القسم الثاني: شبهات المؤلهين للمسيح من عبارات بولـــس و الرد عليها
الشبهة الأولى
قول بولس عن المسيح: " و هو فوق كل شيء إلـهٌ مباركٌ أبد الدهور ". الرسالة إلى أهل رومة: 9/ 3 ـ 5.
الرد على هذه الشبهة:
في البداية ننقل تمام الفقرة التي جاءت ضمنها تلك الجملة. يقول بولس:
" لقد وددت لو كنت أنا نفسي محروما و منفـصلا عن المسيح في سبيل أخوتي بين قومي باللحم و الدم، أولـئك الذين هم بنو إسرائيل و لهم التبني و المجد و العهود و التشريع و العبادة و المواعيد و الآباء، و منهم المسيح من حيث إنه بشر، و هو فوق كل شيء إلـه مبارك أبد الدهور. آميــن ".
و الآن أقول: إن العبارة التي وضعتُ تحتها خط، عبارةٌ مختلف في ترجمتها. أي أن الأصل اليوناني للعبارة يمكن قراءته على نحو آخر، كما أشارت لذلك الترجمة الفرنسية الحديثة المراجعة للعهد الجديد في حاشيتها فقالت ما نصه:
" On peu traduire aussi: De qui est issue le Christ selon la chair. Que le Dieu qui est au-dessus de toute choses soit beni eternellment. Amen " [9] a
و ترجمته : " نستطيع أن نترجم أيضا (على النحو التالي ): و منهم المسيح حسب الجسد. تبارك الله الذي هو فوق كل شيء أبد الدهور. آميـن."
في هذه القراءة نلاحظ أن الكلام من عند: و منهم المسيح... ينتهي بعبارة: بحسب الجسد." ثم نقطة. ثم تبدأ جملة مستأنفة جديدة هي: " تبارك الله الذي هو فوق كل شيء.. الخ."، و عليه فالكلام، في هذه القراءة، ليس فيه أي تأليه للمسيح.
هذا و لقد أحسَـنَت الترجمة الإنجليزية العصرية المراجَعة للعهد الجديد، حيث لم تذكر هذه القراءة الثانية في الحاشية، بل جعلتها هي الأصل و هي الترجمة الصحيحة المختارة فترجمت العبارة في المتن كالتالي:
“ And Christ , as a human being , belongs to their race. May God , who rules over all , be praised for ever. Amen“ [10] a
و ترجمته: " و المسيح، ككائن بشري ينتمي لعرقهم. ليتبارك الله الذي يحكم فوق الجميع للأبد. آمين. ".
الشبهة الثانية
قول بولـس: ".... منتظرين الرجاء المبارك و ظهور مجد الله العظيم و مخلصنا يسوع المسيح". رسالته إلى تيطس (2/13) بحسب النسخة البروتستانتية.
الرد على هذه الشبهة:
أولاً: العبارة، حتى في صورتها الحالية، لا تدل على ألوهية المسيح، لأن جملة: " و مخلصنا يسوع المسيح " معطوفة على الله العظيم بواو العطف التي تقتضي المغايرة، و العامل في الجملتين هو المصدر: ظهور، أي أن العبارة معناها كالتالي: منتظرين ظهور مجد الله و ظهور مخلصنا المسيح.
ثم ينبغي أن نلاحظ أن الظهور سيكون لمجد الله لا لذات الله، و لا شك أن ظهور نبي الله و سيادته على العالم هو ظهور لمجد الله في الواقع، كما أننا لو قلنا مثلا: لقد ظهرت رحمة الله وقوته بظهور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا يعني ذلك أن محمداً هو الله ذاته و العياذ بالله!
و ثانياً: ذكرت حاشية الترجمة العربية الحديثة الكاثوليكية للعهد الجديد، بإشراف الرهبانية اليسوعية تعليقا على هذه الفقرة، ما يلي:
" منهم من يترجم: مجد إلـهنا العظيم. و مجد مخلصنا يسوع المسيح ". ثم حاول المحشي أن يثبت رجحان الترجمة الأولى التي في المتن و التي تؤكد حسب زعمه لاهوت المسيح. و كلا الادعائين خطأ. أما كون الترجمة الأولى تؤكد لاهوت المسيح فقد تبين بطلانه، و أما الدليل على عدم رجحان الترجمة الأولى فهو أن كل ما ذكرناه في الفصل السابق من نصوص عن بولـس يؤكد فيها تفرد الآب بالألوهية و أنه إلـه المسيح و خالقه، و أن المسيح عبده الطائع الخاضع لسلطانه، يوجب حمل كل عبارة لبولـس تحتمل معنيين ( أحدهما يجعل المسيح هو الله و الآخر لا يجعله الله ) على المعنى الذي لا يؤله المسيح لكي يبقى كلام بولـس متسقا مع بعضه منسجما غير متناقض. و بتعبير آخر، إن نصوص بولـس الصريحة المحكمة في نفي إلهية المسيح و إفراد الله الآب بالإلـهية، تحكم على النصوص المتشابهة، فتفسر المعنى المراد منها، و هذا ما يعبر عنه في علم التفسير الإسلامي بـرد المتشابه إلى المحكم.
هذا و من المفيد أن نذكر أن الترجمة الإنجليزية العصرية المراجعة للعهد الجديد أوردت في حاشية هذا النص تعليقا يبين هذا الاحتمال الثاني لترجمة العبارة من الأصل اليوناني فقالت:
“ Or: (The Glory of ) the Great God and our Savior Jesus Christ “
أي: " أو (مجد ) الله العظيم و (مجد) مخلصنا يسوع المسيح ".
الشبهة الثالثة
قول بولـس: " الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى للملائكة، كُرِزَ به بين الأمم، أومِنَ به في العالم، رُ فِـع في المجد ". رسالته إلى تيموثاوس (3/ 16 ) كما في الترجمة التقليدية البروتستانتية.
الرد على هذه الشبهة:
إن ذكر لفظ الجلالة " الله " كفاعل لفعل " ظهر "، إنما هو اجـتهاد و تصرف من المترجم و لا وجود لهذه اللفظة في الأصل اليوناني بل فعل " ظهر " فيها مذكور بدون فاعل، أي مذكور بصيغة المبني للمجهول " أُظْـهِـرَ "، كما هو حال سائر أفعال الفقرة: كُـرِزَ به بين الأمم، أومنَ به في العالم...
و قد اتبعت الترجمة العربية الحديثة الكاثوليكية الأصل اليوناني بدقة فذكرت فعل ظهر بصيغة المبني للمجهول، و لم تأت بلفظ الجلالة هنا أصلا، و إليكم ما ذكرته بعين حروفه:
" و لا خلاف أن سر التقوى عظيم. قد أُظهِرَ في الجسد، و أُعـلِن بارا في الروح و تراءى للملائكة و بُشِّر به عند الوثنيين و أومن به في العالم، و رُفِـعَ في المجد ".
و نفس الأمر في الترجمتين الحديثتين المراجعتين الفرنســية و الإنـجليزية. و بهذا يبطل استدلالهم بالآية على إلـهية المسيح، لأن الذي ظهر في الجسد هو المسيح، الذي كان كائنا روحيا فيما سبق ـ إذ هو أول خليقة الله حسب عقيدة بولـس ـ و ليس الله.
بالإضافة إلى أن بعض الجمل اللاحقة تؤكد أن الذي ظهر ليس الله و لا هو بإلـه، كعبارة: أُعلِنَ بارّاً في الروح، أو عبارة رُفِعَ في المجد.
حيث أنه من البديهي أن الله تعالى الممجد في علاه القدوس أزلا و أبدا، لا يمكن أن يأتي أحد و يرفعه في المجد أو يعلنه بارّاً في الروح !! إنما هذا شأن العباد المقربين و الرسل المكرمين و حسب.
الشبهة الرابعة
وصف بولس للمسيح بأنه " صورة الله ".
الرد على هذه الشبهة :
قبل تفنيد هذه الشبهة، يجدر بنا أن نذكر الفقرات التي جاء تعبير بولس هذا ضمنها. فالأول جاء في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس (4 / 3 ـ 4) كما يلي :
" فإذا كانت بشارتنا محجوبة، فهي محجوبة عن السائرين في طريق الهلاك. (محجوبة ) عن غير المؤمنين، الذين أعمى أبصارهم إلـه هذه الدنيا لئلا يبصروا نور بشارة مجد المسيح و هو صورة الله ".
و الموضع الثاني جاء في رسالته إلى أهل فيليبي (2 / 5 ـ 8 ) :
" فليكن فيما بينكم الشعور الذي هو أيضا في المسيح يسوع، فمع أنه في صورة الله لم يعد مساواته لله غنيمة بل تجرد من ذاته متخذا صورة العبد و صار مثال البشر و ظهر في هيئة إنسان فوضع نفسه و أطاع حتى الموت موت الصليب " [11].
و الآن نقول: إن وصف بولس للمسيح بأنه " صورة الله "، ليس فيه أي تأليه للمسيح، لأن هذه الصفة تكررت بعينها مرات عديدة في الكتاب المقدس بعهديه القديم و الجديد، و وصف بها الإنسان، بشكل عام و الرجل بشكل عام أيضا، و يفهم من تتبع موارد استعمالها في الكتاب المقدس أنها تعني نوع من التشابه العام أو العلاقة و الترابط بين الإنسان ككل و الله .
فقد جاء في سفر التكوين من التوراة الحالية: " و قال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا و ليتسلط على أسماك البحر و طيور السماء و البهائم و جميع وحوش الأرض و جميع الحيوانات التي تدب على الأرض، فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكرا و أنثى... " تكوين: 1 / 26 ـ 27.
يقول مفسرو التوراة أن المقصود بكون الإنسان خلق على صورة الله هو ما يتميز به الإنسان عن الجمادات و النباتات و الحيوانات بالعقل الكامل و القدرة على النطق و التعبير عما يريد و بالإرادة و الاختيار الحر و بالاستطاعة و القدرة، فضلا عن السمع و البصر و الحياة و الإدراك و العلم... الخ، أي أن هناك تشابه عام بين صورة الله في صفاته و الإنسان، لذا قال سبحانه أنه خلق الإنسان على صورته [12] ، و بتعبير آخر أن الله شاء أن يخلق مخلوقا تنعكس و تتجلى فيه ومضة من صفاته تعالى من العقل و الإرادة و الاختيار و الحياة و العلم و المعرفة و الكلام و القدرة و السمع و البصر... الخ.
و لما كانت صفات الكمال، من قوة و قدرة و عقل و حكمة، موجودة في الرجل أكثر من المرأة، لذا نجد بولس يعبر عن الرجل ـ كل رجل ـ بأنه " صورة الله " فيقول مثلا في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس (11 / 7 ):
" و أما الرجل فما عليه أن يغطي رأسه لأنه صورة الله و مجده "
و طبعا كلما ترقى الإنسان في الكمالات و تخلق أكثر بأخلاق الله، كلما صار أكثر عكسا لصفات الله، و كلما تجلت فيه أسماء الله و صفاته الحسنى كالعلم و القدرة و العزة و العدل و الحلم و الكرم و الرحمة و الرأفة و الصبر و القداسة.... أكثر، لذا نجد بولس يتكلم عن نفسه و عن سائر الأولياء و القديسين فيقول:
" و نحن جميعا نعكس صورة مجد الرب بوجوه " مكشوفة " كما في مرآة، فتتحول إلى تلك الصورة و نزداد مجدا على مجد و هذا من فضل الرب الذي هو روح " قورنتس: 3 / 18.
كما يقول في موضع آخر موصيا المؤمنين بالتخلُّق بأخلاق الله و العيش حياة مسيحية كاملة:
" أما الآن فألقوا عنكم أنتم أيضا كل ما فيه غضب و سخط و خبث و شتيمة. لا تنطقوا بقبيح الكلام و لا يكذب بعضكم بعضا، فقد خلعتم الإنسان القديم و خلعتم معه أعماله، و لبستم الإنسان الجديد ذاك الذي يجدد على صورة خالقه ليصل إلى المعرفة " رسالة بولس إلى أهل قولسي: 3 / 8 ـ 10. فإذا كانت صفة " صورة الله" تقتضي الألوهية، فبمقتضى كلام بولس نفسه ينبغي أن يكون جميع القديسين بل جميع الرجال آلهة! و هذا ما لا يتفوه به عاقل و لا يشك في بطلانه أحد.
و لا شك أن الأنبياء هم المظهر الأتم و الأكمل لأسماء الله الحسنى و صفات جلاله و جماله، فمن هذا المنطلق يعبر بولس عن المسيح بعبارة " صورة الله ".
أما قول بولس عن المسيح، في الشاهد الثاني: " فمع أنه في صورة الله، لم يعد مساواته لله غنيمة، بل تجرد من ذاته متخذا صورة العبد و صار على مثال البشر و ظهر في هيئة إنسان... الخ "، فقد يظن البعض أن فيه تصريحاً بألوهيته لأنه صرح بمساواته لله، و بأنه تجسّد و أخذ صورة العبد و لبس لباس البشر، فصرح بالتجسّد.
فنقول: إن قوله " مساواته لله " ليست إلا تعبيرا آخر عن عبارته " أنه في صورة الله " و التي عرفنا أن المقصود منها أنه لما كان الإنســان الكـامـل مجـلى و صورة تنعكس فيها صفات الحق جـلَّ و علا من عقل كامل و علم و إرادة و اختيار و قدرة و عدل و حكمة، و طهر و قداسة، و حب و رحمة و رأفة..... الخ، لذا عبر عنه بأنه صورة الله، و مماثل لله، فيقول بولس أن المسيح لم يستغل هذا التناظر و التساوي (الصفاتي الصوري) مع الله، لكي يفتخر و يتكبر و لا يخضع لله و يرى أنه صار على مستوى الله، كلا و حاشا، و لعله في هذا يلمِّح إلى آدم الذي ـ حسبما تنقل التوراة التي تشكل خلفية فكر بولس باعتباره كان من أحبار اليهود ـ حاول أن يستغل قدرته و إرادته الحرة للأكل من الشجرة المحرمة ليكون مساويا لله في علمه و أبديته، حيث أن الشجرة ـ حسب نقل تلك التوراة ـ كانت شجرة معرفة الخير و الشر و شجرة الخلد و الملك الذي لا يبلى و لا يفنى، أما المسيح فعلى العكس اختار التواضع و الطاعة لمشيئة أبيه و وضع نفسه و استسلم للموت ـ على حد قول بولس ـ .
و أما قوله عن المسيح أنه صار على مثال البشر و ظهر بهيئة إنسان، فيعود لفكرة بولس عن المسيح التي سبق و شرحناها، و هي أنه يرى في المسيح أول (أو بتعبيره: بكر ) خليقة الله، فكان كائنا روحيا قبل خلق العالم و به و فيه خلق الله سائر الأشياء، فليس في تجسده أي إشارة للألوهية أو دلالة عليها.
و لا يختلف تجسده عن تجسد جبريل الأمين لما ظهر لمريم أو تجسد الملائكة الثلاثة الذين زاروا إبراهيم عليه السلام، إذ من البديهي أن التجسد بحد ذاته لا يعني أكثر من ظهور كائن روحي بمظهر جسدي إنساني أما أن هذا الكائن الروحي كان قبل تجسده إلـها أو غير إلـه، فهذا يحتاج لدليل آخر.
هذا أولا، و ثانيا: إذا نظرنا إلى تتمة كلام بولس، ظهر لنا بكل وضوح انتفاء قصد إلـهية المسيح و استحالة كون المسيح هو الله في نظر بولس، حيث قال: " فوضع نفسه و أطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفعه الله إلى العلى و وهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء..." فيليبي: 2 / 8 ـ 9.
فعبارات أنه مات ثم رفعه الله إلى العلا و وهب له الاسم... تصيح بأعلى صوتها أن المسيح ليس الله بل عبد لله، محتاج له، و ليس بإلـه، لأن الإلـه لا يموت و لا يحتاج لمن يرفعه للعلا، و لا لمن يهبه أي شيء !
الشبهة الخامسة
قول بولس عن المسيح: " فقد حسن لدى الله أن يحل به الكمال كله "، ثم قوله: " فـفـيه (أي في المسيح) يحل جميع كمال الألوهية حلولا جسديا " [13]
الرد على هذه الشبهة:
إذا رجعنا لرسائل بولس، عرفنا أن مقصوده من حلول الكمال الإلـهي في شخص ما، ليس معناه أبدا حلول الذات الإلـهية فيه أو اتحادها به و تحول الشخص لله!! بل هو تعبير عن المعية الإلـهية و حصول التأييد و التوفيق الإلـهي بحيث يكون الشخص مجلى تنعكس فيه صفات الله من علم و حكمة و استقامة و قداسة و عدل و رحمة و قدرة خارقة و و.... و الدليل على ذلك أن بولس يرى أن روح الله و كمال الله حال في كل المؤمنين الصادقين و القديسين البارين، حيث يقول في رسالته إلى أهل رومية:
" أما أنتم فلستم تحيون بالجسد، بل في الروح لأن روح الله حال فيكم "
و يقول أيضا في رسالته إلى أهل أفسس:
"... و تعرفوا محبة المسيح التي تفوق كل معرفة، فتمتلئوا بكل ما في الله من كمال "
و من الواضح أن بولـس لا يدعو مسيحيي أفسس أن يصبحوا الله و لا بأن ذات الإلـه حالة في المؤمنين من أهل رومية! و إنما يريد بعباراته: " حلول الكمال الإلـهي " أو " حل به كمال الله " أو " روح الله حال فيه " التعبير عن التأييد الإلـهي للمؤمنين و أن روح الله بمعنى المحبة و القداسة و الأناة و الشفقة و العدل و الحكمة و... الكمالات الإلهية صارت إليهم و معهم و بهم، فصاروا مع الله منقطعين عن أنفسهم و ذواتهم و أهوائهم و عن سائر الأغيار، فانين بكليتهم في الله و إرادته.
و لعل هذا النمط من التعبير يشابه ماورد في الإسلام، في الحديث القدسي الشريف الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ): " إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب و ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه و ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصره به و يده التي يبطش بها و رجله التي يمشي بها... الحديث " [14]
الشبهة السادسة
تعبير بولس عن المسيح بـ "ابن الله"
الرد على هذه الشبهة:
لعل ما ذكرناه سابقا في الفصل الماضي من بيان مقصود لغة الكتاب المقدس من عبارة ابن الله يكفي لتفنيد هذه الشبهة [15] ، حيث يستخدم بولس نفس لغة و تعبيرات الكتاب المقدس، و لكن لمزيد من الإيضاح نورد هنا أقوال لبولس نفسه يعبر فيها عن المؤمنين البارين القديسين بأنهم أبناء الله، فقد قال مثلا في رسالته إلى أهل رومية (8 / 13 ـ 17):
"... لأنكم إذا حييتم حياة الجسد تموتون أما إذا أمتم بالروح أعمال الجسد فستحيون. إن الذين ينقادون لروح الله يكونون أبناء الله حقا. لم تتلقوا روح عبودية لتعودوا إلى الخوف بل روح تَـبَـنٍّ به ننادي: أبا، يا أبـتِ ! و هذا الروح نفسه يشهد مع أرواحنا بأننا أبناء الله. فإذا كنا أبناء الله فنحن ورثة: ورثة الله و شركاء المسيح في الميراث لأننا إذا شاركناه في آلامه نشاركه في مجده أيضا ".
و قال في رسالته إلى أهل غلاطية (3 / 26):
" لأنكم جميعا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع ".
فالتعبير عن الشخص بابن الله إشارة لمرتبة روحية لا لطبيعة تكوينية. ولو كان مقصود بولس من بنوة المسيح لله شيء آخر، أي طبيعة تكوينية، لما أجاز مشاركة المؤمنين الصالحين للمسيح فيها حين قال: و شركاء المسيح في الميراث، إذ من المسلَّم به قطعا أن بولس لا يزعم أن الصالحين يصيرون بصلاحهم آلهة!!، فلا يبقى إلا المشاركة في المرتبة الروحية و الدنو من الله و الاختصاص التام به حتى يكونوا فعلا كمنزلة الابن من أبيه.
الشبهة السابعة
تعبير بولس عن المسيح بـِ " الربّ "
الرد على هذه الشبهة :
كلمة " الرب " هي عبارة بولس المفضلة عندما يشير إلى المسيح عليه السلام، و هو يكررها في رسائله كثيرا، خاصة في افتتاحيات رسائله حين يقول مثلا: "عليكم النعمة و السلام من لدن أبينا و الرب يسوع المسيح، تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح... " (2 قورنتس: 1/2 ـ3)، أو قوله: " و يشهد كل لسان أن يسوع المسيح هو الرب " (فيليبي: 2/1)... الخ.
و الحقيقة أن وصف المسيح بالربّ أو بربِّنا، لا يقتصر على بولس بل يقول به جميع أصحاب رسائل العهد الجديد الآخرين أيضا، أي القديسون يوحنا و بطرس، و يهوذا و يعقوب أخوا المسيح عليه السلام لأمه.
و كان هذا مما صدمني جدا لما طالعت العهد الجديد لأول مرة، إذ كنت أتصور أن مرادهم من كلمة الرب ما نعهده نحن المسلمون منها: أي رب العالمين و بارئ الخلائق أجمعين الخالق الرازق سبحانه و تعالى... فكنت أستغرب وأستهجن وصف المسيح الذي هو عبدٌ لله تعالى و محتاج لمدده، بصفة الرب، أي جعله خالقنا و رازقنا مع أنه هو نفسه مخلوق و مرزوق من الله!!
إلا أني لما تبحرت بمطالعة العهد الجديد و درست مدلولات بعض ألفاظه، خاصة لفظة الرب و مشتقاتها، دراسة مقارنة دقيقة، تأكدت من أن كتَّاب و مؤلفي العهد الجديد لم يكونوا يعنون بكلمة الرب عند إطلاقها على المسيح معنى الله الخالق الرازق أبدا، بل يعنون بها معنى المعلم و السيد المطاع أمره، فكلمة الرب كانت وصفا لمنزلة المسيح الرسالية النبوية التعليمية و مقامه ومنصبه الذي أقامه الله فيه، لا وصفا لطبيعته أو تحديدا لجوهر ذاته.
و قد سبق و أشرت، في الفصلين الماضيين، لعض الشواهد من الأناجيل التي تدل على ذلك، و فيما يلي إعادة سريعة لها :
(1) فقد جاء في إنجيل يوحنا أن اليهود كانوا يخاطبون النبي يحيى عليه السلام بعبارة :
"رابِّـي " (يوحنا: 3/26) ، و من الواضح أن أحدا لم يقصد ألوهية يحيى عليه السلام .
(2) كما جاء في نفس الإنجيل (يوحنا: 1/38) أيضا ما نصه:
" فقالا (للمسيح): ربِّـي!، الذي تفسيره يا معلم، أين تمكث؟ "
[ ملاحظة: جملة: (الذي تفسيره يا معلم) المعترضة، هي ليوحنا نفسه مؤلف الإنجيل و ليست لأحد من الشراح، فهي من متن الإنجيل نفسه وليست مضافة] .
(3) و جاء في إنجيل يوحنا كذلك (20 / 16) :
" قال لها: يا مريم! فالتفتت إليه و قالت له ربوني الذي تفسيره: يا معلم ".
(4) و جاء أيضا في إنجيل يوحنا (13/ 13 ـ 14)أن المسيح قال لتلامذته:
" أنتم تدعوني " المعـلِّـم و الـرب " و أصبتم فيما تقولون فهكذا أنا. فإذا كنت أنا الرب و المعلم قد غسلت أقدامكم فيجب عليكم أنتم أيضا أن يغسل بعضكم أقدام بعض ".
لكن النسخة التقليدية القديمة (البروتستانتية)للعهد الجديد ترجمت نفس تلك الآيات كالتالي:
" أنتم تدعوني معلماً و ســيـداً و حسنا تقولون لأني أنا كذلك، فإن كنت وأنا الســيـد و المعلم غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أقدام بعض"
إذاً ما ترجم بالسـيِّـد في الترجمة التقليدية القديمة، ترجم بالـربّ في الترجمة الحديثة، أي اختيرت لفظة الرب بدلا من السيد لترجمة الأصل اليوناني، مما يؤكد أن المقصود بالأصل من كلمة الرب هو معنى السيد و أنهما مترادفان.
(5) و جاء في إنجيل لوقا (20 / 41 ـ 44) أن المسيح عليه السلام قال لليهود:
" كيف يقال للمسيح أنه ابن داود و داود نفسه يقول في كتاب المزامير: "قال الرب لـربـِّي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك"؟ فداود نفسه يدعو المسيح ربا، فكيف يكون المسيح ابنه؟ ".
في هذا النص يستند المسيح عليه السلام لآية في مزامير داود (الزبور) يعتبرها بشارة عنه، فإذا رجعنا لمزامير داود في العهد القديم وجدنا أن البشارة هي الآية الأولى من المزمور رقم 110، و لفظها ـ كما في الترجمة الكاثوليكية الحديثة ـ:
" قال الرب لسـيّدي اجلس عن يميني حتىأجعل أعداءك موطئا لقدميك" العهد القديم / ص 1269.
فما عبر عنه المسيح بلفظة ربي هو في الحقيقة بمعنى سيدي و لا حرج فالمقصود واحد.
لذلك نجد أن الترجمات العربية المختلفة للعهد الجديد، خاصة القديمة منها كانت تستخدم لفظة السيد في مكان لفظة الرب، و لفظة المعلم في مكان لفظة رابِّـي. و فيما يلي أمثلة مقارنة تدل على ما نقول، أخذناها من ثلاث ترجمات مختلفة للعهد الجديد هي التالية (من الأقدم إلى الأحدث):
· الترجمة البروتستانتية القديمة التي قامت بها: جمعية التوراة البريطانية و الأجنبية، طبع كامبريدج، بريطانيا. و رمزتُ لها بالترجمة البريطانية البروتستانتية.
· الترجمة المسماة: كتاب الأناجيل المقدسة. طبع المطبعة المرقسية الكاثوليكية بمصر في عهد رئاسة الحبر الجليل الأنبا كيرلِـس الثاني بطريرك المدينة العظمى الإسكندرية و سائر الكرازة المرقسية، سنة 1902 مسيحية. و رمزتُ لها بالترجمة المصرية الكاثوليكية.
· ترجمة الكتاب المقدس الحديثة التي قامت بها الرهبانية اليسوعية في بيروت عام 1989 و نشرتها دار المشرق. و رمزتُ لها بالترجمة البيروتية اليسوعية.
إنجيل يوحنا: 1/ 49
إنجيل يوحنا: 3/ 1 ـ 2
إنجيل يوحنا: 4 / 11.
إنجيل يوحنا: 4 / 15.
إنجيل يوحنا:4 / 49.
إنجيل يوحنا: 5/7
إنجيل يوحنا: 6 / 34.
إنجيل يوحنا: 13 / 36.
إنجيل يوحنا: 14 / 5.
إنجيل يوحنا: 14 / 8.
ملاحظة: هناك جدول يوضح مدى المفارقات بين الترجمات الثلاث على الرابط نفسه:
http://www.ebnmaryam.com/alanajeel/three.htm
وأكتفي بهذه الأمثلة، و الحقيقة أن هذا نجده في كل مواضع استخدام لفظة الرب في الترجمات المختلفة و القديمة بشكل خاص، و أعتقد أن ما ذكر يكفي لليقين بأن مراد كاتبي الأناجيل و رسائل العهد الجديد، و منهم بولس، من لفظة الرب، ليس إلا معنى السيد أو المعلم المُطاع أمره.
ومن ناحية أخرى إذا رجعنا إلى القاموس العبري ـ العربي [16] نرى أن لفظة الرب العبرية تعني: [[ حاخام، معلم، وزير، ضابط، سيد ]].
فإذا عرفنا أن اللغة العبرية كانت هي لغة الكتاب المقدس الأصلية ( للعهد القديم ) الذي كان مرجع مؤلفي العهد الجديد، و عرفنا أن السيد المسيح عليه السلام كان بالنسبة إليهم: المعلم الأكبر و الحاخام الأعظم، و السيد الذي تعلو سيادته و سلطانه الروحي كل سيادة في الأرض، عرفنا لماذا كانوا يطلقون عليه لفظ " الرب " و ماذا كانوا يعنون بها.
و من الجدير ذكره هنا، و هو ما قد يفاجئ القارئ، أنه حتى في اللغة العربية، قد تطلق لفظة الرب، المطلقة من غير أي إضافة، على المـلِك و السيد، كما ذكر صاحب لسان العرب حيث قال أن أهل الجاهلية يسمون الملك: الرب، و أنه كثيرا ما وردت كلمة الرب مطلقةً، في أشعارهم، على معنى غير الله تعالى [17] .
كما جاء في لسان العرب: " الرب: يطلق في اللغة على المالك، و السيد، و المدبر، و المربي، و القيِّم، و المنعم... و (عن) ابن الأنباري: السيد المطاع، قال تعالى: فيسقي ربه خمرا، أي سيده، و يكون الرب المصلح، ربَّ الشيءَ إذا أصلحه " [18] .
و قد وردت في القرآن الكريم بهذا المعنى عدة مرات، من ذلك الآيات التالية :
1. { قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون } يوسف / 23.
2. { يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا... } يوسف / 41.
3. { و قال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين } يوسف / 42.
4. { فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } يوسف / 50.
5. و كذلك وردت بهذا المعنى في سورة التوبة في الآية:{ اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلـها واحدا لا إلـه إلا هو سبحانه و تعالى عما يشركون } التوبة / 31.
فمن الواضح أنهم لم يتخذوا أحبارهم آلهة خالقين رازقين ! إنما اتخذوهم سادة و أرباب استسلموا لسلطتهم و أطاعوهم طاعة عمياء في كل شيء حتى في تحريم الحلال و تحليل الحرام، و تشريع العقائد الجديدة غير المنزلة،كما ورد تفسيرها في الحديث الشريف عن عدي بن حاتم ـ و كان نصرانيا فأسلم ـ قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، لما سمعه يتلو هذه الآية: " إن النصارى لم يعبدوا أحبارهم و رهبانهم! " فأجابه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ): " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال و أحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فتلك عبادتهم إياهم " [19] .
6. و في هذا المعنى أيضا قوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب تعلوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } آل عمران /64.
و لا شك أنه ليس المقصود أن لا نتخذ بعضنا بعضا آلهة خالقين رازقين، بل المقصود أن لا نتخذ بعضنا بعضا سادة طغاة متسلطين نركع و نسجد لهم و نطيعهم طاعة عمياء حتى في تحليل حرام الله أو تحريم حلاله أو تقرير عقائد إيمانية غيبية ما أنزل الله بها من سلطان، كما فعل فريق من النصارى في حق الباباوات.
كل هذه الأمثلة أوردتها للتأكيد على أن لفظة " الرب " لا ينحصر معناها في الله تعالى الخالق الرازق، بل كثيرا ما تأتي بمعنى المالك الآمر و السيد المطاع. و هذا المعنى الأخير هو المراد في لغة العهد الجديد و لغة التلاميذ عندما يطلق على المسيح و هو الذي كان يعنيه بولس من لفظة الرب عندما يطلقها على السيد و المعلم الأكبر المسيح عليه السلام، فليس في هذه اللفظة أي دليل على ألوهيته.
و بهذا نكون قد فندنا جميع الشبهات، من أقوال بولس، التي يستندون إليها كنصوص دالة ـ بزعمهم ـ على إلـهية المسيح.
و بقيت عبارات يستندون إليها من مقدمة الرسالة المعروفة باسم الرسالة إلى العبرانيين، و هي أيضا لا تدل على الألوهية، و قد أعرضت عن مناقشتها لأن الرسالة من الأساس لا يُعْرَف على وجه التحديد من هو كاتبها، فإذا كان الأمر كذلك فلا داعي لمناقشة أقوال لا نعرف قائلها و لا تقوم حجية بها، إذ الحجية تقوم بكلام الله و كلام رسوله لا بكلامٍ لا يُعْرَف من قائله؟! و مجرد تلقي الكنيسة للرسالة بالقبول و عدها لها من الرسائل القانونية لا يغني شيئا عند ذوي التجرد و الإنصاف، ففي الدين، بل في أخطر مسائله، لا بد من القطع و اليقين و لا يكتفى بالظن و التخمين و الله و لي المؤمنين.
______________________