{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #1
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
سلام للقراء ...

سأنقل لكم الرواية الصوفية التي تتكلم عن حياة الفيلسوف اليوناني بيتاغورس pytagoras the matematgican للكاتب ( كريم الكوسا ) والتي لم تنزل بعد في المكتبات باللغة العربية ..!

[CENTER][صورة: pythagoras_safir2.jpg][/CENTER]



وأستطعت الحصول عليها من الكاتب شخصيا ً :9: ( كونه صديق لي ) , وسوف أنقل لكم هذه الرواية بشرط أن ألاقي ولو قارئً واحدً يهتم للتصوف وعقائده .. واذا أعجبتكم الفكرة , سوف أنقل لكم في كل يوم فصل منها وهي كناية عن عشرة فصول تتكلم عن حياة ومحطات الفيلسوف اليوناني الكبير فيتاغورس ...


سأنتظر أجوبتكم يا هواة قراءة الروايات ..! وسنتناقش حولها اذا أردتم ..

وشكري لكم (f)
07-06-2005, 06:04 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
محارب النور غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 5,508
الانضمام: Oct 2004
مشاركة: #2
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
يا حبذا لو تعمل منها نسخة بواسطة السكنر وترفعها على سيرفير النادي ليتسنى لنا قراءتها يا ابن الانسان ,كيف نناقش شي لا نعرفة .

فيثاغورش شخصية مبهمة بشكل اسس جماعة تشبه الحلقات الصوفية ووضع قوانين غريبة حول جماعتة التي ابيدت من قبل بعض القبائل الايطالية وسدت عليهم باب الكهف الذي كان يعيش فية فيثاغورس هو و تلاميذة وماتو مختنقين بسبب دخان ويقال نجا فقط واحد او اثنين من جماعة فيثاغروس الصوفي ولكن رجل مزج بين صوفية والرياضيات كان مهوس بشكل بالرياضيات حتى انه من اخترع اسلوب حساب الجمل عندما يضع مقابل كل حرف من اسمك رقم ويجمع هذة الارقام الناتجة ويستخرج رقم معين ويضع اسم صاحبك الذي تودة كذلك وياخذ رقم النهائي من اسمة واذا كان متوافق حسب طريقة معينة لا اذكرها فهو صاحب جيد وسوف تعيش معة حياة طيبة .


ولكن يا ترى هل اخذ فيثاغروس هذ طريقة في حساب الجمل من اليهود الذي كان لهم باع طويل في حساب الجمل ام اخذها من امم اخرى لان صاحبنا كان جوال حول عالم استغرقت رحلتة تسع سنين ورجع بعد ذلك الى اثينا ويقال انة تعلم قانون الهندسي حول المثلث قانون الوتر من البابلين وقد وجد هذا القانون في رقيم طيني في مكتبة بنوخذ نصر وفي الاخير هو جوال فيلسوف صوفي رياضي فريد من نوعة .

تحية لابن الانسان من محارب النور

(f)




07-06-2005, 06:50 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #3
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
محارب النور [صورة: redbud.gif]


اقتباس:يا حبذا لو تعمل منها نسخة بواسطة السكنر وترفعها على سيرفير النادي ليتسنى لنا قراءتها يا ابن الانسان ,كيف نناقش شي لا نعرفة

سأنقلها هنا كل فصل بفصله , وسنتوقف أمام كل فصل فيها نناقشه اذا أردتم ذلك .

اقتباس:فيثاغورش شخصية مبهمة بشكل اسس جماعة تشبه الحلقات الصوفية ووضع قوانين غريبة حول جماعتة التي ابيدت من قبل بعض القبائل الايطالية وسدت عليهم باب الكهف الذي كان يعيش فية فيثاغورس هو و تلاميذة وماتو مختنقين بسبب دخان ويقال نجا فقط واحد او اثنين من جماعة فيثاغروس الصوفي ولكن رجل مزج بين صوفية والرياضيات كان مهوس بشكل بالرياضيات حتى انه من اخترع اسلوب حساب الجمل عندما يضع مقابل كل حرف من اسمك رقم ويجمع هذة الارقام الناتجة ويستخرج رقم معين ويضع اسم صاحبك الذي تودة كذلك وياخذ رقم النهائي من اسمة واذا كان متوافق حسب طريقة معينة لا اذكرها فهو صاحب جيد وسوف تعيش معة حياة طيبة .

كل ما كتبته هنا صحيح مئة بالمئة ..! وهذا مندرج في سياق الرواية بطريقة رائعة أخي المحارب ...

اقتباس:ولكن يا ترى هل اخذ فيثاغروس هذ طريقة في حساب الجمل من اليهود الذي كان لهم باع طويل في حساب الجمل

:no2:

اقتباس:تحية لابن الانسان من محارب النور

تحياتي لك أيضا ً , وما رأيك !!! أتوافق أن أنشرها هنا في هذا الموضع ؟؟؟







[صورة: moon_eclipse.gif]





07-06-2005, 07:26 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #4
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
[CENTER]الفصل الأول


في ما بين سنتي 580 – 570 ق.م تقريباً، وعلى شاطئ البحر المتوسط، حيث كانت ترتصف حجارة مسطحة منظمة جنب إلى جنب مرصفة رصيف الميناء الطويل لواحد من أعظم وأقدم المرافئ في العالم. إنها صيدون.

إن الحقبة الكنعانية الفينيقية لهذه المدينة، بلغّت ذروتها في ما بين القرنين الثاني عشر، والعاشر ق.م. إذ قد لعبت دوراً مهماً على المستويات الروحية والعلمية والإقتصادية في ثقافة المتوسط. مما ترك أثراً كبيراً وملموساً لا يزال قائماً لغاية يومنا هذا.

إن التقليد يقول بأن صيدون كان الإبن الأكبر لكنعان، أب العرق الكنعاني الفينيقي ذو الشخصية القوية، وهو القائد الكاريزماتي، فبنى المدينة وأعطاها إسمه. وكان ذلك منذ ما لا يقل عن 3000 سنة ق.م.
ويعني إسم صيدون " الصيد"، لأن الصيد كان واحداً من أهم مصادر كسب الرزق لسكانها، الذين كانوا بمعظمهم صيادي أسماك، " وصيادي بشر". لذلك عرفّت المدينة بإسم صيدون.

هناك كانت تقف على رصيف الميناء العظيم بطوله، ناظرة إلى مغيب الشمس، ومتأملة في الماضي، في وقت كانت فيه الكرة البرتقالية الحمراء مغطاة بطبقة قلية الكثافة من الغيوم متحدة مع المياه الكنعانية الفينيقية. وكان هناك سرب من طيور النورس يحلق خارقاً الهواء، وعاكساً ظله على تراب الشاطئ المملؤ بأشجار النخيل.

وكانت بواخر الكنعانيين تطوف في كل الإتجاهات لتصدّر الحكمة والمعرفة، واللباس الأورجواني المصنوع من الكتان، والمعادن المصنّعة، والنبيذ، والملح، والعطور، والحبوب، والزجاجيات، والفخاريات المصنوعة بدقة فائقة. هذا وأن صيدون كانت لديها قدرة إنتاجية ضخمة ومنوّعة. وفضلاً عن ذلك، فقد قاموا بصناعة الخوابي المنقوشة والمجوهرات المزخرفة بدرجة عالية من البراعة الفنية. ومن ميناءها، كانت تشحن أخشاب الأرز والصنوبر إلى البلدان الأوروبية، وأفريقيا والأمركيتين.
وبالمقابل، كان التجار الكنعانيون الفينيقيون يستوردون الذهب والحديد والرصاص من الشواطئ الغربية للبحر الأسوّد، والنحاس من قبرص، والأحجار الكريمة من الهند والشرق الأقصى، والعاج من أفريقيا، وورق البردي من مصر، والفضة من إسبانيا، والرصاص والتنك من أرض البريطانين. كما وإستوردوا أيضاً، خشب الإبنوس، الحرير، الأحصنة، البهارات، التوابل، العنبر والبخور.
فالمياه الكنعانية - الفينيقية كانت أشبه بقفير النحل، إذ كانت البواخر فيها تمخر المياه ذهاباً وإياباً بحركة دائمة بدت للناظرين إليها وكأنها الفوضى بذاتها داخل نظام شبه خفي.
لقد لاحظت ذلك، وأخذتها الدهشة بما للبحارة من قدرات على المناورة التناغمية في كل أنحاء البحر المتوسط. وهي مرتدية فستاناً أزرقاً من الكتان الطويل، ورأسها مغطّى بوشاح زهري اللون، ووجها ناعماً للغاية، أما عيناها فكانتا عسليتان وكبيرتان. وعلى صدرها كانت تضع قلادة من الياقوت الأزرق منظرة بفارغ الصبر عودة زوجها الصوري التاجر، الذي كان على وشك الوصول من رحلة قام بها إلى اليونان منذ حوالي الأسبوعين تقريباً.
هاك ظهرت بين السفن، السفينة التي كان منيساركوس ( 1 ) على متنها، فأدركت ذلك من خلال مؤخرة السفينة المرتفع عليها تمثال ل" نصف إمرأة – نصف سمكة - عشتروت سيدة البحر". وأقتربت السفينة كثيراً، ومن ثم رستّ على رصيف الميناء. فنزل منها عدد كثير من الناس، تجار وفنانين. ومن بين تلك الجموع الغفيرة، رأته آتياً نحوها وعلى وجهه علامات السعادة بادية بوضوح، وهو بردائه البنفسجي الطويل المربوط على خصره بحزام جلدي، وشعره الأسود الطويل المجعد، ولحيته المغطية لوجهه الذي لفحته الشمس بأشعتها.
وما إن رأته حتى غمرتها السعادة، لإبتسامته المشجعة لها. ولدى دنوّه منها، جثى على ركبتيه وقبّل الأرض. ثم لمس بطنها بنعومة وعطف، فشعرت بالإرتباك بسبب تصرفه هذا، لأنه ما كان قد فعل مثل هذا معها في السابق في مكان عام.
- فكلمها بلطف:" إني أشعر بتحركه، ونبضه المتناغم الإيقاع في داخلك".
- إبتسمت واضعة إحدى يديها على بطنها، والأخرى على رأس زوجها منيساركوس مداعبة شعره الطويل المنسدل على كتفيه. ومن ثم سألته بتعجب:" لماذا تعتقد يا حبيبي بأن المولود الذي نتظر هو صبي"؟
- فإبتسم ووقف، ثم أمسكها بذراعيها ونظر بعينيها وقال:" إني آت بأخبار طيبة يا حبيبتي بارتينيس، لقد قمت بزيارة أشهر المعابد في اليونان وهو معبد دلفي، وإن واحداً من رفاقي التجار اليونانيين، علم بأنك حاملٌ فنصحني بأن أستشير العرافة، ففعلت، وهي التي أعلمتني بأننا سنرزق بصبي".
بارتينيس المؤمنة ب " إيل" إله الكنعانيين - الفينيقيين، وآلهة أخرى أدنى مرتبة من إيل، أخذتها الدهشة من تمكّن أناس آخرين مؤمنين بآلهة أخرى مختلفة معرفة الغَيب. ولكن وبنظرها فإن تلك المعرفة من المحتمل أن تكون مجرّد أوهام لا اكثر ولا أقل، فالقلق والفضول تركاها في حالة من الريبة والحيرة.
- فقالت:" يا حبيبي منيساركوس، أخبرني، هل أنت فعلاً مؤمن بما تنبأت به تلك العرافة الكاهنة، وأنت العارف بأن إيمانها وإيمان شعبها مختلف عن إيماننا نحن؟ هل هذا ممكن فعلاً"؟
- أجابها:" آه يا باراتينيس، إني أخبرك بما أخبرتني إياه، وأنا مصدّق لأقوالها. وأتمنى عليك أن تري تلك الكاهنة. فأنا وعند ذهابي إليها بدى لي بأنها قد ذهبت بعيداً في العالم الناءٍ حيث أكتنفها الضباب وكأنها كانت تقوم بمخاطبة العالم اللامرئي.
فأنت يا عزيزتي بارتينيس، بإستطاعتك الذهاب معي في رحلتي القادمة، وسترين بأم العين. هذا إذا كانت لديك الرغبة في ذلك".
- إلتفتت ناظرة صوب البحر، وسألته بشغف:" أين تقع اليونان"؟
منيساركوس تحرك مشيراً بإصبعه ناحية الشمال الغربي، حيث كانا يقفان معاً وأيديهما متشابكتين. فضغطت على يديه وأغمضّت عينيها، وأخذتّ نفساً عميقاً وطويلاً.

* * *


إن الطريق من المرفأ إلى المدينة مرصوفٌ ومزدانٌ من الجهتين بأشجار النخيل ، والأعمدة الموضوعة عليها القناديل لإنارة الدرب.
منيساركوس وبارتينيس يمشيان سوية على تلك الطريق الهادئة المودّية إلى السوق الذي ليلته هذه صاخبة، ذلك أن المحلات التجارية فيه لا تزال مفتوحة لعرض ما فيها من بضائع مختلفة حيث البعض من التجار قاموا بتخزين بضائعهم الجديدة فيها التي شحنوها من الخارج لتوّهم بغية عرضها في اليوم التالي.
بالإضافة إلى ذلك، كانت المعادن ترسل مباشرة إلى المصانع القائمة على مقربة من السوق، كالمصنع الذي كان موجوداً في الصرفند على بعد 15 كيلو متر جنوبي صيدون لتصنع من القطع المعدنية اشكالٌ مختلفة وجميلة. وفضلاً عن تلك المحلات التي تعرض فيها البضائع، كانت صيدون مشهورة بخدماتها الإجتماعية وعلاجاتها الطبية، لذلك بات " أشمون" إله الطب من أشهر الآلهة فيها. ويقول التقليد:" إن أشمون كان رجلاً عادياً ذو قدرات عجائبية على الشفاء بإستخدامه الأعشاب الطبيعية في علاجاته". لذلك أعتبره الصيدونيون إلهاً.
ففي طب الأسنان مثلاً، كان الأطباء يلفّون سلكاً من الذهب الخالص على النيرة بغية مسك الأسنان المرتخاة لتثبّت في مكانها.

الناس أحبوا العيش في صيدون، السكان الأصليون كما الغرباء عنها. فكلهم وجدوا الحياة فيها مليئة بالمرح ونابضة بالحياة نفسها في قلوب الناس، والحيوانات، والأشجار، وفي داخل البيوت كما على الطرقات وفي كل مكان منها.

وترك الزوجان السوق متوجهان إلى المنطقة السكنية التي كانت فيها البيوت كلها متشابهة لحد ما. فمنها ما كان مستطيلاً وقائم الزوايا، ومنها ما كان مكّعب الشكل، وكلها مبني من الحجارة، أما نوافذها فكلها مطلة على كل الجهات وهي مزدانة بالأحجار الكلسية.
أما منزل منيساركوس وزوجته بارتينيس فهو شبه مختلف عن ما عداه من منازل أخرى. فقد كان مبنياً من الحجر، ومسقوفاً بخشب الأرز، ومحاطاً بحديقة. ولم تكن غالبية الناس لها منزلٌ مشابه له، لأن كلفة إنشاء واحد مثله هي باهظة، ولكن منيساركوس لم تكن لتنقصه الإمكانية لإمتلاك مثل هكذا منزل، وهو الرجل الذكي الذي أفلح في تعاطيه التجارة التي منها جنى ثروته.
ودخل الزوجان إلى منزلهما، وأضاءوا قنديل الزيت المعلّق على عامود في وسط الدار. وجلس منيساركوس على الأريكة ليرتاح، بينما كانت زوجته منهمكة بإعداد الطعام. وبعد ذلك، وبمحاذاة النافذة المغطاة ببرداية أرجوانية جميلة، وعلى طاولة خشبية فخمة قام بصنعها نجار صيدونيّ، جلس الزوجان لتناول طعام العشاء من اللحوم والخضار والفاكهة الطازج التي كانت تملئ المنزل بروائحها الشهية في جو من الصمت والسكون، إذ كانا يتخاطبان بلغة العيون. وبعد مضيّ القليل من الوقت، ذهب منيساركوس للنوم، لأنه كان منهكاً بسبب طول الرحلة التي قام بها عائداً لبيته ووطنه.
في اليوم التالي ظهرت الشمس متحركة ببطء فوق قمم جبال لبنان الشرقية، وغناء العصافير الذي تبعته حركة الناس والحيوانات التناغمية كان مواكباً لحركتها. في هذه الأثناء كان الزوجان يتناولان طعام فطورهما من الحليب الطازج في حديقة منزلهما، حيث أريج الزهور والشجر مالئاً الهواء الذي كانا يستنشقانه بكل جزء من جزيئاته. وما كانت تشكيلة الألوان والأنواع إلا لتزيد وجودهما مع بعضهما تناغماً. ومقابل ناظريهما كانت " تلة الميراكس" Murex . وبمحاذاة حديقتهما، وعلى الطريق الضيقة ظهر صف من الرجال والنساء يمشون قاصدين تلك التلة وهم حاملين السلال المملؤة بصدف الميراكس، وكأنهم متوجهين إليها للقيام ببعض من الطقوس، ملوّحين بالأيدي للزوجان الذين ردا لهم السلام. أما منيساركوس، فإستوقف أحدهم طالباً منه أن يحضر له وفي خلال شهر ردائين من " الأورجوان الملوكي" بناء لطلب شخصين من وجهاء اليونان.
- ولدى سماعها ذلك، قالت بارتينيس:" وأخيراً،أعتقد بأننا سنذهب إلى اليونان في خلال شهر من الآن، كم هذا جيّد"!
- فأجابها زوجها:" نعم يا حبيبتي، وأنا متأكدٌ بأنك ستتمتعين بوقتك هناك. فسأعرفك على كل أصدقائي من رسامين، وشعراء، وتجار، وسياسيين".
- فأجابته:" أنا منتظرة بفارغ الصبر زيارة اليونان، والتعرّف على أصدقائك هناك. أما بالنسبة لتلك الكاهنة العرافة التي حدثتني عنها سابقاً فأنا لست متاكدة من شرعيتها".
- فأجابها:" حسناً يا حبيبتي، فأنا لا أحاول إقناعك بها، لكنك لا تستطعين أن تحكمي عليها من دون أن تريها أولاً".
- فقالت:" أنا أعلم ذلك يا منيساركوس، ولكن إذا أردت. يمكننا أن نزور الكهنة في جبيل لأنني متأكدة بأن قوة الإله العلي " إيل" هي معهم".
- قال:" أنا لا أمانع ابداً ما إقترحته، سنزورهم حتماً".
بارتينيس شعرت بالراحة لما قاله أخيراً، وهي تشرب الحليب الطازج.
بالأمس وعندما كلمها زوجها عن دلفي بإيمان كبير، ظنّت بأنه قد غيّر قلبه ودوّزن عقله لآلهة اليونان. أما الآن وبعد تلك المحاورة التي دارت بينها وبينه، فقد باتت متأكدة بأن شكوكها فيه لجهة تغيير إيمانه لم تكن أبداً في محلها من الصحة والدقة. ثم نظرتّ إليه، فكانت عيناه متجهة إلى مكان آخر.

وفي غضون ذلك فإن موكب الأخصائيين بصدف الميراكس وصل إلى التلة الإصطناعية التي تكوّنت من رواسب نفايات مصانع صبغ الأورجوان خلف تلة الميراكس. وإن هيئاتهم الغير واضحة المعالم بدأت بالزوال ببطء كلما إبتعدوا. والأهالي هناك، كانوا قد إختاروا هذا المكان بإستراجية فائقة شرقي صيدون، وذلك من أجل إبقاء الروائح بعيدة عنهم عندما تهب الرياح متجهة صوب الأسفل.
هناك في الداخل، وبسرية تامة كانت قطع صدف الميراكس (2) الصغيرة تكسر. ليقوم الأخصائيون بعدها بسحب الرخويات منها ووضعها في براميل واسعة فوق نار خفيفة. وبعد ذلك، كانوا يضعون تلك الرخويات تحت أشعة شمس المتوسط لتتحلّل فوراً وتصبح ذات لون صفراوي صباغي. وكان المهرة من الكنعانيين - الفينيقيين العاملين بسرية تامة، يشعلون هذا السائل لحوالي أسبوعين مسيطرين على هذه الطريقة، مضيفين إليها وصفة كيميائية ليست معروفة.( ربما البعض من خواص الليمون) الأمر الذي كان ينتج عنه تنوّع فائق الجمال من الألوان ما بين الزهري الخفيف، إلى البنفسجي الغامق " اي الأرجوان الملوكي".
وكان النسيج الراقي المستوّرد من مصر يصبغ بهذه الألوان الرائعة الجمال والطويلة الديمومة معطية بذلك في كل مكان متعة الموضة.
فالأورجوان الملوكي كان اللباس الدائم والتقليدي للشعب الكنعاني - الفينيقي، وأطلق عليه هذا الإسم لأن الملوك والأغنياء من الأمم الغريبة بإستطاعتهم دفع ثمنه وهم الباحثين عنه دوماً، طالبين إياه مقابل الذهب.

إن الصيدونيون، كما الصوريون أيضاً إشتهروا بصباغة الأرجوان، وكانوا حريصين ومحافظين على صون سر صناعته الفريدة هذه، وللغاية فقد كانوا يفتشون ويراقبون كل عامل وعاملة لديهم في وقت إنتهاء دوامات عملهم وقبل ذهابهم لبيوتهم كي لا تنقل الأسرار من خلال أي من أولئك العمال إلى أحد. وإنهم وبهذا الضبط للأعمال وتلك السيطرة على أسرارها والمحافظة عليها، ظلوا هم الوحيدين القادرين على القيام بتلك الصنعة التي إبتكروها.

هناك، ومن وراء تلة الميراكس، ظهرت أشكال صغيرة متحركة ماشية ببطء في المجال الرحب أمامها. وهي متّبعة إيقاعاً خاصاً، ظاهرة ومتخفية على مد النظر، مما كان يخيل للناظر إليها بأنها ليست ثابتة بحركتها، وكأن تلك الأشكال تحاول إخفاء طبيعة حركتها.
وكانت الشمس المشرقة كالملك فوق قمم الجبال الشرقية، وبدأت تلك الأشكال الغير واضحة المعالم، بالإتضاح شيئاً فشيئاً. وكلما تقدمت للأمام كانت تزداد وضوحاً أكثر فأكثر. إنهما كائنان بشريان يظهران، وها هو شكلهما يتوضح رويداً رويداً، ونبضة نبضة.
وبدى الأول وكأنه حاملٌ حملاً كبيراً، أكبر من الذي كانت تحمله الأخرى. إنه يحمل صندوقان، وهي تحمل لفافة من الورق البردي تحت إبطها، أما لباسهما فكان تقليدياً. وما هي إلا هنيهة حتى وصلا إلى منزل منيساركوس وبارتينيس. ففتحا بوابة الحديقة وتوقفا، ولم يكن هناك أي صوت لحركة داخل او خارج المنزل. وعبرا الحديقة بإتجاه المنزل ووضعا الصندوقين ولفافة الورق البردي على عتبة الباب الخلفي المطل على تلك الحديقة، وأنتظرا لهنيهات، ومن ثم وببطء ومن دون أن يلتفتا للوراء تركا المكان.
ولم يمر من الوقت بعد ذلك أكثر من ساعتين، حتى إستفاقت بارتينيس من نومها. فرفعت الستار وفتحت النافذة، وأخذت نفساً عميقاً من الهواء المنعش. ومن ثم تحركت إلى الداخل مبتعدة عن النافذة التي كانت في بعض من الأحيان تتمشّى ذهاباً وإياباً بقربها، وكأنها منشغلة بأمر ما.
لاحقاً، فتحت بارتينيس الباب الخلفي، فوجدت على عتبته صندوقيين بنيَ اللون ورائحة الأرز فواحة منهما، ولفافة الورق البردي. وقرأت ما كان مكتوباً على الصندوقين بالأحرف الفينيقية:" الأرجوان الملوكي - قطعة واحدة". وكانت على واحد من الأطراف الأربعة لكل صندوق من الصندوقين محفورة الكلمات التالية:" صنع في صيدون – فينيقيا". ولتوّها، أدركت بأن تلك الأغراض هي مرسلة لزوجها، لذلك فهي لم تحل لفائف الورق البردي، وقالت في نفسها:" منيساركوس سيتولى الأمر لاحقاً".
ومرّت في ذهنها أن فكرة الرحلة لليونان قد باتت امراً مؤكد حدوثه، ومصير ولدها المنتظر سيعلن عنه قريباً جداً. وتداخل في قلبها الشعور بالقلق والفرح في آن واحد، وبانت على ثغرها إبتسامة، وبعض من ملامح الإضطراب على وجهها. ومرّت بمحاذاة تلك الأغراض قاصدة الحديقة بخطوات بطيئة وحذرة. وطار من امامها طائر صغير ذو ريش ملوّن هو أشبه بطائر الفينيق الأسطوري، وراح يتنقل من غصن شجرة، ليحط على غصن شجرة أخرى مختلفة. وراحت تحدق به متأملة إياه، فبدى لها كم هو سعيد بتنقلاته، وإبتسمت.
* * *
وإنقضى الأسبوع الأخير، وإنتهى معه الشهر.
هناك على رصيف ميناء صيدون، كان يجتمع التجار والفنانين والعلماء تحت أشعة شمس المتوسط. إنه نهار جميل، فالكل كانت تحركه إرادة ذو طاقة هائلة. إنها إرادة الحياة.
وبنشاط وإيمان، ظهروا وهم مختلطين ببعضهم البعض، حيث كان كل فرد منهم على إختلاف تخصصه بالحياة تواقاً للقيام بمغامرة مليئة بروح الإنتماء إلى عائلة بشرية شجاعة ومحبّة ومهتمة.
وبين تلك الجموع من الناس، ظهر منيساركوس وزوجته بارتينيس، فراحا يسلمان على الناس المحتشدين هناك وهم متوجهين صوب السفينة التي كان منيساركوس دوماً يسافر على متنها.
وكانت الرياح الناعمة تلامس وجه عشتروت المتجهة عيناها صوب الناس تارة، وصوب أمواج بحر الربيع المبكر تارة أخرى.
وحط الزوجان رجليهما على ظهر تلك السفينة.
بارتينيس، قليلاً ما سافرت إلى خارج فينيقيا قبل زواجها وبعده،.إنه يوم جديد ومميز بالنسبة لها، فتركها لصيدون لم يكن بالأمر السهل عليها، حتى ولو كان ذلك لفترة قصيرة من الزمن. لكن، أمامها هدف يجب عليها ان تحققه، ووجهة عليها ولوجها.
وبدون اي تردد منها، راحت تسير على ظهر تلك السفينة، وهي ترتدي رداءً من الكتان الأزرق، ملتحفة بوشاح أبيض أمام كل الرجال الذين كانوا هناك على ظهر السفينة، متتبعة لخطوات زوجها منيساركوس الذي اشار لها إلى درجة موجودة على شمالي غرفة القبطان في مؤخرة السفينة. فسبقته نزولاً حتى وصلا سوية إلى رواق فاصل بين أبواب الغرف.
- وسمعت صوت زوجها من وراءها قائلاً لها:" يا حبيبتي بارتينيس، إنها غرفتنا تلك الواقعة مباشرة أمامنا".
فتوقفتّ أمام بابها، وإلتفتت صوب زوجها الذي هز برأسه. ثم أمعنت النظر في باب الغرفة، فرأت عليه صحفة من البرونز مكتوب عليها:" الرقم 5". إنها غرفة منيساركوس التقليدية المخصصة له في رحالاته، ولم يكن في تلك الغرفة الصغيرة سوى سرير واحد، تقابله من الجهة الأخرى بمحاذاة الحائط تعليقة الثياب، هذا فضلاً عن طاولة عادية. وفي تلك الأثناء، جاءهم الحمال ليدخل أمتعتهما للغرفة، فأعطاه منيساركوس قطعة نقدية معدنية، فإبتسم الحمال شاكراً، ثم إنصرف.
أما في خارج السفينة، كان هناك ما يزال البعض من الناس يتمشون على رصيف الميناء، فصرخ بهم القبطان:" الكل على السفينة، سنبحر بعد عشرة دقائق من الآن".
* * *
عندما كان الزوجان على ظهر تلك السقينة التي كانت غاصة بالناس، ومن بينهن البعض من النساء. عاد القبطان للصراخ من جديد، بهدف التأكد من أن كل المسافرين باتوا الآن على متن السفينة. وما هي إلا هنيهات، حتى تحركت السفينة ببطء مبتعدة شيئاً فشيئاً عن رصيف الميناء، منطلقة بقوة أربعين رجلاً من المجذفين بها وهم منقسمين لصفين، واحداً فوق الأخرعلى جهة واحدة منها. لقد كانوا يجذفون بتناغم وإيقاع متتابع، وهم ينصتون لموسيقى الإبحار التي كان عازف الناي يعزفها.

وبإزاء السفن الفينيقية، لم تتعدى السفن المصرية كونها مجرد زوارق كبيرة، كان يستخدم بحارتها المجاذيف القصيرة ذات الشفرة العريضة على طرف واحد أو طرفين منها للإبحار. أما البحارة الكنعانيون ذوو الخبرة، فقد إبتكروا تقنية التجذيف بالمجاذيف الطويلة ذات الفعالية الكبيرة، هذا فضلاً عن كوّنهم فريدين من نوعهم في قيادة السفن. فكان القبطان يتولى قيادة المجذفين بالمجاذيف، في حين كان العازف بالناي يبدوا كالمايسترو واقفاً أمامهم، وموزعاً الأدوار عليهم وكأنهم كانوا في حفلة موسيقية يعزفون فيها السمفونيات الرائعة. الأمر الذي جعلهم على تناغم قوي مع بعضهم البعض، ومع القبطان أيضاً، بغية تسيير السفينة بأقصى سرعة ممكنة. فالقبطان كان دوماً متأهباً، وعمل ربان السفينة في غاية السهولة.
وأصدر القبطان أوامره، فإنطلقت السفينة بسرعة مبتعدة عن المرفأ. وفي مقدمتها يرتفع رأس حصان خشبي موجهاً صوب قلب البحر المتوسط. أما في وسط سطحها، فيرتكز العامود الحامل الشراع مرتفعاً لخمسة أمتار. وشد أحد البحارة الحبل بحذر حالاً رباطه، فنزل الشراع منبسطاً، ليكوّن شكلاً مستطيلاً، فضربته الرياح وتابعت السفينة سيرها بسرعة، سابحة على وجه المياه الزرقاء.
النهار في منتصفه، ومعظم التجار الكنعانيين الفينيقيين يضعون بضائعهم المختلفة بطريقة منتظمة في منتصف سطح السفينة، أما هم فمرتاحون على الجانب الآخر منه. ذلك أن السفينة رحبة، فطولها البالغ 32 متراً، وعرضها البالغ ستة أمتار، أمّن لأولئك التجار المكان الفسيح لهم ولبضائعهم، وللناس الآخرين أيضاً التنزه والتجوّل على سطحها بكل راحة.
وإلى جانب تلك السفينة، كانت تبحر سفنٌ كثيرة محملة بالبضائع والناس، منها ما كان كبيراً، ومنها ما كان صغيراً. مبحرة كلها في هذه المملكة البحرية، متوجهة إلى مختلف الأصقاع.
- بارتينيس ومنيساركوس، كانا يتناولان طعام الغداء معاً. فقالت له:" أنا متحمسة جداً يا منيساركوس لكل ما هو حاصلٌ، إنني وبفارغ الصبر أنتظر الوصول لليونان، فكم يلزمنا من الوقت بعد كي نصلها"؟
- أجابها:" سنصل في غضون ثلاثة أيام، وأنا عالم بأنك متحمسة جداً، تماماً مثلي وأنتِ بقربي. وإني أعدكِ بأنكِ ستتمتعين هناك، فاليونان هي مكان جميلٌ يستحق زيارتنا وإهتمامنا، أما دلفي فهي ضرورة روحية".
ووقفت بارتينيس على حافة السفينة ناظرة إلى الشمس أتي أوشكت على الغروب، حيث بات لونها يتغيّر شيئاً فشيئاً، وهي تنحدر ببطء صوب المياه أمام ناظريها، وكأنها تغرق فيها. وهي لم تشعر بذلك من قبل بأنها قريبة جداً من الشمس. وتخيلت الصوت العميق لتلاقي الشمس بالمياه التي إضطربت منها، متصوّرة النار التي فيها مهتزة من شدة قوتها، إذ أن عنصرين مختلفين من الطبيعة قد إتحدا. إنهما النار والمياه.
وفي هذه الأثناء، وضع منيساركوس يده الدافئة على ظهرها مقاطعاً تخيلاتها. فلامس بطنها مدللاً إياه بنعومة، ووضع يده الأخرى بيدها، مسنداً رأسه على كتفها. فإضطربت من الداخل.
- ثم همس بأذنها:" أحبك يا عزيزتي".
فإبتسمت، وإنتباهما الشعور بالوصال الغامرهما. منصتين لصوت نبضات قلبيهما العميق الخافق في داخلهما، شاعرين بالسعادة والسلام.
لاحقاً، وفي تلك الليلة، كان الزوجان السعيدان على موعد مع هملكون قبطان السفينة لتناول العشاء معه ، وهو ذو جسد نحيل، ولحية طويلة، وشعر طويل أبيض منسدل على كتفيه، وله من العمر ما يناهز الخمسين عاماً، وصاحب نظرات ثاقبة. . .
وعند حلول المساء، جلس منيساركوس وبارتينيس على مائدة العشاء بصحبة أربعة من التجار الأغنياء، وهملكون معهم. فراحوا يشربون النبيذ، ويتناولون الأطعمة الشهية. وفي خلال العشاء راح القبطان هملكون يروي لهم القصص الغريبة عن البحر، محدثاً إياهم عن الأراضي التي كان قد زارها، وهو البارع في سرده القصص. فحركات جسده، وملامح وجهه هذا فضلاً عن حدة صوته جعلت منه ذو حضور رهيب. وإن كل واحد من الجالسين معه على المائدة، إنتابه الشعور بالإنجذاب نحوه، والإحساس بأنه قد قام بزيارة تلك الأراضي التي حدثهم عن زيارته لها، وكأنه كان مشاركاً إياه في إختباراته البحرية. فسفينته هي واحدة في الأسطول الذي أبحر ذات مرة متجاوزاً " أعمدة ملقارت هرقليس"، قاصداً بر التنك ( 3 )، أي ارض التنك. وكان هملكون في رحلاته المتعددة، قد نزل الأرض التي كانت تقيم فيها الشعوب ذات البشرة السوداء، كما أن سفينته كانت قد رست في مرفئ" مرسى إيل" ( 4 ) في أوروبا.
لقد كان العشاء مع القبطان مليئاً بالمرح، ومثيراً للإهتمام، وهو الرجل الشريف والمغامر. وبعد إنتهاء العشاء، عاد منيساركوس وزوجته إلى غرفتهما، لأن الليل قد مال، والوقت حان ليخلدا سوية للنوم.

وبزغ الفجر بقوة في النهار التالي، فأفاق التجار والبحارة من نومهم متحركين ذهاباً وإياباً على ظهر تلك السفينة. وجلس المجذفون كلٌ في مكانه، وساروا بالسفينة بسرعة تحت أشعة الشمس. وبعد دقائق معدودة، تركوا الشراع ليقودها بفعل الرياح الخفيفة.
لقد مر النهار بهدؤ في ذهن كل الذين على متن السفينة، وفي الليل وقفت بارتينيس ثانية على حد السفينة، وهي تنظر إلى القمر المكتمل نوره في قبة السماء، في الوقت الذي كانت فيه تلك السفينة تطفوا بإستسلام للمياه المتلألئة، في وقت كانت الرياح فيه تطلق نغماً معزوفاً في ذاك الجو الباهر فوق البحر اللامتناهي. ومع أن بارتينيس إنتابها الشعور بالخوف من كل ماهو محيط بها، فقد كانت تشعر بالأمان.
- وتناهى لمسمعها صوت وقع خطوات على ظهر السفينة يرتفع شيئاً فشيئاً، إلى أن بات على مقربة منها. فإلتفتت لترى من هو القادم نحوها، وإذ بها ترى هملكون القبطان نازعاً قبعته عن رأسه، ملقياً عليها التحية بقوله:" هل أنت مستمتعة بهذا المنظر الليلي يا ايتها السيدة"؟
- فأجابته والإبتسامة على وجهها:" نعم، بالتأكيد. إن الجو هنا مريحٌ للغاية، وهادءٌ جداً، غير أنه وفي الوقت نفسه لا يخلوا من الغرابة أبداً".
- وتقدم هملكون للأمام ووقف بجانبها وقال:" إن البحر كان دوماً مكاناً غريباً ومخيفاً في أذهان القدماء الذين كانوا يظنون بأن وحوشاً كبيرةً كانت تسكنه، وهي ستظهر لهم من وراء الأفق. وظنونهم هذه دامت لعقود كثيرة حتى جاء اجدادنا من الكنعانيين الفينيقين، فضحضوا تلك الترهات، وغامروا بمداه الأقصى، حتى تبيّن لهم لاحقاً بأنه توجد حياة خلف أفقه".
- هملكون تنفس بعمق، محاولاً متابعة الكلام، إلا أن بارتينيس قاطعته بقولها:" إنه لشرف عظيم أن يكون المرء منتمياً إلى هذا العرق من البشر".
وظلت تساؤلتها عن البحر قائمة بذهنها، ذلك أنها لم تجد بعد السبل التي توصلها لفهمها إياه. ولكن ذلك لم يكن ليتسبب لها بالمشاكل، فشعورها الغريب نحوه هو من طبيعة مسالمة.
- ونظرت إلى هملكون، وسألته بلطف:" هلا أخبرتني كيف أصبحت بحاراً"؟ ثم أجالت الطرف ناحية البحر.
- أجابها:" إنه لتقليد عندنا في العائلة يا سيدتي. فأنا وعندما كنت صغيراً، كان جدي يروي لي القصص الغريبة عن البحر، محدّثاً إياي عن شعوره الغريب الذي إنتابه عندما قام بأولى رحلاته فيه".
فإبتسمت بارتينيس مطمئنة، بأن شعورها تجاه البحر لم يكن خاصاً بها وحسب، بل كان ينتاب كل الذين سافروا فيه للمرة الأولى. إن هذا الشعور، هو حالة أخرى من حالات الوعي الذي تحفزه الطبيعة.
- وقال لها هملكون:" لقد قال لي جدي، بأن الناس قديماً كانوا يعتقدون بأن نهاية العالم هي هناك في هذا الإتجاه خلف " أعمدة ملقارت". وأمام تلك المعتقدات، فقد قرر جدي أن يقوم بمغامرة ليرى كيف هي تلك النهاية، ولدى عبوره بسفينته الأعمدة لم يجد هناك أية نهاية، وهو البحار الجديد في مهنته. وعندها راح البحارة الآخرون يضحكون لا هازئين منه بل سعيدين به وفخورين بما إكتشفه. وللحال تقدم منه القبطان وقال له كاشفاً السر الذي كان مخفياً عن السواد الأعظم من الناس:" إنها شائعات أطلقها أجدادنا لكي لا تتجرأ بقية الشعوب على الإبحار هناك". في الحقيقة لم تكن هناك من نهاية للعالم، بل بدايةً لعالم جديد".
- فنظرت إليه، لتجده ناظراً إليها بدوره، وأدركت في قرارة نفسها بأنه مدركٌ لشعورها الغريب تجاه البحر، وقال لها:" إننا نعرف الرياح جيدا والتيارات البحرية".
- ومن ثم، إلتفت صوب السماء. فحذت حذوه، وقال:" لكن هذا ليس كل شيء، فنحق كبحارة نعتمد كثيراً على النجوم التي تساعدنا على الإبحار. فإذا أردتِ الوصول إلى هدفكِ يا سيدتي فما عليك إلا أن تتبعّيها".
وتتبعّت بارتينيس لها.
* * *
لاحقاً، بعد ظهيرة النهار الثالث، رست السفينة على المرفأ في اليونان. والزوجان فرحان كثيراً وهما يخطوان معاً خطواتهما الأولى على هذه الأرض. وكانت بارتينيس منتظرة تلك اللحظة بفارغ الصبر، بغية أن تختبر العالم من منظار مختلف، متنشقة هواءً جديداً ومدركة بأنها ستفرح كثيراً.

" أهلاً وسهلاً بكما في اليونان، يا أيها السيد ويا أيتها السيدة". بهذه العبارات، رحب بهما رجلٌ كهلُ ذو رأس أصلع ولحية بيضاء. فتوّجه صوبهما، مدركاً من ثيابهما بأنهما من فينيقيا.
فألقا عليه التحية، ومن ثم عرض عليهما أن يقلهما بعربته، وللحال وضعا أمتعتهما في العربة وأنطلوا نحو أثينا.
من بعيد، وهم يقتربون رويداً رويداً من أثينا، برزت لهما جبال شاهقة وصغيرة محاطة بسهول مليئة بأشجار الزيتون والكرمه. فعبروا البوابة الكبيرة في حائط المدينة، موّجهين أنظارهم إلى أثينا. تلك المدينة التي تأسست أصلاً على صخرة الأكروبوليس المرتفعة حوالي أل 270 متراً، والمتسعة عند أسفل القلعة القديمة التي كانت القبائل اليونانية الأثينية تعيش فيها. فأثينا كانت واحدة من أعظم مدن اليونان، والنحاتون فيها كانوا في كل مكان منها منشغلين بنحتهم الحجارة جاعلين منها تماثيلاً فائقة الروعة والجمال. وعلاوة على ذلك، كان هناك البعض من الشعراء يتنزهون في ساحة المدينة تحت المدخل الشمالي الغربي للأكروبوليس حيث كانوا يلقون القصائد النثرية، ويتلون التراتيل شمالاً ويميناً. وكانت سافو قد تلت منها ما هو أشد تأثبراً على المشاعر والأحاسيس. وأشار الكهل بأصبعه إليها قائلاً للزوجين، بأن سافو هي من أهم وأشهر الشعراء في كل أثينا، هذا إذا لم يكن في اليونان كلها.

بارتينيس بدت عليها علائم الدهشة والذهول لكل ما كانت تشاهده من حولها. إنه بالفعل عالمٌ مختلفٌ تماماً بالنسبة إليها، وربما أيضاً بالنسبة لكل إنسان قدم إلى هذا المكان للمرة الأولى. لقد كانت مأخوذة جداً بكل هذه الطاقات والمواهب المحيطة بها، وبدى لها أن الفن هو ما كان أهل أثينا يعيشون له ومن أجله، كاسبين رزقهم بواسطته، وهو بالنسبة إليهم مصدراً للحياة وللسعادة.
وشد الكهل رسن الحصانين ليخفف من سرعة العربة تمهيداً لإيقافها، فتوقفت ونزل منها الزوجان وأخرجا أمتعتهما. وبالنقد الأثيني دفع له منيساركوس بدل نقله وزوجته. وبعد ذلك، مشى عابراً " الأغورا " أي ساحة المدينة وقلبها النابض بالحياة.
أما بارتينيس، فلفت نظرها جمعاً غفيراً محتشداً في إحدى نواحي تلك الساحة، فتعجبت.
- فشرح لها زوجها مبتسماً وقال:" هذا هو صولون Solon ، كبير حكماء أثينا وهو يتبادل الأراء السياسية والقانونية والدينية والإقتصادية مع الناس، وهو برفقة طاليس ( 5 )، وفيريسيد ( 6 ) من فينيقيا".
وللحال، تبدلت ملامح بارتينيس عندما رأت أخاها فيريسيد صديقاً لذاك الحكيم، متعجبة وفخورة، لأن صولون هذا القاضي الكبير قد إختار فينيقيين مستشاران له، هذا فضلاً عن كونهما صديقان حميمان له، ومساعدان في إدارة سياسات تلك المدينة العظيمة. مدركة في قرارة نفسها بأن كل شيء في هذه الأرض الجديدة بالنسبة لها هو حاملٌ في أسسه المدنية بصمات الفلسفة الكنعانية الفينيقية، وروح الفن الكنعاني العميق، وإبتسمت.

بالبداية، وقبل ذلك الوقت، كانت العائلات الأرستقراطية حاكمة لأثينا. لاحقاً، إنتقل الحكم ليد صولون وذلك كان منذ عشرين عاماً. وصولون هذا، هو إبن إكزيسيس تيداس الذي إعتقد نفسه بأنه سليل الملوك الأثينيين القدماء.

من حولها وعلى حدود تلك الساحة، برزت أمامها أبنيةٌ مختلفة ومزارات، ومن بينها البازيليك الملوكي، ودار مجلس الشورى، وأيضاً واحدة من أكبر قاعات المحاكم. وعندما كانت بارتينيس ملتفتة ناحية تلك الأبنية الفائقة الجمال، والمحلات والأسواق. إنطلق مجدداً صوت صولون محدثاً الصدى، فقال:" إن الطبقة الأرستقراطية المسيطرة على الحكم، تلك الطبقة المالكة لأخصب الأراضي الزراعية، قامت بإستغلال الفقراء الذين إضطرتهم أحوالهم السيئة للإستدانة. . . هذا الحكم يجب أن ينتهي، وهذه هي مهمتنا. فالفلاحون الفقراء كانوا في أغلب الأحيان عاجزين عن دفع الضرائب لأولئك الحكام، فأجبروهم على القيام بالأعمال الشاقة في أراضيهم كعبيد لهم. وأمام هذا الواقع المرير، سنكون مضطرين لسن مجموعة من القوانين الجديدة تكون أكثر عدالة وإنسانية".
وكانت الناس بمختلف طبقاتها، تنصت لما كان يقوله صولون بإهتمام كبير، إذ كانت كلماته تحرك فيهم روح التغيير، مظهرين الرضى، آملين بحل مشاكلهم.
- وتابع صولون:" سوف نفك رهن الأراضي التي صادرها أولئك الطغاة، وسنحرر كل العبيد، وسيكون لدينا مرسوم قانوني ينظّم تلك المسائل، وللحال سنباشر بإعداده".
وإرتفعت الهتافات في كل مكان، ورفعت الجموع اليافطات المؤيدة لصولون، معبيرين عن مشاعرهم نحوه كمحرر لهم.
وكان منيبساركوس وبارتينيس، يشهدان إصلاحاً شاملاً وقوياً يحدث داخل الأغورا في أثينا. وبما أن طاليس كان رجلاً حكيماً، فقد أعتبر أيضاً كمحرر.
- وأضاف صولون:" سوف نؤَ مّن أعمالاً إضافية، كالتجارة إلى جانب مهن أخرى لأولئك الذين لا يمكنهم أن يكونوا فلاحين. وكما لاحظتم مؤخراً، فقد كنا نقوم منذ فترة بتوزيع عملة نقدية جديدة مسبوكة في أثينا شاملة كل الفئات النقدية. وبالإضافة إلى ذلك، سيكون علينا تحديد مكاييل ومقاييس عديدة لإستعمالنا التجاري. لذلك فسنشجع الإتجار بما لنا من منتجات، كالحبوب وزيت الزيتون، والنبيذ، والفخاريات، في كل الأسواق التجارية في العالم".
وكانت الناس تنظر إلى حكيمها وأصدقائه الحكماء وهم بلابسهم الأبيض مع شيء من الزرقة على اطراف تلك الملابس بإعجاب وتعجب! إذ كانوا بادين كالملائكة أمام أعيُن الجموع، التي راحت تسأل مستفسرة عن المزيد من التفاصيل.
- ورد عليهم صولون بدقة:" أيها المواطنون، إن الأغنياء منكم سيحلون محل الطبقة الأرستقراطية. وسوف نقوم بمعاينة الأرباح السنوية، مرتكزين على ما لدينا من منتوجات أساسية، وللغاية سوف نقسّمكم إلى أربعة أقسام. وبموجب ذلك سوف تحصلون على الإمتيازات السياسية، كلٌ حسب قدراته، إذ أن كل فرد منكم سيكون مخولاً له حق حضور الجمعية العامة التي منها ستتشكل الطبقة الحاكمة، بغية أن يكون متاح لكل فرد منكم حق المشاركة في سن القوانين والمراسيم، وتعيين الموظفين الرسميين، وحضور جلسات المحاكم، وسماعكم لما يصدر عنها من أحكام".
منيساركوس وبارتينيس، وبعد كل الذي سمعاه. نظرا لصولون بإحترام شديد، لأن كل ما قاله، كان أساساً لواحدٍ من أهم الدساتير والقوانين للحياة الإنسانية وتطوير المجتمع.
- وتابع صولون الكلام:" إن من هم أكثر فقراً فيما بينكم، سيكون بإمكانهم العمل على إنشاء مجلس مكوّن من 400 شخص بهدف التحضير للأعمال التجارية للجمعية العمومية. إذ أن المراكز العليا في الحكومة، سوف تكون مخصصة للذين لديهم أعلى مرتبتين في الدخل المادي".
- وبدى أن صولون قد انهى خطبته بكلامه الأخير هذا، غير أنه أخذ نفساً عميقاً، وأغمض عينيه للحظات، ثم فتحهما محدقاً بالجموع المحتشدة أمامه، ليضيف بنغمة قوية وثابتة:" إننا الآن، نضع بين أيديكم أسس الديموقراطية المستقبلية".
ومن ثم إبتسم، منهياً خطبته.
إن القانون الذي سنه صولون، هذا السياسي والشاعر والمشرع الأثيني، كان عادلاً، ومحرّماً السرقة، منزلاً عقاباً قاسياً بحق كل من كان يقترفها، ألا وهو الموت.

لقد خاطب صولون الجموع عن مجتمع فائق التنظيم، على قاعدة ثابتة، أساسها، الرجل المناسب في المكان المناسب. مقترحاً الحلول التي ما كانت مرتكزة على أسس ثورية، بقدر ما كانت مرتكزة على إصلاح شامل إقتصادي وسياسي.

هناك في الأغورا، بمحاذاة الرواق الملوكي ذو الأعمدة. كان صولون جالساً، وعلى مقربة منه كان هناك بقربه محورٌ دوار مرتفع، وضعت عليه الألواح الخشبية التي كتبت عليها القوانين.
* * *


عندما أنهى الحكماء مخاطبتهم الناس في الأغورا، كان الليل قد حل. إنها الليلة الثالثة من البدر.
بارتينيس أرادت أن تكلم أخيها فيريسيد، ولكنه لم يكن قد إنتبه إليها بين تلك الجموع، فتوارى بعيداً عن الأنظار.
وإقتربت بارتينيس من تلك الألواح الخشبية المكتوبة عليها القوانينن وقرأت الآتي:"
- قدم الإحترام للآلهة.
- إقنع نفسك بأن الفضيلة وعزة النفس هما خير من القَسَم.
- إحترم أبويك.
- أشغل نفسك بالأمور الجدية في الحياة.
- إعرف كيف تخضع لنفسك، لكي يكون بإستطاعتك النجاح في القيادة.
- لا تشتشر ما يجذبك، بل إستشر دوماً ما هو جميلٌ.
- خذ المنطق الذي يهديك إلى حسن الأمور.
- لا تكذب.
- لا تسر مع الشرير.
إنها القوانين التي جذبت عينا بارتينيس، ولاحقاً ذهب الزوجان إلى النُزُل للمبيت.
وفي اليوم التالي، سارت بارتينيس في ساحة المدينة، وهي لابسة رداءً بني اللون مربوطاً على خصرها بحزام أصفر، وعلى كتفيها معطف أرجواني، عاقدة شريطة زرقاء على جبينها، وسوار ذهبي في معصمها وخطواتها ثابتة، وهي بادية كملكة متوجهة إلى عرشها. أما منيساركوس، فكان سائراً بجنبها، وهو فخورٌ كثيراً وفي غاية السعادة
" بالأرجوان الملوكي " الذي كان يحمله بين ذراعيه، متوجهان سوية للقاء الرجل الغني الذي كان قد طلب من منيساركوس أن يحضر له ذلك الأرجوان. وهناك على الطريق، إلتقت بارتينيس بأخيها فيريسيد، فضما بعضهما بمحبة.
- ثم قالت له أخته:" أوَه، يا فيريسيد، لم أكن أدرك بأنك قد أصبحت رجلاً حكيماً، وصديقاً حميماً لأعظم حكماء أثينا. إنه لشرف عظيم لعائلتنا".
- فأجابها:" بارتينيس، يا أيتها الأخت الطيبة، شكراً على إطرائك". . .
- وسألها:" كيف هي حال إبن المستقبل؟
- فردت عليه متعجبة:" وكيف علمت"؟!
- فإبتسم فيريسيد، وأيضا منيساركوس، ثم قال:" كم إشتقت إليك يا أختي العزيزة".
إن هذه الجَمعة العائلية أضفت مزيداً من الإطمئنان لبارتينيس المتشوقة للبحث عن كل ما هو غريب وفريد من نوعه في تلك البلاد، وشعرت بالثقة والحماية.
لاحقاً، في ذلك النهار مشى الثلاثة عابرين المدينة قاصدين الأكروبوليس. وتوجهوا صعوداً على درج طويل، حتى وصلوا إلى أمام تمثال ضخم للآلهة اثينا ( بروماكوس ) منتصباً في الوسط. فتنفست بارتينيس الصعداء، وكانت تحيط بها أثناء سيرها أبنية جميلة ومهيبة، مالئة المكان بطاقة هائلة. وعلى يسارها كان البارتينون مرتفعاً، وإلى جانبه كان مذبح أثينا قائماً، حيث كان المؤمنون يحرقون البخور والخراف كأضاحي للآلهة. أما في الخلف فكان مزار زوس رابضاً.
وبعد ذلك، إلتقوا بطاليس، فعرّفها زوجها عليه. وراحوا يتحدثون وكأنهم كانوا يعرفون بعضهم منذ ردح طويل من الزمن.
- وسألته بارتينيس عن العرافة فأجابها قائلاً:" لقد قمت بزيارتها مرة واحدة، وكانت لدي شكوك حولها. وفي الداخل تبيّن لي بأنها كانت تقول أشياءً جميلة معتقداً بأنها ربما كانت تتخيّل. عندها قلت في قرارة نفسي، إن الوقت لخير دليل. بعدها، رأيت الأحداث تحصل متطابقة تماماً لما كانت قد تنبأت به. نعم، إنني أؤمن الآن بأن الآلهة تملئ كل الأشياء".
وإن ما قاله طاليس أخيراً، كان كافياً لإقناع بارتينيس بشرعية الكاهنة، فكلماته كلمات رجلٍ حكيمٍ، لا يمكن إلا أن تكون معبرة خير تعبير عن الحقيقة.
* * *

إنه النهار السابع من الشهر الدلفي، وهو يوم عيد أبولو. فترك الزوجان أثينا في الصباح الباكر مع أوائل الفجر قبل بزوغ أشعة الشمس. وكان ذاك النهار بالنسبة إليهما، النهار الأمثل لإستشارة جيدة.
لقد كانا يسافران بعربة، يصحبهما فيريسيد وطاليس، ذلك أن السفر برفقة الأصدقاء الحميمين هو هام بالرغم من أن الشخص السائر نحو قدره، يجب عليه أن يسير لوحده، أو بصحبة الأشخاص الذين يشاركونه المصير نفسه. إنه مصير فينيقيّ المستقبل.
وعلى الطريق، ولدى مرورهم بجانب طيبة Thebes ، أعلمهم طاليس بأن قدموس هو الذي أسس هذه المدينة، وذلك عندما كان في مهمته بإنشاء المدن وتحضير الأمم. وهو الذي أعطى اليونان الأبجدية المحكية، وهذا كان بحد ذاته تطوراً فائق الأهمية.
وبعد ذلك كله، برز أمامهم جبل، وما هي إلا بضعة أمتار حتى يصلونه. هناك على منحدر جبل بارناسوس Mt Parnassus كان المعبد قائماً بعظمة، مطلاً على الوادي الذي كانت تجري فيه مياه نهر بليستوس Plistus . وإن هذا المكان، وبكل تأكيد كان من أقدس الأماكن في اليونان، وكان يعرف وقتئذ ببوابة العالم المفتوحة.
هناك، خارج المعبد، مقابل مدخله الشرقي، كان يرتفع مذبح قائمٌ تحت أشعة الشمس المشرقة. وللحال، قدمت بارتينيس التقادم للكاهن من الحلوى والبخور المستخرج من أشجار الأرز، مُحضِرَةً إياه معها من لبنان، ليحرق أمام أبولو إله الشمس.
وتطوّع طاليس بأن يكون الراعي لتلك الإستشارة كونه حكيماً.
بيتيا Pythia الكاهنة العرافة، التي إختيرَت أولاً من بين أشد العائلات فقراً، كانت صبية طاهرة، وكانت تعيش كالراهبة ملتصقة بالمعبد في غرفة منعزلة بتقشف عميق. وكانت لابسة لباس البتولية، وهي بادية وكأنها في الخمسينيات من العمر. ولتوّها، دعت إليها بارتينيس طالبةً منها أن تغتسل بمياه نبع كاستاليان Castalian لإتمام الطقس. ومن ثم شربت من مياه نبع كاسوتيس Cassotis المقدس.
- وبعد ذلك، سار الكل نحو مدخل المعبد الذي كان معلقاً فوقه صحفةٌ مكتوبٌ عليه بلغات متتعددة:" أيها الإنسان إعرف نفسك" . . .
وها هم الأن في الداخل، فنزلت بيتيا مسرعةً إلى غرفة صغيرة بشكل صومعة، وجلست على مثلث مقدس كانت زواياه موازية لدرجات رياضية روحانية صوفية غامضة. وكان المثلث قائماً فوق فتحة في الأرض يخرج منها البخار النبوي.
وراحت بيتيا تمضغ أوراق الشجرة المقدسة لأبولو، وهي شجرة الغار.
هناك في الأسفل، وفي ظلمة حالكة وبسكون تام حيث كانت تحيط بها غمامة من الدخان الأبيض، وقعت مغشاة في غيبوبة داخل مستوى آخر روحي، وهي التي لديها الموهبة الكاملة لفعل ذلك بملئ إرادتها، فكانت تبدو وكأنها على إتصال وثيق بالإله أبولو محدثةً إياه بلسان بايتون Python – أفعى الحكمة بطريقة لا ترابط بين كلماتها، ولا وضوح فيها، بل إبهامٌ وغموض.
- وكان الكهنة لاحقاً يتولون التفسير لما كانت تردده، وبعد ذلك دوّنوا لبارتينيس التفاسير، وقالوا لها:" سوف ترزقين بإبن، وهو سيكون عظيماً لتطوّر الجنس البشري. وسيوّلد في صيدون، ولدى بلوغه من العمر عامه الأول، عليك أخّذه إلى جبيل بغية أن يصار إلى عماده على يد كهنة " إيل " في نهر أدونيس".
وبعد سماعها لتلك النبؤة، ولتفاسير الكهنة لها، أيقنت بارتينيس بأن تلك الكاهنة، كانت تتكلم بلسان إيل العلي، إله النور، وإبتسمت.
ثم توجّهت بارتينيس بشكرها الكاهنة، والكهنة الآخرين الذين كانوا معها، وخرجت من المعبد.
- هنالك، وعند المخرج. كانت هناك صحفة أخرى، كتلك التي كانت معلقة فوق المدخل، مكتوب عليهه بلغات متعددة، ما يكمّل الكتابة السابقة وهي:" . . . وستعرف أسرار الكون والآلهة".
وتحرك الجنين في أحشاءِها.

( يتبع )








07-07-2005, 02:35 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
نار غير متصل
عضو مشارك
**

المشاركات: 16
الانضمام: Aug 2004
مشاركة: #5
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
عزيزي Georgioss

إنني بانتظار باقي القصة ، لماذا لا تكمل ما بدأت به لأنني من المعجبين جداً بفيثاغورس.

و شكراً سلفاً...
07-19-2005, 05:03 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
bassel غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #6
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
تسجيل متابعة و بانتظار البقية
و اعتقد ان كثيرين مهتمين بفيثاغورس و الغموض الذي يلفه و فلسفته

و شكرا سلفا عزيزي Georgioss
07-19-2005, 10:47 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
نار غير متصل
عضو مشارك
**

المشاركات: 16
الانضمام: Aug 2004
مشاركة: #7
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )



أين أنت يا Georgioss؟

07-20-2005, 04:51 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #8
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
أعتذر للتأخير وذلك لأسباب عاطفية :emb:


نكمل


الفصل الثاني
الولادة ( 1 ) والتأهيل الإبتدائي

في " الأغورا " بأثينا، كانت الجموع محتشدة. وفي ناحية من إحدى نواحي الساحة العامة، كانت هناك مسرحية تؤدى. في إطار نوع من العروض المسرحية البدائية، مليئة بالمشاهد الدراماتيكية المخبرة عن حياة الأثينيين الإجتماعية.
وكانت بارتينيس مع زوجها منيساركوس تشاهد تلك المسرحية، يصحبهم طاليس وفيريسيد وهملكون. وجلس الجميع على مائدة واحدة لتناول طعام العشاء، وشرب النبيذ. وراحوا يراقبون الممثلين والممثلات اللاعبين لأدوارهم السرحية بدقة. . .
إنها ليلة مرحة جداً.

وعبّرت بارتينيس عن مشاعرها نحو طاليس وأخوها فيريسيد بقولها لهما بأنها كانت جد فخورة بهما عندما شاهدتهما في الساحة وهي تستمع لأقوال صولون وهو يلقي خطاباته الإصلاحية في الإجتماع، والإقتصاد. منوّهةً بتأثيرهما الكبير عليه.
- فقال لها فيريسيد:" أشكرك يا أختاه، هذا فخر لنا".
- فأجابته وهي مغمورة بحس الإنتماء للعرق الكنعاني الفينيقي:" نعم بالتأكيد يا أخي العزيز".
في حين كان كل من طاليس ذاك العالم، وهملكون قبطان السفينة، يتحاوران بأمور متعلقة بعلم الفلك. هذا لأن للأثينيين معرفة واسعة بالسماء وأجرامها. فطاليس كان قد تنبأ منذ 15 عاماً بحدوث كسوف شمسي، موجهاً النصح لهملكون القبطان بأن يتّبع عربة النجوم المعروفة بالدب الأصغر، عوضاً عن تتّبعه للدب الأكبر في إبحاره.
وكان الزوجان وفيريسيد يتحدثون عن ما يلزم من ضروريات وحاجيات للطفل المتنظر المنبئ عنه. لاحقاً، وفي تلك الليلة، ولدى مغادرتهم المسرح بغية العودة إلى النُزُل، توقفوا تحت إحدى الأشجار لبرهة من الوقت، وقبل ذهاب هملكون إلى وجهته، قال لهما:" إننا سنعود بعد يومين لصيدون، فإذا كانت ما تزال عندكما بعض الأمور التي ما قمتما بها بعد، فعليك بإتمامها يا منيساركوس قبل صبيحة يوم الأربعاء القادم".
- فرد عليه منيساركوس:" شكراً لك يا هملكون على إعلامنا بذلك، إنني وزوجتي منتظريّن بفارغ الصبر عودتنا إلى الوطن، لأنه علينا واجب التحضير لشيء مهم جداً منتظرين تحققه".
فهزت بارتينيس برأسها موافقة زوجها القول. وإبتسم كل من طاليس وفيريسيد لهما، وراحا يرفعان الصلاة بقلبيهما من أجلهما. أما هملكون، فلم يدري ما الذي قصده هؤلاء. إذ أنهم ما أطلعوه على ما كانت قد أنبأت به بيثيا لهما.
* * *

لقد كانت السقينة الفينيقية مغمورة بسكينة المياه اليونانية. وعلى متنها كان الزوجان واقفين يلوحان بالأيدي مودّعَين الحكيمين طاليس وفيريسد الذين كانا يقفان قبالتهما على الشاطئ. وراحت السفينة تبتعد شيئاً فشيئاً عن الأرض اليونانية محتجبة في ضباب الزمان، إلى أن وصلت لمكان إختفت فيه اليونان ومعها دلفي عن مجال النظر. ولم يبقى للزوجان من اليونان سوى الذكريات الجميلة. أما النبؤة التي تنبأت الكاهنة العرافة في دلفي، فقد رتبت على بارتينيس مسؤوليات عظيمة وجمة، وهي الحاملة في أحشاءها رجل المستقبل العظيم الشبيه بالمخلّص. وكانت بارتينيس مؤمنة بكل تلك الأمور، مفكرة بها في كل مرة كان فيها الجنين يتحرك في داخلها.
- وكانت دوماً تسأل نفسها:" لماذا أنا؟ هل بإمكاني تحمّل ذلك؟
في الليل، كانت نجمة الصبح المعروفة في اليونان " بالنجمة الفينيقية " تتلألأ بضوء عظيم في المملكة السماوية.
بارتينيس وهي على سطح السفينة، كانت تنظر إلى إنعكاس نور تلك النجمة على سطح المياه الهادئة، إذ أن هملكون كان قد قال لها سابقاً، بأنهم كم كانوا يعتمدون على النجوم في إبحارهم، وتذكرت ذلك عندما كانت تفكر باحثة عن إسم لإبنها. وكان الإسم مكتوباًعلى النجمة، نجمة البحر، وكم حاولت جاهدة قراءته لكنها ما كانت لتتمكّن من ذلك، لأن أحرفه كانت منقوشة في داخل " نور تلك النجمة ". لذلك كانت محتاجة لزوجها ليكون معها، فمعاً ويداً بيد، كواحد في الفكر والروح سيكون بمقدورهما فك رموز إسم ثمرة حبهما.
في اليوم التالي وهم في طريق عودتهما لفينيقيا، أخبرت بارتينيس زوجها عن ما كانت تحاول فعله في الليلة السابقة.
- فقال لها مطمئناً:" بارتينيس، يا حبيبتي، ما زال أمامنا شهران، فأنا أعقد بأننا في حينها سنجد له إسماً".
ومن ثم إبتسم.
لاحقاً، وفي اليوم الثالث، عند حلول المساء. كان السكون العظيم مخيماً على مرفأ صيدون الجميل. وكانت المعابد والمدينة تقف مغمورة بالغموض والقداسة، القداسة فعلاً كانت قائمة، أما الهدؤ، فأبداً. ففي الحقيقة، إن الهدؤ الذي كان بادياً بأنه مخيّمٌ على المدينة، تبدد عند وصول السفينة للمرفأ. فظهرت الناس في كل مكان، وخاصة التجار منهم، الذين كانوا منتظرين بفارغ الصبر وصول بضائعهم الجديدة، هذا فضلاً عن العائلات التي أتت المرفأ للترحيب بعودة أبناءها من الغربة والسفر.

وسار منيساركوس وزوجته بارتينيس عبر الرواق المضيء، مبتعدَين عن رصيف الميناء، قاصدَين منزلهما في المدينة، ومرّا بمحاذاة السوق. بارتينيس كانت مشتاقة لكل ما تراه، وخاصة لبيتها. أما منيساركوس الذي كان قد تعوّد على السفر كثيراً للتجارة، لم يكن كزوجته متشوقاً.
وعند وصولهما البيت، وما أن فتحا بابه الخشبي المصنوع بإتقان حتى فاحت الرائحة الجميلة لخشب الأرز مالئة المنزل بعطر شذاها الذي إنساب إلى عمقيهما، وشعرا بأنهما في بلادهما.
لقد كان منيساركوس ضعيفاً أمام تلك القوة الللامرئية العابرة في الزمن. إنها قوة الإنتماء، فليس مهماً المكان الذي يذهب إليه الإنسان مسافراً، ما دام في النهاية سيعود دوماً لمسقط رأسه حيث أبصرنوره الأول.
باكراً، وفي صبيحة اليوم التالي، ذهب الزوجان للسوق بغية شراء الثياب والأشياء الأخرى الضرورية لطفلهما المنتظر. وفي كل أنحاء السوق كان خبر حملها تتناقله الناس إذ أن الخبر إنتشر بسرعة كبيرة. وعبّر لهما الكثيرين من الناس عن سعداتهم لذلك سيما وأن ذلك المولود سيكون بكرهما.
- وكان البعض من الناس يقول بحماس كبير، ليس في صيدون فقط، بل في صور أيضاً مسقط رأس منيساركوس:" سيولد لمنيساركوس هذا التاجر العظيم، ولزوجته بارتينيس هذه السيدة الرائعة طفل".
لقد كانت الأيام تمر ببطء، والليالي بسرعة. أما الزوجان، فلم يكونا قد باحا بسرهما بخصوص تلك النبؤة لأي من الناس على إمتداد الشاطئ الفينيقي. وبالرغم من ذلك، فقد عَلِمَ بها البعض من أقاربهما. فمنهم من آمن بها، ومنهم من لم يؤمن.
وفي مرة من المرات، كانت بارتينيس لوحدها في البيت تحيك قطعة من الثياب لإبنها المتشوقة لولادته، وهي في شهرها الثامن من حملها. فسمعت صوت خفيفاً لوقع خطوات آتٍ من صوب الجهة الخلفية لباب الحديقة. فتوقفت عن عملها مترقبة. . .
ثلاث طرقات على الباب أفقدتها الصبر. فنهضت عن الأريكة متوجهة صوب الباب لتفتحه. وما إن فتحته حتى وقع نظرها على شخصين كان يلبس كل منهما ثوباً أبيضاً طويلاً، وعلى رأسه إسكيم بشكل مثلث ازرق اللون، وحول خصره حزام أزرق. وعندما وجداها مشدوهة بهما، ومرحبة في آن، نزعا عن رأسهما الإسكيميّن ودخلا المنزل. وقال لها احدهما:" لا تقلقي يا أيتها السيدة".
أما الثاني فقال لها بنغمة روحية:" لقد اتيناك من جبيل، بعد أن وصلتنا رسالة خاصة فحواها، بأنك حاملة بأحشائك طفلاً مميزاً. حيث فيه ستتجسد روحٌ متطورة لتصبح من خلاله رجلاً عظيماً، فمباركةٌ أنتِ من بين كل نساء كنعان – فينيقيا".
فالرجلان، كانا كاهنان.
فأغمضت بارتينيس لتوها عينيها، محنية رأسها كعلامة إحترام لتلك الرسالة الروحية التي حملها إليها هذان الكاهنان، وإضطربت للحظات. ومن ثم حل سكون مهيب في الغرفة. وأرادت بارتينيس أن تسوضحما المزيد، لكن الهدؤ الذي كان بادياً على وجهيهما، جعلها على يقين تام من حسن سيّر تحقق تلك الأمور والأشياء، فإبتسمت راضية بما قدّر لها ولعائلتها. وبهدؤ غادر " كاهنا معبد أدونيس " المنزل. أدونيس هذا الإله الشاب الجميل من جبيل المجسّد لدورة الطبيعة، وخاصة الربيع الذي فيه تتجدد كل ذرة في ممالك الحياة.
. . . وعاد منيساركوس إلى البيت، فوجد زوجته مرتاحة وعلى ثغرها إبتسامة لطيفة. فأخبرته عن زيارة الكاهنان لها، فأخذته الدهشة ولم يعلّق. فرفع رأسه ناحية السماء، ومن ثم نظر بعمق إلى عيني زوجته، وأغمضَ عينيه متمنياً بصمت تحقق تلك الأمور.
وفي الليل إتفق الزوجان بأن لا يخبرا أحداً عن زيارة الكاهنين لبيتهما.
وكانت الإبتسامة لا تفارق وجه بارتينيس أبداً، منذ سماعها لتبريكات الكاهنان لها.
وراحا يفكران ملياً لساعات طوال بالإسم الذي سيطلقانه على إبنهما، إلى أن قررا أخيراً تسميته " بيتثاغور ". ( 2 )
. . . وبعد مرور ما يقارب الشهر تقريباً، أبصر بيثاغور النور. فأحاطه أهله والأقارب كما الجيران متحلقين حوله. وكانت رائحة البخور وشجر الأرز تفوح في كل أرجاء ذلك البيت الساحر. وكانت السعادة الممزوجة بدموع الفرح تعلن عن هذا الحدث المميّز. ففي كل مكان من صور وصيدون كانت الناس تتناقل الخبر السعيد. أما في جبيل، فكان الكهنة وحدهم مدركين سر هذا المولود العظيم.
وكانت على بارتينيس ومنيساركوس مهمة خاصة جداً، عليهما واجب القيام بها خير قيام، بالعناية والتربية والرعاية كما يفعل كل الأباء والأمهات مع فارق كبير أساسه في تلك النبؤة التي كانا مغموران بها طيلة الأشهر الثلاثة الماضية من الحمل ومن ثم الولادة. لذلك كانا دوماً يقظين، وجد مهتمين بطفلهما، طفل النبؤة. تلك النبؤة التي ما كانت إلا مجرد وحيّ فكري أوحت به الآلهة المجهولة في رجاء كوّن قناعة بأن رجلاً عظيماً قد أتى وهو سيفعل الخير للبشرية جمعاء كونه سيكون بمثابة مخلّص لها، حيث هنا تكمن مسؤولية أبواه بجعل ذلك الرجاء حقيقة محققة. وكان أهله دوماً حاملين ذاك الوحي في مملكتهما الداخلية، وبات بالنسبة لهما جوهر حياتهما التي أخذت طريقاً آخر مختلف بتحولها من تربية طفل عادي، إلى طفل سيصبح في المستقبل رجلاً مملؤاً من الألوهة وجديراً بالإكرام.
وبعد كل هذا.
- أفلم تكن الألوهة جزءاً أساسياً من كل كائن حي في الكون؟
- ألم تكن الألوهة طريقاً مخفياً لتطور الطبيعة وتجليات الله؟

بارتينسي ومنيساركوس، جاءهما الكثيرين من الناس للتهنئة بولادة طفلهما. وباتت رحلات منيساركوس وسفراته قليلة كي يتسنى له لبقاء بجانب طفله وزوجته قدر الإمكان من الوقت.
وفي مرة من المرات، كانا يتناولان الطعام بصمت، وهما جالسان على الطاولة بقرب النافذة، متحدثان مع بعضهما بلغة العيون، وإلى جانبهما طفلهما الصغير في مهده باكياً.
لقد كان ينموا في جو محاط بالأنوار والهواء العليل، سامعاً الأصوات ورائياً الأشياء المتحركة. وكان أحياناً ينتابه الشعور بالبرد كما بالجوع. وهو الذي كان قبل ولادته في أحشاء أمه مغموراً بالمياه والظلمة، ولم يكن ليسمع سوى صوتها العذب شاعراً بالدفء والحنان.
- وللحال نهضت بارتينيس عن الطاولة، فأعطته طعامه ومن ثم همست:" نمّ وإهدء يا طفلي العزيز، فلماذا البكاء"؟!
فشعر بالأمان، وإرتسمت على محياه الصغير إبتسامة جميلة.
وعلى مر الأيام والليالي، كانت تلك اللحظات تتكرر غامرة حياة تلك العائلة الصيدونية بالسعادة.
* * *


في الإتجاهين المتعاكسين للوادي، وفي قلب الجبال المحيطة. كانت الطبيعة كما اليد البشرية قد حفرت كهوفاً لحماية الكائنات الحية من الشتاء والمخاطر الأخرى المتعددة. ولاحقاً، سكن الرجال والنسوة في تلك الكهوف بغية التنوّر روحياً.
هناك، في الأعالي وعلى قمة ذاك الجبل الذي منه كان يتدفق النهر المقدس. كان ينتصب معبدان أساسيان للعبادات التي كانت سائدة في جبيل. وإن واحداً من هذان المعبدان كان مكرساً لعشتروت إلهة الخصوبة، اما الآخر فكان مكرساً لحبيبها أدونيس إله التجدد.
ولقد كانت العادة السائدة في كنعان فينيقيا آنذاك أن تقوم العائلات الكنعانية الفينيقية بأخذ أولادها الصغار الحديثي الولادة إلى ذلك الجبل للتبرك من تلك المعابد. ففي معبد عشتروت، كانت كاهنة " إيل " تبارك الفتيات. أما في معبد أدونيس فكان " كهنة إيل " يباركون الفتيان الذين كانوا مخيّرين لاحقاً عند بلوغهم سن الرشد بالخدمة في الهيكل، أم لا، كلٌ حسب رغبته.
وفي يوم من الأيام، وفي داخل معبد أدونيس كان دخان البخور عابقٌ أريجُ شذاه إحتفاء بالمُقَدَس على أنوار الشموع. ودخلت بارتينيس وزوجها منيساركوس المعبد متوجهان صوب المذبح الذي كان يقف على كل جانب من جانبيه عشرة كهنة بلباسهم المعتاد، وهو الرداء الأبيض، ويعلوا فوق رأس كل واحد منهم إسكيم أزرق. وكانوا متمنطقين على خصورهم بالأحزمة الزرقاء، أما رؤوسهم فكانت محنية كعلامة من علامات الإحترام وهم يرتلون التراتيل التي كان صدى صوتها مالئاً المكان المقدس، إذ أن الطقس بذلك كان قد أوشك على الإبتداء. ووقف الزوجان أمام المذبح، وطفلهما الصغير بيثاغور بين ذراعيهما. ورفع الكاهن الأكبر ذو الرداء الأبيض، والمتوّج بإسكيمه الذهبي بإحدى يديه كأس النبيذ، وباليد الأخرى قطعة من الخبز، وقال ( 3 ) :" إيليم شلام ليكوم. بإسم الإله إيل العلي أباركك يا بني الصغير بيثاغور إلى الأبد". ومن ثم جمد الكاهن للحظة، وبعدها وضع على المذبح كأس النبيذ وقطعة الخبز، ومزجهما ببعضهما.
* * *
كان بيثاغور طفلاً جميلاً ومهذباً. فقد سافر مع أبيه عدة مرات إلى جزيرة ساموس، إذ كان للعائلة منزلٌ فيها. وكانت ساموس مشهورة بمناجمها وتجارتها الذائعة الصيت.
وفي ذات مرة، وقعت فيها مجاعةٌ شديدة، فقام منيساركوس بإحضار الذُرة إليها، فأكرمته سلطاتها بأن منحته جنسيتها. وبذلك أصبح بيثاغور مواطناً ساموسياً بفضل أبيه!
وكانت حشرية بيثاغور الثقافية منعكسة في عيناه اللامعتان، وكان كلما تقدم في العمر، كانت عبقريته تنموا معه وطاقاته الخفية مغلفة إياه. ولم يكن أهله ليعترضوا طريقه في أي بحث من أبحاثه العلمية. لا بل على العكس من ذلك، فقد كانوا يشجعونه عليها كثيراً. فعلمّه أباه عن السفن وجغرافية البحر المتوسط والتجارة. كما، وقابل خاله فيريسيد، وتحدّث مع كل أؤلئك الذين كانوا حماة المعرفة المقدسة. ومع مرور الوقت، بات بيثاغور متفوقاً على كل أترابه من التلاميذ الشباب في إستعابه للحكمة الإلهية. وهو الذي كان عندما يتحدث، كانت كلماته تظهر هدؤه، وتواضعه، وهي كانت مكرّمة من كل الذين كانوا يستمعون لها. وكان بيثاغور بالنسبة للبعض من الناس إبن منيساركوس، أما بالنسبة للسواد العظم منهم فكان معروفاً بإبن ساموس ذو الشعر الطويل.

وفي ليلة من الليالي، كان منيساركوس نائماً في سريره غير أنه لم يستفق من نومه هذا. لقد مات بعيداً عن وطنه. فبكاه إبنه البكر بصمت، أما الأهل والأصدقاء الذين كانوا وعدوا منيساركوس في حياته بأنهم سيقومون بدفنه في مدينة صور بجوار اجداده عند وفاته، قد أبَرّوا بوعدهم له. وبعد إنقضاء ثلاثة أيام على موته، وصلت السفينة التي كانت تحمل جسده البارد إلى صور التي لاحقاً فيها، أقيمت له مناحةٌ عظيمة، فرثاه أقاربه كلهم. وما هي إلا هنيهات حتى بدأت جنازته الحافلة، وبعدها وضع الكهنة على وجه منيساركوس قناعاً مذهباً، ومن ثم أنزلوا نعشه داخل الأرض التي ضمته إليها للأبد، فباتت مثواه الأخير الأبدي. وبعد هذا كله، أقاموا فوق قبره نصباً من المرمر يحمل صورته التي حفروا تحتها الكلمات التالية:" منيساركوس هذا التاجر الشهير والغني".

لقد بكت بارتينيس كثيراً على فراق زوجها الأبدي لها، والناس كلها كانت في غاية الحزن على رحيله.
منيساركوس الزوج المحب، والأب الفاضل لم يعد بجانب بارتينيس، ولا بالقرب من بنيه الثلاثة.. ( 4 )
- وكان أن قال في جنازته كاهن بعل ملقارت بنغمة معزية": هذا هو بيت إيل منزل الله منتصباً فوق جسد فقيدنا الغالي منيساركوس حامياً له، وموجهاً روحه الطيبة في رحلتها الأخيرة. إن الموت ليس إلا مجرد عبور من مرحلة إلى أخرى في الوجود"!
ودوّى صدى كلاماته تلك، في عقل بيثاغور.
ولم يكن موت منيساركوس مانعاً لبارتينيس من متاعبة الوعد لإبنها بيثاغور. فكلّمت أهم الناس بشأنه في إيونيا، وفينيقيا بغية مساعدنه في متابعة تأهيله الإبتدائي.
وللغاية، فقد سمح له أؤلئك بالإضطلاع على أهم الكتابات في كل المسائل المهمة في الحياة. فقد علمه هيرموداماس Hermodamas إبن أخ كريوفيلوس من ساموس الموسيقى والشعر، وملاحم " الإلياذة – والأوديسة "، إذ كانت علومها مُعتَبَرَةً ضرورةً حتميةً للعلوم الروحية المقدسة. ولم يكن هناك من شيء ليخفف من حماسة بيثاغور، أو ليروي ظمأه في أبحاثه عن الحكمة .

إن أول خيوط أشعة الشمس المشرقة بدأت تشع فوق أرض لبنان القديم. وكانت الطيور تعزف بسلام نغماتها محوّلة الصمت إلى تعابير خفية، فوحدها الطيور بإمكانها فَهم معناها.
وإستفاق بيثاغور من نومه مسرعاً إلى خارج المنزل، محاولاً فك رموز غناء تلك الطيور. وراح يراقبها متنفلة من شجرة لأخرى، ومتوجهة صوب الأعلى نحو مملكة السماء الرحبة. وقد مكّنه إحساسه المرهف من فَهم إلحانها العذبة. إنها تنشد الحرية. بإبتسم بيثاغور، وراح يصفّر لها في محاولة منه لإدراك حريتها مع علمه بأنه ليس بإستطاعته أن يحزوا حزوها في الطيران. فمشى بعيداً في الحقول الشاسعة أمامه، وتوجه شمالاً، ودخل " بستان الشيخ " الذي كانت رائحة أزهار الليمون فواحة في أرجائه. وراح يتسمع على صوت خرير مياه النهر المتردد بالقرب من " معبد أشمون " الجليل. ( 5 )
ودخل بيثاغور المعبد، ليحضر صلاة الشفاء التي كان يتلوها كبير الكهنة الذي كانت تظهر خلفه على الحائط صحفة معلقة من الذهب تظهر عليها صورة أشمون وهو حاملٌ بيده العصا الملتفة حولها أفعى حمراء اللون. وبدى أشمون، إله الشفاء ظاهراً بكل عظمته. فقدم أهل أحد الأطفال المرضى تمثالاً منحوتاً ممثّلاً إبنهما المريض للمعبد كرجاء بالإله. ومن ثم أخذ الكاهن الصبي وغطسه مرات سبع في حوض مليء بمياه الشفاء التي جُرّت إلى المعبد من النبع المقدس القائم بجواره، إتماماً لطقس الشفاء المقدس. وبعد ذلك، قدّم الكاهن الصبي لذويه الذين أسرعوا بتجفيفه من المياه، ومن ثم غادروا المعبد بعد أن أعلمهم كاهنه بأنه عليهم واجب الإنتظار لبضعة أيام كي يشاهدوا أثار رتبة الشفاء تلك.
وكان بيثاغور ينظر إليهم، مراقباً إياهم وهم مغادرين وعلى وجوههم بدت ظاهرة بوضوح علامات الرجاء، والأمل، والإيمان باشمون إله الصيدونيين الذين أعلنوا ألوهيته بسبب ما كانوا يحصلون عليه من شفاءات بشفاعته. وتبسّم بيثاغور لهم مشاركاً إياهم الأمل بالشفاء. ذاك الأمل الذي قد يحرر إبن تلك العائلة من مرضه. فأدرك بيثاغور، أن كل ما كانت الناس ترجوه هو في أن تتحرر من أي شيء قد يضعفها. فالبعض من أؤلئك، كان متعبداً للإله الواحد. أما البعض الآخر منهم فكان متعبداً لعدة آلهة. وكل ذلك ما كان ليكون عند الفئتين من الناس لو لم يكن لديهم أملٌ كبيرٌ بالخلاص.
غادر بيثاغور المعبد وقلبه مغمور بالأحزان، والقلق والإضطراب. إذ أنه وجد نفسه غير قادر على القيام بأي شيء لذاك الولد المريض ولأهله. فعاد أدراجه إلى البيت ووجد أمه وأخوته متحلقين حول المائدة يتناولون طعام الغداء.
- فسألته والدته:" أين كنت يا بني؟
- أجابها:" لقد كنت في معبد إله الشفاء".
- ومن ثم سألها بفضول:" من المؤكد يا أماه أنني وعندما كنت صغيراً كنت في بعض الأحيان أمرض، فهل كنتما أنتِ وأبي تذهبان بيّ لذاك المعبد من اجل إيفاء النذور عني بغية أن أشفى"؟
- ونظرت إليه أمه كما إخوته متعجبين، وللحال أجابته:" لا يا حبيبي، فأباك لم يكن يفعل ذلك مطلقاً، غير ان هذا لم يكن يعني أنه ليس بمؤمن، بل كان غير مقتنعاً بأن لذاك الطقس فعالية إحداث الشفاء. وفي مرة من المرات يا بني الحبيب، إنتابك المرض، فأحضرنا لك أهم الأطباء وأكثرهم براعة. ولم تكن في طفولتك تمرض كثيراً، ولم تصل بك الأمور ولا في اي مرة من المرات إلى حد الخطورة".
فنظر إليها بإحترام، وتبسّم لها. وفي قرارة نفسه شكر أباه لأنه كان يفعل الصواب.
- ومن ثم قال بنغمة حزينة:" إنه لأمر مؤسف جداً حال تلك العائلة التي شاهدتها اليوم في المعبد. فقد بدى لي أنه ليس بمقدورهم أخذ ولدهم للطبيب. إنهم فقراء الحال يا أمي".
- ومن ثم، تنهد وقال:" أوَه، يا لسخرية القدر".
وإنسابت دمعة حزينة على مقلتيه. وظلّت أمه كما أخوته صامتين.

وفي ذات مرة، كان بيثاغور جالساً على الشاطئ الرملي لصيدون مستظلاً تحت شجرة النخيل، وبيديه قيثارته التي كان قد إبتكرها هرمس أخنوخ بحسب ما يقوله التقليد. وكانت تلك القيثارة ذات أوتار أربعة ممثلة لعناصر الطبيعة الأربعة. ولاحقاً، أضيف إليها ثلاثة أوتار أخرى فبات عدد أوتارها بذلك سبعة. فالوتر السابع أضافه عليها الموسيقار اليوناني تيرباندريس من لسبوس Terpandres – Lesbos . وكان بيثاغور قد إضطلع على كل تلك الأمور المتعلقة بالقيثارة في أثناء دراساته للموسيقى.
وراح بيثاغور يعزف أنغاماً تحفز في النفس الرغبة بالتأمل في وقت كانت فيه الكرة البرتقالية اللون في السماء تتوارى شيئاً فشيئاً غائصةً في قلب البحر المتوسط. وكان لإيقاع موسيقاه صداه الناعم في صمت الليل المنسدل، وقلبه مغمورٌ بالهدؤ والسلام. وهو الذي كان، وكلما إضطربت أحاسيسه كان يلجئ للموسيقى واجداً فيها ملاذه الوحيد لإستعادة صفاءه وسكينته. ولذلك كان بيثاغور معروفاً في صيدون بالموسيقار ذو الشعر الطويل.
وكان في كل مرة ينتهي فيها من العزف، يتمدد مستلقياً على ظهره، محدقاً بالنجوم المتلألئة في قبة السماء، مدركاً بأنه لا حدود لعدد تلك النجوم المنتشرة في الفضاء. وكانت لديه تساؤلاته عن طبيعتها، وعمرها، وحركاتها. إنها تساؤلات صعبٌ عليه إجابة نفسه عنها الآن. إنه لحق لغز كبير في عالم الأشكال، وإبتسمت عيناه. وبعد مرور ما يناهز الساعات الخمس، عاد إالى البيت مغموراً بالسلام الداخلي في عمق أعماق كيانه، وأحلامه كانت طاغية على تخيلاته الكثيرة.

وتحت إشعة الشمس الأولى المتماوجة بتداخل مع أمواج شاطئ صيدون. وقف بيثاغور على رصيف ميناء صيدون وهو حاضنٌ أمّهُ مداعباً كتيفيها. وإنسابت ببطء دمعة سخية على وجهها الباسم، وإنتابها الشعور بالحزن لفراقه القريب لها. ولكنها في الوقت عينه كانت سعيدة لعلمها بقدره المحتوم.
- فقال لها:" لا تكوني منشغلة البال بشأني، ولا تقلقي عليّ، فسأكون بخير"!
إنها كلماته الأخيرة التي تفوّه بها في ذاك النهار الجاف والشديد الحر.
- فأومئت برأسها مفكرة، ثم قالت:" أنا أعرف ذلك يا بنيّ ".
ومن ثم إبتعدت تاركة المكان بصحبة ولدَيها الآخرين.
* * *


تحركت السفينة عابرة البحر المتوسط بإتجاه ساموس، التي فيها كان الحاكم بوليكرات Polycrates الظالم على وشك البروز في الحكومة والمجتمع. وفكر بيثاغور بأن الإضطرابات هناك ستمنعه من متابعة دروسه في تلك المدينة، وكان له من العمر وقتئذ 18 عاماً. وفي ليلة من الليالي، غادر بيثاغور ساموس موطنه الثاني، بغية الإنضمام لخاله فيريسيد الحكيم الكنعاني الذي كان متوقعاً قدومه إليه. فحضّر نفسه، وهو المتأثر بتعاليم كهنة مصر وفينيقيا ليعلّم أبن أخته. ولدى وصوله إليه، أستقبله بحرارة في منزله بجزيرة ساموس التي كانت مستوطنة فينيقية تقع قبالة مدينة ميلاتوس Miletus.
وتحت أشعة الشمس كان بيثاغور وخاله فيريسيد يسيران جنباً لجنب بين النباتات الغريبة التي كانت نابتة في تلك الجزيرة. وراح بيثاغور ذو الرداء الأرجواني يتعرف من خاله فيريسيد على نظرية الكون التي كانت واحدة من النظريات التأملية عن كيفية تكوّن الكون.
- وقال فيريسيد:" دعني بني أخبرك عن آلهة الخلق، فزن ( زوس ) هو الأثير. أما كرونوس فهو الوقت، وكتوني هي إلاهة الأرض. وكلهم أزليين.
- وكانت عيناه مغمضتين، ومن ثم رفع يده للأعلى وأضاف:" زن الخالق، زيّن كتوني ( المادة ) بالأشكال والأحجام والصوّر المالئة الكون. أما كرونوس ( الزمان ) فوقف منتظراً بفارغ الصبر إتمام عملية الخلق"
- فسأله بيثاغور متعجباً:" كيف تم ذلك الخلق يا خالي العزيز"؟
- فأجابه:" زن الإيروس الكوني خلق الكون بجمعه كل الأضداد في المادة القديمة مكوّنا بذلك الوجود الكامل بتناغم شديد".
- فهمس بيثاغور:" أواه".
لقد كانت مخيلة فيريسيد وأفكاره الغريبة تنال إعجاب بيثاغور، كونها معقدة نوعاً ما، وفي الوقت عينه بسيطة في البحث عن أسرار المجهول. وكان فيريسيد المؤمن بخلود النفس قد عرّف بيثاغور على فكرة التقمص مبيناً له إحدى حيواته السابقة التي كانت بشخص إيتلايدس Aithalides إبن هرمس. الأمر الذي أيقظ في بيثاغور ذاكرة حياته الحالية، محفزاً فيه قوة إسترجاعه لذكريات ما مر به سابقاً من حيوات. وعلاوة على ذلك فقد حدثه عن الكهوف والمغاور التي من الضروري ومن وقت لآخر أن يسكن فيها المرء، لما لها من دور فاعل بإلتقاط التنوّر بالألوهية.
ويوماً بعد يوم، كان بيثاغور يدخل إلى أعماق أفكاره مكتشفاً رويداً رويداً الخطوات الأساسية التي ستساعده على السيطرة والتحكم بمجريات افكاره في عقله المفكر. وربما كان ذلك بالنسبة له نقطة البداية كما لكل تلميذ من التلاميذ في عالم الحكمة.
وفي إحدى الأمسيات، كان بيثاغور الموسيقار ذو الشعر الطويل جالساً على المقعد الخشبي على شرفة منزل خاله فيريسيد وهو يعزف على قيثارته، وكانت نغمات عزفه يتردد صداها في الفضاء الجامد والمفعم بالسكون، على الرغم من أنه لم يكن هناك من شيء جامد. إذ كان كل شيء في الوجود الرحب متحركاً، وآخذاً شكلاً مختلفاً عن سواه. وفي هذا الجو التأملي، راح بيثاغور يفكر بأباه متذكراً إياه وانامله السحرية تحرك اوتار القيثارة بدقة مخرجة أعذب الألحان. إنه فعلاً مشتاقٌ لأباه. وفي تلك الأثناء خرج فيريسيد إلى الشرفة وجلس بقرب إبن أخته، ذلك أن موسيقاه الحزينة قد جذبته إليه. ولم يقل شيئاً، بل ظل يستمع لموسيقاه منصتاً لصدى نغماتها بإعجاب.
- وسأله بيثاغور:" ماذا يحدث برأيك يا خالي العزيز للأموات بعد موتهم"؟
- فنظر إليه خاله، ليجده محدقاً أمامه في المحيط، ولتوّه أدرك بأنه كان يفكر بأباه.
- وقال:" إن لحظة الموت في هذا العالم يا عزيزي، هي في الوقت عينه لحظة الولادة في العالم الآخر المختلف عن عالمنا هذا. وأعلم أنه ليس بإستطاعتنا إدراكه بمشاعرنا وأحاسيسنا المادية، فهو قائم بذاته وبحقيقته. فالنفس يا أيها العزيز بيثاغور هي أزلية وأبدية".
ولدى سماعه لكلمات خاله تلك، تذكر أقوال ذاك الكاهن، كاهن بعل ملقارت في جنازة أبيه. تلك الأقوال التي هدّأت من روعه آنذاك. وفتحت كلمات خاله مخيلته على عالم مجهول الإحتمالات. فأطلق أفكاره خارج الحواجز الجسمانية، داخلاً في حالة من التأمل الهادئ.

لقد أصبح الليل في آخره، وبيثاغور منهك من التعب.
* * *

لم تكن الرحلة إلى مدينة ميلاتوس Miletus شاقة، فوصل بيثاغور إلى منزل طاليس في الصباح الباكر. وكان صيت طاليس الرجل الحكيم شائعاً في كل أرجاء المتوسط. ذلك أن أسلوبه في التعليم كان له الأثر الكبير على قسم من الناس ومن بينهم فيريسد نفسه.
طاليس، هذا الشخص الهادئ بطبعه، رحب ببيثاغور قابلاً به كتلميذه لإدراكه مثلما كان فيريسيد قد أدرك سابقاً بأن الرجل ذو " الرداء الأرجواني " كان مالكاً لطاقة هائلة تملئ كيانه.
وفي الأيام اللاحقة، لم يكن عقل بيثاغور يتوقف عن خلطه الأشياء والأفكار ببعضها عن كيفية تكوّن الكون وموت الكائنات الحية. ولذلك كانت الحياة كما الموت بالنسبة له من أهم الأمور التي أثارت إهتماماته.
وتحت ظلال الشجرة كعادته، جلس بيثاغور وراح يعزف على قيثارته في محاولة منه لإيجاد مخرج له من هذا العالم التحليلي، ليدخل في حالة فكرية مُريحة، إلى عالم الموسيقى الذي كان بالنسبة إليه كالتأمل العميق بحد ذاته.
طاليس الرجل الكهل، إقترب من بيثاغور وجلس بمحاذاته بصمت، وراح يستمع للأنغام السحرية التي كان يعزفها بقيثثارته.
وفي ليلة من الليالي، وتحت أشعة نور القمر، كان بيثاغور مستلقياً على الشاطئ الرملي لمدينة ميلاتوس ومياه البحر الإيجي محيطة به، وهو يتأمل السماء وأجرامها. فسأل نفسه بصوت عالٍ:" ما هو يا ترى الأساس الكامن لكل ما تراه عيناي"؟ وما إن سأل نفسه هذا السؤال، حتى سمع صوتاً واضحاً من ورائه خارقاً الصمت:" إنها المياه الأبدية ( 6 ) التي هي الأساس الكامن وراء كل ما هو قائم وموجود من المادة". ولتوّه أدرك بيثاغور بأن هذا الصوت هو صوت طاليس، آتياً من خلف الشجرة.
- وسأله بإستغراب:" المياه"؟
- فرد عليه:" أجل يا بيثاغور، إن الكون بحد ذاته هو كائن حي يتغذّى من الأبخرة التي تتصاعد من المياه".
- فسأله ثانية:" كيف إستطعت الوصول إلى هكذا إستنتاج"؟
- قال:" أنا لم أستشر الآلهة مطلقاً، ولم أبحث عن إستنتاجات خارج عن الطبيعة نفسها التي كنت دوماً أراقبها إلى أن تبيّن لي ما للمياه من أهمية فيها"
ووافقه بيثاغور الرأي على ما للمياه من دور فائق الأهمية، لكن هذا وبرأيه لا يعني بالضرورة أن المياه هي الأساس الكامن للوجود المادي.
- وقال بيثاغور لمعلمه متحدياً:" يا معلمي طاليس، من المفروض ان يكون هناك ثمة شيء ما، لا نعلمه ذو طاقة أوسع واكبر وأسمى من المياه".
- ودنى منه معلمه طاليس وقال:" المياه هي مجرد مياه بنظر الإنسان الجاهل، غير أنها بالنسبة إليك وأنت المتجرء لا يجب أن تكون إلا مجرد رمز للروح الأولى، وإن كل شيء قائمٌ وموجود هو من طبيعة روحية. فللعالم روحٌ كونية". ( 7 )
وبعد تلك المحاورة، إختفى طاليس، وإبتسم بيثاغور بصمت.
ومع مرور الأشهر وتعاقب الأيام، كان طاليس يترك تأثيراته في عقل بيثاغور. فعلّمه الإعتدال، وكيفية السيطرة على الأفكار والمشاعر.
وطاليس كان له الفضل الكبير في إزاحة الخرافات، ودوره كبيرٌ في إحلال العقلانية والمنطق مكانها.
وهكذا، بات بيثاغور مهتماً بالعلوم، كالرياضيات ( 8 ) ، وعلم الفلك الذي كان قد تطوّر من علم التنجيم الموغل في القدم. وبفضل طاليس الذي تعلم في مصر والشرق، دخلت كل تلك العلوم إلى العالم اليوناني.
وفي مدينة ميلاتوس، كان بيثاغور قد إستمع لمحاضرات أناكذيماندر Anaximander وهو واحدٌ من تلاميذ طاليس، فكان يحاضر في علم الهندسة، وعلم التنجيم، وعلم التكوين. أما الأرض بنظره فهي ثابتة في وسط الكون. وكان البعض من أفكاره ذو أهمية عابرة بالنسبة لما كان يقوم به بيثاغور من أبحاث، أما البعض الآخر منها فكان إلحادياً لا سيما في تعريفه للطريقة التي تكوّن الكون بها. إذ كان يعتبر أنه لا يوجد إلهٌ خلق الكون، بل كان مؤمناً بالمطلق الغير محدود مصوراً إياه الإله الحقيقي. فالكون بنظره لم يخلق أبداً، ولن ينتهي مطلقاً، وهو ميت وأعمى. وكان أناكذيماندر قد عبّر عن أرائه تلك في إحدى محاضراته التي كان يلقيها، وكان بيثاغور من بين المستمعين لها، ولم يعد من بعدها يحضر أيأً من محاضرات ذاك الرجل، مكرساً وقته للإهتمام بتعاليم معلمه طاليس، لأنه وجد فيها عمقاً وذكاءً متأصلان في العالم الحقيقي. فالكون عند طاليس متحركٌ ونابض.
وبعد العيش زهاء خمس سنوات مع خاله فيريسيد ، ومعلمه طاليس، كانت ما تزال لديه بعضٌ من الأسئلة العالقة بذهنه.
وتحت أشعة نور شمس الظهيرة، في الباحة الخارجية لمنزل طاليس. كان بيثاغور ومعلمه يجلسان سوية جنب لجنب. إنه اللقاء الأخير بينهما.
وراح بيثاغور يطرح اسئلته بتتابع على معلمه الذي أجابه عليها بدقة بالغة، وبحكمة:"

- ما هو برأيك أصعب شيء في الحياة "؟
-" أن يعرف الإنسان ذاته ".
- " ما هو الأكثر حكمة "؟
- " إنه الوقت، لأن بمروره تُكتَشَف كل الأشياء. وإن السيطرة عليه هي واحدة من أحكم القدرات في الحياة ".
- " ما هو الأسرع في الحياة "؟
- " إنها الروح، لأنها جوالةٌ في كل الإتجاهات . إنها في كل مكان ".

وكان هناك صمت لبرهة من الوقت.

- " ما هو الله "؟
- " الله هو الذي لا بداية له ولا نهاية. وهو الأزلي السرمدي الأبدي ".
- " ما هو الأجمل "؟
- " إنه العالم، لأنه عمل الله ".
- " ما هو اكبر شيء "؟
- إنه الفضاء، لإحتواءه الكل ".

بيثاغور نظر إلى طاليس وإبتسما لبعضهما.

- " ما هو الأقوى "؟
- " إنها الإرادة، لأنها دوماً تأتي في بداية كل شيء مرغوب ".
- " ما هو الموت "؟
- " الموت ليس مختلفاً كثيراً عن الحياة. إنهما متشابهان لحد ما ".
- " كيف يكون بإستطاعة الناس ان تحيا حياة عدالة وإحترام "؟
- " عندما لا نعمل بما لا نلوم الآخرين على فعله معنا ".
- " ما هو أهيّن الأشياء "؟
- " إعطاء النصائح للآخرين، وعليه. فأنا أنصحك يا أخي العزيز بأن تعود إلى فينيقيا، ومن ثم إذهب إلى مصر لكي تحصّل فيها المزيد من العلوم عن المعاني العميقة للحياة".

وبكلاماته تلك، أنهى طاليس المحاورة، ومشى بعيداً.
* * *


عندما كانت الشمس ملامسة الأفق، كان بيثاغور على متن السفينة عائداً لفينيقيا، متأملاً بكل المعارف التي كان قد إكتسبها.
وإن كل ما كان قد إكتسبه من علومٍ لم يكن إلا مجرد تعريف عن عالمٍ آخر ذو طبيعة مختلفة. هذا العالم، قليلون هم الذين غامروا بالدنو منه لسبر أغواره وخفاياه. وكثيرون هم الذين حاولوا الإنتماء إليه، لكنهم لاقوا الفشل في محاولاتهم تلك. هذا لأن " الخوف " كان يقيّدهم في مملكة الأوهام، أوهامُ عالمٍ خلقته نفوسهم الضعيفة التي جعلت منهم مستسلمين لكل ما هو سائدٌ وشائع. فهم وبكل بساطة ذوو عقول نائمة ومخدرة.

وفي مرة من المرات، كانت والدته بارتينيس قد أخبرته عن تلك النفوس التي كانت قائمة فوق أبواب معبد دلفي. وتبيّن لبيثاغور من خلال ما قام به من قراءات ومطالعات بأن تلك الحكمة كانت تُعَلّم منذ القدم في أسرار مصر، وكنعان – فينيقيا، والهند، وبابل. وكان أوَل من علّمَها بداية أخنوخ – هرمس ــ تاوتوس أبو الحكمة. وكان بيثاغور مؤمناً بهذا، مريداً إكتشاف ذاته أُسوَةً بالمسارون القليلون قبله. ولكن طريق معرفة الذات ليست سهلة، إذ يتوجب على الباحث الراغب بها أن تكون لديه الإرادة والإيمان . ولم يكن هناك أدنى أي شك عند بيثاغور بأن الوصول لذاك الهدف يتطلّب منه الإلتزام الكامل. وإن الدراسات البسيطة التي كان قد قام بها في الشعر، والموسيقى، وعلم التكوين، وعلم الهندسة، وعلم الفلك، وعلم التنجيم، واللاهوت أظهرت له جانباً من الحقيقة.

- كيف يعمل العالم الظاهري؟
- ما هو الأساس الكامن في ممالك الوعي واللاوعي؟
- كيف يكون بإستطاعة أحدهم توجيه الطاقة المحركة والكامنة فيه؟
- كيف السبيل أمام المرء للوصول إلى المستويات المتفتحة في العقل كما في الروح؟

إن معرفة كل هذه الأمور، وبلوغ كوامنها هي مخفية بين سطور تلك الدراسات التي أتمّها. إنها أحاجي بالإمكان حل رموزها وفكها.

ففي داخل تأملاته، ومع الهواء النقي الذي كان يتنشقه، كان بيثاغور متأكداً من أنه عليه واجب السير على دروب الحكمة. وعليه أيضاً إدراك المزيد على ما كان قد أدركه سابقاً في عقله المنوّر الصامت الواجب عليه إيقاظه. ميقناً بأنه إذا تمكن من معرفة ذاته، فإنه عند ذاك سيتمكن من معرفة أسرار الآلهة والكون.



**********************

يتبع .. وأتمنى أن تكون القرأت على ما يرام ولن أتأخر عليكم في الفصل الثلث بأذن الله ...

أشكر حسن المتابعة (f)(f)(f)




07-22-2005, 04:51 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Samer Almasri غير متصل
عضو فعّال
***

المشاركات: 52
الانضمام: Mar 2005
مشاركة: #9
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
تسجيل متابعة مع كل الحب والتقدير لجهودك في نقل الرواية.
بالمناسبة، هذا النوع من الروايات يصنف في خانة الروايات الملحمية التي أعشق قرائتها.

سامر (f)
07-22-2005, 07:45 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #10
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
نشكر حسن المتابعة ... (f)(f)(f)

وكثيرا ً ما أحب أن أتي الى هذه الساحة لأنها تنقلني إلى عالم أخر :saint:


الفصل الثالث


معابد كنعان ـــ فينيقيا



كانت الرحلة من مدينة ميلاتوس إلى فبنيقيا مليئة بالإثارة. وعلى مدى كل طريق الرحلة في البحر المتوسط، كان بيثاغور يسترجع كل الذكريات التي عاشها في الجزر الإيونية.
وعندما وصلت السفينة به إلى مرفأ صيدون، تنشق بيثاغور سعيداً هواء تلك المدينة، مشتماً رائحة أجداده. وبعد لحظات ترجل أرضاً، وركع واضعاً يديه على أرضها الناعمة، مقبلاً إياها بحب شديد.
لقد عاد إلى أرضه الأم.
وكانت الحركة في المرفأ حافلة، إذ كان التجار في كل مكان منه عارضين بضائعهم للناس المنتظرين. وراح بيثاغور يطوف في السوق وهو مغمور بالسعادة، ومتذكراً أباه الذي كان تاجراً ما بين لبنان واليونان.
- وصرخ واحد من التجار يصوت جهور:" لدينا أحلى القطع من الزجاج، والفخاريات أيضاً".
- وصرخ تاجرٌ آخر:" لدينا الأرجوان الملوكي، رداء الحياة".
فعم صدى صوته في كل أرجاء السوق.
وكان بيثاغور متمتعاً بكل لحظة يمضيها هناك، وفي قلبه أمنية بالنجاح والإزدهار لكل مواطنيه. ومن ثم غادر متجهاً صوب منزل والديه عبر رواق جميل. وعند وصوله المنزل لمعت عيناه بشدة، وراح قلبه يخفق بسرعة.
- وهمس:" البيت من جديد".
وعندما طرق الباب، وقفت أمه بارتينيس متحمّسة على الرغم من تقدمها في العمر، مسرعة صوب الباب مدركة بأن إبنها بيثاغور واقفٌ خلفه. ففتحت وعانق الإثنان بعضهما، و قبّل بيثاغور والدته، ومن ثم دخلا المنزل بفرح وسعادة والدموع سيالة على وجنتيهما الناعمتين. ووضع بيثاغور أمتعته على الأرض وجلس على الأريكة ليرتاح، وأمه إلى جنبه جالسة وهي ترمقه بنظراتها المليئة حناناً.
إنه منهكٌ من التعب بسبب رحلته لطويلة.
فإبتسم.
- وقالت له والدته بصوت أبح:" يا بيثاغور، يا عزيزي لقد مضت على فراقنا خمس سنوات كان خلالها الوقت يمر بطيئاً، وأنا منتظرة رجوعك".
- فأجابها:" إنني مدرك ذلك يا أماه. لقد أشتقت إليك أيضاً، غير أن للوقت أحكامه، ومهما مر من الزمن فإنه دوماً يحمل لنا معه إكتشافات جديدة في الحياة".
ولدى سماعها لكلماته الأخيرة تلك، أدركت بأن ولدها قد بدأ بالفعل يخطوا خطواته الأولى في دائرة من طبيعة مختلفة. إنها دائرة الحياة التي تحركها إيقاعات ليست بطيئة ولا سريعة، بل هي في نبضة واحدة تنبض بالسلام والهدؤ والحكمة.
- فسألها:" أين هم إخوتي يا أمي العزيزة"؟
و لدى إلتفاتها نحوه لتجيبه، وجدته مغمضاً عيناه.
لقد غفا.
- وعندها همست وهي تبتعد ببطء عنه:" إنهم في السوق".
وفي الصباح الباكر من اليوم التالي، إستفاق بيثاغور من نومه وهو مشحون بطاقة هائلة. فأعدّت له أمه طعام الفطور من الحليب الطازج، والحلوى. في حين أن أخواه كانا ينتظران في الحديقة الصغيرة للمنزل. وعندما ألتقيا به، تعانقوا وإياه بعطف شديد. وعاد شمل العائلة وإلتئم من جديد، ومن ثم، حيّوا روح أبيهم الراقدة بسلام في المملكة الأبدية.
وراحوا يتحدثون وإياه عن السنوات التي أمضاها في تحصيله العلم مطلعينه عن ظروف حياتهما الشخصية. إذ كان أولهما تاجراً، والثاني حرفياً ماهراً. أما بارتينيس، فكانت في غاية السعادة بهذا اللقاء الجامع لبنيها بكل لحظة من لحظاته.
- ثم توجهت منه بالسؤال:" كيف هي حال خالك فيريسيد يا بيثاغور"؟
- أجابها برقته المعهودة:" إن الحكيم فيريسيد يا أيتها الأم الحنون، بات أكثر تعمّقاً بالحكمة عن ما كانه فيها سابقاً. إنه قريب جداً ولكن" . . .
وبعد أن توّجه أخواه لاحقاً، كل إلى عمله. راح بيثاغور يشرح لوالدته عزمه على متباعة البحث عن المعرفة والحكمة في معاهد ومعابد وطنه كنعان – فينيقيا.
أما هي فكانت منصتة لكلماته بإنتباه وشغف محمسة إياه، لإيمانها الدائم بأعماقها بقدره المقدس كمخلص للبشرية. وإبتسمت.
وبعد إنقضاء عدة أيام، غادر بيثاغور صيدون، قاصداً صور لزيارة قبر أبيه. ذاك الرجل الذي كان بالنسبة له أول المعلمين. فوقف أمام النُصبِ متأملاً بالمكتوب عليه. وإغرورقت عيناه بالدموع غامرة وجنتيه.
هذه هي الحياة، ففي كل لحظة من لحظاتها هناك أناسٌ يموتون وآخرون يولدون. إنها دائرة لا متناهيةٌ في الوجود، بالغةً إلى نقطة نهائية. وإذا كانت هناك من نهاية فعلاً، فإنها لا تتعدى كونها مجرد نقطة تحوّل.
- وهمس بيثاغور:" الحياة والموت، يا لها من ظاهرة غريبة مسيطرة على وجودنا! وبالرغم من أن الحياة والموت هما نقيضان، فإنهما حتميان لا يفترقان على الدوام".
- ومن ثم أضاف، مخاطباً أباه:" يا أبي، ليبارك الله العلي روحك. فأرتح بسلام".
وبعد تلاوته للصلاة، هَمّ مغادراً المكان ببطء، عائداً لصيدون التي كان فيها يُعِدّ نفسه لإتمام كل ما كان قد خطط له.
* * *


لقد كانت صيدون تلك المدينة الكنعانية – الفينيقية موئِلاً، ليس فقط لصيادي الأسماك بل لصيادي البشر أيضاً.
وكان قبل ولادة بيثاغور بقليل من الزمن، أن ظهر شخصٌ صيدونيٌ ليس بعادياً، لكونه كان واحداً من كبيري ( 1 ) أرض كنعان مهد البشرية المتحضرة.
إنه موخوس Mochus العالم والفيزيائي في علوم التشريح. وكان صيته ذائعاً في أرجاء المتوسط لما له من حكمة وعمق في العلم والمعرفة.
وفي تلك الأيام تحوّلت صيدون إلى مركزٍ هام، إنجذب إليه العديد من الناس من مختلف الأرجاء بحثاً عن المعرفة العميقة بالحياة.
وفي الوقت الذي كانت فيه الغالبية من الناس مؤمنة بالخرافات، إكتشف موخوس الذرّة ( 2 ) Tom. وكان أول المنظرين عن وجودها، معلّماً بأنها قابلة للتجزئة. فهل من الممكن يا ترى أن يكون قد إختبر تجزئَتها.
وكان بيثاغور قد سمع عن موخوس ومدرسته، غير أن موخوس ( 3 ) كان قد مات قبل عودة بيثاغور لصيدون من أجل متابعته لعلومه في تلك المدرسة.
وكانت الأشهر تمر، وبيثاغور يحصّل التعاليم المقدسة من خلفاء موخوس.
فعلموه، نظرية " الأساس الكامن الأول " – الذرّة، أو ما كان معروفاً بالمبدأ الأساسي للوجود الكامل في الكون الشاسع. وشملت دراساته علم التكوين الأول. فالفيزياء وعلم التشريح. فبات على معرفة كاملة بكيفية عمل الأعضاء الخارجية والداخلية في الجسم البشري. وكيفية عمل الجسم كعنصر كوني متلاقٍ مع الكون الصغير ـــ Microcosm.
وفي إحدى المراكز التعليمية في صيدون حضر بيثاغور مع عدد من تلاميذ المعرفة محاضرة لعدد من الحكماء، تناولت قصة الكاهن الملك العظيم ملكيصادق المتحدر من نسل صيدون مؤسس المدينة.
- وقال واحد من الحكماء:" لقد كان ملكيصادق كبيراً في أرض كنعان، ويقول لنا التقليد بأنه لم يكن له أبٌ، ولا أمٌ. هذا لأنه كان رجلاً صادقاً وغير عادياً".
- ومن ثم أردف آخرٌ:" لقد كان ملكيصادق الكاهن الأعظم للإله العلي – إيل العالي. وكونه كبيراً، فقد لقّن المسارة لإبراهيم ( 4 ) الأرامي في الديانة الكنعانية الفينيقية. ديانة المحبة والسلام".
- وقال ثالثٌ، وهو كبيرهم:" لقد قام ملكيصادق بإنجاز أعظم الطقوس قداسة على الإطلاق. وهو طقس الخبز والخمر. وحكم أورشليم كملك وكاهن للسلام".

وفي لقاء آخر، للتلاميذ في نفس المركز التعليمي. أعلمهم الحكماء بأن كهنة صيدون قاموا بتطوير الموسيقى المقدسة. وبذلك أصبح هذا الفن الجديد واحداً من العناصر الأساسية للطقوس الدينية المقدسة.
- وسأل أحد الحكماء تلاميذه بلطف:
" لماذا الموسيقى؟
ما هو تأثيرها علينا؟
هل من أحد منكم يعلم"؟
- فأجابه ذو الرداء الأرجواني بذكاء:" إن الموسيقى تدخل إلى القلب، مفتّحةً فيه المشاعر الأكثر نبلاً وعمقاً، جاعلة من ذهننا صافٍ، ومهدئة رغباتنا الأكثر قلقاً وغضباً. وهي في النهاية تحرر روحنا، ناقلةً إياها إلى عالمٍ ذو طبيعة مختلفة سامية".
- ورد عليه الحكيم:" لقد نطقت بالصواب يا بني. فما هو إسمك".
- أجابه:" أنا بيثاغور، المتردد دوماً إلى الأماكن المقدسة طلباً للحقيقة".
- فنظر إليه الحكيم بإعجاب، وقال له:" إذن، يا بيثاغور. سأطلب منك أن تواصل ترددك الدائم للأماكن المقدسة، وخاصة إلى معبد أشمون. وليكن الإله " إيل " معك يا بنيّ ".

هناك في معبد أشمون إله الشفاء، إلتقى بيثاغور بالكاهن الأعظم. وبسرية تامة راح يتعّمق في علم الشفاء – Therapeutic.

- وهمس الكاهن الأعلى في أذن بيثاغور:" إن المياه في ذاك الحوض الذي يتمّ فيه وضع الأولاد المرضى هو ليس إلا محركاً للعملية الشفائية. إن المياه هي عنصر طاهر وسامٍ في الطبيعة. وهو يزيل الأوساخ عن الجسد مانحاً إياه شعوراً مريحاً".
وسأله بيثاغور متعجباً:" أتقصد القول بأن المياه لا تحدث الشفاء"؟
- فرد عليه:" لا . . . إنها تعمل فقط كَمُطَهِر. وأعلم، بأن الإرادة التي لدي، أنا عبد أشمون مع قوة الشفاء – Theurjy هي التي تحدثه".
- بيثاغور:" كبف يمكنني حيازة تلك القوة؟
وكيف بإستطاعتي جمعها مع إرادتي"؟
- الكاهن:" إن الوقت الآن ليس مؤاتياً لك للحصول على تلك القوى، ذلك أنك لا زلت في طوّر الإبتداء. والطريق ما زالت طويلة أمامك، فَتَجَمّل بالصبر".

في صيدون، كان بيثاغور قد خرج من العتمة للنور والحياة، إذ كان قد بدأ يخطوا أولى خطواته في طريق مسارة أسرار الألوهة – الكون – وألغاز العالم الحسي.
* * *

على شاطئ مدينة صور، كان بيثاغور بردائه الأرجواني يعزف على قيثارته منصتاً ومتأملاً بنغماته الموسيقية الصوفية.

لقد كانت مدينة صور، والتي يعني إسمها " الصخرة " مع شقيقتها جبيل مهد البنائين المقدسين.
وكان الكنعانيون – الفينيقيون قد شيدوا على إمتداد شواطئهم عدة معابد وبيوت وقصور. وكذلك أيضاً في قرى جبالهم.

إن ذاك المجتمع لم يكتفي بالعمل في الأرض التي عاش فيها، بل توسع إلى كل أرجاء المعمورة الممكن بلوغها. وحتى أللا ممكن الوصول إليه بنظر الآخرين.

وكان بيثاغور، في قلبه يؤدي تحية الإكرام والإجلال لكل الرجال والنساء العظماء في هذا الشعب الأبيّ الذين إنطلقوا من هذه الشواطئ للمغامرة في عالم مجهول بالنسبة إليهم، بغية إدخال الحضارة إليه.

وكان قدموس وهو أحد الكبيريم، قد نقل الألواح الحاملة نظام الكتابة المقدس، أي الأحرف الأبجدية التي إبتكرها طور Thor الجبيلي إلى اليونانيين، مما غيّر حياتهم للأبد. وبفضل ذلك، بات بإمكانهم تدوين أفكارهم على ورق البردي المصري.
كما وقام قدموس ببناء عدة مدن، أشهرها طيبة.

أما أليسار، تلك السيدة الرائعة. فقد سلكت طريقاً آخر مختلف، ببناءها قرطاجة على الشواطئ التونسية في القارة السمراء، ومن ثم أصبحت ملكة عليها.

وعلاوة على كل ذلك، فقد قام حيرام ملك صور بإرسال الحرفيين إلى أورشليم ( 5 ) من أجل بناء الهيكل فيها. ( 6 )

- وهمس بيثاغور بينه وبين نفسه:" طاليس، آه يا طاليس".
- وذلك بعد أعلمه أحد أصدقائه بما هو مكتوب على ضريح طاليس:" إن هذا القبر صغيرٌ جداً، أما عظمة هذا الرجل فقد تخطت الأرض لتصل إلى السماء. إنها لطاليس الحكيم".
فرددها بيثاغور مرات عدة، وهو يبتسم.

لقد كان معبد بعل ملقارت سيد عدن في صور واحداً من أهم ما تم بناءُه من معابد، إذ كان فريداً من نوعه. فعلى مدخله، كان هناك عامودان يحرسان بابه المصنوع من خشب الأرز. وإن واحداً من العامودان، كان مصنوعاً من الحجر الأرجواني ( أي الياقوت الأحمر ). أما الثاني فكان يشع كالبلور، ولامعاً كالذهب الصافي.
وفي أيام بيثاغور، كان لا يزال ذاك المعبد العظيم ( 7 ) منتصباً بشموخه. فإستقبل كاهنه الأعظم الذي كان يعرف حينها بمعلم معبد بعل – ملقارت بيثاغورس في المكان السري لجمعية البناءين المقدسين.
- وعاد الكاهن للماضي البعيد، وقال:" في ذات ليلة قديماً، هبّت عاصفة شديدة من الأمطار والرياح على مدينتنا. فدمرت البيوت التي كانت مشيدة من الخيزران . . . وبعدها إحترقت المدينة. وكان هناك رجل يدعى إيوسوس Ieosos . فأخذ شجرة، وقطّع أغصانها، ومن ثم رماها في المياه مبحراً على ظهرها قاصداً جزيرة صور، حيث قام بنصب هذان العامودان اللذان كرس أحدهما للنار، أما الآخر فللرياح، وقام بعبادتهما".
- وتدخل بيثاغور قائلاً:" أواه، . . . أنت تقصد بقولك لي بأن تلك الأعمدة كانت هي الرموز الأولى للعبادة؟ وقد كانت هنا في صور . . . كم هذا عظيم".
- وأجابه الكاهن " إيتو – بعل Ieto – Baal " :" نعم . . . بطريقة ما . . . يا بني. إن العامودان الذين تراهما الآن على جهتي مدخل هذا المعبد يرمزان للعدالة والرحمة كصفتين أساسيتين للإله الكوني إيل العالي. وإن المعابد التي شيدها قدماءُنا قديماً، وما زلنا اليوم نحن نواصل تشييدها، هي مقسمة لثلاثة أجزاء. فتدخل أولاً، بين العامودان لتصل إلى القدس حيث يوجد المذبح والبخور المشتعل. ومن ثم تدخل أخيراً إلى قدس الأقداس حيث ينتصب تمثال الإله. وأعلم، أن الهياكل والمعابد بنظر الإنسان الجاهل هي كناية عن أمكنة مقدسة تجتمع الناس فيها للقيام في خارجها كما في محيطها بالطقوس الإيمانية بإله ما. وإعرَف أيضاً، إن هذا المعبد قيد شيّد على أساس حسابات هندسية خاصة من أجل إمتصاص طاقة الإله العلي " إيل ". وإن كل هذا، يمثل جزءً من الحقيقة، أو ربما علي القول: إنها الناحية الظاهرة والمكشوفة للحقيقة".
- فسأله بيثاغور متعجباً:" ما الذي قصدته بأقوالك"؟
فدنى منه المعلم الصوري ورمقه بنظرةٍ، ومن ثم إبتعد.
إن أقوال ذاك المعلم، كانت في حد ذاتها رسالة إمتحان لبيثاغور، عليه واجب فك رموزها وألغازها بنفسه.
ومرت الأيام بسرعة، والليالي بإيقاع بطيء. وكان بيثاغور متمتعاً بما كان يمضيه من اوقات في تلك الليالي الطويلة تحت سماء لبنان، ممسكاً بيده صدفة الميراكس ورجلاه الحافيتان غارقتان في رمال الشاطئ الصوري، وهو متأملٌ بالنواحي الخفية للمعبد. واضعاً الصَدَفة على أذنه، منصتاً لصوت وجودها حيث كان الفراغ الذي فيها محمّلاً بالذكريات الموغلة في الزمن الماضي السحيق للبحر. وإنعكس صوتها في مملكته الداخلية صمتاً وهمساً في عقله المتحد مع روحه، والمتردد في جسده. وعندها، أدرك بيثاغور قوى الأبعاد الثلاثة لوجوده المثلث. وفي صمته وسكينته، تَوَصّل إلى حل الرمز، وفك اللغز. فوجد، أن التقسيمات الثلاث للهيكل ما هي إلا تعبير مجازي يرمز إلى الكائن المثلث، إلى الكون الصغير الذي كان هو الأصل، فيما هو عليه كل إنسان. وراح يبتسم، مغموراً بسعادة كبيرة، وغبطة شديدة.
وكتلميذ وباحث حقيقي عن الحقيقة إكتشف الهيكل الحقيقي لله. وراح يفكر ملياً بما عليه أن يقوم بعمله الآن. . . إنه، إتمام العمل الذي بدأهُ الله فيه بأن يصبح ما هو عليه حقيقةً هيكلاً للنور الإلهي.
وحل الليل، وهبّ الهواء العليل على جزيرة صور. والنجوم تتلألأ في قبة السماء الصافية في الفضاء الرحب. والقمر مشعٌ بنوره على حجارة المعبد الكبير.
- تلك الجزيرة التي قال عنها التقليد الكنعاني – الفينيقي:" إن عشتروت، في ذات مرة أسقطت النجمة بسرعة على أرض تلك الجزيرة، لتجعل منها بذلك أرضاً مقدسة".
وعندما مشى بيثاغور بين عامودي المعبد بخطوات ثابتة، خيّل إليه بأنهما يهمسان في أذنه أغنيات المقاومة – مقاومة الزمان وتحدي أللاعدل والشر في هذا العالم، ومن ثم دخل إلى الغرفة السرية في الهيكل.

هناك، في المكان المقدس للجمعية. رحّب إيتو – بعل الكاهن الأكبر بالتلميذ ذو الرداء الأرجواني مجلساً إياه بقربه. وكانت هناك على الحائط وراء المذبح صورة منقوشة لأفعى برأس طائر الفينيق وهي مُمَددةٌ في وسط دائرة مشتعلة.
- فسأل بيثاغور بدهشة:" لقد سبق لي أن رأيت الأفعى في معبد أشمون، وعلمت بأنها من إحدى رموز الشفاء. أما الآن فقد رأيتها هي نفسها هنا. فإلى ماذا ترمز هذه الصورة هنا في هذا المكان"؟
- الكاهن:" إن الأفعى كانت مقدسة لدى هرمس – أخنوخ – تاوتوس أول كبيرٍ في أرضنا وفي مصر أيضاً. فالأفعى، هي من أكثر الحيوانات حكمة، وتنفسها هو الأقوى. وذلك مرده لعنصر النار المتحرك بسرعة هائلة داخل جسدها، مانحاً إياها قوة عظمى للمناورة، وقدرة ليست بعادية في تمديل جسدها".
وأخذت بيثاغور الدهشة، لما قد سمعه. فأراد طرح سؤال آخر، ولكن بدى له أن إيتو – بعل لديه ما يريد إضافته.
- فتابع:" للأفعى صفات عدة، فهي تحيا لوقت طويل. وتصوم كي لا تشيخ".
- وقاطعه بيثاغور بقوله:" ماذا...؟! كيف لهذا الشيء الغريب أن يحدث"؟
- الكاهن:" في الشتاء تدخل في سبات طويل وعميق، فتبقى بلا حراك حتى تتقلص لتتخلص من جلدها القديم. ولتكوّن لها جلداً جديداً وبديلاً لماعاً، مظهراً إياها متجددة ومليئة بالحياة المستمرة دوماً فيها".
وكان بيثاغور مبهوراً، ولم يبادر لخلده أن يطرح أية أسئلة أخرى. وظل جامداً في مكانه مشدوهاً بتلك الظاهرة الطبيعية والفريدة من نوعها.
- وأنهى إيتو – بعل تعاليمه بقوله:" إن الأفعى بالنسبة للشخص المساري تجسّد رمزاً من رموز الخلود والحكمة بإنتصارها على الوقت. وقد اطلق عليها حكماءُنا إسم أغاتوديمان Agathodaeemon الذي يعني " الروح الطيبة". أما الدائرة من حولها، فهي ترمز إلى العالم برأس طائر الفينيق. والأفعى في وسط الدائرة هي رمزٌ للروح الطيّبة المحركة العالم.
وفي الأشهر اللاحقة، شارك بيثاغور بكل طقوس المسارة التي قام بها المعلمون الكنعانيون – الفينيقيون في عباداتهم لبعل ملقارت في صور.
* * *
ومن جديد مرت الأيام بين جدران ذاك الملاذ.
- وقال الكاهن الأكبر:" إن أول بناء حجري أستخدمت فيه الحسابات الهندسية وعلم الأرقام كان هنا في جبيل. ولذلك أنا أعتقد بأنه قد تكوّنت لديك فكرة جيدة عن علم الهندسة يا بيثاغور".
- فأجابه بسرعة:" نعم، إنه كذلك".
- الكاهن:" ماذا تعلم عن الأرقام"؟
- بيثاغور:" الأرقام! أعتقد أنها لا تتعدى كونها مجرد وسيلة في علم الرياضيات. أليس كذلك"؟
- وأقترب منه المعلم في معبد ادونيس، ودار من حوله. ومن ثم وقف ناظراً إليه. وهمس بأذنه:" إن الأرقام في إحدى نواحيها المتعددة هي ذات بُعدٍ رياضي يا بيثاغور. غير أن أهم النواحي التي فيها هي الأكثر سمواً".
ومن ثم إبتعد.

ومرت الأيام والليالي، وبيثاغور مجهداً نفسه في المحاولة لكي تكون موسيقاه في تمام الكمال. ولكشف الحجاب المغطّي لأسرار الأرقام. وفي ليلة من الليالي، وهو يعزف الموسيقى المتردد صدى صوتها إنحداراً إلى الوادي، وإرتفاعاً إلى السماء في آن واحد مكوّناً بذلك برجاً محجوباً ما بين السماء والأرض. شاعراً بالدهشة والحيرة في هذا الوجود الغريب، مدركاً التناغم بين الأبعاد. متمكناً من السماع بأذنه الداخلية التي تسامت خلال تلك السنين من البحث والدراسة، محفزة فيه قوةً كبيرةً للتمييز. وإنصاتاً للموسيقى الصادرة عن الأرض، والمتناغمة مع الموسيقى التي تطلقها الأجرام السماوية الأخرى. مسمياً تلك الظاهرة الجد طبيعية " بموسيقى الدوائر Harmony of the spheres ".
وجلس بيثاغور في جوار مياه نهر ادونيس، متأملاً في أسرار الأرقام، سائلاً نفسه:"
ماذا يمكن للأرقام أن تكون خارج عن كونها أرقام فقط؟
وما هي وظيفتها الأخرى الخفية واللامعلومة"؟
وبدى له كل شيء من حوله بحركة دائمة موسيقية في الأشكال والألوان، مفكراً بأن هذه الحركة هي التي تشكل الناحية الرياضية لوجود تلك الأشياء. ولكن ما هي تلك الناحية الأكثر رقياً المحركة وأللامرئية الأساسية المكملة الحياة. إنه الإبداع الكوني السحري.
- وإستنار عقله، فصرخ:" نعم، هذه هي، لقد وجدتها. فالأرقام هي بذاتها الأساس الكامن للوجود الكامل الذي هو ذو بعد رياضي سحري. إنها الحالة الحقيقية لتسلسل الأشياء وتتابعها، وإطاراً أبدياً للصيرورة".
وإبتسم، لإدراكه بأن مشاعرنا تختلف بإختلاف الأمكنة والظروف، لتتسجل في ذاكرة الزمان والمكان، وكما في السماء كذلك على الأرض.
فالذكاء هو الغريزة – أللاوعي والوعي – المنطق والخيال – الحرية والعبودية – الإنفلات والإنجذاب – المحبة والكراهية – السماء والأرض!
وفي ذات صباح، دخل بيثاغور إلى معبد ادونيس. وتحدّث مع الكاهن الأكبر فيه عن ما توصّل له بتأملاته الصافية، فلم يلقى من الكاهن اي تعليق عن ما أباح به له. ذلك أن الكاهن كان مدركاً بأن هذا التلميذ الباحث، هو سائرٌ على الطريق الصحيح الموصل في النهاية إلى الحكمة.
- ومن ثم قال له معلماً إياه:" هناك إلهٌ واحدٌ هو إيل العالي. ومعه آنات – عشتروت كأخت له وزوجة. ومن خلالهما جاء بعل – أدونيس كجامعٍ لهما. فمع أدونيس تم تجسد الإله من خلال الآلهة. إنه الثالوث المقدس واللغز الكبير لكل شيء".
- وسأله بيثاغور:" من هو إيل؟ وكيف تعرفّه لي بوصفك إياه يا أيها الكاهن"؟
- الكاهن:" إيل هو الواحد، إنه النور الأول والشمس هي إنعكاسه لأنها بحد ذاتها عنصر النار والنور. فهي تعطي الحرارة للأرض، وتمد المخلوقات بالحياة. وهي تحكم الزمان، مُنَظِمّةً إياه مثلما هي فاعلة لكل الأجرام السماوية الأخرى. أما، وفي بعض الأحيان، فقد كان الزمان " كرونوس " قادراً على الهروب من الشمس. الأمر الذي أدّى ببعض من الأمم إلى الوهم والضياع".
- بيثاغور:" لقد فهمت. . . ولكن، من هي آنات"؟
- الكاهن:" آنات، هي المبدأ الأنثوي – العذراء، وهي تحل في المرتبة الثانية من هذا الثالوث. وطلب منها إيل أن تزرع الأرض بالمحبة، وتسكب السلام في أحشاءِها. فأعطت إبنها بعل – أدونيس كمخلص للعالم. فأتى كخلاصة غير عادية لإتحادهم في الألوهة، وتجسيداً لإرادة الخير لكل البشر في إعتمادهم المحبة والسلام كطريق لخلاصهم. لقد أتى ومات وقام متمماً إرادة الخير ومنتصراً على الزمان ، مدركاً الخلود. هذا الإبن، إبن الشمس الأولى. بات شمساً ثانية حاكماً على الحياة".
وأنهى الكاهن كلامه، محدداً أسس اللاهوت الكنعاني – الفينيقي .
وتأثر بيثاغور كثيراً بما سمعه من تعاليم غريبة وعجيبة ومُحَدَدَة لرؤية الأشياء بخصوصياتها، كما بشمولياتها.

لقد تمت، عليها واجب التمام، بإمكانها أن تتم. فقط بإرادة العقل الخيرة والإيمان بالمحبة والسلام التي وما إن لبثت ساكنة حياة أحدهم، عندها يمكنها التمدد لتغمر وجه الأرض.
وإعتبر بيثاغور، بأن هذا اللاهوت هو نظرة مجازية عالية ترمز لخلاص البشر وتطورهم الروحي وقيامتهم. وراح يتأمل فيها بصمت.

وهبت رياح خفيفة عابرةً الوادي، ومحركةً أغصان الأشجار التي كانت الطيور تحط عليها مرتاحةً.

أما في معبد عشتروت، هناك على قمة جبل جبيل. كانت النسوة كآلهتهن ينحن على موت أدونيس. باكيات ولاطمات صدورهن على وقع صوت النغمات الحزينة للناي.
وتغيّرت مياه نهر أدونيس، ليصبح لونها أحمراً كالدماء بسبب إنجراف الأتربة الحمراء من الجبل وسقوطها فيها. إذ كان المؤمنون في حينها يعتبرون، أن اللون الأحمر للمياه كان سببه دماء أدونيس الذي أصابته الجراح المميتة إثر تعرضه لهجوم الخنزير البري عليه. ( أو الأسد ).
وفي النهار التالي، وتحت أشعة الشمس على ذاك الجبل، كما في واديه المقدس كان المؤمنون البسطاء منتشرين في كل مكان ورؤوسهم صلعاء، وهم يظنون بأن ربهم أدونيس سيقوم للحياة ثانية، ليرتفع إلى السماء.
ومن دماء أدونيس في ذاك النهر، إنبثقت شقائق النعمان متفتحة لتعزي حزن عشتروت. إذ أن حبيبها الإلهي لم يمت أبداً.
- وفي ذلك اليوم المقدس داخل مغارة أفقا، وبسرية تامة كان الكاهن يعمّد بيثاغور في المياه النقية قائلاً له:" بإسم أدونيس، الإبن الإله القائم من الموت التي روحه تقوم فيك يا بني في كل الدوائر الأبدية أعمدك".
* * *



لقد نصح المعلم الكبير في معبد جبيل بيثاغور ليبحث عن معاني تلك الكلمات في مكان آخر. ولفهم الأسرار العميقة للنفس البشرية، وكان على بيثاغور أن يمارس التأملات وهو في العزلة. وفي تلك الأيام كان جبل الكرمل المكان الأفضل للتنوّر، لكونه أقدس الجبال، حيث كان كل جاهل ليس بمقدوره الوصول إليه.

جبل الكرمل أي " كرم إيل "، كان يرتفع على قمته معبداً كنعانياً – فينيقياً لإيل – بعل جاهزاً لإستقبال كل الذين كانوا عطاشاً لشرب الألوهة. ووصله بيثاغور، وقُبِلَ به للدخول إليه، هذا لأن الكاهن الأكبر لمدينة جبيل كان قد أحاط كهنة معبد الكرمل علماً بأن بيثاغور سيصل إليهم مرسلاً منه.

هناك وفي داخل ذاك المعبد، كانت تعاليم " الأخوية البيضاء " جد حية في عقول كل الذين كانوا منتمين لتلك الأخوية التي أسسها أخنوخ – هرمس – تاوتوس مؤسس الديانة الأولى التي تجسدت فيها أولى المحاولات الروحية للأخوية الكنعانية – المصرية في فكرة التوحيد، والإيمان بقيامة النفس عالياً لتدخل إلى مستوى راقٍ للوصول إلى خلودها.
وعلى جدران معبد جبل الكرمل، كانت توجد نقوش لرموز سرية، كما كانت أيضاً عليها كتابات بغية أن يقرأها التلاميذ حتى يتأملوا بها في صمت. ولم يكن هناك مسموحٌ بطرح الأسئلة، ولا بالتكلم حفاظا على الصمت التام والهدؤ. وإن الصوت الوحيد الذي كان يسمع هناك، كان صوت صدى الأفكار المترددة في عقل كل باحث من الباحثين.
وراح بيثاغور يمضي معظم أيامه ولياليه بمنأى عن المشاكل والإرتباكات التي مصدرها العالم الخارجي، وهو كالناسك متأملاً بإحدى الرموز التي جذبت إنتباهه منذ اللحظة الأولى لدخوله المعبد. أما الرمز فكان خطاً أفقياً متصلاً بآخر عاموديّ كان يعرف حينها بالتاو المقدس ) T (. حيث بات هذا الرمز الشغل الشاغل لبيثاغور، موحداً بينه وبين عقله.
وكالمعتاد، وفي صمت. تفتحت أبواب الإدراك في عقله لترحب بالسر الذي كان يبحث عنه. فأدرك بفكه اللغز تدريجياً، أن الخط الأفقي فيه يمثّل المادة الراقدة. أما الخط العامودي فهو ممثل للطاقة المحركة. وإن نقطة التلاقي بين المادة الراقدة، والطاقة المحركة هي العقل الكوني بحد ذاته الموازن فيما بينهما.
وعلى المستوى النسبي، فإن العقل المفكر في الكائن البشري هو المحرك الأساسي للروح كما للجسد. أما التمازج الكامل لدى بيثاغور، فكان في تلاقي عقله المفكر بالعقل الكوني. وراح يسأل نفسه عن كيفية حدوث هذا التلاقي، ذلك أنه لم يكن مسموحاً للتلاميذ بالإستفسار وطرح الأسئلة. ومن ثم إبتسم، وعيناه تلمعان لإدراكه في داخله، في مملكته السرية والمقدسة بأنه يوجد إنسان – إله يموت، أعلن له لكي يصبح إنساناً لا يموت – إلهاً.

على الشاطئ الكنعاني – الفينيقي رسى مركب مصري رآه بيثاغور من على القمة حيث كان. وبدون أي تردد منه، نزل لتوّه مسرعاً نحوه.
- وسأل بحارته بحماس كبير:" هل أنتم ستتوجهون لمصر"؟
فأومأ البحارة برؤوسهم.
وكان هذا كلامه الأول بعد سنة أمضاها بصمت كامل في معبد جبل الكرمل.
وصعد بيثاغور على ظهر المركب، وجلس مستغرقاً في الصمت وغير متحرك لمدة يومين من دون أن يتناول خلالهما أي طعام أو شراب، وكأنه في حالة هي أشبه بالغيبوبة.
وبعد إنقضاء هذان اليومان من الرحلة إلى مصر، راح بيثاغور يحادث البحارة عن البحر وأسراره.
- ومن ثم سألهم:" إلى أي مكان من مصر أنتم متوجهون"؟
فأشار قبطان المركب وهو رجل كهلٌ بإصبعه صوب دلتا النيل التي كانوا على مقربة منها.
- وسأله بيثاغور:" هل ممفيس في هذا الإتجاه"؟
فعرف القبطان المتقدم في السن والكثير الخبرة في الحياة ومن خلال سؤاله هذا بأن هذا الرجل اللابس الرداء الأرجواني هو واحدٌ من طلاب الحكمة.
- فأجابه:" نعم. . . وهي ليست بعيدة من هنا". ومن ثم إبتسم.
وفي اليوم الثالث من الرحلة، وصل المركب إلى شاطئ مدينة ممفيس في الفجر الباكر. وساعد البحارة بيثاغور في نزوله من المركب لأنه كان منهكاً للغاية بسبب الرحلة. ولأن جسده كان واهناً بسبب ما قام به من صيامات طويلة. وترك له البحارة ما كان لديهم من الفواكه، فتناولها ومن ثم إستراح قليلاً فعادت إليه قواه.
وعندما فتح عينيه، وجد نفسه واقفاً على الرمال المصرية الناعمة.
أرض الألغاز على الإطلاق.

**********

يتبع مع شكري للجميع (f)(f)(f)(f)(f)(f)




07-23-2005, 02:59 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  برنامج حمية السبيل-لوريل ميلين. السلوك السوي - كتاب يلبي رغبة الساعين إلى حياة أفضل ali alik 0 968 01-25-2012, 06:27 AM
آخر رد: ali alik
  رواية عالم صوفي/ عرض للدكتور محمد الرميحي بسام الخوري 1 2,579 06-15-2011, 08:50 AM
آخر رد: بسام الخوري
  رواية اسمها سورية - 40 كاتب ومؤلف في 1585 صفحة ، ملف واحد بحجم 25 ميجا مع الفهرسة ali alik 10 4,838 04-09-2011, 11:21 PM
آخر رد: kafafes
  رواية فنسنت فان جوخ - رائعة ايرفنج ستون في 772 صفحة .. لأول مرة ali alik 2 4,208 12-25-2010, 02:04 PM
آخر رد: kafafes
  مغامرة الكائن الحي _ جويل دو روزناي - و رواية يوم في حياة ايفان - الكسندر سولجينيتسين ali alik 1 1,876 10-26-2010, 04:48 AM
آخر رد: إبراهيم

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 2 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS