مدينة الأدراج *
وإذ يحِّلُ غضبك عليّ، أنا لا أعود أنا. ولفرط بعثرة الأشياء فيّ، أشعر وأنا أحدق في المرآة أني بصدد لوحة سُريالية. حتى دالي لن يرسمها بهذه الجدارة. مبعثرة جداً. نحيفة وصفراء، تغزوني الأدراج من كل صوب، تحت قلبي مباشرة، على صدري ورقبتي. كل الأمكنة ملائمة لحفظ الأشياء القابلة للنسيان. كل الأمكنة ملائمة لتجميع الغبار الذي لا ينتهي.
في المرآة فتاة تشبهني، لولا عروق يدها النافرة لما عرفت بأنها أنا. وشعري صار عبئاً آخر، موروث ثقيل منك، أحمله معي أينما حللت. أُحصي على المرأة التي تقصه "الإنشات". مقدار عقلة إصبع، لا أكثر! وأحتفظ به بصبر، مثل كل الأشياء الأخرى. الخيطان اللذان يمسكان بزمام ثوبي ارتخى أحدهما على كتفي الأيمن، يشبه الخيط الذي يمسك بزمام قلبي، لكنه لم يرتخِ وحسب هذه المرة، بل سقط تماماً، فوقع قلبي مني وانكسر.
***
السيدة الجالسة بجواري تقرأ الجريدة بالمقلوب. الطفل في الصورة أمامي لونه أزرق ومع ذلك هو يبتسم. ويد الممرضة التي تسلمني الأوراق لتعبئتها تبدو قذرة جداً، سوداء، وأظافرها متسخة. سيدة أخرى تتحدث عن شئونها المالية بصوت مرتفع وكأن لا أحد في الغرفة سواها، تسهب في شرح أفكارها الخاصة عن العبادة والسياحة، تشعرني بالغثيان. أشفق على النساء اللواتي يملكن أصوات أكبر مما يجب.
لا أحاول أن أبدو مطمئنة، أنا ما عدت أهتم. عندما نستعرض الأشياء مطولاً، تبدو مألوفة وعادية جداً، مهما بدت لنا في البداية غريبة وغير معقولة. أنظري للقشرة الخارجية، سطح الأشياء فقط، لا داعي للغوص. العمق يشعرني بالدوار، وأنا أستمتع به. أحب أن أضعف أمامك، يغمى علي، فأقع. لكنك تدرك تبعات ذلك. أنت تفهم، تفهمني أكثر مما يجب، لتتحاشى إقالتي. وهذا ما يجعلني أكثر بؤساً كل مرة.
***
عندما دخلنا صالون الاستقبال الواسع والذي صفت فيه الكراسي بطريقة مضحكة، فكرسي رحلات مصنوع من البلاستيك الأبيض، يلتصق بآخر كلاسيكي مذهب، وأريكة جلدية عريضة جداً وداكنة، تشبه تلك التي توضع في المكاتب الكبيرة، يقابلها كراسي خشبية مرتفعة أظنها جزء من طقم طاولة الطعام في نهاية الصالون. الطاولات الصغيرة موزعة في كل مكان، لم أستطع تحديد اثنتين بنفس الطول أو الشكل. وهناك أطفال في غرفة قريبة، أسمع أصواتهم، وأشعر بضربات أرجلهم الصغيرة على سجاد الأرضية وهم يركضون.
بعض السيدات هنا وهناك، أفهمتني أمي بأنه ليس وقت للزيارة، وبذا لن اضطر إلى تلقي القبلات الكثيرة المقرفة أوالمصافحات الباردة بأطراف الأصابع لهذا وافقت على المجيء. كل شيء يبدو في حالة فوضى حتى التنهدات وهمهمات الأدعية. الميت في الأربعين. أمي تحدثني عن زوجته، أنظر إليها.أُخريات حولها احمرت أنوفهن وانتفخت أجفانهن، هي لا أدري، بدت لي فارغة من أي شيء. عيناها تشبهان الزجاج العاكس، لا يسمح لك برؤية الداخل، يلمع كثيراً، ويعكس ما حوله فقط. لا تعابير، فقط يدها تعبث بالمحارم الورقية، تلفها على أصابعها مرات، ثم تقطعها نتفاً صغيرة لترميها لاحقاً في سلة المهملات والموضوعة تحت رجل الأرملة مباشرة.
أزيز المكيف في الصالون يبدو مريحاً أحياناً، خاصة عندما يتوقف الأطفال في الغرفة المجاورة عن اللعب وتصمت هواتف السيدات عن الرنين. أمي تقرأ في إحدى كتيبات الأدعية بخشوع، أحاول أن أمنع نفسي عن التفكير بك. أخجل مني وأنا أشتهي أن ألقاك الآن. سأهاتفك ولن تجيب، وأهاتفك مرات أخرى ولن تجيب أيضاً. أعرف تماماً كيف أستدرجك وأفشل، عندما تكون توقعاتي قليلة أنت تأتي، لكنني وإن خدعت القدر، فلا أقوى على خداع نفسي، لأني وفي كل لحظة انتظرك أكثر.
ابتسمت لي السيدة في الزاوية وأنا أصافحها لنخرج. لا يهم أبداً أن ابتسم، أو أبكي، ما عدت أكترث، لماذا سأحزن لهم، وأنا متيقنة بأن نصيبي من الهم في طريقه إليّ، نلتُ الكثير، وسأنال أكثر. لست بحاجة لاستعجال حزني و استباقه أو حتى إطالة مدته، لا يجب أن أكترث لهموم الآخرين.
***
قلت لي يوماً بأني ولكي أنجح يجب أن أكون أنانية، لم أكن لأعلم حينها بأنك ستطبق هذا عليّ أيضاً. ظننتني كإحدى أصابعك، مثبتة في راحة يديك، أو أكاد أكون جزء منك. الآن فقط جاء دوري لأمارس نظريتك المؤلمة وإن كان متأخراً.
أبكي ورأسي على صدرها، أمي تقرأ ما تحفظه وتنفث مئات المرات، تظنني أبكي حزناً عليهم، أو أبكي بسبب آلام جسدي. وأنا أحس بأن أدراج كثيرة في داخلي تُفتح وأن صريرها في قلبي يؤلم، وغبار كثير يصيبني بالأختناق. الأوراق الصفراء تنبثق من كل مكان. أريد أن أرتب غرفتي أقول لها، أريد أن ألم شتاتي أولاً.
-----------------------
* عنوان لإحدى لوحات دالي