دماء الثواني المتفرقة لجرح الولادة والانتماء تسيل بعشوائية وبغزارة، يسترجع بها لحظاته المتآكلة هنا وهناك، يستذكر رغما عنها ما يريد لنفسه أن تتذكره ويرميها بهوة المصادفة والعبث، يتلاعب بنفسه وبها ويتابع المشهد المكثف عن بعد، إنها ومضات التاريخ في رأسه، ودماؤه التي تجري في عروقه هي مياه الأزل النابض في إيقاعها.
في لجة الوقت يتيه بغمرة الحياة وينسى أن يعيش، يعتقد أنه مازال حي ويفكر بقدَر آخر يتمكن خلاله من التحكم ولو بقدر ضئيل من الثواني التي ضيعت الكثير من عمره مرةً وحسمت أمورا كثيرة دون مشورة؛ ورمته في غياهب العادة والملل ليصير دمية أخرى من دمى المدينة الخشبية المهترئة.
الليل وابتسامة الشفق الراحل يذكرانه بشيء رحل عنه، هجره وتلبس حلة الخوف وراح يعدو خلف أيامه، لا يطلب شيئا وإنما ليبقى خلفه كي لا يراه، ليبقى هاجسا يتلاعب برأسه وداخله، ليحرمه من كل شيء بأنانية اعتيادية في مدينة لا ترغب بإعطاء شيء وترغب بالتهام كل شيء. يمشي دون اهتمام، لا يستهويه شيء، لقد قرف إلى حد اللامبالاة، يعد أحجار الرصيف وينظم خطواته كي يقطع كل ثلاثة معا، يفكر أن طريقه سيكون أقصر إذا نسيه، وهكذا يتابع سيره لا يدري إلى أين يذهب. تتزاحم الأفكار أمام رأسه الرافض استقبالها، يفكر أنه إذا لم يفكر بشيء فإن طريقه سيكون أقصر وبخوف يتذكر أنه لن يستطيع إلا أن يفكر. لحظات من الخواء المحمّل بالألم المختبئ في ثنايا الحروف ونقاطها المرسومة في لوحة ضبابية لا يقدر أن يراها بغير تلك الضبابية المعتمة، تخفف من تراشق الذكريات المحملة على حجارة كبيرة تتساقط فوق سقف حاضره الهش والمتداعي، تريحه قليلا و من ثم تبدأ ارتجاجات الجدران الفراغية تؤلمه وتنخر رأسه...
مزيج من الأصوات يحيط به، يحاصره ضمن حدود لا يستطيع رؤيتها ولكنه يشعر بثقلها الجاثم فوق صدره، يشعر وكأنه صوت هو الأخر يمتد في فضاء لا متناهٍ بطاقة لا تنضب ترسله إلى مكان ما أبعد منه ويتجاوزه. إنها تخرج من حناجر مهروسة، ومن أفواه مجوفة كبوق صغير يفرغ تلك الأجساد من الهواء الذي يملأها لتمتلئ بأخر حتى لا تفنى، "مقابلة عمل جديدة ومذلة جديدة، يلعن الساعة اللي خلّصنا فيها دراسة" تلك الغيوم المبعثرة في السماء والتي تحجب شمسا يحبها في هذا الفصل بالذات، تذكره بعدد المقابلات التي أجراها وبالأعمال التي مارسها وبالأيام الكثيرة التي قضاها هائما دون أن يجد مستقرا له يأويه ويجهّزه لغد لا يموت فيه من جديد. لقد عمل في المطاعم والكافيتريات ومكاتب الشحن والصرافة وحراسة البنوك والمؤسسات الخاصة، لم يوفر شيئا، فقط كي لا يحتاج أحد. من صغره وهو يتنقل من عمل إلى آخر وقد زادت الكتب التي كان يقرأها من عذاباته وتخبطاته، في النهاية وصل إلى مرحلة لم يعد يعرف فيها أين يجد نفسه الممزقة بين مئات الأبواب المفتوحة منها والموصدة، لقد قرف من كل شيء ووصل إلى ما بعد الملل والقرف، إلى اللامبالاة المفرطة في عبثيتها وخوائها، إنه الآن لا ينتمي إلى أي شيء ولا يريد حاليا أن يكون منتميا...
أخبروه أنهم سيتصلون به قريبا. بعد أن خرج من باب المكتب نسيه ونسي المبنى. إنه سيذهب ليرى عملا آخر وليس معه الكثير من الوقت كي يتمنى أو يأمل، يركض مسرعا نحو الرصيف ويبدأ بلهفة لعبته المفضلة حتى يصل إلى موقف الباص. يضيع قدره بين خطوط الحجارة المربعة ويتبعثر أمامه ويلتصق بآثار خطواته لتدهسه أرجل الناس ويستحيل في النهاية إلى غبار يلتصق بشخص آخر يؤمن بالأقدار ويكترث لها....