المثقف الحصيف المالك قدرا من القدرة على الفرز و التمييز يظل كالنخلة الفرعاء أو كالنسر فوق القمة الشماء، فيه من زرقاء اليمامة، كي يرى ما وراء الجبل، و من سيزيف كي يرابط على الدفع بالصخرة إلى أعلى حتى وهي تهوي في كل مرة.
و الحق إن المثقف العربي اليوم يواجه اوضاعا صعبة و مشكلات جديدة على درجة من التعقيد حتى و إن كان جوهرها قديما. يواجه تناقضات يستعصى المسك بزمامها و الاهتداء الى حلها في مناخ كوني بات من سماته الفقر النظري و الفراغ الفكري و التدني الذهني الذي أضحى إحدى سمات "الثقافة الاستهلاكية" السائدة. و قد جاءت تبشر بسقوط الإيديولوجيات و تحول مركز الثقل في الإنسان من أعلاه إلى أسفله.
وجد المثقف العربي نفسه، وهو يستقبل القرن الجديد إمام تناقضين متفجرين قطريا و قوميا: التناقض الداخلي الدية محوره الديمقراطية و التناقض الخارجي الدية محوره الوطن و الوطنية.
و إذا كان الأول يقابل بين قوى الحرية و قوى الاستبداد داخل المجتمع فان الثاني يضع وجها لوجه الأمة قاطبة( باستثناء من ثبتت عمالته) من ناحية و الغزاة من ناحية أخرى. و هذه المسالة كانت واضحة زمن الاستعمار القديم، و قانون التعامل معها كان معروفا، و انجر عن ذلك أن التمايز كان واضحا و الصفوف بينة و الخيانة عسيرة الهضم. كما انجر عنه و جود حركات وطنية و كفاح تحريري و ثقافة مقاومة و زعامات ترفع على الأعناق.
و بتوالي الانتكاسات و الخيبات عقب استقلالات شكلية في معظمها، و تطور خطط الاستعمار، علاوة على الإحباط الناجم عن سقوط التجربة الاشتراكية الأولى و انفراد النظام الرأسمالي بمصائر الكون، و بعد سيطرة مشروع العولمة التي من معانيها إزالة الحواجز السياسية و الجغرافية إمام جولان السلع و الأموال و تنقل الإفراد و الأفكار و تدخل الجيوش و المخابرات و ومجلس الأمن في الشؤون الداخلية للبلدان التي بات عليها إن تتخلى عن سيادتها و استقلالها و هويتها و تقبل بمنطق أن العالم "قرية الكترونية صغيرة" . بعد كل هده الانقلابات غامت الصورة و اشتبهت السبل و اشتبكت الأوراق و اختلطت الصفوف. و تهاوت القيم و تبدلت الشعارات و انقلبت المفاهيم و لم يبقى صامدا في السر و العلن من المثقفين إلا القليل أمام دواعي الانبطاح و فقدان المناعة( لهث على المكشوف و راء المكافآت و الجوائز و الموائد و الإسفار و الاقامات و سائر الفرص التي تمنحها جهات مشبوهة أو معادية على المكشوف ، إيجار القلم و اللسان و الفكر لمن يدفع أكثر...الخ).
و وجد بعضهم تبريرا لمعاضدة الدخلاء و المحتلين في معارضة الاستبداد و القمع، و ركب موجة "تحرير" بلده على أيدي قطاع الطرق و مصاصي الدماء و اقعد الصفوف الأمامية للتصفيق و اختار البعض الآخر الصفوف الخلفية و أدار وجهه من أمام عدسات المصورين و كفاه انه سجل حضوره و قدم شهادة الولاء.
هدا رهط يتكئ على الاستعمار الذي يذبح أشقاءه و يهدم بيوتهم و يقصف مدارسهم و مستشفياتهم، بل ينخرط في خدمته. و الحال أن العوام أدركوا بحسهم التلقائي طبيعة التناقض مع المحتل و انخرطوا المقاومة و اهتدوا إلى كون المحك و المحدد هو الموقف من الاحتلال الجاثم على رقاب الجميع، و لم يصدقوا أن الحرية تأتي على ظهور دباباته و أن الديمقراطية تتحقق بمشيئته و مشيئة عملائه. فهل يجهل المثقف أن حل المسالة الديمقراطية في مثل هده الحال خاضع لحل المسالة الوطنية و أن القوة التي تفلح في طرد المحتلين و تحرير الوطن هي التي سيتاح لها أن تفرض برنامجها السياسي و تحرز حكم الناس، فما على مناضلي الحرية و الديمقراطية إلا أن يكون لهم مكان و مكانة داخل الحركة الوطنية و أن يستبسلوا في مقارعة المحتل بدلا من انتظار تحريرهم المزعوم على يديه، و هل يجهل المثقف أن الحكومة المخلوعة بالقوة الاستعمارية تكتسي صفة الشرعية و يصبح التمسك بها على رأس المطالب الوطنية مهما كانت الاعتراضات الداخلية عليها قبل خلعها ذلك أن تغيير الأنظمة و تنصيبها شأن داخلي ومن مهمات شعب البلد المعني دون سواه؟
و هل يجهل المثقف أن النظام المخلوع يعد جزءا من المقاومة إذا انخرط فيها، و لا يجوز إقصاءه أو تجاهله تحت أي ذريعة لان القاعدة في محاربة الضعيف للقوي و نجاح الحركات الوطنية هي بناء أوسع الجبهات و تجميع الطاقات إلا من أقصى نفسه و خير العدو و هذا ينطبق على الحالة العراقية لو أخذناها مثالا.
و إذا كان من حق المثقف أن يحمل نظام بلاده مسؤولية التدخل الأجنبي الذي يجد في التردي السياسي ذريعة وفي حماية حقوق الإنسان و الحريات حجة و كان من واجبه الوقوف ضد هذا التردي و مساندة قوى التغيير الوطنية، فان ذلك لا يتم في مكاتب سفارات المتربصين ببلاده، ولا عبر أبواقهم الدعائية، ولا بتمويل منهم أو تسليح، بل كما تفرض الوطنية على النظام الداخلي أن يسعى إلى تعزيز الجبهة الداخلية و تفويت الفرصة على التدخل الأجنبي عبر اتخاذ الإجراءات و القيام بالإصلاحات التي من شانها تحرير الحياة السياسية و تكريس التداول السلمي على السلطة فإنها تفرض على خصومه عدم تسهيل مهمة ذلك التدخل و إرباك المقاومة بأي شكل من الإشكال و تحت أي غطاء.
إن الاستعمار هو الاستعمار و الامبريالية هي الامبريالية، و الاستعباد هو الاستعباد و الحرية هي الحرية، اليوم كأمس و ليس من شأن تغيير الأشكال و الأزياء و تبديل اللافتات وصقل الأقنعة و اهتزاز القناعات، أن يغير من جوهر الشئ، وان يخلع عن الوحش صفة الوحشية و أن وضع حدا لرفض القهر و التسلط.
و لئن تغذى الغزاة دائما من حالة التردي التي تكون عليها حالة البلدان المراد غزوها، فركبوا موجة الضحايا، و توسلوا بغضب الغاضبين، و اندسوا تحت ثوب المعارضين، فإنهم سرعان ما يفتضح أمرهم و ينفجر التناقض بينهم و بين من جاؤوا "لتحريرهم" و ما الإبادة التي تعرض لها الشعب العراقي و يتعرض بقيادة "محرريه" الأمريكان إلا أبلغ دليل.
و الحياد في مثل هذه الحالة لا يقل خيانة عن التورط و مخطئ حساب المثقفين الذين يعولون على هذا الموقف لكسب ود الجميع و ضمان السلامة، فهل من خيار حين يهاجم بيتك غير خيار الدفاع و هل من موقف أمام الاحتلال غير موقف المقاومة، و عبر المقاومة ترسم ملامح النظام السياسي المنشود فطوبى لمن قاوم و استبسل و قدم الثمن.
هل كان جيل المثقفين الأوائل و هم يواجهون الاستعمار أوعى و أبصر، مقارنة بجيل المثقفين الأواخر و هم يعيشون مرحلة الاستعمار الجديد، و الهيمنة الامبريالية؟ بل بقدر ما كان أولئك يبدون متوثبين و مقدامين، وجدنا هؤلاء يتباطأ ون و يؤثرون السلامة على الكرامة، إلا الذين آمنوا إيمانا بالقضية.
يحدث ذلك من دقة الأوضاع و خيبة الآمال و طول الطريق، ويحدث أيضا من تطور أساليب الإغراء عند الماسك بزمام حضارة المال و الأعمال. و من تفشي الانتهازية في أوساط هذه الفئة المنتسبة إلى الثقافة أو المحسوبة عليها.