هيوم أعظم المفكرين
هيوم أعظم المفكرين
هناك مفكرين عندما تطّلع على أفكارهم , من أول مرة تدرك أنهم يذكرون أفكار هامة ودقيقة ( وطبعاً هذا مرتبط بميولك والأفكار والمعارف والعقائد التي تتبناها ) . عندما اطلعت على أفكار هيوم وكان هذا منذ حوالي 40 عاماً , ذهلت لمدى أهميتها ودقتها , وأعجبت به واعتبرته أعظم المفكرين اللذين اطلعت على أفكارهم . فغالبية ما يذكره يؤكده الواقع الذي نعيشه , فهو يضع يده على أسس وخفايا الطبيعة البشرية .
إن غالبية ما توصل إليه من أفكار ومعارف أكدته المعارف والوقائع التي تم التوصل إليها بعد أكثر من 200 عام . وكان تأثيره كبير وهام وأساسي على مسيرة الفكر , وعلى غالبية المفكرين إن لم يكن جميعهم .
لقد نظمت القناة الرابعة في راديو بي بي سي منذ فترة , استفتاء طلبت فيه من مستمعيها اختيار أعظم عشر فلاسفة في العالم . وجاءت نتيجة الاستفتاء أن كارل ماركس هو الأول , والثاني دافيد هيوم , والرابع نيتشه , والسادس كانت , والثامن سقراط , والتاسع أرسطو, والعاشر كارل بوبر .
وهذا أكد لي أن رأي , أن هيوم أعظم المفكرين كان دقيقاً .
لقد عرف هيوم أهم المعارف الأساسية التي تهمنا وهي :
1 - أن الأحاسيس والعواطف والانفعالات هي التي تقرر غالبية تصرفاتنا وتوجهاتنا , وأن الفكر والمنطق يتبع لهم , وأننا نعتمد بشكل أساسي أحكام قيمة وليس أحكام واقع .
2 - وعرف أصول وأسس السببية التي يعتمدها عمل عقلنا بشكل أساسي .
3 - و أن الذات أو الأنا متغيرة ومتطورة وليست ثابتة , وعدم وجود جوهر للذات .
4 - وأصول الدافع الديني .
والعجيب أنه نشر هذه الأفكار والمعارف الدقيقة منذ أكثر من 200 سنة , ولم يتبناها إلا القلائل , ولم تنتشر بشكل واسع . فالذين اطلعوا عليها أكثرهم لم يتبنوها أو هاجموها وسعوا لنقدها .
وهذا إن دل على شيء , فهو يدل على مدى دقة الأفكار التي ذكرها ويؤكد صحتها. فنحن لا تهمنا الحقيقة أو المعارف الدقيقة , بل ما يفيدنا وتساعدنا في حياتنا وتمنحنا اللذة والسعادة وتبعدنا أن الألم والشقاء . وهذا ما ذكره وأكده هيوم .
ولد ديفيد هيوم في مدينة أدنبرة باسكتلندا شمال إنجلترا سنة 1711 لأب يعمل محامياً. توفى أبوه وهو في الثالثة ورباه عمه جورج الذي كان راعي كنيسة متشدد. وفي سنة 1722 التحق هيوم وهو في الحادة عشر بمدرسة أدنبرة ا. ودرس فيها علم الفيزياء الذي كان يسمى آنذاك بالفلسفة الطبيعية، وتعرف فيها على نظرية نيوتن، وتلقى تعليماً في الآداب الكلاسيكية اللاتينية التي عرفته على أعمال المدارس اليونانية الأبيقورية والرواقية التي سوف تسهم في تشكيل فكره الفلسفي . يعتبر أكبر فلاسفة المذهب التجريبي . تأثر به عدة فلاسفة في أوروبا و أمريكا أشهر كتبه: كتاب في الطبيعة الإنسانية ألفه بين 1739-1740 . كتاب ( بحث في الفهم الإنساني ) ألفه في 1748عام . وكتاب ( بحث في المبادىء الأخلاقية ) عام 1751. و وكتاب ( محاورات في الدين الطبيعي ) عام 1754, وكتب أخرى.
لقد وضع هيوم نظرية متكاملة تفسر المعرفة , والأخلاق , والدين , والاقتصاد ، على أساس الطبيعة البشرية . وفي نظره إن كل ما ينتجه الإنسان من علوم ومعارف مشروط بطبيعته المكونة بصفة أساسية من مجموعة من الرغبات والانفعالات والمشاعر والاعتقادات ، ومن بنية ذهنية قوامها ملكات معرفية ثلاثة هي الإدراك الحسي ، والمخيلة , والفهم.
كانت المشكلة الأساسية بالنسبة لهيوم هي مشكلة المعرفة: طبيعتها ووجودها . استفاد هيوم من لوك في حله لهذه المشكلة، ذلك لأنه استعار من لوك "المنهج التجريبي في الاستدلال أو البرهان"، واعترف بأن لوك قد سبقه في البدء بدراسة الفهم البشري كنقطة أولى لدراسة المعرفة.
إلا أن استخدام هيوم للمنهج التجريبي تميز عن استخدام لوك له في الدقة والصرامة المنهجية، بل والشجاعة التي أدت بهيوم إلى السير مع الفلسفة التجريبية حتى نهايتها المنطقية والتي تمثلت عنده في نزعة شكية أو نسبية، إذ ذهب هيوم إلى أن كل معارفنا نسبية ودرجة الاحتمال فيها عالية، وأننا لا نستطيع أن نعرف بدقة الطبيعة الحقيقية لموضوعات الميتافيزيقا مثل النفس والألوهية والحرية والغائية.
كل ما نعرفه معرفة يقينية هو أشياء العالم الحسي التجريبي الخاضع للإدراك الحسي والخبرة التجريبية، فهذا هو الحد النهائي للمعرفة البشرية الذي لا تستطيع تجاوزه.
ويقدم لنا هيوم هذه الفكرة الصريحة الخاصة بالمنطق والعلاقات السببية , فكل أنواع الفكر والفهم الإنساني يمكن أن تنقسم إلى نوعين:
1 - علاقات فكرية ومسائل تختص بالحقائق . من النوع الأول نجد الحساب، الجبر والرياضيات؛ وباختصار، كل ما هو مؤكد إما بالحدس أو بالوضوح الكامل... المسائل التي من هذه النوعية تكتشف بمجرد تنشيط بعض العمليات الفكرية، وبدون الاعتماد على أي شيء متواجد في الكون.
2 - المسائل المختصة بالحقائق، وهي النوع الثاني من أنواع الفكر الإنساني، لا تتأكد بنفس الطريقة الأولى (العلاقات الفكرية)؛ وليس من دلائل لتوضيح حقيقتها، مهما كانت عظيمة، مثل ما يحدث في النوع الأول. وفيها النقيض الخاص بكل مادة حقيقة ما زال ممكناً؛ لأنها تدل ضمنياً على تناقض.
وعلى أساس نظريته التي وضعها في كتابه ( بحث في الطبيعة البشرية) , الذي يتكون من ثلاث كتب : الأول عن الفهم، وفيه يتناول هيوم الأفكار من حيث أصلها وأجزاءها وما يجري عليها من تجريد وما يحدث بينها من علاقات، بالإضافة إلى أفكار الزمان والمكان والسببية والاعتقاد والاحتمال.
والكتاب الثاني عن الانفعالات، وفيه يتناول هيوم الكبرياء والتواضع، والحب والكره، والإرادة .
والكتاب الثالث عن الأخلاق، وفيه يتناول الفضيلة والرذيلة، والعدالة والظلم، والخير والإحسان.
وضع هيوم كل أعماله الفلسفية التالية , لشرح وتوضيح ما جاء في هذا الكتاب ، وأهمها ( بحث في الفهم الإنساني) , وفيه يعيد عرض الجزء الخاص بنظرية المعرفة في ( بحث في الطبيعة البشرية ) مع مزيد من التوضيح وإضفاء الطابع النسقي على نظريته وفيه يتناول الأفكار من حيث أصلها وأجزاءها وما يجري عليها من تجريد وما يحدث بينها من علاقات، بالإضافة إلى أفكار الزمان والمكان والسببية والاعتقاد والاحتمال . ويتكلم عن الانفعالات، وفيه الكبرياء والتواضع، والحب والكره، والإرادة.
وفي كتاب ( بحث في مبادئ الأخلاق ) يفصل ما عرضه في نفس الموضوع في بحث الطبيعة البشرية مع مزيد من التوسع وفيه يتناول الفضيلة والرذيلة، والعدالة والظلم، والخير والإحسان .
وفي كتابه ( محاورات في الدين الطبيعي ) يدرس الأديان الطبيعية السابقة على ظهور الأديان السماوية ويثبت كيف أن الدين ظاهرة صادرة عن الطبيعة البشرية وكيف أن الأديان السماوية تعد تطوراً عن الأديان البدائية. لذلك ينظر إلى هيوم على أنه فيلسوف الطبيعة البشرية لأنه أسس كل فلسفته بأجزائها المعرفية والأخلاقية والسياسية والدينية على أساس انطلاق كل هذه المجالات من الطبيعة الإنسانية.
انطلق هيوم من المبادئ الأساسية التي تحرك النفس الإنسانية مثل الانفعالات والأحاسيس، والمشاعر , والادراكات , والأفكار، مؤسساً عليها نظريته في المعرفة وفي الأخلاق , فهو يدرس الطبيعة البشرية من منطلق أنها مكونة من إدراكات بسيطة يصنع منها الفهم إدراكات مركبة، كما يدرس هذه الإدراكات على أساس الترابط بينها في الذهن ، وهو ما يعرف بنظرية ترابط الأفكار.
ويميز هيوم بين نوعين من الانطباعات: انطباعات الإحساس . وانطباعات التفكير .
وهو يرى أن كل معرفة هي معرفة بشرية، أي ظاهرة إنسانية، وكي نعرف طبيعة المعرفة البشرية ونوضح النسق العام الذي يضم كل العلوم التي يمكن أن تنتجها المعرفة البشرية فيجب البدء بالبحث في الطبيعة البشرية.
ولهذا السبب يضع هيوم عنوان أحد أهم مؤلفاته تحت اسم "بحث في الطبيعة البشرية".
فالطبيعة البشرية عنده تبدأ بالإحساس وبملكة الإدراك الحسي ، ثم ملكة الفهم التي تستقبل من الحواس انطباعات تعاملها كأفكار فتبني عليها , وتقيم بينها علاقات . وأن العلم الدقيق للطبيعة البشرية هو علم النفس، ويجب أن تكون الفلسفة تعتمد على ذلك . فالفلسفة الحقة عنده هي علم النفس. وقد كان هذا الإعلان من قبل هيوم ثورياً في عصره .
لم يسبق لأحد من المفكرين أن اعتبر علم النفس هو الأساس الذي يجب الانطلاق منه لبناء فلسفة موضوعية توضح حقيقة الإنسان ، وكان هيوم بذلك سابقاً لسلسلة من المفكرين في القرنين التاسع عشر والعشرين الذين عاملوا علم النفس على أنه الباب الذي يجب أن تدخل منه الفلسفة لدراسة موضوعاتها . وكان تأثيره القوي على كل الاتجاهات الفلسفية من بعده.
ويعتبر الكثيرين أن هيوم الرائد للمذهب التجريبي , فهو يعتبر من طليعة الفلاسفة الذين بشّروا بالمذهب التجريبي ، وكرّسوا كلّ جهودهم الفلسفيّة لتثبيته والدفاع عنه . وهو بشكل عام من أعظم الفلاسفة . وكان مؤثراً بشكل مباشر على الأعمال الفلسفية الأخلاقية والكتابات الاقتصادية لفلاسفة آخرين مثل آدم سميث و إيمانويل كانت , والكثير غيرهم .
نظر هيوم إلى كل معرفة تخص الإنسان على أنها فلسفة قيمية وأخلاقية بما فيها نظرية المعرفة ومبحث السياسة والدين والاقتصاد. ومعنى هذا أن ما يفهمه هيوم من مصطلح ( الفلسفة الأخلاقية) ليس مقتصراً على ما يفهم عادة منه أنه يخص مبحث الأخلاق , فهو يرى كما ذكرنا أن المعارف البشرية تنقسم إلى:
1 - فلسفة طبيعية أو واقع تضم كل معارفنا عن الطبيعة بالمعنى الفيزيائي والكيميائي و الأحيائي والرياضي .
2 - ولأن المعرفة ظاهرة إنسانية ، فقد نظر إليها هيوم على أنها تنتمي إلى الفلسفة الأخلاقية . وكان في ذلك , منطلقاً من الاعتقاد في أن ما يحدد كل إنتاج إنساني هو طبيعته القيمية وما يتضمن من انفعالات ومشاعر وعواطف وإدراك حسي ومخيلة وفهم . لذلك فإن هيوم قد وضع لبحثه في الطبيعة البشرية عنواناً فرعياً هو ( محاولة لإدخال المنهج التجريبي في الموضوعات الأخلاقية ) .
أن هيوم لم يكن هو أول من بحث في الطبيعة البشرية، ذلك لأن هذا البحث كان ملازماً للفكر الفلسفي منذ ظهوره لدى اليونان، لكنه يعد أول من بحث فيها انطلاقاً من المنهج التجريبي . وهو يقصد من المنهج التجريبي تتبع موضوعات الفلسفة من معرفة وأخلاق انطلاقاً من بداياتها الأولى ، فهو يدرس المعرفة انطلاقاً من الإدراك الحسي وانطباعات الحواس ، ويدرك الأخلاق انطلاقاً من الأحاسيس والعواطف والانفعالات .
وكان البدء بالإدراك الحسي والانفعالات لدراسة المعرفة والأخلاق يجعل نظريته سيكولوجية , فهو يرى أن علم النفس يجب أن يكون المنطلق . وأن علم النفس الذي يفهمه هيوم هو علم الطبيعة البشرية , ولهذا السبب ينظر إلى هيوم على أنه من إرهاصات علم النفس التجريبي الحديث.
وهدف هيوم من ذلك الوصول إلى الدقة العلمية التي حازتها العلوم الطبيعية في مجال الموضوعات الأخلاقية . كما هدف من تشريح الطبيعة الإنسانية الوصول إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لهذه الطبيعة. وقد أخذ إيحاءه في ذلك من الإنجاز الذي حققه نيوتن لعلم الطبيعة أو الفيزياء.
وينظر هيوم إلى الطبيعة البشرية على أنها في النهاية طبيعة، يمكن دراستها والوصول فيها إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لها تماماً فقد نظر هيوم إلى علم الطبيعة البشرية على أنه علم الوظائف النفسية .
فقد انطلق من المبادئ الأساسية التي تحرك النفس الإنسانية مثل الأحاسيس والمشاعر والانفعالات ، مؤسساً عليها نظريته في المعرفة وفي الأخلاق . ذلك لأنه اكتشف أن حركة النفس صادرة عن وظائف للنفس.
والمنهج التجريبي عند تطبيقه على الموضوعات الأخلاقية , يصبح بحثاً عن الوظيفة. وهو السبب الذي جعل هيوم يتوصل إلى أن أفعال النفس صادرة عن ملكات معرفية وحسية وانفعالية، وتحدث بتوسع عن الإدراك الحس والمخيلة والفهم باعتبارها ملكات معرفية.هادفاً التوصل إلى أهم القوانين والمبادئ التي تحكم الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني، الأخلاقي والمعرفي والسياسي والاقتصادي.
وكان هيوم ينظر إلى المنهج التجريبي على أنه هو المنهج العلمي ، وأن الدراسة العلمية للطبيعة البشرية هي دراسة من منطلق المنهج التجريبي . ومن متطلبات المنهج التجريبي رفض الانطلاق من أي تصورات قبلية مسبقة عن الطبيعة الإنسانية، بل ترك البحث يأخذ مجراه الطبيعي ملاحظاً سلوك الإنسان تاركاً التأملات القبلية في الطبيعة الإنسانية، مثل الافتراض بأنها طبيعة خيرة أو طبيعة شريرة، مثلما كان يفعل الفلاسفة القدماء ، و هو يرفض التأمل الباطني باعتباره وسيلة يتوصل بها إلى الطبيعة الإنسانية. ويشرع في بحث سلوك الناس وما يكشف لنا هذا السلوك من انفعالات وعواطف. وفي ذلك يقول هيوم: ( يجب علينا ممارسة تجاربنا في هذا العلم من الملاحظة الدقيقة والحذرة للحياة الإنسانية، وأخذها كما تظهر في العالم، عن طريق سلوك البشر في اجتماعهم وتسيير شئونهم وفي مشاعرهم .
ونظر هيوم لطبيعة المعرفة البشرية من منطلق أنها مكونة من إدراكات بسيطة يصنع منها الفهم إدراكات مركبة، كما يدرس هذه الإدراكات على أساس الترابط بينها في الذهن، وهو ما يعرف بنظرية ترابط الأفكار , وهذا الترابط هو ناتج عن طريقة عمل عقلنا . يقول هيوم في ذلك:
" هذه هي إذن مبادئ اتحاد وتجانس أفكارنا البسيطة، والتي تقدم لنا في المخيلة رابطاً لا ينفصل، بها تتحدد في الذاكرة. ونجد هنا نوعاً من الجذب، الذي سوف نكتشف أن له آثاراً كبيرة في العالم العقلي مثلما كان له في العالم الطبيعي "
و هيوم ينطلق في بحثه في الطبيعة البشرية من أفكار أساسية ، وعن طريق ملاحظة سلوك البشر. تذهب هذه الأفكار إلى أن ما يحكم السلوك الإنساني ، سواء كان معرفياً أو قيمياً أو أخلاقياً ، هو الإحساسات والعواطف أولاً , فعن طريق الإحساسات نتعرف على الوجود وتتكون لدينا أفكار عنه , فلأننا نتلقى إحساساً باللون الأزرق نعتقد في وجود هذا اللون، ولأننا نتلقى أحاسيس اللذة والألم تكون لدينا أفكاراً عن اللذة والألم , وبالتالي نسعى للحصول على اللذة وتجنب الألم .
فالطبيعة الإنسانية مؤسسة بحيث تجعلنا نستحسن أشياء ونرفض أشياء أخرى، ويعني هذا أن قبول أو رفض شيء ما سواء كان صحيحاً أو خاطئاً، جميلاً أو قبيحاً، خيراً أو شريراً، لا يعتمد على قرار نتخذه عن طريق الموازنة العقلية والاستدلال والبرهان، بل يعتمد على طبيعتنا البشرية التي هي في الأساس إحساسات ومشاعر.
والهدف الأساسي لدى هيوم هو اكتشاف الإمكانات والتوجهات الكامنة في الطبيعة البشرية والتي تجعلها تسلك سلوكها المعروف عنها , وأهم توجهات الطبيعة الإنسانية التي تتحكم في سلوك الإنسان ومعرفته ومعتقداته هي : الأحاسيس والعواطف والانفعالات , ويعلي هيوم من شأنها حتى أنه يعطيها الأولوية على العقل ذاته، ويجعل العقل نفسه خاضعاً لها , فهو يقول:
"العقل عبد للانفعالات، ولا يمكنه أن يفعل أي شيء سوى أن يخدمها ويطيعها "
أنه يرى أن الأحاسيس والعواطف والانفعالات هي ما يشكل الطبيعة الإنسانية . فالإنسان يسلك في حياته اليومية حسب نفس الصفات التي حددها هيوم للطبيعة البشرية ، واستخدام العقل والتفكير العقلاني مقصور على الممارسة العلمية والموضوعية. وإذا أردنا البحث عن الدوافع الأولى والأساسية للسلوك البشري فيجب علينا الانتهاء حتماً إلى الإحساس والعاطفة والانفعال لأن العقل لا يمكن أن يشكل دافعاً للسلوك. فهو يرى إن العقل الإنساني ليس سوى ملكة منظمة لما يتلقاه الإدراك من انطباعات على المستوى المعرفي ، أو ما تتلقاه النفس الإنسانية من لذة وألم. وهذا أكدته الدراسات الحديثة الآن " الذكاء العاطفي " .
هذا الدور التنظيمي المحدود للعقل يجعل للانفعال الأولوية القصوى لدى هيوم ، بل إن العقل نفسه لدى هيوم يعد ملكة في خدمة الانفعال ، حيث تضفي شيئاً من العقلانية والتبرير العقلاني المنطقي لدوافع وتوجهات ليس لها أدنى علاقة بالعقل بل تنتمي كلها إلى الانفعال.
ويصر هيوم على أن العقل والمنطق ليس له دور كبير في حياة البشر وسلوكهم . كما أن دوره متواضع في مجال الاعتقاد ، ولا يمكن للبشر أن يسلكوا ويستمروا في الحياة بدون اعتقاد , وعلى أساس العقل وحده لا يمكن الوصول إلى أي اعتقاد، وإذا كان البشر يسلكون وفقاً للعقل لتوقفوا عن الإيمان بأيّ اعتقاد لكن هذا غير ظاهر أو ملاحظ بالمرة، فالبشر يمارسون الاعتقاد كل يوم وفي كل وقت، وهذا أكبر دليل على أن العقل لا يشكل دور كبير في الاعتقاد الذي يتبناه الإنسان .
يطلق هيوم على موضوعات العقل إدراكات , وهو يقسم هذه الإدراكات إلى نوعين: الانطباعات . والأفكار . ويميز هيوم بين الموضوعات التي تدخل العقل على أساس تمييزه بين الإحساس والخبرة من جهة والتفكير والاستدلال من جهة أخرى، ذلك لأنه كي يتمكن العقل من التفكير والاستدلال فيجب أن يكون حاصلاً في البداية على انطباعات تأتي من الإحساس والإدراك الحسي , ويميز هيوم بين الانطباعات , والأفكار , فالفرق بينهما يتمثل في درجة القوة والحيوية التي تؤثر بها على العقل وتدخل عن طريقها في التفكير والوعي . فتلك الإدراكات التي تدخل بكل قوة وعنف يمكن أن نسميها الانطباعات، وتحت هذه التسمية نفهم كل إحساساتنا وانفعالاتنا وعواطفنا كما تظهر لأل مرة في النفس. ومعنى هذا أن الفرق بين الانطباعات والأفكار هو فرق في الدرجة لا في الطبيعة، والاثنان عنده من نوع واحد، إذ هما معاً إدراكات.
وإذا كانت الانطباعات حسية فالأفكار أيضاً حسية، وكل الفرق بينهما أن الانطباعات إدراكات تنطبع على الإدراك الحسي، والأفكار إدراكات تنطبع على العقل. وما ينطبع على الإدراك الحسي يكون قوياً وعنيفاً، وما ينطبع على العقول يكون خافتاً ضعيفاً. والإدراك المنطبع على الإدراك الحسي هو تأثر مباشر للحواس بالأشياء وبالخبرة التجريبية، أما الإدراك المنطبع على العقل فهو مجرد صورة خافتة للأشياء والخبرة.
وإذا كان الإدراك الحسي يتلقى تأثيرات قوية من الخارج فإن العقل لا يتلقى إلا صوراً , بمعنى أنه لا يتلقى الانطباع الحسي نفسه بل يتلقى صورة ذهنية عنه. ونتوصّل إلى التمييز بينهما بمعرفة مقدار القوّة والحيويّة الذي يصحب كلاً منهما في الذهن، فالإدراكات التي تنطوي على مزيد من القوّة والحيويّة , هي التي يدعوها هيوم انطباعات، وتندرج في هذه الطائفة جميع إحساساتنا وعواطفنا وانفعالاتنا.
وأمّا الأفكار، فهي الصور الواهنة لهذه الانطباعات التي نجدها في إدراكنا حال غيبة الموضوع عنّا، فنحن حين نواجه البحر نحصل على إدراك للبحر على درجة كبيرة من القوّة والحيويّة، وهذا هو الانطباع. فإذا غبنا عنه وتصوّرناه كان إدراكنا للبحر صورة لذلك الانطباع لا تتمتّع بما كان الانطباع يتّسم به من قوّة ووضوح، وهذا هو الفكر. فالانطباعات لها السبق دائماً على الأفكار، فكلّ فكرة بسيطة أو مركّبة مردّها إلى تلك الانطباعات.
إنّ الفارق بين التصوّر والاعتقاد ليس في المحتوى، بل في طريقة إدراكه , وهكذا نعرف أنّ الوجود ليس صفة تضاف إلى سائر صفات الشيء الذي ندركه، وأنّ اعتقادنا بوجود الشيء لا يزيد من العناصر التي يتكوّن منها ذلك الشيء. وهذا يعني أنّ الوجود ليس له فكرة خاصّة به تضاف أو تحذف من فكرتنا عن شيء معيّن نقول عنه: أنّه موجود.فالوجود ليس عنصراً من عناصر فكرتنا عن الأشياء، أي أنّا لا نملك فكرة للوجود؛ لأنّ ذلك يتطلّب أن نملك مسبقاً انطباعاً عن الوجود. ففكرتنا عن الشمس هي نفسها فكرتنا عن الشمس الموجودة . وبعض الأفكار ليست نسخاً لانطباعات مباشرة ، وإنّما هي مفاهيم انتزاعيّة عن أفكار أخرى ، هي بدورها نسخ لانطباعات مباشرة، ومن تلك الأفكار فكرتنا عن الوجود.
ولأن هدف هيوم الأساسي الكشف عن الطريقة التي يفكر بها الإنسان والتي تتحدد وفق طبيعته، ولأن هذه الطبيعة لدى هيوم طبيعة حسية انفعالية في الأساس , فلقد ذهب إلى أن التفكير غير ممكن إلا بحضور إدراكات في الذهن، وهذه الإدراكات إما أن تكون انطباعات أو أفكار.
ولأن الأفكار ذاتها ليست سوى صور عقلية لانطباعات حسية فمعنى هذا أن كل تفكير بالنسبة لهيوم ينطوي على استقبال لانطباعات، وبذلك يعطي الأولوية للإدراك الحسي في المعرفة.
وترد ا لمعرفة إلى تأثر الحواس بالأشياء في صورة انطباعات وأفكار، وهي تتبع عملية المعرفة إلى أبسط مكوناتها أو مدخلاتها الأولى من الإحساسات. كما أنها في نفس الوقت تنظر إلى المعرفة على أنها تبدأ بمرحلة الإحساس ثم الإدراك الحسي الذي يتلقى الانطباعات , ثم الذهن الذي تنطبع فيه الإحساسات في شكل صور ذهنية، ثم يصنع الذهن من هذه الصور الذهنية لأفكار , ثم لعلاقات .
و لهيوم نظرية خاصة فيه الجوهر، إذ يرفض أن يكون للجوهر وجود حقيقي في الأشياء ويذهب إلى أنه مجرد طريقتنا نحن في التفكير، وهو يختزل الجوهر إلى الانطباعات . وسبب حضور هذه الفكرة في أذهاننا , عادة عقلية في جمع صفات جزئية وأفكار بسيطة ترتبط معاً بعلاقات تحدثها المخيلة، ويطلق عليها اسماً عاماً بهدف امكان التواصل مع الآخرين وإفهامهم ماذا نقصد. وبالتالي فالجوهر ليس سوى اسم كلي لمجموعة من الصفات والأفكار البسيطة. و نظر هيوم إلى الجوهر على أنه مجرد اسم , وتعد نظريته هذه حول الجوهر من أكثر النظريات الفلسفية ثورية في العصر الحديث، وأثرت على فلاسفة التحليل والوضعية المنطقية .
فالمعرفة عند هيوم هي إقامة علاقة بين الأفكار، سواء كانت هذه الأفكار ترجع مباشرة إلى انطباعات الحواس أو كانت ترجع إلى انطباعات التفكير. ومعنى هذا أن المعرفة تضم المضمون المادي الذي تمثله انطباعات الحواس والشكل النظري المجرد الذي تمثله انطباعات التفكير. ويرى أن كل العلاقات التي يمكن أن تظهر بين الأفكار تتمثل في سبعة:
التطابق , والهوية , والعلاقات الزمانية والمكانية، والكم أو العدد، ودرجات الكيف، والتضاد، والسببية.
ويقسم هيوم هذه العلاقات إلى نوعين:
الأول يعتمد حصرياً على الأفكار التي تقارنها ببعضها البعض، وذلك مثل التطابق والتضاد ودرجات الكيف وأعداد الكم.
أما النوع الثاني فيعتمد على شيء من الاستدلال مثل الهوية والعلاقات الزمانية والمكانية والسببية. فعلى سبيل المثال فإن السببية لا تعتمد على إقامة مقارنة بين فكرة وأخرى بل تعتمد على استدلال من السبب إلى النتيجة أو العكس .
والاحتمال عند هيوم هو الاستدلال من افتراضات، وينقسم إلى نوعين: نوع يؤسس على الصدفة . ونوع ينشأ عن الأسباب. فكل استدلال يبني على وجود شيء بالصدفة يتصف بأنه احتمالي وعشوائي , والاستدلال المؤسس على الأسباب أيضاً احتمالي ( ولكن درجة احتماله عالية )، لأنه يفترض أن الحالات التي تثبت فيها صلة بين سبب ونتيجة سوف تتكرر، أو أن السبب الذي أحدث نتيجة في الماضي سوف يحدث نفس النتيجة في المستقبل، لكن ليس هناك ما يؤكد لنا هذا الانتظام ( الحتمي ) بين السبب والنتيجة في الحالات التي لم تخضع بعد للخبرة التجريبية .
|