خالد الحروب
(الي مريد البرغوثي)
هنا الدهيشة يا صديق الحرف المباغت والانشداه الطفولي. هنا أنا حيث ولدت وحيث أعود وحيث أبعث حيا من جديد. هنا اخطو خطوتي الأولي صوب مخيمي، بوجل غزالة وانتباهات نمر: خطوة الرضيع بعد ملل الحبو الطويل. علي عتبة هذا المخيم المقدس تنفض قدماي أربعين خريفا تعفرت بها في كل مدن الأرض. أعود يا أمي تائبا بعد خطيئة البعاد. أرمي رأسي علي صدر الحليب الأول، كما غادرته، وأغفو. أهمس في أذن صديقي أرجوك لا تيقظني. أتركني نائما بلا أمد، ودعني أسوح في أزقة عريي الأول. دعني أعود قدمين حافيتين تتراكضان بلا بوصلة. تأتيان أول ما تأتيان الي هنا. لماذا هنا، وليس في وادي فوكين ، عنوان البداءة الأولي، قريتي قبل اللجوء. أيه بيت لحم. مدينتي التي أعرفها ولا أعرفها. أيه وادي فوكين ، قريتي التي أتوه عنها. وأيه أيها الدهيشة، مخيمي الذي أتسرب فيه. ما عدت بعد اليوم بعيداً ارقبك. رأيتك هدمت كل الأسوار التي حاصروك بها. دككت بوابة السجن التي فرضوها عليك ذات انتفاضة. وظللت طالعا صاعدا تنجب زعترا ومقاتلين . كنت أتشاوف بك حيث كنت، من دون أن أراك.
قدماي اليوم تتحسسان صلابة أرضك الحنون، كما كانتا قد تحسستاه يوم اشتد فيها نبض المشي والعثرة الأولي. أخطو خطوتي الأولي الجديدة لا عثار فيها، تنتظم علي ترنيم وجع الفرح البريء، وأدلف فيك دفعة واحدة كقبيلة غازية. قبيلة في واحد أنا. أنا مليون لاجيء يقبضون علي حد الوعد، ويغرسونه سارية في ساحة المخيم. أقف أمام السارية، لا أجثو، ولا أدمع. أتطلع مديدا الي منتهاها غائبا في جبين السماء. السماء تدمع علي فرحي.
أنا اللحظة كما كنت ذات لحظة يا مريد، موئل الأشياء، مبتداها ومنتهاها. أتوه فيها، وأذوب في أسمائها، وصفاتها، وتذوب في وتنتهي في. أقف علي البوابة ذاتها، كما تقول:
بوابة الأبواب
لا مفتاح في يدنا، ولكنا دخلنا
لاجئين الي ولادتنا من الموت الغريب
ولاجئين الي منازلنا التي كانت منازلنا وجئنا
في مباهجنا خدوش
لا يراها الدمع الا وهو يوشك ان يهيلا
علي حواف هذا الحلم أركض، أسابق ضحكات اطفال يمرون بي، يتهامسون، يشيرون الي الغريب الذي ينظر اليهم بفرح طفولي كفرحهم. يتحدثون عني: أشعرني واحدا منهم، صرت طفلاً، مهراً خفيفا سريعا ينطلقون به كبرق الابتسام، مسيحا جديدا طالعا لهم للتو من المهد، يمتطي ظهر براق، يدنو اليهم، يحملهم ويطير.
لا يا سيد الشعر الوطن أجمل من الطريق اليه ومن كل المدن القصية. أنقي من كل عفر التيه، وانكسار البوصلة، ودوران طير البيداء علي ذيله. هو اللحظة، لحظتي، كمال الوجود وانتظام الكون، كله ينصهر في، وأنا أناغش طفلتين في مراييل المدرسة، تحملان علي الظهر حقيبة الكتب، ومستقبلا يضع قدمه علي ظهر الحاضر ويصعد في الغيم. تضحك الملاكان، أضحك، تلوحان بيدين صغيرتين، ألوح بيد صغيرة، تمضيان، ... لا أمضي. تبقيان في عين قلبي. أنا ابن هذا المخيم أيتها الملكان، مثلكما. أنا الآن في عمركما، صغرت ألف عام فجأة. بخطوتي الأولي هنا، تعمدت بطهركما، وتحممت بضحكات الخجل الصغيرة. خلعتن كل ما كان علي من أقنعة، فصرت ملاكاً كما أنتما، صرت بكما أناي كما كنت دوما أريد.
نمشي، وأمشي في انحناءت المخيم. خربشات الجدران أنا كتبتها، والتفافات الأزقة أنا رسمتها وعبرتها. والهواء هنا، كل الهواء، أنا جلبته واستنشقته. أعب الآن منه وفيه حتي الارتعاش، وأطفو عليه. أطير، أطير، أحلق فوق المخيم، أتحسسه بعيوني، أتلمسه غصنا غصنا، وأحضنه بيتا بيتا، وأنثر علي الوجوه المطلة من الشبابيك البسيطة عشقا عشقا. ينبت لي جناحان، أفردهما يمينا ويساراً، يهبط سلام ظل علي المخيم: تنشق السماء ويقرأ نبي ما سورة العائد : ولد عائد، ولد من آلاف الأولاد.
ہہہ
يوم جاءت أمي وأبي وستي وسيدي وكل أقاربي اليك يا أمنا الكبيرة، كانوا جميعا عرايا من قراهم، ومن سلال خضرواتهم. غرقوا في الصفيح وفي الدموع. ويوم ولدت مسحت زغاريد الامهات الدموع، وتلألأت علي الصفيح حروف من وهج. أعود اليك اليوم من آخر نقطة في العالم وصل اليها وهج حروف الدهيشة. في يدي ضمة حب، وفي جسدي عناق يحترق. أخرج من جيبي اعلان غرور الحب الشبق وأهتف به: الدهيشة مركز الكون وقبلة العالم!
دعني يا صديق الحرف المغترب أرتشف ارتشافة الحب البريء الأول. دعني كما أنا الآن أتمرغ ببراءتي وسذاجتي الأولية. أغرق فيها آتيا من صميم العناد... لا أريد أن أصحو. تتبسم علي سذاجتي وتقول ستكتشف الكثير يا صديقي، وينطفيء هذا التوقد. لا أسمعك. أضع يدي علي فمك. أهمس لك، لا أريد أن أكتشف ذلك الكثير، لا تفسد وصلتي الصوفية. دعني أتدثر بهذا الوله اللذيذ. لكم كنت كتبت بحزن علي بوابات المدن الكثيرة وأنا أغادرها واحدة واحدة: مدينة جميلة، ناسها طيبون، ونهرها رائق، نساؤها يقطرن ندي، لكن ليست مدينتي، ... كنت أكتب علي بوابة كل مدينة، شكراً، ووداعاً، فأنا رجل بلا مدينة. اليوم يا صديقي أصبحت ولدا كبيرا وصار عندي مدينة أكبر. صار عندي ولي أجمل المدن.
ہہہ
هي الدهيشة، فلماذا تركت الحصان فيها وحيدا ، قال الغيب لي واضاف:
أكتب لتعرفها، وتعرف أين كنت، وأين أنت
وكيف جئت ومن تكون غدا
ضع اسمك في يدي واكتب
لتعرف من أنا، واذهب غماما
في المدي...
فكتبت: من يكتب حكايته يرث
أرض الكلام، ويملك المعني تماما!
ہہہ
تتحدث بلهجة أهل الواد ـ وادي فوكين ، لكنتها القروية مفاجئة اذ شعرها الأشقر، وعيونها الزرق، وطولها الفارع لا يقول بأنها من قري بيت لحم. تقف خلف الكاونتر في محل بيع التحف في ساحة المهد قلب المدينة وتتحدث علي الهاتف... أسترق السمع لموسيقي لهجتها، أترنم علي ما أسمع، لا أقاوم فضولي فأسأل:
ـ من أي قرية أنتي؟
ـ أنا من روسيا!
ـ من روسيا؟ بس بتحكي فلسطيني ممتاز، زي لهجة بلدنا .
ـ آه، صار لي هان زمان، وجوزي من بيت لحم.
ـ أهلين فيكي، شو اسمك؟
ـ ريتا، وأنت؟
ـ خالد
ـ أهلين، ومن وين انتا؟
ـ من وادي فوكين
ـ صحيح؟ في بنت من الواد بتشتغل في الدكان اللي جنبنا، اسمها منهل!
أودع ريتا، وأدلف الي الدكان المجاور لأسلم علي منهل.
ـ مرحبا، في صبية اسمها منهل من وادي فوكين بتشتغل هون؟
ـ آه صحيح، أنا منهل، مين انتا؟
ـ أنا يا سيدة الواد أنت. أنا التماعة العيون فيك وفضول الابتسامة الساحرة. أنا المسيح الصغير الذي بعث في بيت لحم هذه اللحظة، وفي ساحة المهد، وهذا اليوم عينا. ألم تسمعي به؟ أنا هذه الشوارع والطرقات. أنا عتبة المهد ودرجات الجامع، أنا الكلام الصاعد من هذه الساحة من مليون سنة والنازل اليها لمليون سنة أخري قادمات. أنا يا قمر الواد كنت مهاجرا أدور حولي وأسقط علي نفسي، وآتي اليوم هنا كي أتعمد من جديد، وكيف أتوقف عن الدوران. كي أصلي خلف كل قسيس وامام، كي أعيد ترميم انكساراتي، ولأهزم كل هزائمي الماضية. كي أتحمم وسط هذه الساحة فيشهد علي المهد في طرف ويشهد علي الجامع في طرف آخر. أروح وأجيء بينهما ساعياً بلا توقف. يد من المهد تناولني الماء، ويد من الجامع تناولني الماء. أنا الماءان يا منهل صرت ماءً ثالثا، صرت ينبوعا يفيض. أروح وأجيء بينهما ساعياً بلا توقف، أسلم علي كل المارين، أبتسم في وجه الباعة والقرويين، وأنظر الي السواح مختالاً: أنا لست منكم، أنا من هنا!
تبتسم منهل فتشرق وادي فوكين ، وتدق أجراس بيت لحم، وتهتف المئذنة المجاورة، ترحب بمناغاة مسيح جديد في مهد صغير. يأتيني صوت حسام من رام الله:
ـ وَلَك وينك؟
ـ غارق أنا يا صاحبي في الأرض، صاعد أنا في السماء: أنا في بيت لحم!
ـ متي تأتي الي رام الله؟
ـ بعد الدهيشة!
أعود الي ريتا، أشتري قلادة حب لخلود، فيها قمر من المهد، ولونها مسحور من الأخضر. أبرق لها بالهاتف، خذيني دوما علي صدرك، دالية من عنب الخليل، تسقي هذا التلحمي حبا بلا توقف. من هنا، من قلب قمر المهد أحبك أكثر. وأحبك أكبر.
ہہہ
خمسون عاماً عدها خالد الصيفي في هذا المخيم. كان جاء من الولجة التي أبيدت وصار أهلها لاجئين هنا في الدهيشة. خمسون عاماً يحمل خالد علي كتفيه عنقاء المخيم. يقول: هنا في هذا المخيم نربي المستحيلات. عندما جاءه اللاجئون عام 1948 ثم عام 1967 كانوا قد جُردوا من كل شيء، الا الحزن. الآن ما عاد الحزن الا تاريخاً. صار الاصرار زيتهم وزعترهم اليومي. صاروا أغنياء بأغنية الحياة: الدهيشة صار العنقاء. صار الأولاد العنيدين الذين عجنوا غدهم علي شكل أفق. صار البنات الصاخبات بالضحك المدرسي، يجبن الدنيا، وقلوبهن ترصع قلب المخيم بالزنبق. صار الأجداد الكبار الذين يسيرون كأنما يسبحون بعشق طرقات المخيم، يتأملون في الأولاد الطالعين شيئا وأشياء غامضة كثيرة. صار المخيم خالد، وولاء، وحسن، وصلاح، وبراءة، وابراهيم ومديد آخرين.
أنا في الدهيشة يا مريد، أنا هنا حيث ولدت وحيث أعود وحيث أبعث حيا من جديد. تذكرت أمي ميسر، وستي فاطمة، وستي هادية، وسيدي خليل، وسيدي أحمد. عاشوا وماتوا وهذا المخيم ظل نشيدا يجري في عروقهم دماً عشقاً وقسم حياة. أرافق سعيد زوج أختي نجاح ليدلني الي حيث ولدت. هنا كان الصفيح الذي ما عاد صفيحا. هنا بكائي الأول يعلن: جنين في مخيم. طرقنا الباب، فجاء الصوت:
ـ مين علي الباب؟
ـ أنا يا وطني! هتفت من قاع قلبي.
كان المخيم غرفة صفيح أولد فيها، صار بيتا من طابقين يسكنه الحاج أبو صبحي، وأولاده وأحفاده. أدخل عليه ومعي خالد الصيفي وأصدقاء جدد آخرين، لا يعرفني ولا أعرفه.
ـ مرحبا، أنت الحاج أبو صبحي؟ يرد علي أهلاً وسهلاً. أقول له، وعيني معلقة فوق رأسه علي خارطة لفلسطين مغزولة علي القماش:
ـ أنا ولدت هنا، في الطابق الأرضي يوم كان صفيحاً. يأخذني بحضنه. أشم في عناقه رائحه قريته القبو ممزوجة برائحة وادي فوكين المجاورة لقريته، صارت الرائحتان بخور ميلاد اللحظة. أمازحه:
ـ جئت أطالب بحق العودة، يضحك، يقول:
ـ تكرم.
أبو صبحي السبعيني يلف المخيم بلفافة تبغ، يدخنه دفعه واحدة. يملأ رئتيه برضا البيادر المدود، وسكون ما قبل العواصف، ثم يطلب لنا شاياً بالميرمية. يسامرنا كأنما هو في عمرنا. تتداخل الاعمار هنا كما لا تتداخل في مكان آخر. يكبر الصغار، ويصبح الكبار فتياناً، يلتقي الجميع عند منتصف العمر، فيتحدثون ذات الهم ويضحكون ذات الابتسامة. تحدث الأعاجيب هنا. نغرف من أبو صبحي ونعب منه. ونسلم عليه من بعد مغادرين. يحضنه الجميع، ويحضن الجميع. يقول لي خالد الصيفي: هذا الرجل شجرة تين كل الفصول موسمها. يجدونه في ثنايا المخيم جميعها، مصلحاً ومقربا بين المختلفين. يؤمه من يتخاصمون، فيفصل بينهم. يؤنب الفصائل جميعا يوم يصيبها العمي، فيفتح عيونها علي الجرح والأفق، فيطأطئ قادة التنظيمات رؤوسهم له ويعتذرون. ترمقه العنقاء نظرة حب، وتعاود التطلع في الأفق.
ہہہ
أنا بالباب يا وطني ومخيمي ومدينتي وقريتي وناسي. الابن الذي بعثرته الحدود طويلاً، وصدته. أنا خالد يا دهيشتي ، أعود اليك وما كنت قد غادرت أصلاً. فتشي في خزانة الحزن الكبيرة تجديني هناك: دمعة وليد تجمدت في الخد من برد المنافي. فتشي في سلة القبلات المتدلية علي الجدار تعثرين علي: قبلة مجدولة من حنين. لا تقولي انك لم تستلمي فيض القبل التي كنت أرسلها من وراء البحر مع كل الزائرين. كانوا يسألونني ماذا تريد من بيت لحم ان وصلنا هناك؟ كنت أقول: اذهبوا الي الدهيشة أرجوكم، وعندما تلتقون بأول ولد صغير أو أول بنت صغيرة سلموا عليهم، عانقوهم، ثم أعطوهم قبلتي ودمعتي. تلك القبل هي قبلتي يا أمي. ضحك خالد الصيفي صديقي الفجائي ومرافقي في المخيم: من ساعة فقط ولدت صداقتنا، وصرنا كأنما عشنا معا هنا، وكنت قد قلت له اني أحسدك. قال ان كان ذلك ما كنت تطلبه دائما من الزوار فالآن نفهم سيل قبلات الأجانب علي خدود أولاد وبنات المخيم كلما يزورنا أحدهم. جوليانا وديفيد العزيزان: شكرا علي كل قبلاتكما لأولاد وبنات مخيمي، اليوم أنا أقبلهم واحدا واحدا، شكرا لكما، ألف شكر. لن تصدقا انني اليوم هنا، اله صغير أنا من ينثر القبل، أتعبد بالتقبيل وأتعمد.
هنا الدهيشة يا مريد، بينها وبين وادي فوكين حبل سري ظل ساخنا يولد لنا حكايات. صار هذان التوأمان كائنات حية تعيش معنا في البيوت التي هاجرنا اليها بعد الحرب، بعيدا عن فلسطين. كانت الدهيشة وكانت وادي فوكين بنت وولد يعيشان بيننا، يفطران الحمص والزيت والزعتر معنا، يتغديان معنا، يتشاكسان، يتوافقان ويتخاصمان، وعند المغيب يتعشيان معاً ومعنا. لما كبرنا، صارا يذهبان الي المدرسة معنا، يكبران ويبلغان معنا، ويتورطان في الحب المدرسي الأول والملهوف كما كنا. كان سيدي وستي يعيشان معنا لكن فيهما، وكنا نعيش معهما فيهما! فيا صديقي الجديد والمباغت أيفسر لك ذاك هذا التعلق الطفولي الغريب الذي تراه الآن؟ فكل تلك السنين التي غبتها، أدوسها أمامك دوسة واحدة، في لحظة واحدة. وفي رمشة عشق واحدة أنفض عن قدمي تراب مدن لا تحصي، قصفت من عمري ما قصفت، وأدلف في شوارع هذا المخيم كأنما لم أغب عنه يوماً.
هنا الدهيشة يا مريد، تختلف عن دير غسانتك وتلتقي معها، فيها من الوجع ما فيها، لكن فيها من العنقاء ما تتقزم الي جانبة غيلان وبيتار علييت وكل المستوطنات المجاورة وسكانها العابرين في كلام عابر . من ركام هذه الصفائح، يقول خالد الصيفي، خرج مئات وألوف صاروا شهداء علي سخونة الحبل السري بين المخيم وكل القري التي أجلي أهلها وانتهوا حفاة عراة في المخيم. ما عادوا حفاة ولا عراة، صاروا يلبسون الغد، وتشرق علي وجوههم ووجوههن بيت لحم وهي تلبس البياض. من ركام هذه الصفائح خرج الأولاد حاملين انتفاضة وراء انتفاضة وشلوا قدرة الغزاة. في الدهيشة قام أول جدار لم ير الغزاة بدا منه لصد غضب الأولاد الطالعين كالمستقبل المحتوم. وفي الدهيشة سقط أول جدار أمام قبضات الأولاد الغاضبين. في الدهيشة قامت آلهة الفينيق، حملت علي أكفها المخيم وأولاد المخيم، ورصعت بهم قرص الشمس.
ہہہ
قسطندي، التلحمي المهذب، أستاذ الاعلام في جامعة بيت لحم، يدعوني الي صفه لألتقي بالطلبة والطالبات. أتفرس في الوجوه، فأراني. يتحدثون ويسألون فأسمع صداي. يتمازحون فأسمع ضحكتي. أأنا ذا ام أنتم، أم أنتم أنا، أم نحن كلنا؟ أأنا أقف أمامكم أم أقف أمام أناي ؟ أمامكم يا أناي الساكنة فيكم طوال السنوات الماضية، أعلن امتلاكي لهذه الجامعة: هذه هي جامعتي بعد المرور بجامعات. ما اسمك، أسأل:
ـ حسان
ـ وماذا تدرس؟
ـ اعلام وتلفزة
ـ أي سنة؟
ـ ايه هيه ........يمكن سنة عاشرة. وابتسم!
ـ أوف، ليش؟
ـ انسجنت جوا أكثر من مرة، وسافرت وانسجنت برا كمان، وكلو خلال الدراسة.
قسطندي، التلحمي الأنيق، والمعلم الحريص، لا يضيع دقيقة. يريد من طلابه وطالباته ان يتعلموا كل شاردة وواردة. يصر علي العربية الفصيحة كما لم يعد يصر أحد. في لحظة ما تمنيت لو أني أتقن التحية العسكرية، لأنتصب أمامه وأحييه بها. ہہہ
سعيد يجول بي في الواد : نسكن هنا في العصارة ، وهناك البصة ، وعلي الربوة تلك الفوار ، ...، وهنا وهناك، وهناك وهنا. تتلاحق الأسماء التي كان سيدي وستي يرددونها كالتسبيح صباح مساء. هي ذي الأماكن اذن! وهؤلاء الذين لا زالوا يغرسون فيها الزيتون صارت أعمارهم تقارب أعمار زيتونهم. لا يقرون ولا يهدأون، لا يستطيعون البعاد ولو ليوم عن حواكيرهم وبساتينهم. من بعيد لا تراهم. لون وجوهم لون أرضهم. وعروق أيديهم هي جذور ما يغرسون. لما يرفعون رؤوسهم بعد الغرس، تكاد تلطم عيونهم مستوطنات العابرين، لكن بؤبؤات عيونهم فيها عناد حواكيرهم فلا يلطمها شيء. شاهقة علي رؤوس الجبال المحيطة بالمستوطنات. تقوم اليوم علي أراض للقرية اغتصبت بالتدريج. القرية مسيجة بسلسلة من الاغتصابات التي تقضم ما تبقي من الواد سنة سنة. سكان الواد شوكة في حلق تلك السلسلة. بعد أن أجلاهم الجيش عقب احتلاله ما تبقي منها عام 1967، ولجأوا الي مخيم الدهيشة في بيت لحم علي بعد عدة كيلومترات، قرر السكان عام 1972 أن يعودوا عودة جماعية الي ما تهدم من بيوتهم، وغرسوا أنفسهم فيها. استعادوا القرية وأشعلوا فيها الحياة من جديد. لو لم يفعلوا لصارت خرابا من زمن بعيد. من يومها وهم غصة في حلق من يتربص بهم. من يومها وهم يروحون ويأتون الي مخيم الدهيشة اذ صار لهم بيتان. ثم يأتي صوت حسام ثانية:
ـ ولك وينك؟
ـ في طريقي الي بيت جالا ، أرمق غيلو البشعة بغضب، وأمضي الي حيث كانت تسكن خالتي، ثم بعدها أزور بيت ساحور، سأكتب لك عنهما وأهاتفك من هناك! من هناك سأقول لك ما قاله مريد ما الذي يسلب الروح ألوانها؟ ما الذي، غير قصف الغزاة، اصاب الجسد؟ .
كاتب من فلسطين يقيم في بريطانيا