البعث و القيامة عند اليهود وعند السومريين والبابليين و المصريين :
البعث و القيامة عند اليهود وعند السومريين والبابليين و المصريين :
تدل النصوص السومرية والبابلية على أن هناك تشابها تاما بين تلك النصوص حول فكرة البعث و النشور في حياة أخرى بعد الموت , فكلاهما ينكران البعث و القيامة , فقد وصف السومريون و البابليون العالم الآخر على أنه عالم الظلام و الرهبة , وهو المكان الذي إذا ذهب غليه الإنسان لا يخرج منه أبدا . وقد سماه السومريون العالم السفلي الذي يحكم فيه الإله" نرجال " وينعتونه أحيانا بمدينة الأموات , وقد سماه البابليون " أرالوا " و الناس في هذا العالم كما ورد في ملحمة جلجامش متساوون . وقد ورد في وصف الآخرة في القصيدة التي تصف نزول الآلهة عشتار إلى هذا العالم في بداية الربيع من كل عام لتخرج زوجها تموز إله الخضار و الربيع فقيل إنه موضع مخيف مسّور بسبعة أسوار ضخمة يحرس كلا منها مردة الشياطين وتتولاه الإلهة " إيرشكيكال " إلهة الظلام و الدجى و الموت . وخلاصة القول أنه ليس في عقائد البابليين و السومريين ما يوعد به الإنسان من آمال دينية لذيذة بعد الموت , أي لا توجد عندهم جنة ونار أو نعيم أو جحيم . وأثر هذا الاعتقاد في الحضارة السومرية و البابلية جلي واضح في جميع مقوماتها حيث تطغى عليها صفة المادية و النعيم و المتعة في هذه الحياة .
( تظهر إحدى الصور أنابيب خزفية في جوف الأرض لإيصال النذور و القرابين إلى آلهة العالم السفلي وقد وجدت هذه الأنابيب الخزفية مدفونة تحت الأرض في مدينة أور السومرية ممتدة بصورة عمودية إلى زهاء أربعين قدما و يعتقد أنها دفنت بهذا العمق بغية إيصال النذور و القرابين إلى الآلهة " إير شكيكال " آلهة الظلام و الموت . وقد استدل الباحثون على ذلك بما عثروا عليه داخل الأنابيب من شقف الأواني التي رميت في فتحة الأنبوب تحت أرضية البناء وهي نوع من الأواني التي كان السومريون يقدمون فيها نذورهم إلى الآلهة فوق الأرض ).
وكان أقرب مثال واقعي للموت عند الأقوام هو النوم , فكان السومريون و البابليون يعتقدون بأن الميت يحتفظ بشيء من الشعور يستمر ملازما له عند اللحظة التي يغمض فيها عينيه , وكانوا يتصورون " أن روح الميت تتمثل في شبح سموه " أدمو " ينزل مع الميت إلى العالم السفلي ويبقى معه هناك في حال دفن الميت وفق الطرق و المراسيم الدينية المقررة , وإذا لم تتوفر هذه الشروط انقلب هذا الشبح روحا خبيثة يخرج من عالم الأموات في الأرض السفلى ويكزن ديدنه إلحاق الضرر و الأذى بالأحياء ولا سيما بأقارب الميت ئ, ولذلك عني الناس عناية شديدة بدفن الميت بموجب القواعد الدينية منعا لخروج " أدمو " من عالم الأموات .
أما إذا رجعنا إلى التوراة فلا نجد أي ذكر فيها لفكرة البعث و النشور في حياة أخرى أو لدار العقاب ودار الثواب في العالم الآخر . و التشابه ظاهر جلي في كلا المصدرين البابلي و التوراتي في الثواب و العقاب الزمنيين , فالنص التوراتي يشبه تماما النص البابلي في أن العقاب زمني في هذه الدار الدنيا كالآلام و المرض وفقد المال و الموت العاجل و تسلط الأعداء الخ ... أما بعد الموت فيذهب الإنسان إلى دار الأموات " وفي الظلام يذهب و اسمه يغطي بالظلام " وهذا نفس عالم الظلام البابلي حيث يتساوى الجميع فيه , " أليس إلى موضع واحد يذهب الجميع " , وكلمة التساوي هذه هي نفس التعبير الوارد في النص البابلي . وقد سمت التوراة العالم السفلي البابلي و السومري باسم " سلاه " ولعل كلمة " سلاه " تعريب لكلمة " شيئول " العبرية التي تعني الهاوية , و الهاوية معناها في الأصل الميثيولوجي مكان الأموات من هبط إليه لا يصعد , وهذا نفس كلام السومريين و البابليين " المكان الذي لا خروج منه " , وسمته أيضا : " الظلام و ظل الموت " وهو نفس كلام البابليين " عالم الظلام و الرهبة " وفي مكان آخر سمته " الجب و أسافل الجب " ووادي ظل الموت . ومن المرجح أن الكنعانيين الذين أخذ الإسرائيليون عنهم تقاليدهم وعاداتهم بل و أكثر شرائعهم كانوا يحملون نفس الفكرة التي اعتنقها اليهود في هذا الصدد .
وقد ظهرت جماعة من اليهود مؤلفة من طبقة الكهنة وبعض الكتبة كانت تجاهر بمبدأ نكران البعث و النشور و القيامة وتذهب إلى أن عقاب العصاة وإثابة المحسنين إنما يحصلان في حياتهم , وهؤلاء صاروا يعرفون بالصدوقيين نسبة إلى رائدهم الأول صدّوق أو صادق , وكان هؤلاء يرفضون كل ما هو خارج عن الوحي المدّون في أسفار موسى الخمسة ثم نشأت فكرة العقاب عند علماء اليهود في وقت لاحق . فقال بعضهم بوجود سبع دور متناوبة الدرجات , ورأى بعضهم أن للعقاب دارين دار عليا وأخرى سفلى , واحدة لعقاب الجسد في هذه الحياة و أخرى لعقاب النفس في الآخرة , ولهذه سبع دركات متفاوتة حسب تفاوت الذنوب , ومنهم من قال أن الناس يقسمون بعد الموت إلى ثلاث فرق , فرقة صالحة حسناتها تربو على سيئاتها تتمتع بالسعادة الأبدية حالا و فرقة طالحة تزيد سيئاتها عن حسناتها تعذب عذابا أبديا وفرقة ثالثة بين بين تعذب في جهنم مدة حتى تطر من ذنوبها فتصعد إلى السماء .
وقد ظهرت قبيل عهد المسيح فرق من اليهود تؤمن بالقيامة و بالعقاب و بالملائكة فكان أقدمهم السامريون الذين اتخذوا هيكلا خاصا لهم في جبل جرزيم في شكيم ( نابلس الحالية ) , حيث مارسوا عبادتهم منعزلين عن اليهود الذين كانوا على خلاف ديني معهم وقد اشتدت العداوة بينهما , " ويلاحظ في سفر المكابيين تأكيدا قويا للمجازاة في الحياة الأخرى ولقيامة الموتى وذلك دليل على فكرة متطورة عما بعد الموت اعتنقها فيما بعد الفريسيون وعلّمها المسيح و تركها للكنيسة " . و الفريسيون فرقة من الفرق اليهودية المتأخرة يؤمن منتسبوها بالقيامة و بالروح و بالملائكة على نقيض الصدوقيون الذين لا يؤمنون بالقيامة ولا بالروح ولا بالملائكة , وكان بولس الرسول فريسيا من حيث إيمانه بالقيامة قاومه اليهود وناصبوه العداء وهم الصديقيون . " ولما علم بولس أن قسما منهم صدوقيون و القسم الآخر فريسيون صاح في المحفل أيها الرجال الأخوة أنا فريسي وأنا على الرجاء و قيامة الأموات أحاكم , فلما قال ذلك وقع خلاف بين الفريسيون و الصدوقيون و انشقت الجماعة , لأن الصدوقيون يقولون بعدم القيامة وعدم الملاك و الروح والفريسيون يقرون بذلك كله ". ولابد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن قول بولس أنه فريسي إنما عنى به اتفاقه معهم في الإيمان بالقيامة , ولكنه كان يختلف معهم في قبول الأحكام المتوارثة على لسان الأسلاف وفي جملتها التلمود , ولذلك كان الفريسيون بزعامة يوحنا بن ذكاّي الذين لا يقبلون بغير التوراة المدّونة ومعهم الصدّيقيون الذين لا يؤمنون بالقيامة وقد ناصب كلاهما المسيح العداء .
أما المصريون القدماء , فكانوا يعتقدون بوجود دار للعقاب ودار للثواب , وأن النفس بعد الموت تحاكم في حضرة الإله " أوسيرس " واثنين وأربعين قاضيا , وتوزن هي وأعمالها , فإذا وجدت ناقصة حكم عليها لاعقاب , إما بأن تساق إلى الأرض لتحل في جسم حيوان من الحيوانات النجسة أو تلقى في دار العقاب حيث النار و الأبالسة , وقد تطهّر من آثامها فيسمح لها بالعودة للأرض و الظهور في جسد الناس , ذلك ما يدل بوضوح على أن الاعتقاد بخلود الروح وفي الحياة بعد الموت كان مبدأ دينيا أساسيا في حياة المصريين القدماء , بخلاف ما كان عليه السومريون في هذه الناحية , وذلك على الرغم من العثور في مقبرة أور السومرية على مواد تركت للأموات عند حجر قبورهم و التي تعطي الانطباع أن السومريين كانوا يعتقدون بالحياة الأخرى أيضا , إذا يؤكد المستر وولي الذي قام بالتنقيب في هذه المقبرة أنه لم يجد أي دليل على ارتباط هذه المواد بأية صلة دينية تتعلق بالاعتقاد في الحيلة بعد الموت . وقد ابتكر المصريون طريقة التحنيط للأجساد لحفظها من عوامل البلى وشيدوا أهراماتهم و جعلوها قبورا تحفظ فيها الأجساد بعد انفصالها عن الأرواح , لذلك كان الأهل و الأقرباء يتركون في الحجرة التي يوضع فيها الدفين ما يحتاجه بعد عودة الحياة إلبه من مفاخر الطعام ولذيذ الشراب . وكانوا يزينون حجرة الميت بزخارف ينقشونها على الجدران تشتمل على مشاهد تمثل مختلف تحركات الميت في حياته اليومية الأكثر دينية .
عن كتاب العرب واليهود في التاريخ
الدكتور أحمد سوسة
|