق سراحه بعد ثلاثة أشهر لعدم توافر الأدلة· ثم طلب منه الحزب الشيوعي أن يتوارى عن الأنظار، وأن يغادر إلى الجزائر· وغادر بنية البقاء بضعة أشهر إلا أن إقامته في الخارج امتدت إلى 13 عاماً، أي حتى العام 1986· ويقول إنه كان كلما طلب العودة، كان الحزب يقول إن في عودته خطرا عليه، وأخيرا اتضح له كما قال إنهم يريدون منه البقاء خارج مصر·
هل اخترعوا ذريعة الخطر لتهميش ناشط ذي شعبية واسعة في أوساط الحركة العمالية؟
لا يجيب يوسف عن هذا السؤال·
ولكن حين نسأله: "هل يستحق النضال كل هذا؟ يجيب ببساطة "نعم·· النضال من أجل العدالة"·
عن الأهرام ويكلي - 2-8/12/2004 "
بحث
قائمة الأعضاء
التقويم
وثائق المساعدة
/
ورحل الحديدي يوسف درويش.. مناضلاً, فذاً.. نادراً
