تمهيد
دور المرأة في المجالات العلمية, والفكر الذكوري.
يبقى للهرمية الذكورية في أغلب مخابر ومراكز البحث العلمية الدور الأهم والمسيطر.
و تتفق البحوث العلمية (محاضرات جامعة باريس7 حول المسألة) بأن المهمات الموكلة للإناث و الهرمية في مخابر البحث العلمي تنبع من خلفيات تفرقة جنسية (أحياناً متوارثة اجتماعياً).
كما تبقى الدراسات العلمية حول مسألة الفروق الجنسية بين المرأة والرجل, نادرة و متطورة بشكل دائم، لذا فإن هناك خطراً كبيراً من استخلاص النتائج النهائية بشكل متسرع، كما يجب التعامل بحذر شديد مع النتائج العلمية أو البحث العلمي في مسائل القدرات المختلفة علمياً بين الذكر و المرأة.
فكثيراً ما نتصور بأن العلم يحمل بين طيات بحوثه "الحقيقة" المطلقة, مما يخالف تماماً تعريفه و مهمته؛ فالعلم هو مجموعة من المعارف لديها هدف محدد و مفهوم و منهجية معينة.
العلم يتطور و يتغير و يتبدل. كما أنه يقوم - و على أساس المعطيات و التجارب- ببلورة نتائج دقيقة و نظريات لتفسيرها, و لكنه يتعارض تماماً مع "الدوغمات" أو المطلقات الدينية و التي بطبيعتها تقدم حقيقة ثابتة و أزلية.
العلم يقوم إذاً باستخلاص نتائج دقيقة حول مسألة ما, و لكنها –أي هذه النتائج- ليست "مطلقة" أبداً, من ناحية أخرى علينا أن نلاحظ بأن المراقب الموضوعي و الحيادي التام (أي الذي لا يتفاعل مع ما يدرسه و يؤثر و يتأثر به) غير موجود على أرض الواقع العملي.
علينا أن نأخذ المحاور التالية في هذا المقال إذاً بحذر و عقلية ناقدة.
أولاً : نظرة تاريخية :
في بداية التاريخ الأمومي (المطرياركي), كان دور الأب معدوماً و لم يُعتبر أن له علاقة مباشرة بالتلقيح أو الإنجاب.
في العصر الأبوي (البطرياركي) , فإن النظرة للأدوار الاجتماعية والجنسية للمرأة والرجل انعكست, فرحم المرأة كان يعتبر مجرد حاضنٍ للحياة و ليس عاملاً مؤثراً بها, فهو مكان لتغذية النطفات , كما رأى ذلك آرسطو, و كما نراه بالقرآن (نطفة فعلقة) ..
بالنسبة لهيبوقراط , فإن هناك نوعين من الأمشاج الجنسية (semences) , الضعيفة /المؤنثة و القوية / المذكرة.
وبالرغم من التطور العلمي في القرنين السابع عشر و الثامن عشر, و مع اكتشاف النطفة و البويضة فإن النظرة للبويضة المغذية للجنين فقط استمرت (يجدر بالذكر هنا الهولندي [size=2]Hantsaker و الذي رسم صورة لـ"هوموكولوس" عام 1694 في النطفة و المسؤولة عن الحياة لديه)
لم تبدأ هذه الفكرة المغلوطة بالاختفاء إلا بعد ظهور الـمجهر "ميكروسكوب" , و في عام 1877 بدأت ملاحظة اختراق النطفة للبويضة , ثم اكتشف في عام 1883 التماثل بين دور البويضة و النطفة في تشكيل نواة الجنين.
هذا مثال بين غيره حول تطور العلم و المرأة و دورها, كما يمكن أن نذكر البحوث التي قامت لدراسة الدماغ لتأكيد تفوق ذكاء الرجل, يجدر بالذكر أيضاً أن نفس الدراسات أجريت على الزنوج لبرهنة تفوق العرق الأبيض !!
ثانياً : العلم و الفروق الجنسية:
من المؤكد أن هناك فروقاً بين الرجل و المرأة, و لو أنه من الصعب التحقق من أهمية هذه الفروق.
هناك إذاً فروق وراثية وهرمونية و ثقافية.
سنبحث هنا بالنوعين الأولين من هذه الفروق للبحث عن أهميتها و دورها .
1- المورثات:
الفرق بين الرجل و المرأة يحدده الزوج الصبغي "الكروموزوم" الثالث والعشرين من الشيفرة الوراثية الإنسانية, فبينما تحتوي الصيغة الصبغية عند المرأة على زوجين من الصبغي
X (أي
XX) فإن الصيغة الصبغية الذكورية تحتوي على الزوج (
XY) . و هو الوحيد المختلف بين الجنسين , رغم أن بقية الصفات الورائية يمكن أن تتصرف بشكل جنسي أو أن تعتمد على الاختلاف الجنسي.
الفرق الوراثي الجنسي يبدأ بتحديد الفروق المظهرية بين الجنسين منذ الأسبوع السابع من حياة الجنين, و لكنه لا يتدخل بعد ذلك , تاركاً المجال للهرمونات و الضغوط الاجتماعية.
2- الهرمونات :
نجد لدي الرجل و المرأة نفس الهرمونات المذكرة (
androgènes) و المؤنثة (
oestrogènes, progestérone) .. فقط كميتهم تختلف بين الجنسين.
لن أدخل في تفاصيل طريقة عمل هذه الهرمونات, ما يهمنا هنا هو أن هناك دوراً للدماغ بإفرازها, و ذلك بإرسال إشارات عصبية للغدد المفرزة. و لكن هذا الدور و إن كان يؤكد على الطابع الجنسي للدماغ, فإنه لا يمكن الاستنتاج منه وجود فروق فكرية أو عقلية بين الجنسين .
ثالثاً : العلم و الجنس / نتائج
هنالك فروق إذاً بين الرجل و المرأة و لكن ما قيمتها العلمية , و ما تأثيرها على القدرات العلمية و العقلية للجنسين؟
الذكر فيزولوجياً أقوى من المرأة بشكل متوسطي و جلده أكثر سماكة , كما أن لديه قدرة أكبر من الناحية التنفسية , بما أنه يمتلك نسبة أكبر من الكريات الحمراء في دمه . و كذلك فإن مفاصل المرأة أكثر ليونة من تلك التي يملكها الرجل.
بعد هذا العرض المختصر , للفروق البيولوجية, لنأتي للأهم و هو الدماغ.
في بداية الأمر فإن بعض الدراسات قامت للتأكيد على تفوق الرجل العقلي بناء على حجم الدماغ (الأكبر لدى الرجل بشكل عام) , و لكننا الآن نعلم بأن حجم و ثقل الدماغ لا علاقة له بالذكاء و القدرات العقلية و التفوق . (أتذكر بأن وزن دماغ أينشتاين ظهر بأنه أقل من المتوسط العام).
و يمكننا القبول حالياً بأن الذكاء لا علاقة له بالجنس.
حالياً فإن التجارب و البحوث العلمية, تتجه نحو دراسة الفروق الوظيفية في الدماغ بين الجنسين, فمثلاً فإن بعضها يبين بأن للرجل قدرات أكبر في النواحي الفضائية و الفراغية (تجارب المكعب ..) , من ناحية أخرى فإن النساء أكثر مهارة في المسائل اللغوية (القواعد , النحو .. ) و يبدو أنهن يمتلكن مرادفات أغنى من الرجال, كما أنهن يتحدثن بطلاقة قبل الذكر. و أنهن قارئات متميزات عن الرجل.
و لكن ...
هذه الدراسات لا تتسم فعلاً بالموضوعية , ففي عام 1988 قامت الباحثتان Jane Hyde و [size=2]Marcia Linn , بإعادة ترجمة تلك البحوث اللغوية , لتكتشفان قلة قيمتها العلمية و عدم جديتها من الناحية الإحصائية و أن الفارق المعتبر بها كان ضئيلاً, كما أن الفروق كانت أكبر قبل عام 1973 , و أن النسبة تزداد عندما كان مجري البحث "امرأة", مما يشكل مؤشراً جديداً على عدم موضوعية مثل هذه التجارب.
البحوث الحديثة أثبتت أن الفوارق العقلية بين الجنسين ضئيلة و مهملة من الناحية الإحصائية (من ناحية "الضجيج الإحصائي"؛ أي ضمن مفهوم رياضي إحصائي يقارن النتائج الإحصائية و نسبها ضمن الفوارق بين التجارب المتعددة و ما يمكن إهماله منها لأسباب اجتماعية أو بتأثير التجربة بحد ذاتها.. الخ)
الفارق النوعي الوحيد الذي نتج عن إعادة الدراسة هو : حساسية الإناث الأكبر للكلمات الموسيقية أو للتجانس اللفظي للكلمات.
من ناحية أخرى اهتمت الأبحاث بالفوارق الفضائية أو بالحساسية الفراغية لدى الذكر, ليستنتجوا بأن السبب هو بأن المخ عند الرجل يفعل جهة واحدة من جهات المخ , بينما تقوم الإناث بتفعيل الجهتين من الدماغ بشكل متساوي, مما يوزع التفعيل و يشتته لدى المرأة ويساهم بتركيزه لدى الرجل.
تفسير ذلك حسب بعض الباحثين ينبع من أسباب مختلفة منها المورفولوجي أو الثقافي أو الوراثي أو الهرموني , العالمين
Lacoste و
Holomay و في عام 1982 أكدا أن السبب مورفولجي , و أنه نابع من المنطقة الرابطة بين نصفي الدماغ والذي يبدو أكثر تطوراً لدى الأنثى.
هذه البحوث الإحصائية لم تستطع أن تثبت ذاتها إحصائياً , و لم تقدر البحوث التالية أن تؤكدها لا سيما أن العينة ضئيلة رقمياً (48 شخص) .
الاستنتاجات الوراثية حول القدرات الاستيعابية الفراغية تم التخلي عنها أيضاً, فالأبحاث منذ عام 1973 و على أفراد من نفس العائلة أكدت العكس . كما أن متلازمة مرض تورنر ( حيث يكون الصبغي الثالث و العشرين مشكل من صبغة واحدة
X) عارضت هذه النتائج.
بقيت الأسباب الهرمونية و الثقافية:
من الناحية الهرمونية فالأمر غير واضح تماماً , فمن المعلوم أن لها دور في التطور الجنيني و ما بعدها و ربما في فترة البلوغ , و لكن ليس من المعلوم عنها الكثير , و يمكن أن نذكر دراسة أجريت على الفئران استنتجت بأن الهرمونات الجنسية المذكرة (التوسترون) تؤثر على عمل للدماغ في فترات متقدمة و على وظيفة بعض مناطقه .. و لكن لا يمكن تعميم هذه النتيجة على الجنس البشري فلسنا فئراناً.
من الناحية الثقافية فيمكن أن نلاحظ بأن الذكور يملكون منذ طفولتهم و يشجعون على امتلاك لعب فيزيائية معينة تساعد على تمرينهم على المقدرات الفراغية و الفضائية , أكثر من الفتيات و اللواتي يشجعن على نوع ما من اللعب أي اللعبات الخفيفة , على أساس أنهن رقيقات و يجب أن يملكن لعباً لفتيات ليمشطن لهن شعرهن !!
الأفكار المسبقة:
لا يجب أن نعتقد بأن ما خلفته السنوات بل القرون من أفكار مسبقة, و من أوهام حول دور المرأة ستلغيه الحضارة و التطور بجرة قلم , أو بين ليلة و ضحاها.
لا بد من الكثير من الوقت و الجهد لمحاربة هذه الأفكار و الأوهام بعقول الأجيال القادمة.
فحتى في القرن التاسع عشر, فإن فرنسا قامت بتشكيل مدرسة خاصة بالنساء و صرح كبارها وقتها بأن المرأة تصلح للتدريس فقط بسبب طبيعتها الفيزيولوجية. و أن هذا هو وضعها الطبيعي.
أفكار مسبقة أخرى :
يعتقد بأن الرجال أكثر قدرة على ممارسة الرياضيات من الفتيات , و هذا خطأ شائع, فاليوم نعلم بأن لا توجد قدرة وراثية خاصة بالرياضيات , و أن المرأة تستطيع اقتحام هذا الميدان بجدارة كما ميدان الشطرنج (أحد أفضل عشرة لاعبي شطرنج اليوم امرأة). لكنها الأفكار المسبقة , فالكثير من الفتيات تقتنع بنهاية الأمر أن هذا ليس مجالهن بسبب الضغط الاجتماعي.
الإحصائيات تقول أنه بفرنسا مثلاً:
نجد 50 بالمائة من الفتيات في الصف العاشر العلمي (الأول الثانوي)، ثم 40 بالمائة بالثاني عشر، و35 بالمائة في البكالوريا (الثالث الثانوي العلمي)، و 17 بالمائة فقط في الصفوف التحضيرية للمدارس العليا في العلوم التطبيقية (رياضيات فيزياء)؛ بعد أن شكل الضغط الاجتماعي عليهن عبئاً حملهن على ترك هذا المجال, لا سيما أنها مجالات صعبة تحتاج لتشجيع طلابها و ليس تثبيط همم.
أذكر أني شاهدت و عرفت فتيات تركن الدراسة بعد سنة فيها بعد أن اقتنعن فعلاً.
[U]
خلاصة
بالنتيجة , فإننا لا نستطيع أن نقول بأنه ليس للجنس أي تأثير على التصرف الإنساني : الاجتماعي و العقلي, و لكن يبدو أنه من غير المجدي و بل من الخطأ أن ندعي أن هناك فروق أساسية و جوهرية بين الرجل و المرأة في المجالات العقلية و العلمية.
يبدو لي - على الأقل - واضحاً أن الأمر لا يعدو أن يكون فوارق في التربية و ضغوطاً اجتماعية دامت عصوراً و قروناً , بدأت تُلغى شيئاً فشيئاً. و لكنها لم تنته بعد.
فها هي ماري كوري الفرنسية تدخل الـ"بانتيوم" الفرنسي كأحد أفضل عالمات و علماء القرن العشرين.
و سيأتي يوم تكون فيه قصة الفروق العلمية بين الجنسين أسطورة من أساطير الأولين , كأسطورة "جلجامش" و "الخل الوفي".
كأسطورة النطفة التي تتغذى على البويضة و تخلق الحياة.
بينما الحياة يخلقها الإنسان بتنوعه العرقي و الجنسي و الثقافي, لا باستبداده الثقافي أو العرقي أو الجنسي.
ربما ستكون هذه القصص التي نحكيها يوماً ما, كقصة مريم التي ما فعلت إلا أن حملت الروح القدس ابن الله .
ربما ستبقى بين سطور التاريخ قصة المرأة التي تدفعها طبيعتها للطاعة و البيت, كما صارت أسطورة تلك التي تتحدث عن الزنجي و طاعته العبودية لسيده الأبيض.
بعض المراجع الفرنسية :
1-"Science et Vie - Numéro 171 : Hors série sur les hommes et les femmes" . Juin 1990.
2-"Du fer dans les épinards et autres idées reçues." Sous la direction de Jean François Bouvet. Seuil.
3-"Pour la science numéro 230. Plus de femmes en sciences." Christine Benard et Etienne Guyon.
4-"La recherche numéro 300. Trop sérieuses les femmes ?" Juillet Août 1997.
5-"Où en est la différences des sexes ?" Renée Dufour. Cycle de conférences "Histoire des femmes" et "Connaissance des institutions". Institut Politique Européen de Formation des Femmes. 22 mars 1994.
6-"Le cerveau a-t-il un sexe ?" Catherine Vidal. Cahier de l'Unesco page 31. Septembre 1995.
7-"Is there a natural sexual inequality of intellect ? A reply to Kunura." Jeffrey Foss. Hypatia Vol. 11, numéro 3, page 24 à 46. Eté 1996.
8-"Dualism in biology : the case of sexe hormones." Marianne Van Den Wijngaard Women's studies international form. Vol 14, numéro 5, page 459 à 471. 1991.
ساعد بكتابة هذا المقال المراجع التالية:
دراسة لجامعة باريس 7
دراسة لمنظمة نسوية فرنسية(Mix-Cité)
طارق القدّاح
http://www.josor.net/article_details.php?t...sid=239&catid=8