أخي الفاضل / التجاني :97:
الأصدقاء :97:
تحية وسلاما
سوف أحاول أن أوضح إحدى السمات الأسلوبية التي يمكن أن نراها في القصيدة بشكل واضح والتي سيطرت علي الأداء الشعري فيها ومدي تأثيرها علي الأداء الفني في النص
والسمة الأسلوبية المقصودة هنا هي( المزاوجة المجازية بين الاسم والصفة ) حسبما سك التعبير الدكتور / محمد العبد
راجع دراسته ( سمات أسلوبية في شعر صلاح عبد الصبور ) علي هذا الرابط
http://www.jehat.com/ar/salah/page-11a.htm
وسوف أورد المقطع الأول من القصيدة للتدليل علي كثافة ورود هذه السمة الأسلوبية والتي قد يري القارئ أنها لم ترد في بقية المقاطع بنفس الكثافة
ولكن مع ذلك أستطيع أن أقرر أن عدم ورودها في بقية المقاطع بنفس الكثافة لا ينفي وجودها الراسخ في النص ومدي تأثيرها البالغ علي الأداء الفني فيه
في الرؤيا ألمح دمعتك الثكلى
تنساب كغيث بعده ريح ولهى
تغسل وجه مدينتنا البالي
تحيي أعشاب الريف الميتة
تروي كرمتنا الأولى
لا أرتابْ
أتملى مؤقيك المخمورينْ
ينداح إلي عبير الذكرى
فأجس النبض المكلوم
أجس خرائطك المدفونة
في وشم التاريخ
على ذاكرة الأشواق السفلى
يحضرني الغسق "الوجدي"
تلاحق فيك طيوري العطشى
فاكهة الأنثى، ورحيق الصوت المنبثق
فأجس جوانحك الأخرى
وأنا معتصم بجدائلك السبع
لعل تقيني من غرقي
ببحيرة عينيك المسكونة بالأشباح العشرهْ
المقطع يتكون تسعة عشر سطرا وردت فيه ست عشرة صفة
( دمعتك الثكلي – ريح ولهي – وجه مدينتنا البالي – أعشاب الريف الميتة - كرمتنا الأولي - مؤقيك المخمورين – النبض المكلوم – خرائطك المدفونة – ذاكرة الشواق السفلي – الغسق الوجدي – طيوري العطشي – رحيق الصوت المنبثق – جوانحك الأخري – جدائلك السبع - عينيك المسكونة – الأشباح العشرة )
وتتنوع الصفات في المقطع من حيث ترتيب ورودها في السطر الشعري ولكن الكثافة الغالبة أيضا أنها تتجه للورود في نهاية السطر في هذا المقطع
وما يهمنا في رصد هذه السمة الأسلوبية هو مدي تأثيرها علي النص سواء من الناحية الدلالية أو التأثير في المتلقي
فمن الناحية الدلالية فإن الشاعر يقصد قصدا لتوضيح الاسم بالصفة المخصوصة دون غيرها
فمثلا في السطر الأول
في الرؤيا ألمح دمعتك الثكلى
وصف الدمعة بالثكلي له دور في انتاج الدلالة بخلاف ما إذا قال دمعتك اليتيمة مثلا والفرق واضح بين الثكل واليتم الذي قد يفهم منه اليتم بمعني فقدان الأب أو الأم أو يفهم منه الدمعة الواحدة التي لا تتكرر ويرشح للدخول في جو القصيدة الدلالي فيما بعد من زاوية أن تلك المرأة المطروحة في القصيدة ( ثكلي ) من ناحية - الإبن / الحبيب / البطل المخلص الغارق في همه /الشاعر- وأن القصيدة ما هي إلا حالة لإعادة التواصل المفقود بينهما ورأب الصدع
أو في السطر الثاني
تنساب كغيث بعده ريح ولهى
فوصف الريح هنا بكلمة ( ولهي ) ينتج دلالة تختلف عن صفات أخري مثل حزينة أو متحيرة إلخ
لأن الوله حسب اللسان (الوَلَهُ: الحزن، وقيل: هو ذهاب العقل والتحير من شدّة الوجد أَوالحزن أَو الخوف. والوَلَهُ: ذهاب العقل لفِقْدانِ الحبيب )
راجع لسان العرب مادة ( وله )
وتتفق هذه الدلالة مع صفة ثكلي السابقة عليها في السطر قبله في انتاج الدلالة المطلوبة
ولن أتعرض لباقي الصفات لرصد وجوه الالتقاء الدلالي سواء بالاتفاق أو التعارض وأثره في انتاج المعني المطلوب يكفي أن أقرر هنا أن الصفات جاءت علي نحو مجازي في الأغلب الأعم ينتج الدلالة من ناحية المعني مصورا , وبذلك فلم تقتصر الصفة علي مجرد التوضيح الدلالي وإنما تعدت ذلك إلي شحن الاسم الموصوف بشحنة عاطفية نتيجة المجازية المنطوية في الصفة
فإذا كانت تلك السمة الأسلوبية كثيفة تبين لنا أن هناك اختيارا من الشاعر في استعمال تلك التقنية لضرورة فنية يقصد إليها , فما الذي يبغي الشاعر إيصاله ؟
فيما أري فإن الشاعر حين يحدد مجال حركة المقطع ويبدأه بكلمة ( في الرؤيا ) فإنه يدفعنا لتصور الحالة المسرودة علي أنها رؤيا حلمية أو حالة من حالات التجلي الصوفي أو أي حالة من حالات الرؤية غير الاعتيادية
ولما كانت آلية انتاج هذه الحالات تعتمد علي التصوير دون اللغة كان لابد من شحن اللغة بآليات تصويرية فكانت تلك التقنية
فالشاعر في هذا المقطع يصور لنا الرغبة العارمة في حالة البعث من خلال اللقاء الحميم في الرؤية بين الرجل و - المرأة / الثورة / القصيدة / الوطن الطالع – هذا البعث يتجلي في غسل وجه مدينته البالي بما يحمله لفظ مدينتنا من حمولة حضارية ويحيي أعشاب الريف الميتة بما يحيل إليه من موروث ثقافي خاص بالشاعر ( لفظة الريف خاصة بمكان ثقافي) تروي كرمتنا الأولي بما تحمل من موروث تاريخي
لا يرتاب الشاعر في هذه الرؤيا فهو مثل النبي الذي رد عندما قيل له ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ) فقال : لا أشك ولا أسأل , وسطوة الرؤية تدخل الرجل في حالة من الوجد الصوفي الذي يتملكه فلا يستطيع منه فكاكا إلا بالتعلق بالرؤية ذاتها يمتح منها ما يجعله ثابتا في تلك الرؤية
في المقطعين التاليين المبتدأين بجملة ( يا سيدتي ) يبدأ الشاعر في إنشاء حوارية جدلية مع الموضوع لكي يقدم لنا هموم الذات في رؤيتها وعلاقتها بموضوعها يختمه في المقطع الأول منهما بالسطرين
لا أدري يا أنت المتقلب وجهك
مثل سماء حبلى
والذي في إحالته للتناص مع الآية القرآنية يوقعنا في الحيرة إذ لا ندري مصدرالصوت هل هو صوت الموضوع المتحاور معه أم صوت الذات الأخري في الشاعر كما كان الصوت السماوي في الآية والفعل الإنساني من النبي بما يغني لدينا أن هناك امتزاج شديد بين الذات والموضوع
باقي القصيدة هو تنويع علي تلك الرؤية ( رغبة البعث ) أو إنشاء علاقات مختلفة متطورة في الدلالة بين الذات والموضوع أو حيثيات لرغبة البعث مثل :
والميزان المسبي يحركه التاج يمينا ويسارا ( العدل المفقود )
والحاكم يلهو بالسبحة حينا. ( التقنع بالدين للخديعة )
وعيون الشعب مفتحة ما عادت تهفو ( موت الأمل لدي الشعب الذي يدرك ولا يحلم بالتغيير )
سيدتي، ما زال الحاكم يهذي ( فساد البوق الإعلامي )
وبطبيعة الحال فقد بث الشاعر خلال القصيدة همومه القومية والإثنية والثقافية والإجتماعية الخاصة والتي كانت المحرك لفعل الإبداع وأوردها كاشارات في القصيدة ولم نناقشها هنا إلا من ناحية المحرك للإبداع مثل ( أعشاب الريف الميتة ) ,(الغسق الوجدي ) نسبة إلي مدينة وجدة , ( زحف السيبة ) , ( أنا غير النافع ) فالمغرب ينقسم إلي المخزن ( المغرب النافع ) والسيبة ( المغرب غير النافع ) وكان لابد للشاعر مع وضع هذه الكلمات داخل مؤشرات أن يضع هوامش للقارئ غير الملم بتاريخ المغرب وأوضاعه السياسية .
ولن نناقش هنا هذه الهموم القومية والثقافية والاجتماعية
ومن ناحية التأثير في المتلقي فإن الصفة بخواصها التي ألمحنا إليها لها ميزة أخري أنها تجعل القارئ منجذب للقصيدة بفعل الشحن العاطفي حتي لو كان غير مدرك للفكري في القصيدة
و بالنهاية أرجو أن تستمتعوا بهذه القصيدة الجميلة
كوكو