الشك واجه نظرية التطور منذ لحظاتها الاولى. الحلقات المفقودة، كانت احدى الحجج الاكثر شعبية بين ناقدي الداروينية. من المثير ان تشارلز داروين نفسه كان يغمره القلق بالنسبة لهذه النقطة التي اعتبرها التهديد الرئيسي لصحة نظريته، فهو يعلم انه من الصعب تأكيد صحتها إذا لم يكن بالامكان العثور على دلائل على وجود حلقات عن مختلف مراحل التطور السابقة. اليوم نعلم انه لم يعد هناك مبرر لقلقه، إذ تم العثور على آلاف المستحاثات للعديد من الحلقات التي تتطابق تماما مع النظرية.
بالتوافق مع العثور على الحلقات المفقودة تزايدت معلوماتنا عن خط سير التطور، الذي ظهر بعيدا للغاية عن الصورة التي توقعها له داروين. الانواع نشات وتطورت وتفرعت وانقرضت بطريقة معقدة وطويلة وليس بالطريقة المباشرة والمستقيمة التي تصورها داروين وزملائه في البدايات الاولى.
نرى ذلك عندما نشر داروين كتابه الشهير "On The Origen of Spices", عام 1869 حيث كان النقد الاول الذي توجه له هو من قبل داروين نفسه، عندما تسائل: "إذا كان التطور جرى على مراحل، فأين اثار المراحل السابقة؟"، وهي التي جرى التعارف عليها، فيما بعد، بتعبير "الحلقات المفقودة". يعبر داروين عن قلقه قائلا:" هذه الحجة هي الاكثر جدية التي يمكن استخدامها ضد نظرية التطور". فيما بعد استخدمت هذه الكلمات النبوية من معارضين من مختلف التوجهات، للطعن بالنظرية، على مر عصور. الشك بنظرية التطور على مراحل، لازال موجودا لدى البعض حتى اليوم، وبالاخص عند المؤمنين التي لاتسمح لهم إعتقاداتهم الدينية بالقبول بالنظرية، وليس لكون النظرية خطأ. المشكلة انهم على خطأ. التطور على مراحل اثبت نفسه بعدة طرق، ليس اقلها من خلال العثور على الحلقات المفقودة بأعداد كبيرة. لقد كانوا على الدوام موجودين، بما فيه في وقت داروين.
المشكلة بالنسبة لداروين انه قام بأبحاثه في القرن الثامن عشر، حيث اللقى المستحاثية كانت لازالت قليلة وغير مفهومة. منذ ذلك الوقت جرى العثور على العديد من اللقى التي تمثل العديد من المراحل عبر فترة التطور بكاملها وحتى اليوم. الحلقات المفقودة موجودة في كل مكان حولنا. آلاف الحلقات جرى توثيقها، ووصفها وتصنيفها، ملئت العديد من المجلدات.
بعض المستحاثات تُظهر تغييرات غير ملحوظة والى درجة كبيرة متقاربة بين الانواع القريبة والتي تنتمي للعائلة ذاتها، ولكن الاخرى والتي اشتهرت تحت تسمية " الحلقات المفقودة"، بما معناه انها المراحل المتوسطة التي تزيل الاختلافات بين طورين، كانت اختلافات تسلسلية عميقة وواضحة. التغييرات في السلوك والبنية التشريحية والبيئية تركت آثارها الواضحة في كل الانواع ابتداء من الميكرومجهرية مرورا بالحشرات والاسماك والطيور والقوارض. بمعنى اخر، انه تطور بالمعنى الحرفي للكلمة وعلى جميع الاصعدة.
دراسة العلم للعالم ووظائفه هو علم، نسبيا، جديد. الملاحظات عن عالم الكائنات الحية تمتد لبضعة مئات سنة فقط. إذا كنا نريد ان نلاحظ التحولات على مدى فترة اطول، بضعة الاف من السنوات او ملايين السنوات، لابد لنا من ان ندرس هذه التحولات من منظور اخر، من خلال المستحاثات. إذا كانت نظرية التطور صحيحة، لابد عندها ان يكون هناك الكثير من المستحاثات التي تدل على وجود كائنات من المراحل المتوسطة لمختلف الكائنات الحية اليوم، من حالة تشريحية الى حالة تشريحية اخرى.
على الرغم من ان المستحاثات الحلقية كانت لازالت غير معروفة، الا ان داروين كان على ثقة من وجودها. في عصره كان Archaeopterxy, وهو الطائر الاول، لازال غير معروف، وفقط نوع واحد من القرود الانسانية كان معروفا، وحتى الديناصورات المكتشفة كانت قليلة للغاية، وكان الباحثين لايعلمون الكثير عن العصر الكامبري. إضافة الى ذلك كانت مستحاثات الحشرات غير معروفة على الاطلاق، ولم يكن قد وصل الى علمهم شئ عن اوائل الفقريات او اي فكرة عن وجود pterodactylus, وهو اول حيوان طائر في العصر الجيروسي.
في عصر داروين، كان من اوائل التحديات التي وقفت امام مؤيدي نظريته هو التمكن من فهم الميكانيزم الذي وقف خلف تحول الرخويات (مثلا) الى حيوانات فقرية. التشكيلة الواسعة من الاحياء، (الحية)، قادرة على القاء ضوء على المشكلة، في بعض الاحيان.. مثلا، يظهر لنا النوع Cephalochordata, وكأنه المشروع التجريبي لبقية الاسماك الفقرية. في البدء لم يكن يجري تصنيف هذا الكائن بين الاسماك وانما بين مجموعة Mollusca, (الرخويات)، والذي ظهر، فيما بعد، خطئه، وتشريحها يقدم لنا بنية وسطية بين الرخويات واشباه الفقريات، مثلا امتلاكه notochord, ولكن عن اي كائن تطورت؟
مجموعة من الكائنات البحرية المتميزة، ومن بينها زنابق البحر، Balanus improvisus, لديها يرقات تشبه اسماك Cephalochordata، لكونهم يملكون notochord. لاشك ان هذا الامر لعب دورا في قراءة داروين لتفسير الكائنات المصدرية الممكنة، ولكنه كان منزعجا لكون المستحاثات (في ايامه) لم تكن تقدم له البراهين الضرورية.
فقط في زمننا اصبح بالامكان استخدام المستحاثات، التي ساعدتنا، ليس فقط على تصنيف اشباه الفقريات في مكانها المناسب زمنيا، وانما اعطتنا المعلومات عن شكلهم السابق وطريقة حياتهم. احدى افضل الامثلة على ذلك هو Pikaia, الذي هو من اشباه الفقريات ولكنه ايضا شكل بدائي للاسماك ايضا، عاش قبل 500 مليون سنة ويعود الى العصر الكامبري وعثر عليه في كولومبيا البريطانية. الباحثين عثروا على العديد من الانواع التي تعود الى اشباه الفقريات، ومن العصر الكامبري، خصوصا في الصين، وهناك نماذج لانواع اقدم من البيكايا. هذه المجموعة تسمى yunnanozoaner, ولهم خصائص لازالت تحيا عند الاسماك والفقريات، مثلا مجموعة مميزة من العضلات وذيل حقيقي، ويعتبرون الحلقة التطورية بين Cephalochordata وبين السمك الفقري الحقيقي.
معروف لنا السمكة Arandaspis وهي سمكة سابقة للسمك الذي يملك العظام وكانت تعيش قبل 500 مليون سنة، وطولها حوالي 5 سم، في حين ان رأسها كان مغطى بعظمة يحميه، وله فتحات للعيون والغلاصم والفم. وهذا النوع لم يكن يملك حنك، ويعتقد انه كان يتغذى على الكائنات الصغيرة الموجودة في الماء، من خلال امتصاص الماء.
حلقة اخرى تقدمها لنا الاسماك الاولى التي كانت صغيرة، وكانت بدون حنك ولها زعنفة ظهرية طويلة الى نهاية الذنب. المستحاثات تقدم لنا صورة تدريجية عن تسلسل ظهور الزعانف والغلاصم الاكثر تعقيدا. ولكن الاكثر اهمية هي المستحاثات التي تقدم لنا صورة تطور الكائن الاول من الفقريات ذو الاطراف الاربعة، والي اطلق عليه اسم tetrapod.
الترابط بين سمك "الزعانف القدمية"، Sarcopterygii ،وهي اسماك تستنتد زعانفها السفلى الى قواعد عظمية، مثلا Latimeria chalumnae, وبين السحالي Amphibia معروف منذ العشرينات من القرن الماضي. الباحثين متفقين على ان الاسماك الاولى من نوع الزعانف القدمية، انحدروا عن مجموعة من الاسماك السابقة من العصر الديفوني، عاشت قبل 370 مليون سنة. يوجد لدينا اليوم العديد من المستحاثات تعود الى اشباه التيترابود والى التيترابود، وعلى الرغم من انهم قدموا لنا جزء كبيرا من صورة الانتقال بين الانواع، الا انهم لم يقدموا صورة كاملة تغطي جميع مراحل المسيرة من البحر الى البر.
النجاح الكبير حدث عام 2006. في كندا، في جزيرة ايللسيميره Ellesmere, حيث عثر الباحثين على مايسمى Tiktaalik roseae, وهي مستحاثة، الى حد بعيد، في حالة جيدة، تقدم صورة انتقالية بين الاسماك والتيرابود. تيكاليك عاش قبل 375 مليون سنة، في الحقية الديفونية، وكان له زعانف سمكية وذيل سمكي، ولكن رأسه ومكان تموضع الاعين تُذكر بالتمساح. الزعانف الامامية اصبح لها بنية عظمية تشبه مالدى اليد، والرقبة اصبحت متحركة، وقادرة على التنفس عن طريق الغلاصم والرئة. ومع ذلك لازالت هناك خطوة تطورية بين التيكتاليك والتيرابود. هذه الخطوة جرى العثور عليها منذ فترة قصيرة، بفضل العالم السويدي Per Ahlberg, حيث تمكن من تركيب هيكل لسمكة أُطلق عليه Ventastege, وهي سمكة من نوع التيرابود ولكنها بدائية للغاية.
السمكة المسماة Diplocaulus, والتي عاشت قبل 270 مليون سنة، في عصر بيرم المتأخر، تقدم لنا ارضية للتشابه مع الضفادع، برأسها المميز واطرافها الاربعة القصيرة.
عادة يجري التكلم عن التطور على انه خطوات، كل خطوة منه تحتاج الى خطوة لاحقة، وكل خطوة منه ضرورية من اجل الخطوة اللاحقة، ومع ان ذلك يستخدم من اجل تسهيل السرد، إلا ان حقيقة الحال ليست كذلك. مثلا عندما عاش التيكتاليك لم يكن فقط من اجل ان يقدم اساس لقدوم تيترابود. على العكس، إذ يقدم لنا صورة واضحة عن خريطة تطوره الخاصة، ونحن نعلم من المستحاثات ان فروع لحيوانات تشبه التيكتاليك طورت صورتها الحيوية الخاصة على مدى ملايين السنوات. بمعنى اخر يمكن اعتبار التطور هو متعدد الفروع، وان الحيوان يتطور في سعيه للتخصص واستغلال الفرص المتاحة، والصورة الاحصائية المسماة cladogram, تقدم لنا صورة التطور على شكل شجيرة كثيفة منعددة الفروع وليس مدرجة.
الفكرة الرئيسية التي حصلنا عليها من خلال التراكم المستمر في مجموعتنا من المستحاثات ، هي ان كل هذه المجموعات من الاحياء، المؤلفة من مئات الآلاف من الانواع، كل واحد منها على حدى يملك تاريخاً طويلاً قبل ان تجري الحاجة للتغيير الذي قدم لنا النوع الذي بقي حيا حتى اليوم.
احدى المجموعات المستحاثية الكبيرة والمميزة، تقدم لنا بوضوح صورة كاملة لتسلسل تطور التنقلات عند الفقريات. Synapsida يطلق عليها غالبا بالسحالي اللبونة، والاشهر من ضمن هذه العائلة، والداخل في العائلة الفرعية pelycosaurier, معروف تحت اسم Dimetrodon. هذا الكائن عاش في امريكا الشمالية واسيا واوروبا في عصر بيرم الجيلوجي، قبل حوالي مابين 278-260 مليون سنة. في زمنه كان اكبر حيوان مفترس وله اقدام قصيرة منفتحة الى الجوانب (كما لدى السحالي اليوم)، وله ذيل طويل ورأس كبير وحنك قوي ومجموعة كاملة من الاسنان، بما فيها الانياب. إضافة الى ذلك كان يملك صفيحة كبيرة على ظهره، على الاغلب لها وظيفة مزدوجة، ان تتحكم بتنظيم حرارة الجشم وان تخيف الاعداء.
ولكن، وبما ان التطور يقدم على الدوام فروعا جديدة، فقد ظهرت مجموعات جديدة من السينابسيد في عصر البيرم والتريا الجيلوجي. لقد اصبحوا الحيوانات المسيطرة على مدى 60 مليون سنة. في اواخر حقبة البيرم الجيلوجية نشأت مجموعة جديدة من السينابسيد جرى تصنيفها تحت إسم cynodont. هذه المجموعة تميزت عن سابقتها بحنك وعضلات حنك ذوي بنية متطورا. انهم يقتربون اكثر الى الحيوانات اللبونة، ويشكلون فرعا اكثر تخصصا. اغلب المستحاثات التي تقدم لنا الحلقات التنوعية المؤسسة لاغلب الانواع الحالية قادمة من العصر الجيلوجي نفسه. Titanophoneus والذي عاش قبل 255-220 مليون سنة يعتبر الجد السابق للثدييات الحالية.
العديد من المستحاثات الباهرة في إظهارها لتحولات مفتاحية والعائدة للسينابسيد، معروفة منذ زمن طويل، في حين كان الامر اسوء عند مجموعة tetrapod, اي الطيور. في سبعينات القرن الماضي قام العالم John Ostrom, بإجراء حوار اشار فيه الى العديد من الحصائص التشريحية للطائر المبكر المعروف بإسم Archaeopterxy ، التي يتقاسمها مع الديناصور المسمى dromaeosaurier.
بعد ذلك ظهرت الفرضية ان الطيور انحدرت عن الديناصورات من خلال مجموعة فرعية تسمى maniraptorer. فقط في تسعينات القرن الماضي تمكنت المكتشافات المستحاثية الجديدة من املاء الفراغ المعرفي مابين الدروميصاور والطير الحالي. لقد وصلت المستحاثات الموثقة اليوم الى مرحلة اصبح فيها بالامكان إضاءة العلاقة بين الديناصور والطير الحالي الى اعلى مستوياته، الى درجة يمكن مقارنتها بما نملكه من الادلة عن العلاقة الواضحة مابين السيانبيد والثدييات. وتماما كما كان الامر مع السيانبيد، تظهر ادلة تطور الطيور ان التور لم يكن على الاطلاق مباشر او بسيط، وانما على الدوام متفرع ومعقد.
مثلا، Microraptor, لم يقم، فقط، بتطوير زوجين من الاطراف المكسوة بالريش، وانما خلفهم كان يوجد ايضا طرفين اخريين، مما يجعله ذو اربعة اجنحة، وبالتالي مختلف تماما عمن قبله وبعده. وإذا كان هذا الكائن قادر على الطيران، فلابد ان ذلك كان يحدث بطريقة لازلنا لانتمكن من فهمها.
من المحتمل ان السينابسيد والمانيربتور يجري ذكرهم نادراً في الادبيات الشعبية ، في حين نرى ان الحصان يقدم لنا غالبا كنموذج صارخ على ميكانيزم التطور، وللاسف غالبا بطريقة مبسطة واحيانا خاطئة.
العرض الكلاسيكي لدليل الحصان مبني على فكرة ان هناك علاقة مباشرة ومستقيمة بين الحصان الصغير الذي كان يعيش في الغابات Eohippus, وبين حصان السهوب الكبير Equus, ولكن يتجاوزون ان هذين النوعيين يشكلان فقط اثنين من العديد من الفروع التي تفرعت وتطورت على مدى 60 مليون سنة. من خلال تحليل المعطيات التشريحية القادمة من المستحاثات العائدة للحصان التاريخي نجح الباحثين في وضع خارطة تطورية cladogram, وكما هو متوقع ، تشبه شجيرة يتفرع عنها عشرات الانواع، بل وحتى عدد من المجموعات الخاصة والتي انقرضت لاحقا، وليس لها اي علاقة مع الحصان الحالي. اول كائن يعتقد انه الاقرب الى الحصان الحالي كان Merychippus, والذي عاش قبل 17-11 مليون سنة. كان ارتفاعه لايزيد عن 120 سم.
التطور لايملك قمة او نهاية. وإذا اخذنا الحصان كنموذج، نجد العديد من المجاميع التي شكلت نقطة تحول تاريخي تقدم خصائص مميزة لمنعطف بيلوجي، في الكتالوج المستحاثي. اليوم نعلم بوجود مالاحصر له من المستحاثات التي تشكل منعطف بيلوجي في تطور الحيتان، تبدء من حيوان صغير من الثدييات الى حيوان كبير مؤهل للحياة في الماء. نملك مستحاثة عن بقرة بحرية لاتملك ذيل بحري مفلطح ولها اربعة اطراف ملائمة للساحة ولكن لها بنية عظمية تساعدها على السير على اليابسة. مثلا Basilosaurus, كان حوتا طوله 18 متر، وعاش قبل 45 مليون سنة، وكان يتنفس الهواء تماما كالحوت الحالي، ولكن لم يكن له فتحة لخروج الهواء، وانما كان الهواء يخرج من الانف ايضا.
توجد ايضا ادلة مستحاثية لافيال مبكرة صغيرة، يُشكل النقطة الانتقالية بين الاشكال الاقدم من سحالي مشابهة للخنزير والاشكال الاحدث العائدة mastodont والافيال. وبالنسبة للمجموعة التي ينتمي اليها الانسان، نعلم بوجود عشرات من انواع الانسان البدائي والقرود البدائية والتي تشير الى مدى التعقيد الذي يمر به الكائن في رحلة تطوره. بمعنى اخر، فالبراهين على حلقات التطور توجد بأعداد كبيرة وكافية.
الدكتور طريف سردست