هل حياتنا لعبة نلعبها
هل حياتنا لعبة نلعبها
تعريف اللعبة, وخصائصها
إن مفهوم اللعبة لم يكن كما هو الآن كان يقصد به التسلية واللهو والعبث والمرح, مثل لعب الأطفال ولعب صغار الحيوانات اللبونة وكل الأعمال غير الهادفة أو الجادة, واللعب هو نقيض الجد والعمل المنظم الهادف. واعتبر اللعب استجمام وترويح من عناء العمل الجاد وهو يجدد القوى التي تكون على وشك النفاذ, واللعب يبعث السرور والارتياح بلا هدف سوى لذة اللعب. واعتبره البعض أنه أصل الفنون وأنه تعبير غير هادف عن الطاقة الزائدة. واعتبر اللعب عند الصغار أنه تدريب على المهارات اللازمة في المستقبل وأن التقليد والمحاكاة هما نوع من اللعب يهدف إلى تعلم المهارات من الآخرين, وأنه دافع غريزي. وقد أعطى أفلاطون وأرسطو وغيرهما أهمية كبيرة للعب في التعلم. واعتبر أن حرية الاختيار وعدم كون المرء مكرهاً على العمل هو ما يميز اللعب.
ثم توسع مفهوم اللعب فشمل السباق والتنافس والصراع ولعب الرياضة والحركة ولعب الاكتشاف والتعرف ولعب الحب ولعب التفكير والتذكر ولعب المران .......الخ .
والآن توسع مفهوم اللعب كثيرا ًفصار يشمل الكثير من الأوضاع والمجالات, فأصبح الممثل يلعب دوره, والعازف يلعب مقطوعته وكل فنان يلعب عند ممارسته فنه - فالفنان يلعب بالرموز وكأنه يعرف هذه الخديعة, متذوقاً لعبته, وساعياً إلى أن يجعل الآخرين يتذوقوها ويفهمون إغراءها. ومن هنا قول بارت : " أنني ألقب علم الدلالات بأنه مجمل العمليات التي تتيح اللعب بالمعاني, وكأنها تلعب بحجاب ملون , بل بوهم" - , وكذلك السياسي يلعب والمحامي يلعب والتاجر يلعب والقائد يلعب واللص يلعب والمحتال يلعب , عندما يمارسون أعمالهم, بالإضافة إلى الألعاب الرياضية الكثيرة وألعاب الفكر وألعاب السحر والسيرك, وألعاب المسابقات والمنافسات في كافة المجالات.
لقد اختلط اللعب - أو آلية اللعب- بهدف وغاية اللعب فصار اللعب يقصد به التنافس والصراع, مع أن هذا هدف اللعب. ولكي يسهل التعامل مع مفهوم اللعب يجب فصل عناصر وآليات اللعب عن أهداف ودوافع اللعب, فإذا اعتبرنا أن اللعب هو البحث في الخيارات والاحتمالات المتاحة والتعامل معها بطرق وآليات متنوعة بهدف تحقيق دافع أو غاية معينة- يمكن أن يكون الهدف هو التسلية والمرح- أو بهدف الاستكشاف والتعرف فقط , اقترب مفهوم اللعب من التفكير أي المعالجة الفكرية للخيارات, وكذلك اقترب من مفهوم التجربة والاستكشاف لأن اللعب هو التعامل مع الخيارات , ولكي تلعب يجب أن تكون لديك خيارات بالإضافة إلى طرق وآليات التعامل مع هذه الخيارات . وتحت هذا التعريف تقع كافة معالجات الخيارات العملية والفكرية. و هناك عدة طرق للتعامل مع الخيارات المتاحة وهي:
1- التعامل بالاعتماد فقط على الخبرات الذاتية الموروثة, أو المكتسبة عن طريق التجربة الذاتية.
2-- تقليد ومحاكاة الغير في التعامل مع الخيارات.
3- استخدام الطريقتين معاً وهذا ما يحدث غالباً.
وهذا يعني أن تعاملنا مع الخيارات يكون إما تقليدا ومحاكاة أو إبداعاً وتجديداً, ويمكن تصنيف التعامل مع الخيارات من حيث أنواع آليات التعامل مع هذه الخيارات, وكذلك يمكن تصنيف التعامل مع الخيارات من حيث كونها فردية أو جماعية, أو التعامل مع بنيات حية أو غير حية.
وأساس اللعب لدى الإنسان هو التفكير - المعالجة الفكرية- يتبعه التنفيذ والعمل, واللعب هو أساس وأهم ما يقوم به العقل. وممارسة اللعب تهدف للوصول إلى الطرق والمناهج والثوابت الفعالة في تحقيق الدوافع والأهداف وبالتالي تكوين الأنظمة والآليات الثابتة لكي تعتمد في الاستعمال وعندها ينتهي اللعب, فاللعب هو مقدمة للالتزام والثبات.
فاللعب إذاً هو معالجة فكرية وعملية للخيارات والاحتمالات وتجريبها وتصحيحها وطالما هناك تجارب وتعديلات على الخيارات فاللعب لم ينتهي, ونظراً لأن كافة بنيات الوجود في تفاعل وصيرورة دائمة فإن اللعب بالنسبة لنا لا يتوقف إلا في الفترات أو المراحل التي يكون فيها ثباتاً أو استقرارا أو مؤقتاً.
ومن هذا المنظور نجد أن بنية الحياة- والكثير من البنيات الأخرى- تلعب في مسيرتها من خلال حياة الكائنات الحية التي تمثلها, فآلية اللعبة استخدمتها بنية الحياة منذ بدايتها, تجريب الخيارات والاحتمالات والتوقف عند المناسب منها ثم المتابعة بالتكرار, والخيارات دوماً واسعة وهناك الكثير من المجالات وفي كل مجال احتمالات كثيرة, وهذا ما أدى إلى نشوء شجرة الحياة, ففي كل فرع عدة فصائل وفي كل فصيلة عدة أنواع.....وكل نوع هو خيار أو احتمال توقفت عنده آلية تطور الحياة فترة ثم تابعت تكوين الأنواع الأخرى عند تغير الظروف وبالتالي الخيارات, وبذلك أنتجت هذه الأنواع الكثيرة وسوف تنتج باستمرار أنواعاً جديدةً طالما أن هناك تغيراً للظروف والأوضاع.
إذا اعتبرنا أن اللعب هو التعامل مع الخيارات المتاحة لتحقيق هدف معين - أو لهدف البحث والاستكشاف أو للعبث والتسلية- نجد أن بعض الآلات البسيطة أو المعقدة تلعب, " فالسيارة اللعبة" التي تسير كهر بائيا أو بواسطة نابض – زنبرك- وعندما تصطدم بعائق تقف وتحول اتجاهها ثم تتابع المسير وهي تفعل ذلك كلما أعاقها عائق عن التقدم, فهي تحول اتجاهها يميناً أو يساراً وتحاول متابعته أي أنها تتعامل مع خيار بديل هو اتجاه جديد للحركة يمكن أن يسمح لها بالمتابعة, فهي تتعامل مع خيارات متاحة وإن كانت قليلة وبسيطة –فهي تلعب- , وكذلك نجد أن كافة أجهزة التحكم الآلية تتعامل مع الخيارات المتاحة وتختار المناسب لهدفها الموضوع مسبقاً, وذلك حسب الآليات أو البرامج والقدرات المجهزة بها, وطبعاً الكومبيوتر هو أمهر اللاعبين الآليين.
إذاً بعض الآلات تلعب ودرجة لعبها متناسبة مع كمية الخيارات التي تستطيع التعامل معها, وعندما ينخفض عدد الخيارات المتاحة تنخفض درجة ومقدار اللعب, وعندما تصبح الخيارات محددة ومعينة مسبقاً عندها يتوقف اللعب ونعود إلى الآليات المحددة والثابتة.
الألعاب, نشوؤها و تطورها
إن لكل شيء - لكل بنية- بداية وفترة استمرار ونهاية وكذلك اللعبة, إن كل لعبة تنحو نحو التنظيم والتحديد عن طريق القوانين والأنظمة التي تفرض عليها أو يتم تبنيها, فهذه بمثابة قيود تحدد الخيارات في اللعب, فاللعبة تبدأ بخيارات متاحة كثيرة وتنتهي بعدد محدود ومقنن من الخيارات- الناظمة لها - وعندما يصبح التعامل مع الخيارات منظماً ومحدداً تماماً تنتهي اللعبة, وتصبح عملاً جاداً منتظماً فالخيارات المتاحة تصبح محددة ومعينة وثابتة وهي في حدها الأدنى , ويمكن أن تتجدد أو تتطور اللعبة عند حصول خيارات جديدة أو أوضاع وأهداف جديدة, ففي الصناعة مثلاً عند البدء بإنتاج جهاز جديد تجرب الكثير من الخيارات - الكثير من العناصر والآليات- وهذا يمثل اللعب أي التعامل مع الخيارات ويستمر التعامل مع هذه الخيارات المتاحة فتستبدل وتعدل بعض الخيارات ويستمر ذلك حتى التوصل إلى الطريقة ألتي تعتمد فتحدد وتثبت وتعتمد في صنع الجهاز, وعندها تنتهي لعبة صنع الجهاز. وهذا يصعب حدوثه في الفن وفي الكثير من المجالات الأخرى لأن الخيارات والاحتمالات المتاحة كثيرة ومتغيرة ومتطورة ولا يمكن تقنينها أو حصرها وتثبيتها أي أن هناك دوماً مجال للعب والإبداع , والتجديد والتطور موجود في كافة المجالات ففي الصناعة كل جهاز أو سلعة تصنع لها دور أو وظيفة أو هدف معين ويمكن أن يتعدل ويتطور هذا الهدف وبذلك تنشأ خيارات واحتمالات جديدة للصنع بتغير الهدف, ويكون ذلك بتصنيع جهاز أو سلعة جديدة تسعى لتحقيق هذا الهدف باستعمال خيارات (عناصر وآليات) جديدة أي يبدأ اللعب من جديد.
فاللعبة إذا: ًتولد, وتنمو, وتتطور, وتتوقف, وتنتهي. وبالنسبة لنا نحن البشر لكل منا ألعابه الأساسية الخاصة به تتشكل لديه أثناء حياته, وهي تتبدل وتتطور وينشأ الجديد منها نتيجة تغير الأوضاع والخيارات وذلك نتيجة تغير دوافعه وأهدافه أثناء حياته.
إننا نجد أن اللعب أو التعامل مع الخيارات الجديدة يتضمن المجازفة غالباً وهذا ما جعل الكثيرين يتحاشون اللعب ويسعون إلى النظام أو الطرق والآليات المعتمدة الثابتة والمضمونة, فهم يتحاشون التعامل مع الخيارات الجديدة غير المضمونة ويعتمدون فقط الخيارات الموجودة, أي هم محافظون. وبالمقابل نجد أيضاً المغامرين والمجددين والمقامرين والمكتشفين وهم قليلون, يسعون إلى الخيارات الجديدة والبحث عنها أو تطويرها, وكذلك هم يعدلون أو يجددون أهدافهم وغاياتهم أيضاً. ولكن يظل أغلبنا محافظين والقليلون هم المجددون. وإذا نظرنا إلى المواليد والأطفال فإننا نجد أن كل مولود مجبر على التعامل مع خيارات متنوعة جديدة, فالأشياء كثيرة وطرق تأثيرها متنوعة وليس له إلا التجريب والاختبار (اللعب) للوصول إلى الخيار الذي يعتبره الأفضل والأكثر فاعلية في تحقيق دوافعه وهو مجبر على ذلك (فكل المواليد لاعبون ), حتى مع وجود القيود والخيارات المفروضة عليهم من قبل والديهم وبقية الظروف والأوضاع, فهم يقبلون أو يرفضون هذه الخيارات حسب تعاملهم معها وتصنيفهم وتقييمهم لها, صحيح أن أغلب ألعابهم تكون محددة ومفروضة نتيجة الظروف وقدراتهم المتاحة ولكنهم يتعاملون أو يعالجون هذه الخيارات لكي يعتمدوا في النهاية طرقهم الخاصة بهم وعندها تنتهي ألعابهم بالوصول إلى الخيارات المنظمة المحددة الثابتة.
|