شكلت الحرب الهاجس الأهم للإنسانية، منذ وجدت المجتمعات البشرية على وجه الأرض حتى اليوم، لما تسببه من مآس وويلات، تلحق بالمقاتلين وبالأبرياء، كما تصيب الممتلكات ومظاهر العمران والحضارة بشكل عام.
ولقد لجأ الإنسان إلى الحرب، كلما وجدها ضرورية لتحقيق أهدافه، فكان يشنّها للحصول على الخيرات، وللتحكم والسيطرة، ولتحقيق غير ذلك من الغايات.
وكانت الحرب وما زالت بحدود واسعة جداً، طليقة من القيود، إلا ما يرتضيه القائمون بها، الذين قد يمتنعون عما لا يجديهم نفعاً، دون استبعاد أساليب الانتقام والثأر وانفلات الغرائز.
وقد حملت التوراة المتداولة حثّاً لليهود على القتل والذبح والقضاء على الزرع والضرع لدى الشعوب المعادية.
أما الإسلام فقد وضع حداً للمآسي، ولم يسمح بالحرب إلا في حالات محددة، تلخصت في عهد الرسول، بالدفاع عن النفس، وبتسهيل إيصال الدعوة الإلهية إلى البشرية، من طريق ضرب من يتصدى لهذا الأمر، ثم تطورت لكي تستخدم، بعد إيصال الدعوة وانتشار الإسلام، ليقتصر استخدامها ضد الخارجين بالقوة على سلطة الإمام.
ولكن القواعد التي أتى بها الإسلام، لم يجرِ احترامها وتطبيقها بدقة وإخلاص، وكأنها نوع من الوصايا المنسية غالباً، والتي كان يتذكر منها هذا القائد أو ذاك بعض التفاصيل، عندما كان التمسك بها لا يكلفه ثمناً يخشاه.
ولكن نهاية المطاف لم تكن هناك، بل أن البشرية، التي اكتوت بنار الحروب ولا سيما بعد اكتشاف الأسلحة الانفجارية كالمدافع والبنادق ووسائل الدمار، التي أدّت إلى إزهاق أرواح عشرات ملايين البشر، أخذت تقتنع شيئاً فشيئاً بضرورة تقييد العمليات العسكرية، ببعض القواعد الحقوقية ذات الطابع الإنساني.
وقد كان للمفكرين اللاهوتيين الدور في العصور الوسطى، إلا أن المحاولات لم تثمر إلا في زمن متأخّر جداً، وخاصة في القرن العشرين.
لقد اقتنعت البشرية، بعدما دفعت الثمن الباهظ، بضرورة إلزام المحاربين بأن لا يستخدموا العنف المجاني، فيسببوا الآلام والخسائر دون أن يكون لذلك تأثير على سير الحروب، فأخذ المفكرون السياسيون والحقوقيون يعملون على تقييد العمليات العسكرية بالاقتصار على استخدام وسائل الدمار والقتل بالقدر الضروري للقضاء على قوة الخصم القتالية، وبممارسة وسائل الرحمة تجاه رعايا العدو من غير المقاتلين، أو الذين أصبحوا عاجزين عن القتال.
وعلى الرغم من التطور الحقوقي، الذي حصل في مجال (أنسنة) الحرب،
فإن مبادئ الإسلام ما زالت تعتبر مثالية ومتعذرة التطبيق، وستبقى كذلك بالنسبة إلى المفكرين من أرباب القانون الوضعي الغربي، الذي يعتبر القانون الشامل في كل بقاع الأرض اليوم تقريباً.
[SIZE=5]
فالإسلام إذا ما روعيت قواعده من قبل الجميع، فإنه يمكن أن ينهي الحروب إلى الأبد. وهذا ما لا يمكن أن توافق عليه القوى المتفوقة، التي تريد الحصول على ما ليس لها بحق، لا سيما وأن مبرر الحروب الرئيسي اليوم، والذي لا يستحيي الأقوياء من التذرع به، هو المصلحة وليس الحق بالضرورة.
[SIZE=4]
قواعد الحرب التي وضعها الإمام علي (عليه السلام)
لقد التزم الإمام علي (عليه السلام)، وألزم جيشه بكافة القواعد التي،
وضعها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وقد شدّد أكثر ما شدّد على مسألتين:
- الأولى:
تحريم الغدر ونقض العهود ) .
كما يؤكد في عهده إلى مالك الأشتر، عندما ولاه مصر، فيقول: (
وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة... لا تغدرنّ بذمتك، ولا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلن عدوك..) .
- والثانية:
عدم التعرض للنساء، ) (3).
أما
القواعد، ودون التمكن من فرض احترامها بشكل دائم. في حين أن البعض الآخر ما زال بعيداً عن أن يكون ولو مجرد حلم حتى اليوم:
أ-
القواعد التي توصلت البشرية إلى التوافق عليها
تندرج هذه القواعد تحت ثلاثة عناوين: مشروعية الحرب، معاملة الجرحى، معاملة المستسلمين.
1-
مشروعية الحرب
جرى التمييز في عدد من الاتفاقات والقوانين الدولية بين الحرب المشروعة والحرب غير المشروعة، فسوّغت الأولى واعتبرت الثانية خرقاً للقانون الدولي.
وقد اعتبرت حرباً مشروعة، الحرب لدفع اعتداء، أو لحماية حق ثابت. وهذا ما أكّده كل من ميثاق عصبة الأمم وميثاق هيئة الأمم المتحدة.
وكان الإمام علي (عليه السلام) يهتم بالمقابل بموضوع (
الإعذار) والإعذار هو إيضاح الأمر لدى الخصم ولدى الناس
(
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)
فقد كان الإمام (عليه السلام) يدعو الخصم إلى حكم الإسلام، وتحكيم القرآن، ويناقشه مناقشة مستفيضة، حتى لا يبقى له من حجة، ثم يعطيه الفرص الإضافية لعله يرعوي، حتى كان أصحابه يأخذونه بالتذمر، كما حصل قبل بدء العمل العسكري ضد أهل الشام في صفين، حيث تأخر الإمام (عليه السلام) عن السماح بالقتال، ليتيح لكل من يرغب في معرفة الحق، بأن يعرفه. وكان جوابه لما فوتح بذلك أن قال:
(
والله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة، فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي) .
فإذا أصر الخصم على مواقفه الخاطئة، عند ذلك كان الإمام (عليه السلام) يرى أن الحرب لابدّ واقعة. والمواقف الخاطئة التي يراها الإمام مسوّغة للحرب تتلخص باثنتين :
الأولى:
أن يدعي امرؤ ما ليس له.
والثانية:
أن يمنع الذي عليه، في ظل الحكومة الشرعية بطبيعة الحال.
فالحق المدعى المشار إليه هو
محاولة اغتصاب، أو اغتصاب فعلي لسلطة، أو لميزة يسأل الإمام عن الدفاع عنهما.
أما
الحق الممنوع فهو من الصنف الذي يجب على الإمام فرض احترامه.
وإذا حاولنا المقارنة مع قواعد الحرب الحديثة المعمول بها، فإننا نكتشف سموّ وتجرّد موقف الإمام (عليه السلام). ذلك أن الدول القوية اليوم تتوسع في تفسير كلمة (الاعتداء) الذي يبرر الحرب، فتعتبر أي
مساس بمصالحها، كما رأينا، اعتداء يستوجب ردعه اللجوء إلى الأعمال العسكرية، حتى وإن كانت هذه المصالح لا تستند إلى أي حق ولو وهمي مزعوم، أو لا تستند إلى أي حق بالمرة، وترى بعد ذلك أن حربها مشروعة، بينما تكمن المشروعية في نظر الإمام (عليه السلام) في تبيان مخالفة موقف الخصم للكتاب والسنة بكل وضوح وجلاء.
2-
معاملة الجرحى
أرسى الإمام (عليه السلام) مبدأ عدم استعمال القوة ضد من يعجز عن الدفاع عن نفسه، أو من يرفض هذا الدفاع، ومن هذا الصنف الجرحى، ذلك لأنهم فقدوا القدرة على التصدي ومنع إحقاق الحق، لذلك كان (عليه السلام) يأمر قادته وجنوده باستمرار أن لا يجهزوا على جريح. وقد حمل (نهج البلاغة) بكل وضوح هذه الأوامر، التي صدرت بمناسبة حرب الجمل وكذلك حرب صفين وغيرهما .
وبعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً، أقر القانون الدولي ضرورة العناية بجرحى الخصم، والامتناع عن تعمّد زيادة آلامهم .
وإذا كان الإمام (عليه السلام) لم يأمر بنقل جرحى خصومه إلى المستشفيات، لعدم وجود تلك المستشفيات بشكل فعلي، فقد كان يترك أمر العناية بهم إلى قيادتهم، عن
طريق عدم التعرض لمن يمكن أن يتولوا العناية بهم، إذا كان هؤلاء لا يباشرون قتالاً كما سنرى، وهذا قبل إنشاء الصليب الأحمر بقرون طويلة.
3-
معاملة المستسلمين
كان الإمام (عليه السلام) يأمر بعدم التعرض للعاجزين والممتنعين عن القتال بقوله: (
ولا تصيبوا معوراً) أي الذي أمكن من نفسه فلا يدافع عنها. وهكذا فإن الأسير في هذه الحالة سيكون بمنجى عن أي أذى، بل إن القواعد الإسلامية العامة تقضي بإطعامه والرفق به . وهذا ما لم يكرس إلا في اتفاقية جنيف المؤرخة بـ12 آب 1949، التي طورت اتفاقية جنيف لسنة 1929 ونظام لاهاي لسنة 1907.
ب-
القواعد التي لم تتفق عليها الإنسانية حتى اليوم
تتلخص هذه القواعد بأربع وهي:
قاعدة البدء بالقتال، الموقف من الفارين من جنود العدو ومن المختبئين، مسألة توفير الماء، ومسألة الغنائم.
1-
البدء بالقتال..) .
2-
الموقف من الفارين
كان الإمام
ينهى عن اللحاق بالفارين من المعركة، ..) .
وليس هذا فحسب، بل كان (عليه السلام) ينهى عن
كشف الستر ودخول المخابئ).
وقد طبّق (عليه السلام) هذا المبدأ أحسن تطبيق، وذلك في حرب الجمل عندما وجد في مواجهة بيت اختبأ فيه كل من عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وغيرهما، بعد هزيمة جيش الجمل، فامتنع عن فتح البيت والدخول إليه .
3-
موضوع الماء
كان الإمام (عليه السلام)
يأمر بعدم منع عدوه من الحصول على الماء،) .
هل ينطبق هذا الموقف على الغذاء؟
إن سيرة الإمام لم تفصح عن ذلك، ولكن إذا جاز لنا القياس فإننا نقول بأن علة عدم منع الماء يمكن أن تكون نفسها علة عدم منع الغذاء، وهذه العلة هي حق الحصول على ما يسدّ الحاجات الأولية الضرورية. ممّا يحصل عليه جميع الناس وحتى الحيوانات. ولعل الذي يعزّز هذا الرأي أن الإمام (عليه السلام) كان لا يسمح باغتنام الأموال، وهذه القاعدة يمكن أن تنطبق على الغذاء باعتباره من الأموال. وهذا ما سنراه في ما يلي:
4-
الغنائم
لم يكن الإمام (عليه السلام) يسمح بالاستيلاء على الغنائم من الجيش المعادي، إلا ممّا
يمكن استخدامه في القتال) . لأن المسلم لا يجوز الاستيلاء على ماله إلا بثمنه، فهو ملك له ولورثته من بعده.
نقلا عن موقع المعصومين الاربعة عشر المبارك
http://www.14masom.com/14masom/03/imam-hkok/11.htm
اللهم صل على محمد و ال محمد
لا فتى الا على و لا سيف الا ذو الفقار