شهاب الدمشقي
يقول ويل ديورانت: ( إن أكثر الناس شكا في الدين هم رجال الدين لأنهم عرفوا الدين على حقيقته !! ) .
عبارة دقيقة لا أشك في صحتها .. وأعتقد أنها تختصر تجربتي الشخصية مع الدين، وربما تلقي الضوء على الأسباب التي قادتني إلى اتخاذ قراري بترك الإسلام ( أو الردة !! بالاصطلاح الفقهي ) ..
لا أحد يختار دينه ومعتقده ، فالدين كالاسم تماما يفرض علينا فرضا دون أن يكون لنا إرادة في اختياره ، وأنا ، كغيري من المسلمين ، ولدت ونشأت في مجتمع إسلامي وبيئة إسلامية وأسرة مسلمة ، ولذلك أصبحت مسلما بالتقليد والوراثة والاكتساب من الوسط العائلي، ولو عاد بي الزمان إلى الوراء وسألتني حينها : هل تتوقع أن تصبح لادينيا ؟ لحوقلت واسترجعت واستعظمت هذا الكلام !! .. فقد كنت – أيام التدين – أردد كلام الشيخ الراحل محمد الغزالي ( الإلحاد غباء !! فكل ما في الكون يصرخ بوجود الله ) ..
كان المحيطون من حولي يزرعون في عقلي أفكارا جميلة حول الإسلام : الإسلام هو الدين الصحيح الخالد، الإسلام هو الدين العظيم، الإسلام يصنع المعجزات، الإسلام يفتح العقول والقلوب...... إلى آخر هذه الديباجات الإنشائية المنمقة !!.
وكبرت .. وكبر بداخلي الوهم الإسلامي، وبحكم انتمائي إلى أسرة متدينة أصبحت بدوري متدينا شديد التمسك بالتعاليم الإسلامية وأواظب على أداء العبادات والشعائر.
كنت مسلما ملتزما أدافع عن الإسلام بحرارة وعاطفة، ولكن في داخلي كانت تجول تساؤلات وشكوك كثيرة لم أعثر لها على جواب.
كان رجال الدين من حولي يقولون لي: كل ما في القرآن صحيح، وكل ما خالفه باطل وكاذب حتى لو رأيته بأم عينيك !!!!.. أما الشكوك والهواجس فهي رجس من عمل الشيطان.. وإذا خامر عقلك شيئ من الشكوك فتعوذ بالله من شر الشياطين ..
صدقت.. وكبرت.. ودفعني شدة تمسكي بالإسلام إلى إدمان قراءة الكتب الإسلامية، التراثية منها والمعاصرة، المتشدد منها والمنفتح، ولكن سعة اطلاعي على الفكر الإسلامي زادت من شكوكي بدل أن تبددها، وبدأت تتراكم في عقلي أسئلة بلا جواب..
وهنا.. وجدت أن المخرج السهل هو بالالتجاء الروحي المحض إلى الله، وأقنعت نفسي بأن ما يجول في عقلي وساوس من صنع الشيطان، وما على المؤمن إذا بدأ عقله بالتساؤل سوى أن يستغفر ربه وينساها تماما، أو بعبارة أصح: يجبر نفسه على تجاهلها وكأنها لم تكن !! فالعقل الإنساني أحقر من أن يدرك أسرار الدين !!..
وكأي متدين ملتزم بتُّ أجبر عقلي على التسليم والاقتناع بتلك الردود الهزيلة التي أقرؤها أو أسمعها من العلماء والفقهاء كأجوبة على تلك ( الشبهات الإلحادية !! ) على حد تعبيرهم.. ولكن هذه الطريقة لم تقتلع أساس الشكوك.. بل بقيت كامنة في زاوية مظلمة من العقل تنتظر اللحظة المناسبة للظهور والتصعيد والمواجهة.. وكانت تلك اللحظة التي عادت فيها الشكوك إلى الظهور قصة طريفة حقا.
إحدى عاداتي السيئة هي تعلقي الشديد بالجدل والنقاش.. ومرة – أيام كنت مسلما متدينا – خطرت لي فكرة شيطانية.. وهي أن أتقمص شخصية ملحد مارق وأجادل مجموعة من المتدينين من موقع الملحد المشكك.. وكان هدفي من ذلك هو تقوية قدرتي على الجدل من جهة.. واكتشاف وجوه الضعف في ( الشبهات الإلحادية ) من خلال الحوار التفاعلي الحقيقي من جهة أخرى..
وبالفعل.. انطلقت إلى كلية الشريعة بحكم مجاورتها إلى كلية الحقوق التي كنت أدرس فيها.. وهناك اخترت مجموعة من الملتحين وجلست معهم وتعمدت أن أثير معهم جدلا دينياً تشكيكياً.. وأطلقت العنان للساني في التشكيك بحجج وشكوك ( وما أيسر على العقل أن يتكشف العشرات منها لو أراد !! )... فوجئت باني لم أجد عندهم جواب !!! ..
أعدت التجربة مرة تلو المرة.... مع أشخاص أكثر حنكة ودراية وفقه.. فكانت ذات النتيجة....
بطبيعة الحال كبر بداخلي الشك القديم..... فزادت قراءتي وزاد نقدي.. وبدأت لأول مرة أقرأ الإسلام من موقع الناقد لا من موقع المؤمن بقداسته..... وكانت النتيجة اللادينية وهجر الإسلام.....
ما ذكرته كان معاناة سنوات من البحث والتأمل والدراسة النقدية المتواصلة... بالطبع تدرجت خلالها من الشك مع تأنيب الضمير.. إلى الحيرة .. إلى إهمال الصلاة مع الإحساس بالذنب.. إلى قرار اللادينية المتردد.. وأخيرا: الحسم والقطع بترك الدين......
عندما يبدأ العقل بالتفكير وطرح الأسئلة متحررا من القوالب الجامدة والأحكام المسبقة والنتائج المقررة سلفا دون أن يعثر على جواب لها، عندها سيدخل حتما في صراع فكري خطير تكون نتيجته أحد خيارين :
إما تعطيل العقل والسير مع التيار ( وهذا هو الخيار السهل والمريح فكريا واجتماعيا ).. أو اتخاذ القرار الجريء والحاسم باستئصال ما كان يحسبه مسلمات لا تقبل التشكيك.. ويقبل بدفع ضريبة ذلك اجتماعيا وفكريا..
من الصعب أن تكون متدينا وعقلانيا في نفس الوقت، لأن منطق الإيمان يلزمك بالتسليم بجملة من الأمور على أنها حقائق مطلقة لا تقبل الجدل أو النقاش حتى وإن كانت غير مفهومة أو غير مقنعة !!! وبذلك لا يكون أمامك إلا أحد خيارين: إما إلغاء العقل وتعطيله كليا والانسياق وراء الدين، أو الانتصار للعقل ونسف الدين...
قد يتساءل البعض: حسنا.. ما هي تلك الشكوك والتساؤلات التي سببت لك تلك الأزمة الفكرية والتي دفعتك إلى هجر الدين ؟؟..
جوابي: من العسير أن أعرض خلاصة تراكمات من القراءة والبحث بسطر أو سطرين.. فذلك يحتاج إلى صفحات مطولة، وقد عرضت نماذج لقراءتي النقدية فيما كتبته من مقالات في شبكة اللادينيين العرب (
www.ladeeni.net )، كما أكتب حاليا مقالاً شهرياً في مجلة جسور التي أحرر فيها باب الفكر الديني (
www.josor.net )، وأتمنى أن أتمكن من اصدار كتاب حول هذا الموضوع..
أعلم بأن البعض لن يقنع بكلامي السابق.. بل سيظل ينظر إلى اللاديني على أنه إنسان مشكوك النوايا، وأنا أتفهم وجهة النظر هذه لأنها وليدة واقع عربي لم يألف بعد ثقافة الآخر المختلف أو حرية الرأي والتعبير، ومازال ينظر إلى كل فكر جديد نظرة شك وريبة، فما بالك إذا كان الجديد يتعلق بنظرة مختلفة إلى الدين ؟؟ ..
الفكر النقدي الديني مازال فكراً مقموعاً في الثقافة العربية، يقابل بالرفض والمصادرة، بل وبمحاكمة كل من يجرؤ على البوح به !! وقد عمل هذا الواقع على تشكيل صور نمطية للآخر اللاديني كإنسان عبثي فاسد، مشوش التفكير، مشكوك النوايا، عليل العقل، طافح الشهوة، جاهل تماما بالدين، و ما يوجه موقفه من الدين هو باختصار : غرائزه !!!!!.. أما نقده للدين فهو ( شبهات واهية وأراجيف حاقدين ) لا تصمد أمام حقائق الدين ..
أعتقد أن الاعتراف بحق اللاديني في الوجود الإنساني والتعبير الفكري سيؤدي إلى تغيير هذه الصورة النمطية المشوهة لكل من اللاديني من جهة، ومنظومة الفكر الديني التي يُفترض أنها تقوم على مسلمات بديهية لا تقبل التشكيك أو المراجعة من جهة أخرى، وقد شهدت من خلال تجربتي الحوارية الواقعية أوالافتراضية عبر شبكة الإنترنت الكثير من الزملاء الدينيين الذين كانت مشاركاتهم الأولى في المنتدى تحمل نفسا عدائياً واضحاً ونبرة عصبية متشنجة ( وقل ذات الأمر بالنسبة إلى بعض اللادينيين الذين دخلوا الموقع باندفاع وعصبية ).. ولكن العملية الحوارية المعرفية فعلت فعلها لدى الطرفين ( وخصوصا الطرف الديني )، فمن الواضح أن من كان في أول الأمر عدائياً تجاه الآخر اللاديني بات الآن أكثر تقبلا لفكرة التعايش الإنساني معه ( بل ربما قبوله فكرياً أيضاً ) أو على الأقل التسليم بأن اللاديني يمتلك وجهة نظر فكرية قوية تستحق الاهتمام والإصغاء والحوار لا الإزدراء والاحتقار والإقصاء..
ربما مازال من المبكر الحديث عن فكر نقدي لاديني مطبوع ومنشور كما يحدث في الغرب، وأنا شخصياً أتمنى بالفعل لو أنجح في نشر أفكاري في وسيلة مطبوعة.. ولكن ما يحول دون ذلك هو ببساطة، منظومة الرقابة العربية التي تعيش على عقلية ( الباب الذي تأتيك منه الريح أغلقه واستريح !! ) فلم أترك بابا للنشر إلا وطرقته ( الصحف والمجلات والدوريات ودور النشر ) والكل يرفض خوفا من عواقب ذلك..
أعتقد أن للإنترنت فضلاً على صاحب كل فكرة.. فقد فتح لنا جميعا فضاء بلا حدود للتعبير الحر والصريح عن كل ما يجول في خاطرنا من أفكار.. بل أزعم أنه لولا الإنترنت لما عرفنا مثلاً بوجود تيار يعيش في المجتمع العربي والإسلامي له جذوره التاريخية وامتداده الشعبي اسمه "التيار اللاديني"..
ربما يأتي يوم أستطيع فيه أن أتكلم بصراحة وجرأة وباسمي الصريح وأقول فيه " نعم .. أنا لاديني، وهذه هي أسبابي "..
http://www.josor.net/article_details.php?t...id=412&catid=10