نقطة ضوء
علامات في الأفق..!!
حسن خضر
-1-
مصر تغلي. وعندما تغلي مصر يحبس اللاعبون الكبار والصغار في المنطقة، وفي العالم، أنفاسهم رهبة، ورغبة. رهبة لأن أحدا من اللاعبين لا يستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه حالة الغليان. ورغبة لأن أحدا منهم لا يملك رفاهية التظاهر بعدم وجود مصلحة في الغليان، أو ضده. وفي الحالتين، كما في جميع الحالات، يبدو الواقع أكثر تعقيدا، رغم أن التاريخ فتح صفحة، وأغلق أخرى.
وما يغلي في مصر لا يتجلى في المتظاهرين، وفي الحكومة، وحسب، بل يتجلى ـ وهذا هو الأهم ـ في الأفكار التي يمثلها هؤلاء:
المعارضة، أو شريحة كبيرة منها، لا تريد بقاء الرئيس في الحكم، والحكومة لا تملك ذريعة قانونية لإرغام المعارضة على التراجع عن موقفها، ولا تملك ذريعة قانونية تنكر على المعارضة حق التعبير عن النفس، رغم أنها قد تعتقل البعض، ورغم أن المعارضة قد تكيل لها الاتهامات.
يبدو الأمر وكأنه يجري في كوكب آخر، لكننا أمام مفصل من أهم مفاصل التاريخ العربي الحديث، فقد تغيّر المزاج العام، وتغيّرت العلاقة بين الحكّام والمحكومين. ورغم أن شيئا لم يحدث على الأرض، بعد، إلا أن علامات كثيرة تلوح في الأفق.
أوّل ما يبرر النظر إلى ما يلوح في الأفق أن الذرائع التي قامت عليها الأنظمة العربية قد نضبت. فلم تعد مسألة الصراع مع عدو في الخارج تحظى بالمصداقية، كما كان عليه الحال قبل نصف قرن من الزمن. فكثير من الأنظمة القائمة ترتبط بعلاقات تحالف قوية مع الولايات المتحدة، وتقيم علاقات سرية، أو علنية مع إسرائيل. وحتى ذريعة العدو في الخارج ترتد على الأنظمة القائمة لأن الغالبية العظمى من الناس تحملها مسؤولية ما آلت إليه الأمور، وترى في تغييرها مدخلا لوقف حالة التردي.
وثاني ما يبرر النظر إلى ما يلوح في الأفق أن الأنظمة القائمة تفتقر إلى هوية أيديولوجية تمكنها من صياغة وظيفتها الاجتماعية، والسياسية، بتعبيرات واضحة. ففي الماضي تذرعت أنظمة مختلفة بالاشتراكية، والتنمية، والعدالة الاجتماعية، والتحديث، لكنها أصبحت، ومنذ عقود قليلة مضت، بلا هوية واضحة، ولم تعد معنية، حتى بالبحث عن ذرائع أيديولوجية تمنحها شرعية داخلية.
وثالث المبررات ما يمكن تسميته بغياب الشبيه، فلم تعد في العالم أنظمة يمكن التشبه بها، وتقليدها، خاصة تلك التي تقوم على حكم الفرد، كما كان الشأن في زمن روسيا السوفياتية، والصين الماوية، وبعض دول أوروبا الشرقية. ولا يبدو أن أحدا في العالم العربي يشعر بإعجاب خاص تجاه النظام الكوري، مثلا.
-2-
لا يدخل الكلام عن المزاج العام في نظرية السياسة، إذ يفضل علماء السياسة الكلام عن تضافر معطيات محلية، وإقليمية، ودولية، لخلق اتجاهات عامة. مهما يكن من أمر، يمكن القول بكثير من الطمأنينة إن المزاج العام في العالم العربي ضد الانقلابات العسكرية، ولذلك لن تعود الانقلابات لحل أزمة العلاقة بين الحكم والمعارضة، كما كان الشأن في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة.
يرجع جانب كبير من كراهية الانقلابات العسكرية إلى الكوارث التي ألحقتها أنظمة العسكريين بالدولة والمجتمع في البلدان العربية. ويرجع جانب آخر منها إلى عدم وجود بيئة إقليمية، ودولية مساعدة، بل العكس صحيح، بقدر ما يتعلّق الأمر بالكلام عن المجتمع المدني، والمعارضة السلمية، والحقوق المكفولة في الدساتير المحلية، ومعاهدات حقوق الإنسان.
وإذا حدث محاولات انقلابية ستقع في بلدان عربية متخلفة من حيث المجتمع والنخب السياسية، وبنية الدولة، وإذا لم تنل مباركة أميركية، بحكم وجود القواعد العسكرية الأميركية فلن بقدر لها النجاح.
ومع ذلك يجب الكلام عن نقطة محددة:
نشأت الأنظمة العربية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل عملية تاريخية مزدوجة تتمثل في المحاولة الأميركية للاستيلاء على ميراث ونفوذ الإمبراطوريتين البريطانية، والفرنسية من ناحية، وفي الصراع بين هؤلاء وقد أصبحوا في معسكر واحد، وبين الاتحاد السوفياتي، والكتلة الاشتراكية.
لكن هذه العملية قد انتهت منذ مطلع التسعينات، وعلاوة على السيطرة الأميركية المطلقة على الشرق الأوسط، خاصة بعد حرب الكويت، ثم الاستيلاء على العراق، هناك محاولة أميركية لإعادة هيكلة الأنظمة العربية، والشرق الأوسط بشكل عام. في سياق هذه المحاولة يدور الآن الكلام عن الإصلاح والتغيير.
-3-
تبدو الأصوليات الإسلامية، خاصة المعتدلة منها، بمثابة الوريث الطبيعي للأنظمة القائمة، ولا ينجم هذا عن قاعدتها الشعبية الكبيرة نسبيا وحسب، بل وعن ميل أطراف مختلفة في الولايات المتحدة، والغرب عموما، إلى فتح حوار معها، والوصول معها إلى مبادئ عامة، تحول دون انفجار العالم العربي بطريقة لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
لكن انتقال الأصوليات من موقع المعارضة إلى موقع الحكم، إذا حدث، أو إلى موقع الشريك السياسي في الحكم، سيرغمها على إحداث تغييرات بنيوية، وأيديولوجية لا تشعر بضرورتها في الوقت الحالي، فهي لا تستطيع إنشاء أنظمة ثيوقراطية من الطراز الإيراني، ولا تملك الخبرة الكافية لتقليد النموذج التركي، أي جمهورية علمانية، وحكومات ذات ميول إسلامية، كما أنها لا تستطيع عدم تحديد موقف من إسرائيل.
لذلك، يشبه وضع الاتجاهات الأصولية والإحيائية العربية في الوقت الحاضر، وضع مختلف الاتجاهات القومية، واليسارية، والإحيائية، بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد الهزيمة في فلسطين. أنظمة وصلت إلى طريق مسدود، فترة اضطراب، وتحوّلات كبرى، تدخل من الخارج، واحتقان في الداخل، وآفاق تنفتح على جميع الاحتمالات.
http://www.al-ayyam.com/znews/site/templat...&Date=5/10/2005