جرائم الغضب ستلحق بجرائم الشرف

ليلى فريد*



هذه هي أحدث صيحة.. كل من يُسأل اليوم عن جرائم الإرهاب البشعة، سواء الإرهابيون أنفسهم أو مؤيديهم على المكشوف أو مدعو لومهم باللسان والقلب عنهم راض، من لقبوا أنفسهم (وردد العالم ورائهم كالببغاء) بالمعتدلين، وحتى ــ ويا للعجب ــ السياسيون ورجال الإعلام وممثلو المنظمات في الدول التي طالتها يد الإرهاب وعامة الشعوب التي اكتوت بناره، فلا بد أن الإجابة مهما لفت ودارت.. شرقت أو غربت.. لابد وأن تعزو هذه البربرية إلى "الغضب بسبب ما يجري في العراق وفلسطين وأفغانستان الخ إلخ".



كلمة الغضب أصبحت هي الكلمة السحرية.. هي الشماعة التي يُعلق عليها القتل العشوائي.. قتل النفس وقتل الآخر.. أصبحت هي العذر والمبرر. لا يهم انعدام علاقة الضحايا بمسببات الظلم المزعوم. المهم هو التنفيس عن الغضب. وكأن التراث الإنساني الأخلاقي الطويل الهادف إلى كبح جماح المشاعر البدائية وتهذيبها وعدم الانقياد لها بحيث يتحرز الإنسان الراقي في لحظة الغضب من التفوه بكلمة خوفا من أن تصدر نابية أو من الإقدام على فعل إشفاقا من أن يأتي متهورا، قد ألغي فأصبح الغضب مبررا لارتكاب أبشع المجازر.



والحق يقال، فإن من ابتدع هذه الصيحة لابد وأنه يتمتع بقدر كبير من الدهاء والمكر. فعندما يسمع الشخص العادي كلمة "الغضب" ماذا يتبادر إلى ذهنه؟



أولا: أن الغضب شعور إنساني مفهوم وخطأ كل البشر معرضون للوقوع فيه وبالتالي يجب التسامح معه. والقضاء نفسه لا يساوي بين إزهاق روح في حمأة الغضب وقتل يتم مع سبق الإصرار والترصد. نفس الجريمة تسمي في الحالة الأولى بمسمّى أخف وتكون عقوبتها أقل.



وطبعا يحاول مروجو جرائم الغضب صرف أنظارنا عن أن مذابحهم ــ مهما كان مبعثها- ليست وليدة اللحظة. فالحزام الناسف والعربة المفخخة وغسل عقول الدمي المنفذة تحتاج للكثير من التخطيط والإعداد.



ثانيا: المفهوم الشائع (والله أعلم على أي أساس علمي أو نفسي قد بني) هو أن الإنسان الغضوب يكون غالبا طيب القلب يثور ويفور ثم "ينزل على مفيش" وهو أفضل ألف مرة من البارد عميق الأغوار أسود القلب.



ولكن إرهابيي الغضب ليسوا على هذه الشاكلة. فإن ما يظهرونه أقل خطورة بمراحل مما يضمرونه.



ثالثا: الغاضب يمكن تهدئته وإقناعه والتفاهم معه حتى تزول أسباب غضبه، وعندئذ يعود إنسانا سويا مسالما. ولكن إرهابيي الغضب ليسوا كذلك. وهْم إمكانية الحوار والمناقشة معهم هو أكبر خدعة يمكن أن يقع فيها عاقل، فلهم أهدافهم الواضحة المرسومة ولن يحولهم عنها سلام أو كلام.



رابعا: الغضب بالضرورة هو رد فعل لعمل صادر من طرف آخر ولذا فمسئولية هذه المشاعر السلبية وما يترتب عليها من تجاوزات تقع على الجانبيين، إن لم يكن للطرف مبعث الغضب نصيب أكبر من المسئولية.



وهنا نتوقف لنرى إن كنا سنقع في الفخ وسننجرف لمناقشة الادعاءات: علاقة العمليات الإرهابية بالعراق وفلسطين الخ الخ. لو فعلنا هذا فسيكون خبثاء الإرهاب قد نجحوا في استدراجنا وسحبنا.. جعلونا نبدو في صورة البلهاء الذين قد صدقوا أن هناك مبررات وراء بربريتهم ووحشيتهم غير الدوافع الحقيقية التي نعرفها ويعرفونها هم جيدا. ولو لم توجد هذه المبررات لاخترعوها ليعبئوا مشاعر الشباب والعامة قليلي الحظ من الخبرة والمعرفة والتفكير. إنها "الغلوشة" وليّ الحقائق التي يبرعون فيها وينتشون كلما وجدوا أن العديد من الناس سليمي الطوية والنوايا قد حملوا تبريراتهم محمل الجد وانقادوا معهم في محاولة مناقشتها وتفنيدها.



كما أن مجرد التسليم بوجود رابطة ما بين الأعمال الهمجية التي يمارسها الإرهاب وبين تراجيديا إنسانية بكل معني الكلمة كمأساة الشعب الفلسطيني لهو إهانة وتجريح لآلام ومعاناة هذا الشعب المعذب، لأن قضيته العادلة كانت ومازالت ترهق ضمائر ملايين البشر في كل أنحاء الأرض. ولو كان الإرهابيون والمستفيدون والانتهازيون والمتاجرون وقصار النظر قد رفعوا أيديهم عنها فلربما كانت ضغوط الضمير العالمي قد نجحت في حلها منذ سنوات وسنوات.



إذن باب هذه المناقشة مقفول. كل ما سوف يقال هنا: لو سلمنا بأن جرائم الغضب مستباحة ومبررة ولا يهم من يدفع ثمنها، فكيف سيكون الحال لو تعامل العالم كله بهذا المنطق؟!



في 11 سبتمبر 2001 قُتل وجرح وشوه وحرق ألوف الضحايا الأبرياء من كل بقعة في الأرض ومن كل دين وملة. فكيف سيكون الحال لو اتحد العالم كله واستجاب من أقصاه إلى أقصاه لنداء الغضب وانتقم من كل من ينتمي إلى مرتكبي هذه المجزرة وهم معرفون تماما فهجمة سبتمبر المظفرة تهمة لا ينكروها وشرف قد ادعوه (وإن كان بعض مؤيديهم مازالوا حتى اليوم يصرون بغباء على تجريدهم من هذا الشرف)؟!



كيف سيكون الحال لو استجابت لمشاعر الغضب حكومات وشعوب بريطانيا وأسبانيا وإندونيسيا والفلبين وكينيا وتانزانيا و... و... بعد أن مزق الإرهاب الغادر أجساد مواطنيها وأطاح بأمان أبنائها، فانطلقت متكاتفة لتفتك بكل من يحمل جنسية أو ملة مرتكبي هذه الجرائم؟!



لماذا يا ترى رغم كل هذه الفظائع التي عانت منها شعوب تلك الأمم مازال تمرير أبسط قانون لمكافحة الإرهاب على أراضيها يحتاج لرحلة طويلة شاقة وسلسلة معقدة من الاجتماعات والمداولات والمناقشات الحامية في هيئاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية؟!



لماذا يثير مجرد إبعاد إرهابي يدعو جهارا إلى قتل الكفار الذين يعيش عالة على حساب دافعي الضرائب منهم أو طلب متواضع من البوليس لمد الفترة المسموح بها لاحتجاز مشتبه يديه ملوثة بدماء الأبرياء لحين جمع الأدلة الدامغة ضده، هجوما صاعقا على الحكومات من وسائل الإعلام وأحزاب المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان (والتي يخيل إليك في كثير من الأحيان أن الإنسان الذي تتشنج في سبيل الدفاع عنه لابد وأن يكون مكانه الطبيعي هو السجن المؤبد أو المصحة العقلية على أحسن الفروض)؟!.



لو سألت حماة الإرهاب فلربما أجابوك بأن: "هذه الشعوب دمها بارد وجلدها سميك لا تحس ولا تشعر بالغضب. أين هم منا نحن أصحاب الدم الحار الذين لا نقبل الضيم والهوان؟!".



ولكن الحقيقة أن هذه الأمم والشعوب ولحسن الحظ مكبلة بأصفاد لا يمكنها الخلاص منها بسهولة.. تراث متغلغل ممثل في قيم مقدسة لحقوق الإنسان والديموقراطية.. للحريات الشخصية وحرية التعبير.. للعدالة وسيادة القانون. قيم استفاد منها إلى أقصى حد شياطين الإرهاب فاستمتعوا بخير هذه المجتمعات ثم انقلبوا عليها بنذالة منقطعة النظير. هذه الأغلال تجعل تلك الأمم والشعوب تتصرف بسذاجة تبدو أحيانا وكأنها ضرب من الغباء وعدم القدرة على التعلم من التجارب. تجعلها تبدو عاجزة تماما عن فهم هذا العدو الغريب وعن التعامل معه.



ولكن يا سادة لكل شيء نهاية. ولن تستمر تلك الحكومات والشعوب في محاولة تفهم جرائمكم المبررة بدوافع الغضب. ستلحق نظرة العالم لها بنظرته إلى جرائم أخرى نجحت أقليات تعيش في الغرب في ممارستها داخل جيتوهاتها المغلقة ردحا طويلا من الزمن وهي في مأمن من العقاب.



إنها ما يسمي بجرائم الشرف وما يتفرع عنها من ممارسة همجية تسمي بختان الإناث.. من إجبار للفتيات على الزواج رغم إرادتهن.. من جرائم في حق النساء ترتكب تحت شعار "ولن يسلم الشرف الرفيع من الأذي حتى يراق على جوانبه الدم".



لقد استيقظت أخيرا المجتمعات الغربية ورفضت إدعاءات خصوصية العادات والتقاليد واعتبرت هذه الجرائم التي تستهدف المستضعفين من رعاياها جرائم إنسانية في المقام الأول والإنسانية ملك للبشر جميعا.



لم تعد تتقبل أي مبررات. فالوالدان اللذان يبعثان بطفلة لا حول لها ولا قوة إلى بلد بعيد لتعود وقد تم بتر جزء من جسدها، صارا يقعان تحت طائلة القانون المتمدين. والفتاة التي تحاول أسرتها إرغامها على الزواج من شخص لا تعرفه أو تعرفه ولا تطيقه، قد فُتحت أمامها أبواب واسعة لمساعدتها وحمايتها من هذا المصير التعس. والمرأة التي تتعرض للقهر والإيذاء البدني أو النفسي على يد رجال الأسرة بحجة تأديبها، صارت سبل المعونة في متناول يدها من أجل أن تكسر حاجز الخوف وتصبح قادرة على قول "لا .. كفي".

[SIZE=4]

يا مبرري جرائم الغضب ومن قبلها جرائم الشرف: من سوء حظكم أن العالم قد بدأ أخيرا وأخيرا جدا يستيقظ ويفهم. لن يعاملكم بالمثل. فحتى الوحوش والأبالسة تعجز عن مجاراتكم فيما تقترفون ولكنه سيتصدى لكم بكل أسلحة القانون والإنسانية والقيم والمبادىء. فلم يعد من السهل أن يبتلع ما كنتم تقذفون به في حلقه وترقبون بسرور خبيث عجزه عن تمييز السم المدسوس في العسل.