بسم الله الرحمن الرحيم
عزيزي coco أشكر لك اهتمامك بما اخترت من مقاطع شعرية وردك عليها . وأود قبل مناقشة بعض ما جاء بردك أن أعتذر عن غيابي المؤقت وتأخري في هذه المناقشة .
وللحق فقد أعجبني ما كتبته عن التناص وكسر قصي لنمط التوقع عند المتلقي لنجده يفخر بأمه / والدته ، عوضا عن أبيه / والده ، وهذ يذكرني بأحد الفلاسفة العرب التونسيين الذي ذهب الى تسمية نفسه باسم أمه تحديا للافتخار الذي نعتز به عند انتسابنا لآبائنا،واعلانا منه الى استثناء نفسه عن النزعة اللاانسانية الاعتباطية السائدة في مجتمعاتنا العربية الذكورية ؛ الفيلسوف المقصود هو سليم دوله ، و "دوله " هو اسم أمه وليس اسم عائلة أو عشيرة أو قبيلة ، وله كتاب فلسفي مشهور عنوانه : " ما الفلسفة ؟ " هذا رابطه ان رغبت بالاطلاع عليه :
http://www.4shared.com/file/62188112/c84..._.html?s=1
ولكن لنعد الى موضوعنا . هنا لدي سؤال يتعلق بتذوق أحدنا لنص ابداعي ما ؛ لنفترض أننا لسنا مجتمعا ذكوريا ، وصادف أحدنا هذا النص لقصي اللبدي ، هل يقل اعجابنا بجماليته ؟ وان قل ، مثلا .. فالى أي حد ؟ أنا شخصيا أعتقد أن الجواب بالنفي ، فلم أستحضر من مخزوني اللاواعي أي شيء له علاقة من قريب أو بعيدعن كوننا مجتمعا ذكوريا ، بعكس انتباهي لكون الفيلسوف التونسي الذي نسب نفسه لأمه عن قصد ، فلقد أدركت الرسالة من اسمه حالا وأعجبتني . أنا من جهتي أعتقد أن زماننا وقيمنا ليست هي نفسها التي جعلت زياد بن أبيه يفضل نسب نفسه للمجهول على نسبها لأمه ، وبالتالي لم يعد ثمة داع أن نشدد على احتواء القصيدة عللا قيم صارت بالية نسبيا في عصرنا. طبعا لن أجازف وأقطع بأن غيري من المتلقين / المتذوقين لم يخطر ببالهم ما لم يخطر ببالي من احالة الى الفخر بالام الانثى عوضا عن الاب الذكر ؛ فالموضوعات الابداعية حمالة أوجه حتما ، ولكن الى حد ما وليس باطلاق - ارجو الانتباه الى عبارة " الى حد ما " ،لأنها تعني أن تأويل المتلقي للنص له شروط وضوابط وليس مفتوحا على كل الاحتمالات الممكنة للمعنى ، والا لادعى قارىء ما أن هذه القصيدة موضوعها الاساسي هو الرياضيات وقارىء آخر البيولوجيا وآخر... دون أن يكون في وسعنا موضوعيا ترجيح تأويل على آخر من تأويلاتهم ، حتى من حيث المبدأ، وهذا بحد ذاته كارثة جمالية.
هذا لا يقلل ، بالطبع ، من اعجابي بتحليلك لأسباب اعجابنا بالنص كما تعتقد . وهنا أرغب بالتشديد على عبارتك : " فنذهب لاشعوريا إلي أن أنه يفتخر..." ، " لاشعوريا " كلمة تحررك نسبيا في فهمك للنص على النحو الذي فهمته . هنا يبقى من حقك التمسك بوجهة نظرك دون أن تسلبني حق الاختلاف معك .
من جهة أخرى أعجبني جدا كلامك عن " التشكيل البصري للسطور الشعرية " ، هذا بحد ذاته له دلالات جمالية عظيمة لم أنتبه اليها أبدا قبل الآن . كما أن له دلالات فلسفية مهمة على صعيد فلسفة اللغة ونظرية المعرفة أخذت أفكر بها مليا منذ قرأت هذا الكلام وما تلاه . قبل هذا كنت أشاطر بعض ما يسمى بفلاسفة ما بعد الحداثة في الفكرة القائلة : كل معرفة هي معرفة مفهومية بالضرورة . أي أن أي معرفة للموضوعات الخارجة عن الذات العارفة ، تفترض سياقا لغويا سابقا عليها ترسخ في المجتمع بفعل طول الاستعمال في شكل مفاهيم . بهذا لن يكون بوسعنا ادراك حمرة الشيء مثلا أو سخونته أو طوله دون أن يكون لنا جهازا مفهوميا اكتسبناه سلفا نطبقه على موضوع المعرفة ( مثل معنى " أحمر " و"ساخن " و "طويل "..) ، وهكذا تصبح مفاهيمنا اللغوية المكتسبة مسبقا مخترقة لكل مواضيع المعرفة باطلاق ، وتصبح اللغة بالتالي مكونا أنطولوجيا من مكونات الموضوع المعروف - بحسب فلاسفة ما بعد الحداثة . عكس هذا كله لخصته أنت بقولك : " انظر إلي وضعه كلمة انتظرت علي سطر وكلمة بعد علي سطر وكلمة أخري علي سطر لكي يعطيك دلالة الانتظار بطريقة بصرية وليس بطريقة المعني فقط " . ولعلي أضيف هنا موضحا ما قلته أنت أن الدلالة غير معطاة في اللغة وحدها حتى في نص لغوي بامتياز هو هذه القصيدة أو تلك ، فطريقة ترتيب الكلمات على النحو الذي أشرت اليه صارت تعتبر جزءا من الدلالة ، كما أن الأخيرة لم تعد مشتقة من اللغة فقط ؛ وهذا بحد ذاته اكتشاف ثوري مبهر في الفلسفة لم أنتبه اليه قبل الآن . أعرف طبعا أن هناك أنظمة دلالة غير لغوية مثل دلالة اشارات المرور وغيرها ، لكن هذه أنظمه غير لغوية نحتاج بالضرورة للغة كي نترجمها الى معاني وتصبح جزءا من نسق اللغة ؛ أما أن يكون هناك نظاما دلالياغير لغوي موازي ومتساوق مع اللغة في قصيدة ما (وهي ما هي لغويا ) فأمر انتبهت اليه بفضلك فقط . فلك كل الشكر من أعماق قلبي .
بقي أن أناقش الفكرة الأخيرة التي وردت في مناقشتك لأسباب اعجابك بالمقطع الأول للشاعر قصي اللبدي . أقصد تأويلك للمقطع الأول بوصفه رثاءا للأمة العربية . هنا أجد نفسي على خلاف تام معك .
فمثلما أيدت أعلاه كون النص حمال أوجه مما يسمح ببعض الاختلاف في الفهم والتأويل ، حذرت أيضا من الضرر الجمالي الذي قد ينجم عن تحميل النص لتأويلات منفلتة لا ضوابط لها . فمن معرفتي الشخصية لقصي اللبدي أنا على درجة عالية من التأكد بأن هذا الهم القومي العروبي ليس مما يشغل بال الرجل اطلاقا ولا حتى في المناقشات الثقافية العامة . وأنه ينتمي لمدرسة شعرية لا تقيم جماليا كبير وزن للمشاغل السياسية وما يمت لها بصلة ؛ بل انه على العكس من هذا تماما . ولكن لنفترض أنني على غير معرفة بالرجل مطلقا ، هل مجرد حديثه عن معاناة والدته المكونه من لحم ودم وصلة قربى بالطريقة التي تحدث بها عنها يفقدها جماليتها ويقلل من شأن اعجابنا بها ؟ سأترك الجواب مفتوحا حتى حين .
لكي أوضح وجهة نظري حول السؤال السابق وجوابه المؤجل ساتناول بعض الأمثلة التي من شأنها أن تلقي ضوءا على الموضوع .
أذكر مثلا أني قرأت في مقابلة مع جارثيا مركيز ذكر فيها أن مدرس مادة الأدب في المدرسة( أو الجامعة) سأل التلاميذ
عن دلالات البقرة في أعمال مركيز الروائية ( الام ترمز ؟ ) ، وكان من بين التلاميذ ابن مركيز نفسه . المدرس وبعض التلاميذ شرقوا وغربوا في الاجابة عن دلالات البقرة ورمزيتها ، أما ابنه فأصر على أن البقرة لا تعني شيئا في روايات أبيه سوى البقرة وأنها بدون مدلول رمزي أو تأويلي أو مجازي. أراد الابن التأكد من وجهة نظر أبيه بعد أن نقل له ملابسات الحادثة فوجدها مطابقة لوجهة نظره .. وفي القابلة اياها شدد مركيز على الدور السلبي الذي يلعبه النقاد والمشوه لدلالات رواياته ، وتأثير النقاد المخرب للفهم العادي للجمهور .
المثل الثاني في السياق نفسه، الشكوى المتكررة التي طالما سمعناها أو قرأناها لمحمود درويش عن الدور التسطيحي الذي يقوم به النقاد والقراء على حد سواء عند قراءة بعض نصوصه قراءة سياسية هي خلو منها أصلا . هذه الرغبة الجارفة في تسييس كل شيء خصوصا عند الفلسطينيين هي ما عزاها درويش ل " النرجسية الفلسطينية " العالية التي غالبا ما تفرغ الواقعي من محتواه ، مثلما حصل عندما تأول كثيرون قصيدة أحد عشر كوكبا ،بوصفها قصيدة رمزية حول موقفه الرافض لاتفاق أوسلو . وقد ساءه كثيرا هذا العمى الذي لا يرى في ابداعه الجمالي الا اسقاطا سياسيا على مناسبات راهنة مما جعله يشكو من الظلم الواقع على فهم ابداعه الادبي بتسطيحه وقولبته وتقويله ما لا يقول لدرجة أنه قام بكتابة قصيدة حول الموضوع هي قصيدة " السروة انكسرت " :
ألسروةُ إنكسَرَتْ كمئذنةٍ، ونامت في السروة
الطريق على تَقَشُّف ظِلِّها، خضراءَ، داكنةً،
كما هِيَ. لم يُصَبْ أَحدٌ بسوء. مَرّت
العَرَباتُ مُسْرِعَة ًعلى أغصانها. هَبَّ الغبارُ
على الزجاج... ألسروةُ انكسرتْ، ولكنَّ
الحمامة لم تغيِّر عُشَّها العَلَنيَّ في دارٍ
مُجَاورةٍ. وحلّق طائران مهاجران على
كَفَاف مكانها، وتبادلا بعضَ الرموز.
وقالت امرأةٌ لجارتها: تُرَى، شأهَدْتِ عاصفةً؟
فقالت: لا، ولا جرَّافةً... والسروةُ
انكسرتْ. وقال العابرون على الحُطام:
لعلَّها سَئِمَتْ من الإهمال أَو هَرِمَتْ
من الأيّام، فَهْيَ طويلةٌ كزرافةٍ، وقليلةُ
المعنى كمكنسةِ الغبار، ولا تُظَلِّلُ عاشِقَيْن.
وقال طفلٌ: كنتُ أَرسمها بلا خطأ،
فإنَّ قوامَها سَهْلٌ. وقالت طفلةٌ: إن
السماءَ اليوم ناقصةٌ لأن السروةٌ انكسرت.
وقال فتىً: ولكنَّ السماءَ اليوم كاملةٌ
لأن السروةَ انكسرتْ. وقُلْتُ أَنا
لنفسي: لا غُموضَ ولا وُضُوحَ،
السروة انكسرتْ، وهذا كُلُّ ما في
الأمرِ: إنَّ السروة انكسرت
ما يريده درويش هنا يلخصه المقطع الأخير : لا مجاز ولا رموز السروة انكسرت ؛ انظر كم هي عادية هذه العبارة : " وهذا كل ما في الأمر : ان السروة انكسرت " . ولو أن درويش ترك القصيدة بدون العبارة الأخيرة لقرأنا وسمعنا كلاما لا آخر له عن الشموخ الفلسطيني الذي خر صريعا بمؤامرة اقترفتها اما" العاصفة "كرمز للنوايا السيئة والمؤامرات الخفية المطبوخة بليل ، أو الجرافة الأسرائيلية كرمز لارادة البطش والتدمير لكل ما هو فلسطيني أصيل وجميل . والسؤال المهم هنا حول قصيدة درويش أيهما أجمل القصيدة المتضمنة للمقطع الأخير العادي أم بدونه ؟؟؟ أترك الجواب للقارىء أما جوابي أنا فقد بات معروفا .
الكلام هنا عن الغرق في مستنقعات الاوهام الترميزية قد يطول في الحالة الفلسطينية المصابة بالأيديولوجيا حتى الهستيريا، والمسكونة بالنرجسية الساذجة في تمجيد الذات ،التى أشار اليها درويش ، قد يطول لدرجة كتابة اطروحات جامعية عنها .
المثل الأخير في سياق كلامي السابق هو اتفاق وجهة نظر الشاعر مريد البرغوثي مع درويش في الشكوى المستمرة من ترميز كل شيء فلسطينيا لدرجة أننا فقدنا فنيا البوصلة تجاه الواقع الحقيقي ، فلم تعد الزيتونة زيتونة في النصوص ولا البرتقالة ما هي . بل يقودنا وهمنا الى استنطاق ما نزعم أنها المعاني الدفينة المضمرة والمخبوءة خلف ووراء العبارات العادية لدرجة ،غربنا فيها الشعراء عن شعرهم وصرنا حكاما على دلالاتها أكثر منهم أنفسهم . خذ مثلا المقطع التالي للبرغوثي من قصيدة طويلة بعنوان" الشهوات " :
اتركى فسحة كى نقشر هذى القداسة
عن كل شعر بليد يحبك
والرمز عن حبة البرتقال
لا ترمز البرتقالة في الادب الفلسطيني دائما الى بيارات يافا التي حولها الاحتلال الاسرائيلي الى معسكرات ومستوطنات بعد طرد أهلها منها . .يمكن لواحدنا أن يتذوق معنى " حبة البرتقال " بالاحالة الى لونها الرائع أوطعمها أو ملمسها ولنا الحق في هذا يقول البرغوثي ، فلماذا نبحث خلف معناها العادي والطبيعي عن معان وطنية مقدسة ؟ واجبنا كشعراء يقول البرغوثي هو فضح هذاالشعر البليد والتخلص من الرمزية الجبرية التي صارت ملاصقة لحبة البرتقال ، اليس هذا النقد بحد ذاته في القصيدة بكثافته الابداعية هو ما يمنحها هذا المعنى الجمالي ؟
ليس معنى كلامي هذا أنني ضد الرمزية باطلاق وضد تأويل العمل الفني الواحد تأويلات عدة ، ولكني ضد المبالغة والاغراق
في التأويل والترميز لدرجة تشويه جمالية العمل الفني ، وضد الأد لجة المبالغ فيها للجمال والتسييس المفرط الذي يقف عائقا بيننا وبي التذوق المعافى لأي عمل ابداعي . أقول التذوق المعافى بالتشديد على كل حرف من حروف "معافى "، مما يجعلني مضطرا لاستعارة نصك الجميل يا أستاذ كوكو عن الجمال الخالص الذي لا يتحقق بدون فهم معافى متحرر منعتق من المعرقلات والكوابح التي تحول دون الوصول اليه ، تقول : " ولكننا نبحث عن الجمال الخالص ". لا يفسد هذا الجمال أن نبحث في التفاصيل الفنية ،كما لا يفسده أن يكون للعمل الفني مدلولات ايديولوجية . يفسده بالطبع تقويله ما لايقول وتحميله من التأويلات والدلالات ما لا يحتمل . وشكرا جزيلا لك ولبقية القراء على صبركم علي .
أخي وعزيزي كوكو ، يبدو أنني كنت أكتب هذا التعليق على نصك في الوقت نفسه الذي كنت تحلل فيه بقية نصوص اللبدي ، وبما أني بطيء في الطباعة فقد انتبهت بعد انتهائي منه الى اضافتك الثمينة . على العموم ردي على تعليقك يقتصر على المقطع الأول فقط ،لذلك وجب التنويه على أن أعود لمناقشتك مرة اخرى بعد ابداء وجهة نظرك أنت أو سواك فيما كتبت . وشكرا لك وللأخ تموز .