الشكر للزميل العزيز لوجيكال على اثارته هذا الموضوع .. سأعمد إلى إثبات مداخلة سابقة كتبتها في الماضي بالنادي.. وسأسعى لأنطلق منها فيها ينهي محاورها أولأ.. ومن ثم الاجابة على ما تفضل بطرحه من مساءلات واستفهامات
(f)
----
فيمكن تقسيم الحديث هنا الى محاور ثلاثة:
1- الماركسية وطبيعة فكرها
2- قضايا العمال في ظل العولمة
3- الفكر الماركسي العربي واشكالياته
الماركسية وطبيعة فكرها
النظرة الاولى لطبيعة الفكر الماركسي يتبادر منها انها تتمثل كفلسفة ديناميكية تتأسس وتتقوم على رفض واستبعاد الانساق المغلقة والمتقوقعة على نفسها .. لتتشكل بطريقة او باخرى كنظرة جديدة للواقع المعاش .. ويمكن ان نعتبر انه من مفاعيلها الاساسية من حيث الواقع انها قد رفدت العالم بمناهج نوعا ما مختلفة لقراءة وتقصي ماهية المجتمعات الحديثة ... ولكن مع هذا .. فلا يمكننا قصر الاعتبار ان الماركسية هي مجرد منهج يستخدم لاجل فهم تطور المجتمعات الانسانية، بل لعل الافضل هو القول انها نظرية تستخدم المادية الديالكتيكية لتصب في خانة خدمة قضايا الانسان.. وبهذا فهي وان كانت تتشكل بهذا الاعتبار -كنظرة جديدة - فلا يمكننا قرنها بالانساق الفلسفية الاخرى كالهيغلية او غيرها ... فالماركسية ليست نهائية منغلقة .. بل فكر منفتح قابل للتطور.. وهي تُكمن بذاتها من حيث النظرية مفاعيل التطبيق لتخلق بذلك نوع من الوحدة التقريبية ما بين النظرية والتطبيق .. -وهذا لا يلغي احيانا وجود خروج عن النظرية من حيثية التطبيق كما ربما قد حدث ببعض الشواهد التاريخية .. الا ان ذلك لا يضر النظرية بالطبع .. ولكن يقع وزره على شخص المطبق-..
من هنا فيمكن الانتهاء من هذه الفقرة باعتبار ان الماركسية من جهة اولى ليست كبقية الفلسفات الاخرى .. كما ومن جهة ثانية ليست معتقدا له طابع شعوري انتمائي كالدين مثلا .. بل هي كل هذا وذاك مضاف اليهم النظرة الاصيلة للمجتمع وتحولاته .. وتفسيرا علميا للظواهر الاقتصادية والسياسية فيه...
ارتبطت على ما اسلفت في الفقرة السابقة الماركسية بالديالكتيك .. وهو طريقة من البحث تسلط الضوء على الاحداث والظواهر بتغيراتها وتحولاتها وتفاعلها .. هذا وقد ارتبط الديالكتيك الماركسي بالديالكتيك الهيغلي ارتباطا ملتبس .. فعلى الرغم من كون هيغل قد طور التفكير الديالكتيكي باعتراف ماركس .. فان كارل ماركس يعتبر ان طريقته هو بالديالكتيك تختلف عن طريقة هيغل اختلافا كليا واساسيا .. فهيغل - برأي ماركس- يشخص حركة الفكر ويسمها بالفكرة ويعتبرها خالقة الواقع وصانعته .. انا الامر برأي ماركس فهو على الضد تماما .. اذ يرى ان حركة الفكر ما هي الا انعكاس لحركة الواقع ..
وفي ذلك يقول ستالين - حفظت الطبيعة ذكراه - ان ماركس قد اخذ عن هيغل النواة العقلية المؤسسة لفكره، ورمى بالقشور المثالية التبريرية المنتشرة في المانيا ابان عصره ... من هنا يمكن ان نعتبر .. ان الماركسية قد أخذت من الهيغلية مبدأين أساسيين للديالكتيك .. وهما اجمالا، اتخاذ الديالكتيك في العلم مكان التحليل والعقل التحليلي الذي يركز على النتائج المأخوذة عن الاشياء دون وعي او اعطاء اي اهتمام بحركتها وتحولها .. والثاني اعتبار الديالكتيك داخل في الاشياء وفاعل فيها ..
الماركسية وفلسفة العمل:
يرى ريكاردو ان العمل ليس فقط مقياسا للقيمة .. (فالتعريف التقليدي للعمل انه مقياس للقيمة باعتبار كونه يقبل التقسيم الى وحدات زمنية) بل هو ايضا برأي ريكاردو مصدر للقيمة.. اذ بدون العمل لا يمكن تصور الحديث عن التبادل او عن الاقتصاد.. وقد شكل تعريف ريكاردو هذا .. نقلة نوعية في طبيعة النظرة الى العمل .. باعتبار كونه مجال للعلاقات الرابطة بين البشر باعتبار الحاجات والموارد .. والخ ..
هذا وقبل الدخول فيما يراه ماركس ... ارى انه لا بأس من الاشارة ايضا .. الى ان تلك الحقبة الزمنية قد ظهر فيها رأي لهيغل يرى فيه ان العمل يتشكل بطريقة معينة ليكون نوع من مرحلة جوهرية تلعب الدور الابرز في تكوين الوعي بالذات ..
بهذا وقبل الدخول برأي ماركس ايضا .. ارى انه من المناسب هنا الاشارة الالماحية السريعة الى طبيعة العمل في المجتمعات الغربية في ذلك الوقت ... فتلك المجتمعات كان قد برز فيها نوع من التطور في المجال الصناعي .. الامر الذي أدى بطريقة او بأخرى لوجود تجمعات سكانية ضخمة للعمال .. وكان من نتائج هذه التجمعات العمالية .. حالة من العلاقات الاجتماعية المحكومة اصلا بالصبغة العامة للتجمعات العمالية .. وحاجاتهم .. ومن ثم فهذه التجمعات ... التي نتج عنها وجود حاجات كثيرة للعمال .. أدت بطريقة او باخرى لاضفاء حالة من الوعي العمالي .. الامر الذي تُرجم اجمالا بظهور الاشكال البدائية الجديدة للتنظيمات العمالية ..
من هنا أتى ماركس بفهم جديد للعمل .. انبنى على بعد اقتصادي وفلسفي .. فالعمل بنظره هو جوهر الانسان .. ولا يمكن للانسان ان يتبلور كوجود الا من خلال العمل .. وكان من نتائج هذا الاعتبار ان العمل هو الرابط الاساس في العلاقات الاجتماعية .. وفي السيطرة على الطبيعة وتكوينها كيفما يشاء الانسان .. الا انه مع هذا فهو يتمحور باعتبار آخر قوامه كون العمل مؤسس بطريقة او بأخرى لتقسيم المجتمع وفق طبقات .. فعلى سبيل المثال .. نتج عن التطور الصناعي حالة من التقسيم الاجتماعي وفق طبقتين .. اولاهما : البروليتاريا اي طبقة العمال .. الذين لا يملكون الا جهدهم الشخصي البشري والزمني ليقدموها في سبيل الاجرة والعيش .. وطبقة المُلاك .. اي الذين يملكون وسائل الانتاج .. وبالطبع بهذا تحول العمل من كونه جوهر الانسان ... الى العامل الاول الفاعل بعبودية الانسان وحرمانه بالتالي من حقه الطبيعي الذي اكتسبه بجهده المضني .. وبعرقه وتعبه .. وبالتالي فلا مهرب بالنسبة للعامل الذي بات محاصرا ومخنوقا ومستلبا من بيئة العمل التي تسيطر فيها على مجهوده تلك الطبقة ، وتحرمه حقه من العيش المعادل لمجهوده، لا مهرب له الا بالثورة ... فنهاية العبودية والاستلاب لا تكون الا بالانهاء على الطبقة المستغلة ..
بهذا فقد يصدق التوصيف بداية ان فلسفة كارل ماركس هي في البداية فلسفة انسانية بحتة .. اهم اهدافها هو اعطاء العامل حقه الطبيعي في الانتاج، ورفع نير العبودية عن كاهله ... ولكن هنا ايضا ارى انه لا بأس من الالماح السريع الى طبيعة نظرة ماركس الى الانسان بمقابل نظرة هيغل وفيورباخ ..
يذهب هيغل لاعتبار ان الانسان هو نتاج للفكرة .. اما فيورباخ فيذهب الى اعتبار ان الانسان قد القى على الاله صفات الانسان الكاملة ليرفعها الى مستوى المطلق.. وبالتالي فان فيورباخ يرى ان فكرة الاله هي تعويض خيالي لفكرة الانسان المطلق ... واعتبر ان الحل للمسألة الانسانية تكمن في نفي الاله ليتحرر الانسان ويتحمل مسؤولية نفسه .. غير ان فيورباخ ذهب بهذا الاطار منحى رأى فيه ان نفي وجود الاله لا يعني بالضرورة نفي المطلق والمقدس .. بل ان الانسان برأيه هو التجسيد المتكامل للمطلق والمقدس .. وبالتالي فالنتيجة ستكون ان الانسان هو سيد لنفسه وحاكم عليها ..
بهذا ومن هنا .. فماركس قد اتخذ من فكرة فيورباخ منطلقا باعتبار ضرورة كون الانسان سيدا لنفسه ومسؤولا عن مصيره .. غير انه رفض كون الانسان كجوهر مقدس ومطلق .. بل الانسان برأيه هو الانسان الطبيعي الحقيقي الذي يعيش في المجتمع ويعمل..
من هنا ففلسفة ماركس تجعل من الانسان محورا للكون .. غير انه ايضا وفقها محدد اجمالا بمفهوم التاريخ .. فهو منتج ونتيجة للانتاج .. وطبعا تفاعله هذا وانفعاله يكون بالعمل.. فالعمل هو الواسطة والوسيلة لتغيير واقع الانسان .. وتسخير الطبيعة في سبيل ارضاء حاجاته ..
بهذا وذاك ... فلا يمكن ان نمر دون تسليط الضوء ولو بشئ من الايجاز حول المادية التاريخية التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالفكر الماركسي .. الى حد انه كلما ذكرت تبادر الى الذهن اسم كارل ماركس .. وهي بذاتها -مع غض الطرف عن جذورها وما الى هنالك - تعني التحليل الماركسي للحياة والمجتمع.. فالمادية التاريخية تذهب الى اعتبار ان انماط الانتاج هي المؤسسة والفاعلة في تحديد المجتمع وتطوره وافكاره.. وبالتالي فالعامل الاقتصادي هو قطب الرحى في الساحة الاجتماعية .. وعليه فلا تبدل يحصل او يحول البنيات الاقتصادية والاجتماعية القديمة السائدة الا بتقويض وهدم وتحطيم تلك البنية الصدئة بأخرى تلد منها متناقضة عنها .. لتبرز كبنية جديدة .. بهذا فنضال الطبقات العاملة ضد الطبقات المالكة هي المفعلة لحركة التبدل هذه .. ويلفتني هنا ان اذكر بالمقدمة التي احتواها كتاب "البيان الشيوعي" الذي اعتبر ان التاريخ هو نضال الطبقات ..
بهذا ايضا .. وبما ان الانسان لا يمكن له ان يعيش خارج التكتلات البشرية فانماط الانتاج ليست الا نتاج المجتمع البشري .. فالانسان يستخدم وسائل الانتاج لتحويل الطبيعة الى ما يرضي حاجته .. بهذا يتأسس حالة من نمط الانتاج ... وعليه ينتج من هذا ان قوى الانتاج وعلافات الانتاج تتشكل وفق نسق متكامل لا ينفصلان عن بعضهما البعض ..
الانسان غالبا ما يتحدد في الماركسية باعتبار العلاقة الاجتماعية.. او بمعنى آخر اي من خلال طبقته الاجتماعية .. فالافراد الموجودون بنفس المكانة من نمط الانتاج يتشكلون باسلوب او بآخر في طبقة اجتماعية ... والطبقة الاجتماعية هذه وفق الفلسفة الماركسية تحتم وجود صراع .. فالمجتمع غالبا ما يكون مسرح صراع بين طبقة آن لها الزوال وطبقة اخرى آن لها ان تولد..
وهنا اجد لا بد من المناسب الالماح بشكل موجز وسريع الى ماهية الانتقال من تشكيل اجتماعي الى تشكيل اجتماعي آخر اظن لاهمية الموضوع ودقته .. فمن المعلوم ان المجمعات البشرية تتطور وتتعاقب وفق التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية.. فالتشكيل الاجتماعي الاول الصدئ يزول ليحل محله تشكيل اجتماعي آخر .. وتلعب علاقات الانتاج الحديثة دورا مهما في حركة الانتقال هذه، عبر نشوء انماط انتاجية جديدة من رحم الانماط الانتاجية القديمة تتناقض معها .. وتكون المسبب بزوال القديم .. وهكذا .. والواقع ان اردنا ان نرصد عمليات الانتقال من مرحلة الى اخرىة في تاريخ العالم البشري .. لخرج معنا عدة نقلات .. من اهمها .. الانتقال من التشكيل العبودي الى الاقطاعي.. ومن الاقطاعي الى الرأسمالي .. ومن الرأسمالي الى الاشتركي .. وهذه النقلات كانت متخمة بالصراعات الطبقية القائمة على التناقض بين هذه التشكيلات .. ةالتي تأحذ طبعا علاقات الانتاج الحديثة دور الفاعل والمفعل في تلك النقلات ..
وفي النهاية اود الاشارة الى امر بالغ الاهمية .. ويتمثل اساسا بالسؤال ... هل كل من قرأ ماركس .. وفسره ... وانتمى اليه .. قد فهم ماركس فعلا .. ؟؟ اعتقد ان الجواب صعب جدا ... وصعوبته تكاد تتواءم مع خطورة القول : ان لينين وتروتسكي وستالين وماوتسي تونغ وروزا لوكسمبورغ وبليخانوف وماوتسي تونغ وحتى من يعتبرهم ستالين من خوارج المادية الديالكتيكية كغرامشي ولوكاتش .. وغيرهما ... لم يقرأوا ماركس فعلا وواقعا كما اراد الرجل .. فالماركسية بالنهاية ليست فقط علم يبحث بالاطار الاقتصادي الاجتماعي والايديولوجي .. بل هي فلسفة قائمة بذاتها تضارع باهميتها الهيغلية ... وتستقل عنها ... وليست ابدا تابعة لها هذا مع الاخذ انها فاعلة ومنفعلة بها ... الا ان هذا جد طبيعي .. فهي ذي حركة الفكر ... وهذا الامر هو الذي دعا العديد من منظري الماركسية ومفكريها الكبار الى تهميش مرحلة ماركس الشاب باعتبار انها مرحلة متأثرة بهيغل وفيورباخ ... على كل حال فهذا الموضوع وحده قد يستحق مطولات ....
يتبع
(f)
الـرابط