سلامة موسي رائد حرية التعبير
لم نلتمس لسلامة موسي العذر عندما اشترك في تحرير جريدة «الأخبار» رغم حجج من يكبروننا سنا، ومنها أن الرجل أنفق ثروته من أجل رسالته، وآن له أن يستريح إلي راتب ثابت. والمهم ما يكتبه المرء، وليس المكان الذي يكتب فيه، وأن لينين كان يكتب في مجلة رجعية لتصل دعوته إلي جمهور أكبر. ويمدنا ابنه الدكتور رءوف بأسباب أخري، من بينها أن القصر كان يضيق عليه الخناق.
ويبدأ تحرش سلامة موسي بالقصر منذ إصدار مجلته الأولي «المستقبل» (1914). عاد من لندن في أوائل عام 1913، ونشر كتيبه عن «الاشتراكية». وفي يوم الخميس السابع من مايو 1914 أصدر العدد الأول من مجلة «المستقبل»، فكانت أول مجلة «علمية أدبية عمرانية» تصدر من القاهرة. وفي هذا العدد دعا إلي ترجمة أشعار شوقي وترشيحه لجائزة نوبل. وتنبأ ـ في أحد الأعداد ـ بقرب قيام حرب عالمية «تنتهي بالقضاء علي عروش الملوك الأوروبيين، وانهيار نظام الحكم الملكي، وتحويل الممالك الأوروبية إلي جمهوريات. لأن هذا الحكم يقوم علي الانفراد بالرأي والاستبداد بالسلطة». وختم مقاله بقوله: «ليهنأ الأوباش المتوحشون في أوروبا، ولينتظروا العملية الجراحية التي ستزيلهم عن قريب من جسم الجمعيات البشرية المتمدنة».
وأنشأ مجلة «المصري» في سبتمبر 1930 لتنطق باسم جمعية «المصري للمصري». وعطلت في ديسمبر من ذات العام لاتهامها الأمير عمر طوسون بإبداء آراء في الدين والسياسة والثقافة دون علم بها. ونصحته بتوظيف نقوده في إنشاء المصانع والمدارس والمستشفيات. واتهمت الخديو إسماعيل في مقال بعنوان: «في الاستبداد» بقتل بعض المتهمين بالسم. فحين قبض البوليس في أسيوط علي 16 متهما بالسرقة، أمر الخديو بأن يحقنوا بمادة «الاستركفين» التي تقتل بها الكلاب الضالة.
وتوالت مجلات سلامة موسي التي طاردتها السلطة. فأصدر 14 عددا من «النجمة الزهراء» وعددا من «المضمار الرياضي» وعددين من «الجمهور المصري» وعددا من «الفضيلة» نشر به بمناسبة عيد جلوس الملك فؤاد «مارس 1931» صور خمسة ملوك مخلوعين: جورج ملك اليونان، وعمانويل ملك البرتغال، وزيتا إمبراطورة النمسا، وأمان الله خان ملك الأفغان، وفرناند ملك بلغاريا. وجعل بروازا فارغا إلي جانبهم.
وانضم سلامة موسي إلي هيئة تحرير مجلة «الهلال» قبل نهاية العشرينيات، وانفرد بتحريرها عام 1924، وبتحرير مجلة «كل شيء» منذ تأسيسها عام 1925. ولم يسمح صاحبا الدار بوضع اسمه علي المجلتين رغم توليه رئاسة تحريرهما. ويقول حافظ محمود إن ما أحنق سلامة موسي من إميل وشكري زيدان هو العطف الكبير الذي اسبغاه علي كريم ثابت بالذات ابن خليل ثابت أحد أصحاب «المقطم» و«المقتطف». وكان هو وفكري أباظة قد التحقا بالدار لقاء مرتب يزيد علي مرتب سلامة موسي الذي كان يعتبر فكري أباظة «كاتب صالونات وحكايات»، وكريم ثابت كاتب «تفاهات». وأصبح الأخير ـ منذ بدايته ـ رجل السراي في دار الهلال، ثم في غيرها من الصحف. وضرب سلامة موسي مثلا علي كتابات كريم ثابت. فهو يقول: «تقابل محمد علي علوبة مع توفيق دوس، فلم يبدأ علوبة بالتحية، وإنما بدأ لها دوس». أو يقول: «إن أحمد لطفي السيد كان يأكل الفول المدمس كل صباح». ولكنه لا يأكل حباته، وإنما يكتفي بغمس لقمات الخبز في منقوعه». ويذهب المستشرق الأمريكي فيرنون ايجر إلي أن ما ضايق سلامة من «دار الهلال» هو انحراف صاحبيها ناحية السراي. ولم يكن سلامة يخفي احتقاره لساكنها المستبد الجاهل.
واستخدمت «دار الهلال» للإساءة إلي سمعة سلامة موسي. واستمرت حملتها ضده ـ في مجلة «المصور» علي وجه الخصوص ـ طوال شهري أبريل ومايو 1931.. أي بعد نشرة لصور الملوك المخلوعين مباشرة. ونشرت «المصور» صورة زنكوغرافية لخطاب ادعت أنه أرسله لوزارة الداخلية في أغسطس 1929، وأنه يدينه إدانة كاملة من عدة أنواع: محاولة إحداث فتنة طائفية، ومهاجمة الوفد وسعد زغلول، والتجسس وخيانة «دار الهلال». ولاحظ فيرنون ايجر أن الخطاب كتب قبل نشره بعامين، مما يثير التساؤل عن كيفية حصول الدار عليه ونشره عندما أخذت حملات سلامة تؤتي ثمارها. ثم ألا يبعث هذا الشك في علاقة الدار بأجهزة وزارة الداخلية؟ كما لاحظ أن الخطاب لم ينشر كاملا، إذ نشر علي جزأين بينهما جزء غير معروف، وكان سلامة موسي يطلب الترخيص له بإصدار صحيفة يومية.. وربما كتب أنه يريدها «قبطية» ووعد بتأييد الوزارة ليسهل مهمة الحصول علي الترخيص.
وأسس مفكرنا جمعية «المصري للمصري» لمقاطعة البضائع الأجنبية، والحملة علي الصحف السورية العميلة، ورفع لواء الدعوة إلي المصرية. وانضم إليها ـ كما يقول فتحي رضوان في حديثه مع ايجر ـ حوالي عشرة آلاف شخص، من بينهم أحمد حسين وفتحي رضوان ونور الدين طراف وأمين الخولي ومصطفي أمين وحافظ محمود ومحمد أبو طايلة ومحمد عبدالصمد، وأرادت «دار الهلال» أن تسيء إليه وسط أعضاء جمعيته خاصة، فادعت أنه يهاجم العروبة والإسلام، وأنه ملحد وإباحي وشيوعي. ووزعت منشورات تحمل هذه المعاني علي أعضاء الجمعية، فتزعم فتحي رضوان وأحمد حسين الحملة لإبعاده عن نشاطها، فكان إبعاده من أسباب فشلها.
وحين هاجم العقاد الملك فؤاد عام 1927 تحت قبة البرلمان، وحكم عليه بالسجن للعيب في الذات الملكية، أثني عليه سلامة موسي مرات، ونشر صورته في مجلة «كل شيء». وشكره العقاد، رغم أنه كان يعلم ـ كما قال لخلصائه وهو مازال سجينا ـ أنه لا يمدحه لوجه الله، وإنما «كيدا في الملك». وكان مفكرنا يعتبر العقاد كاتبا معقد الشخصية رجعي القلم. وعقب وفاته كتب العقاد في «الأخبار» بعنوان: «عندما أراد سلامة موسي أن يغيظ الملك»: «إذا قرأت له ثناء علي إنسان فانظر وراء الثناء مليا، فإنك واجد ولا ريب إنسانا آخر يصيبه ذلك الثناء بغير ما يرضاه. وإخالني مدينا لهذه العادة فيه ببعض الثناء الذي خصني به في حملاته الخفية علي حاشية القصر أيام أحمد فؤاد. أراد سلامة أن يغيظ القصر، ولا يذكره بكلمة واحدة، فنشر صورتي وأنا سجين في يوم وصول الكاتب الايرلندي برنادر شو إلي الديار المصرية، ولم يزد علي أن قال ما معناه: «لو كان هذا الرجل طليقا لوجد برنارد شو في مصر من يلقاه باسم الأدب المصري. ولكنه الآن سجين».
وفي عام 1947 كان سلامة موسي يصطاف في بورسعيد فأعيد مقبوضا عليه للتحقيق معه في قوله: «الأوبرج، وما أدراك ما الأوبرج؟». وكان الملك فاروق يسهر أيامها في الأوبرج. وحقق معه رئيس النيابة في جوانب أخري من المقال، وحاول جهده مساعدته، ثم إنذاره قبل أن يفرج عنه.
وفي عام 1948 عرض عليه صاحب إحدي الجرائد اليومية الوفدية الكبري ـ كما يذكر الدكتور رءوف ـ أن يحتل مكانا مرموقا بها. بيد أن القصر تدخل في الأمر. وكان يجدر بالدكتور رءوف أن يصرح باسم الجريدة حتي لا يسيء إلي كل أجنحة الوفد. وكان المفكر الكبير يميل إلي الوفد، وإن لم يمل إلي جناح فؤاد سراج الدين الذي يتهمه بمهادنة السراي. وعلي أية حال فإن القارئ يستطيع أن يقف علي اسم الجريدة. ففي كتاب: «الصحافة حرفة ورسالة» يذكر المفكر الكبير أنه اتفق مع هذه الجريدة علي إعادة نشر كتابه: «الحب في التاريخ». وبعد الشروع في طبعه توقفت خشية أن يكون فيه ما يسيء للملك والملكية. والجريدة الوفدية التي كانت تصدر سلسلة من الكتب في هذا التاريخ معروفة.
ولم يعترض القصر عندما التحق سلامة موسي بأخبار اليوم لاطمئنانه ـ في نظرنا ـ إلي أصحابها. ونستقرئ من ذلك أن «أخبار اليوم» كانت تريد أن تنشئ داخلها خلية يسارية تسيطر عليها وتوجهها الوجهة التي ترضاها، تماما كما فعل محمد حسنين هيكل في «الأهرام» من بعد، باعتباره أحد تلاميذ «أخبار اليوم» النجباء. وخاب سعي «أخبار اليوم» فلم يكن سلامة موسي من الذين يوجهون وبالفتح، وإنما من الذين يوجهون وبالكسر، فسرعان ما دب الخلاف بينه وبينها.
وبدأ مفكرنا الكتابة في «أخبار اليوم» منذ تأسيسها «1945»، متعاملا بالقطعة، وحين صدرت «الأخبار» ترك جميع الصحف والمجلات التي يتعامل معها، وتفرغ لها بمرتب قدره خمسون جنيها. ولم تمض بضعة أشهر حتي حدث الانقلاب العسكري. وتنبه أصحاب «أخبار اليوم» إلي خطورة الموقف، فرفع راتبه إلي مائة جنيه. لكن سرعان ما أبدي صاحبا الدار ضجرهما من كتاباته، وتزعزع التوازن بينهما. وضاق الرجل بهذا الجو الخانق وقرر ترك الدار.. وكللت جهوده مع السادات في «الجمهورية» بالنجاح. لكنه فارق الحياة في الرابع من أغسطس 1958.
في اليوم التالي نشرت «الأخبار»: مات سلامة موسي أمس في المستشفي.. دخله منذ أيام لإجراء عملية جراحية.. تحسنت صحته أمس.. كتب خطابا لـ «أخبار اليوم» يطلب إرسال البوستة ليستأنف نشاطه.. في اللحظة التي كان يستعد فيها لمغادرته المستشفي فاجأه الموت. كان الكاتب الكبير يعد كتابا عن «الصحافة رسالة وتوجيه». وكان هذا الخبر موظفا. فالكتاب المزعوم الذي ورد ذكره بعجزه يشكل أخطر عملية تزوير تحاك لكاتب بعد وفاته. بدأت المؤامرة بهذا الخبر، ثم أبلغت إدارة «أخبار اليوم» الأسرة بأنه لا يستحق معاشا أو مكافأة لالتحاقه بالعمل بعد الستين. وتقديرا منهم له ولمكانته وخدماته لـ «أخبار اليوم» سيطبعون له كتابا وجدوه في مكتبة بـ «أخبار اليوم» عن الصحافة ويهدون إيراده كاملا لأسرته.
وأصدرت «أخبار اليوم»: «الصحافة حرفة ورسالة» بعد حملة إعلانية واسعة دون اطلاع أحد من أفراد الأسرة علي أصول الكتاب. واستنكرت الأوساط السياسية والأدبية الكتاب. وأنكر البعض صراحة نسبته إليه. وذكر آخرون أن بعض الصفحات سبق نشرها، لكنها ظهرت بصورة مختلفة. ولاحظ غيرهم أنه يشكل كتابين: الأول لسلامة موسي، والثاني مذكرات أحد صاحبي الدار. وفي 1959 توجه رءوف وزوج إحدي أخواته إلي «أخبار اليوم» فقابلهما علي أمين بكياسة ولطف. ولما طلبا الاطلاع علي أصول الكتاب صرخ في وجهيهما: «لن أطلعكم علي شيء، لا يقول هذا إلا الشيوعيون. أتظنون أننا دكان في حارة. افعلوا ما بدالكم». ويبدو أن رءوف وصاحبه شعرا بخطورة موقفهما: «خرجنا من عنده نجر أذيال الخيبة، قبل أن تلمس القهوة شفاهنا، بينما يتردد فيما بين أذنينا اتهام علي أمين لنا بالشيوعية، في وقت كانت أخبار القبض عليهم تنتشر في كل مكان».
وفي عام 1963 أعاد الدكتور رءوف نشر الكتاب بعد حذف المذكرات الدخيلة، وكل إشارة إلي صاحبي الدار. ولم يحتج الكتاب بعد ذلك إلي أي تغيير كي يبدو مخالفا تماما، بل مناقضا لطبعته الأولي التي أصدرتها «أخبار اليوم». وتصدرت الطبعة هذه الكلمات: «في نوفمبر عام 1958 نشر صاحبا دار صحفية بالقاهرة صفحات من هذا الكتاب، احتوت أيضا علي مذكرات أحدهما وعلي تمجيد لدارهما ولمدرستهما الصحفية. وقد طبع من تلك الطبعة ستة آلاف نسخة، أغفل منها اسم ناشرها، واكتفي بوضع اسم الدار التي تم فيها طبع الغلاف. وقد لقيت محتويات الغلاف شكا ونقدا، فاضطررنا معه إلي مطالبة صاحبي الدار الصحفية بدحضه. ولكن طلبنا لم يقابل للأسف إلا بالتهديد والوعيد، والحيلولة بيننا وبين أصول الكتاب، أو بيننا وبين العقد الذي تم بموجبه النشر. وعلي هذا أعلنا رفضنا لطبعة صاحبي الدار، وامتنعنا عن تسلم ما عرض علينا من حقوق نشر، واستعملنا ما خوله لنا قانون حماية المؤلف في حذف هذه المذكرات، وكل إشارة إلي الدار الصحفية وصاحبيها، وفي إجراء ما رأيناه ضروريا من حذف وتعديل. وقد رأينا أن نعلن هذا السلوك. وأن نناشد قراء سلامة موسي اعتبار طبعتنا هذه هي طبعة الكتاب الأولي».
محمد محمود عبدالرازق
http://alkaheranews.gov.eg/shivo/index.asp...serd=30-08-2005