الساعة الآن الثانية عشرة من منتصف ليل هذا اليوم أو منتصف يومه أو نهايته. أعرف أنها الساعة الثانية عشر من منتصف الليل –فقط- من أضواء غرفتي الباهتة، بالسكون القاتل تحت شباك غرفتي، وبالسواد الحالك خلف بابها الصغير المؤدي لبهو الشقة الصغير بدوره. أعرف أنها الثانية عشرة من منتصف الليل بوجه مرآتي الضخم الملتصق على كامل باب خزانتي والمتطلع لي بتحدي كلما نظرت إليه. أعرف أنها الثانية عشرة من منتصف الليل من مناداة الكمبيوتر المصرة إن حي على الانترنت وحي على الماسنجر وحي على نادي الفكر. لكنني سأقاوم، سأقاوم بهرجة الأضواء وسأطفئها بعد قليل، وسأقاوم مناداة الكمبيوتر وأنزع عنه سلك الهاتف، ثم سأتجه غير مباشرة إلى سريري لأنام، وأقصد بالامباشرة أني قبل السرير سأمر على مرآتي لتخبرني كم يوم كبرت، وكم يوم سأنقذ لو اتجهت إلى سرير مبكراً قبل أن تداهمني ساعات الفجر الأولى.
أما الآن، فأنا أتطلع لوجهي الصغير في المرآة، أراه منهك، يميل إلى السمرة والضمور نوعاً ما. هناك تحت عيني المتعبتين منطقة من السواد، وعندما أركز النظر أكثر بإغلاق عيني قليلاً لضعف وقصر نظر فيهما، تبرز خطوط كثيرة على كل أقطار عيني بوضوح جلي. شفتاي ينقصهما اللون، وأسناني بدأت تظهر عليهم نقط صفراء، ناهيك عن كل أضراسي العليا والسفلى التي نخر السوس فيها حفره ببراعة.
سأنقل أصابع يدي اليمني واليسار إلى شعري، وستظهر المرآة أن أصابعي مكسوة بالكرمشة، وأن لونها أدكن من كل بقاع جسمي، وأن سطحي يدي الخارجيين خشنان وسطحيهما الداخليين يفتقدان لأوليات النعومة.
أعرف أن نمط حياتي نمط يعجل بالعمر. ساعات نومي عشوائية حسب العدد أو التوقيت المناسب للنوم، فأحياناً أطبق برنامج "التطبيق"، و"التطبيق" هذا هو أسلوب لانوم حياتي علمني إياه صديق لصديق لي من مصر، منتمي لحزب التجمع ومتطوع في إحدى منظمات حقوق الإنسان وموظف دولة متواضع. يعتمد أسلوب "التطبيق" على مواصلة اليوم الأول بالثاني للذهاب للعمل مبكراً أو للسفر في ساعات الصباح الأولى مع الاحتفاظ بالسهر حتى آخر دقيقة تسبق الذهاب للعمل أو السهر أو فعل أي أمر آخر كالقراءة أو الاستماع للموسيقى، ويستحسن صرف آخر دقيقة في حضور الأصدقاء أو الرفاق أو أعضاء المنظمة. أسلوب "التطبيق" يعني أن تنام ثمان ساعات من كل 48 ساعة، أي أن تطبق يومين على بعضيهما. الفرق بيني وبين صديق صديقي المصري أنه مواظب على أسلوب "التطبيق" كنظام وبرنامج نومي، في حين أني أمارسه بانتقائية.
يأخذ مني العمل في أحسن الظروف ثمان ساعات يومية، ولكنها مضنية بين إجابات طويلة وقصيرة ومتتالية على الهاتف، قراءة البريد والرد عليه، الاستجابة لطلبات مدرائي ومديراتي وزملائي وزميلاتي، كتابة التقارير، وضع الخطط، إرسال الفاكس أو استقباله، استقبال الضيوف وحضور الاجتماعات داخل وخارج مكتب العمل، السفر المتكرر لمواقع برنامجي المترامي والمتشتت الأطراف من أجل المراقبة والمتابعة والتقويم... و... و... قد استمر في العمل إلى أكثر من 15 ساعة عند سفري إلى مواقع البرنامج والتقائي بكم هائل من العاملين والعاملات في البرنامج. تستنزف تلك الساعات كل مخزوني الغذائي والروحي وما أملكه من سر الزمن والعمر في داخلي أو خارجي.
في عطلة نهاية الأسبوع، أقوم بالتواصل مع كل شبكات الأصدقاء والصديقات القديمة والجديدة والبين بين. شبكات الأهل –أيضاً- جزءاً من تواصلي الأسبوعي. شبكات العمل المحلية أو الإقليمية أو الدولية تستقطع جزءاً كبيراً من عطلة نهاية الأسبوع عندي. قد أفعل أكثر من نشاط في يومين أو يوم: كالذهاب في رحلة، الغذاء خارج المنزل، العشاء خارج المنزل، حضور حفلة، تخزين القات، أو الإفراط في تدخين الشيشة واكتساب كمية نقط صفراء إضافية على أسناني، أو غير ذلك...
عند سفري للخارج، أكثف جهودي الاستكشافية والعملية والاجتماعية والسياحية. لا أتذكر أني قضيت ولو يوماً واحداً بمفردي على شاطئ بحر هادي وفي يدي كتاب. لم يحدث ذلك أبداً حتى لحظتي هذه! ما يحدث دائماً، أني أمرض لشهر كامل بعد عودتي من سفراتي الخارجية نظراً للإنهاك والضعف اللذين يصيبان جسدي وعقلي، ونظراً لتغير الجو في طقسه أو ثقافته أو غيرهما...
هل أخبرتكم أن نصف عائلتي يعيش بمدينة والنصف الآخر في مدينة تبعد 550 كم، الأمر الذي يستدعي مني الانتقال للزيارة والاطمئنان كلما جرني الشوق لفعل ذلك، وهذا الشوق قد يأتي شهرياً أو أسبوعياً.. كيفما شاء..
أما الأكل، فلا يعني لي شيئاً...
تعبت..
أعود لأفتش شعري بأصابعي تلك أمام المرآة. ما أراه هو شعر كث مجعد وإن كان المشط يمر خلاله بسهوله إلا أن تدرجاته طاغية. المرآة الروسية والجيدة الصنع والعتيقة ويساندها الأضواء تكتشف عن تقصفات كثيرة على شعري سواء في أطرافه أو في كل مكان منه. المرآة والأضواء يكشفون أن شعري ليس بالأسود الحالك ولكنه يميل إلى اللون البني ربما هناك نقص في علبة اللون تحت فروة رأسي! ثم تمتلئ أصابعي بالقشرة، ولا أدري ماسبب إنتاج شعري وفروته كل هذا الكم من القشرة رغم أنه غير قادر على التنفس فما بالك بالإنتاج.. أصبحت أعادي هذا الشعر وهذه الفروة، ألا يكفيهم أني أغسلهم بالشامبو كل يومين وأضع عليهم بلسم مرطب.. لكن طـز.. قبل سنتين ونصف.. كانت كمية شعري تساوي ضعف كميته الآن أمام المرآة، وكان يستجيب لرغبتي في إطالته كلما أردت ذلك، وكانت أجزاؤه متساوية في الكثافة عكس ما تظهره المرآة الآن من نقص جهة شعري اليمين عن جهته اليسار.. غريب هذا التمرد..
قررت أن أمشطه وأحزمه للخلف، وبدأت هذه العملية من ناصيتي. فرز المشط ناصيتي بيسر، وبيسر أكبر كشف عن شعرة بيضاء بزغت بالقرب من ناصيتي جهة اليمين الأقل كثافة والأقل جاذبية!!! شعرة بيضاء، لأول مرة أراها، ولأول مرة يتجاسر جسدي أو جزء منه في اتخاذ موقف منطقي من دون مراعاة لأدنى معايير العطف أو اللطافة معي.. ترددت في تصديق لون الشعرة الأبيض، قلت في نفسي ربما كان بنياً وبفعل الأضواء ومادة المرآة أراه –زيفاً- أبيضاً.. لا، تأكدت من كل الاتجاهات، إنها شعرة بيضاء صغيرة مزروعة على ناصية شعري جهة اليمين. ابتسمت.. ككل حالي عندما أقف في موقف لا ينفع معه حتى الوقوف.. هنا بالذات أتذكر القول المشهور: لا حول ولا قوة إلا بالله أو غيره.. أتذكر أمي وناصيتها المليئة بالشعر الأبيض على الجهتين اليمين واليسار والمحناة بالأحمر دائماً، فتتسع ابتسامتي. أتذكر شعر أبي الفضي منذ ولادتي. أتذكر شعر أختي الأكبر والوسطى الموزع فيه كمية لا بأس بها من الشعر الأبيض. أتذكر صديقين قريبين، أحدهما قال لي في لحظة صدق بأن "شعري الأجعد لم يكن يتسع لشيء حتى لفكرة حميمة".. والثاني يكرر أن "بحزن أحبك" ..
تباً لشعري الكث السمين الآن وهو أمام المرآة وتحت هذه الأضواء، تباً لكائن لم يستطع الاتساع للاحتفال بالأبيض في هذه اللحظة، لم يستطع حب الحزن في هذه اللحظة، ولم يستطع التفكير بالحميمية في هذه اللحظة...
[SIZE=2]
صرح بالنشر بتاريخ 24/11/2005م