ضحكنا وكان الضحك منا سفاهةً وحُقّ لسكان البرية أن يبكوا
دمشق
صحيفة تشرين
ثقافة وفنون
الخميس 19 أيار 2005
د. منى الياس
لعل أكثرما اشتهر بين الدارسين لتراث أبي العلاء المعري: اللزوميات وديوان سقط الزند، ورسالة الغفران، حتى سرى بين الناس أن أبا العلاء لم يترك غيرها، حتى تمّ اكتشاف عمل عملاق له بعنوان (مَلْقَى السبيل) وتحقيقه.
بقيت هذه المخطوطة أمداً طويلاً حبيسة في زوايا النسيان بين مخطوطات التراث العربي لا يسمع بها شداة الأدب ودارسوه، حتى أتيح لها أن ترى النور لأول مرة حين حققها أحد أعلام النهضة التونسية الحديثة (حسن حسني عبد الوهاب)،ونشرها العلامة السوري (محمد كرد علي) ضمن ما انتقاه من عيون النثر العربي في كتابه (رسائل البلغاء)، وصدر في منتصف الأربعينيات، فكتب لها الذيوع والانتشار.
اختطّ المعري في تأليف هذه الرسالة منهجاً فريداً لم يسبق إليه، فقد سار في كتابتها حسب ترتيب الحروف الهجائية التي جعل من كل حرف فيها قافية للعظة أو الحكمة التي يصوغها في قالبين من النثر والشعر على التوالي حتى يصل إلى حرف الياء فتنتهي صفحات الرسالة وسطورها التي جاءت في صياغة نثرية محكمة وصنعة شعرية رفيعة تضم في كلماتها القليلة خلاصة فكره وتجربته في الحياة والوجود والعدم، وموقفه من الشك والإيمان ورحلته بين الدنيا والآخرة، فأتت مؤكدة لسابق آرائه في الحياة والموت والبعث وحرية العقل التي انتزعها الدارسون والباحثون من أشعاره في اللزوميات وسقط الزند وكتابات في رسالة الغفران وغيرها من الرسائل؛ لكنه أوردها هنا بأسلوب نابض بالسخرية والتهكم.
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة
وحقّ لسكان البرية أن يبكوا
يحطمنا ريب الزمان وكأننا
زجاج، ولكن لا يعاد له سبكُ
وفي البيت الثاني إشارة فسرها الشارحون قديماً بأنها تعني عدم إيمان المعري بفكرة البعث بعد الموت والتي نجدها أيضاً بشكل واضح في شعر أبي نواس عندما قال:
تُعلّل بالمُنى إذ أنت حيٌّ
وبعد الموت من لبن وخمرِ
حياة ثم موت ثم بعث
حديث خرافة يا أمَّ عمرو
لقد تجرأ المعري على تناول أهل المدينة وأرباب الشعائر، والنساء، والعادات الاجتماعية وأصحاب السياسية، وضاهى مذهب الفيلسوف الألماني (شوبنهاور) القائم على أن جميع مشاق الإنسان وأتعابه في هذه الدنيا هي حب الشهوات والتلذذ بالحياة.
أوليس هذا رأي المعري في (ملقى السبيل) عندما يقول: (إنك إلى الدنيا مصغ، وحبها للبشر مطغ، لو أنك لشأنها ملغٍ أبغاك ما تأمله مبغ؟...).
لكن الفرق بين العالمين هو أن شوبنهاور اشتغل في علم الفلسفة ودراستها والتدوين فيها بخلاف المعري الذي لم يشتغل بالفلسفة من حيث هي علم، وإنما كان يبحث عن أسباب الأشياء وتعليل وجودها فتخطر له حكم فلسفية يسبكها في تلك القوالب العجيبة التي تتراءى لنا في أشعاره، لكن أهم ما يستوقفنا في هذه الرسالة التي تحمل عنوان (ملقى السبيل) وبقية أشعار المعري (حرية القول) التي كان يتمتع بها الفرد في تلك الفترة المتقدمة من عمر (المجتمع العربي. لقد كان صدر المجتمع رحباً يتسع لآراء جميع أفراده المتناقضة، وكانت حرية النقاش في الانتقاد مفتوحة لأن المجتمع كان يعترف بحرية الآخر وحقه في النقد والتعبير عن رأيه حتى لو كان مخالفاً للجماعة في الاتجاه السياسي، بل أكثر من ذلك حتى لو قال بعقيدة أو منهج، أو دعا لفكر يخالف عقيدة الجماعة، وفكرها، ولم يكن هناك سجن أو اعتقال أو تكفير أو اغتيال أو ما شابه ذلك حتى نرى المعري يقول بكل حرية:
قد ترامت إلى الفساد البرايا
واستوت في الضلالة الأديانُ
أنا أعمى فكيف أهدي إلى المنهج
والناس كلهم عميان
وإذا كنا نخالف المعري فيما نحا إليه من الضلالة، بل نعتبره ضالاً عندما يقول ذلك.. [SIZE=6]
لكن لا يمكننا إلا أن نعجب بديمقراطية المجتمع العربي وحرية التعبير والقول ومهاجمة الأوضاع السياسية المنحرفة وانتقاد الحكام والأمراء وكل الطبقة الحاكمة حتى نسمع أعرابياً يدخل على أمير العراق (معن بن زائدة) ويقول له:
أتذكر إذ لحافك جلدُ شاة
وإذ نعالك من جلد البعير
فسبحان الذي أعطاك ملكاً
وعلمك المكوث على السرير
فلست مسلماً إن عشت دهراً
على معن بتسليم الأمير
سأرحل عن بلاد أنت فيها
ولو جار الزمان على الفقير
فهل يستطيع اليوم أن يقول أحدنا شبها من هذا ليس إلى أمير أو مسؤول أو.. أو.. بل إلى رئيس دائرة أو ربما لأدنى؟؟!..
http://www.tishreen.info/_cult.asp?FileNam...220050518223551