خطاب مفتوح الى الرئيس جورج بوش
--------------------------------------------------------------------------------
تاريخ إضافة الموضوع: 11/3/2005
الكاتب:ابراهيم سعده
--------------------------------------------------------------------------------
السيد الرئيس جورج بوش
رئيس الولايات المتحدة الأمريكية..
ما أكثر المناسبات التي انتهزتها سيادة الرئيس الأمريكي لتشيد بما حققته من ديمقراطية، وإصلاحات سياسية، واقتصادية، واجتماعية، في أفغانستان.
وعادة لا تكتفي بهذا التكرار المرة بعد الأخري وإنما كثيرا ما تضيف إليه انتصاراتك المماثلة في العراق، والتأكيد علي أن هذه الإصلاحات كلها ليست نهاية المطاف، لأن الحرب التي تخوضها باسم بلادك الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإرهاب مستمرة، وطويلة..حتي القضاء علي آخر إرهابي، وآخر نظام حاكم في قارات الدنيا الخمس تتهمه أجهزة استخباراتك بتخطيط، وتمويل، وتصدير الإرهاب، وإيواء الإرهابيين.
إن العالم كله تعاطف مع شعبك الأمريكي عندما ضرب الإرهاب الوحشي الأعمي الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر عام2001، الذي أودي بحياة آلاف من الأمريكيين وغير الأمريكيين داخل البرجين الشهيرين بمدينة نيويورك وكان قمة في الوحشية، والتطرف الأعمي.. بأي مقياس من المقاييس الإنسانية المتعارف عليها.
وكلنا أيضا شعرنا بالقلق الشديد علي شخصك، عندما بلغك نبأ الكارثة العظمي وكنت أثناءها بعيدا عن العاصمة الأمريكية واتصل بك نائبك تشيني طالبا منك تغيير مسار طائرة الرئاسة التي كنت علي متنها، وعدم التوجٌه إلي واشنطون، والهبوط في أقرب مطار وانتظار ما يمكن أن يحدث في واشنطون أو غيرها من المدن التي استهدفها الإرهاب الذي لم يكشف حينذاك عن هويته، أو قدراته، أو مخططاته.
***
وحسنا فعلت سيادة الرئيس بوش عندما أخذت بنصيحة نائبك، وسارعت باللجوء إلي مكان آمن، تابعت منه أنباء 'الزلزال' وتوابعه.. وما نتج عنه من ضربات مروعة في مدينتي: نيويورك، وواشنطون.
هذه الكارثة غير المسبوقة التي لحقت بالولايات المتحدة الأمريكية، تعاطفت فيها شعوب العالم مع الشعب الأمريكي، ونددت في الوقت نفسه بالقتلة الإرهابيين، وبالأنظمة التي جندتهم، وموٌلتهم، وخططت لهم.
ليس هذا فقط.. بل إن العالم كله وقف إلي جانب الولايات المتحدة في مطاردتها لتنظيم القاعدة، للقضاء عليه، وعلي قياداته التي أساءت إلي الإسلام والمسلمين كما لم يسيء أحد إليهما في التاريخ المعاصر.. علي الأقل.
وتابع الرأي العام العالمي تطورات حرب الولايات المتحدة وحلفائها.. يوما بعد يوم، إلي أن تم إسقاط نظام حكم 'طالبان'، وتفكيك تنظيم 'القاعدة'، وهروب 'الأشاوس' إلي مخابيء، وكهوف.. بلاد الله لخلق الله، خاصة كبارهم وعلي رأسهم أسامة بن لادن، الذي يكتفي من وقت لآخر بتذكيرنا بأنه مايزال علي قيد الحياة، من خلال أشرطة 'الفيديو' التي تحمل 'تهديداته'، و'تكليفاته'، وتتلقفها القناة التليفزيونية 'إياها' لعرضها، مشاركة من جانبها وبطريقتها في الإساءة إلي سمعة الإسلام، والمسلمين.
لقد تصوٌرت سيادة الرئيس جورج بوش أن نجاحك في القضاء علي معظم لا كل الإرهاب في أفغانستان، يمكن تكراره في دول أخري تشكل حكوماتها في رأيك خطرا علي أمن وسلام الكرة الأرضية.
وبمجرد أن وصلتك 'معلومات' من أجهزة الاستخبارات الأمريكية عن وجود أسلحة 'دمار شامل' في العراق، قررت إسقاط نظام الديكتاتور صدام حسين، وتدمير أسلحته المحرمة.
وتوقعت أن كل الحلفاء التقليديين سيؤيدون قرارك، وسيشاركون في الغزو المسلح لإسقاط نظام صدام حسين. ونسيت أن هؤلاء الحلفاء شاركوا بلادك في الحروب السابقة، ليس بقرار من الإدارة الأمريكية الواحدة بعد الأخري بل كان تنفيذا لقرار أصدره مجلس الأمن باستخدام القوة العسكرية ضد هذا البلد، أو ذاك.
وهكذا.. اختلف الأمر مع الحرب ضد العراق..
إن التخلص من النظام الديكتاتوري، الفاسد، الذي فرضه الرئيس العراقي صدام حسين، كان يمثل أعظم أحلام وآمال الغالبية العظمي من الشعب العراقي، والشعوب العربية. وهناك غالبية تري أن صدام حسين لا يستحق السقوط فقط، وإنما يجب سحله علي الطريقة العراقية عقابا له علي الجرائم، والمذابح، ووحشية السحل التي ارتكبها داخل العراق وخارجه.
ومع إجماع الآراء التي طالبت بإسقاط نظام الحكم الفاشي في بغداد، فإنهم أي أنصار هذا الرأي كانوا يتخوفون علي الشعب العراقي من ويلات، وكوارث، وفظائع، تلك الحرب، في الوقت نفسه نادوا بمزيد من الضغوط الدبلوماسية علي النظام العراقي لعله يرضخ لها، ويقي الشعب مما ينتظره.
وفي حالة فشل الجهود السياسية والدبلوماسية نتيجة جبروت، وعنجهية الديكتاتور العراقي..فلا بأس حينئذ من اللجوء إلي القوة العسكرية بشرط استخدامها تحت المظلة الدولية، وبقرار من مجلس الأمن، بعد اقتناع ممثلي الدول الأعضاء بأدلة وجود أسلحة دمار شامل، يخطط صدام حسين لاستخدامها ضد جيرانه، وداخل أوروبا، ثم عبورا بها للمحيط الأطلسي لضرب الشعب الأمريكي!
لقد بذلت سيادة الرئيس جورج بوش كل ما في استطاعتك لإقناع المجتمع الدولي بهذه التهديدات، دون جدوي. وكم أشفقنا علي وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول عندما فشل في إقناع معظم أعضاء مجلس الأمن بهذه التهديدات، من خلال معلومات أجهزة الاستخبارات التي تؤكد وجود أسلحة الدمار الشامل، ودعمها بخرائط الأقمار الصناعية التي تحدد مواقع تكدسها.. ب 'المتر'، و'السنتي'!
كما تعاطفنا معك عندما صدمت صدمة كبيرة في دولتين، حليفتين، أوروبيتين، كبيرتين فرنسا، وألمانيا تزعمتا معارضة التدخل العسكري لإسقاط النظام الديكتاتوري في بغداد، ليس حبا في صدام حسين، ولكن لعدم وجود دليل واحد، وقوي، ومقنع، علي وجود أسلحة الدمار الشامل التي تزعم أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية تكدسها داخل مخابيء سرية في طول العراق وعرضه!
ولأن الإدارة الأمريكية كانت وقتذاك سعيدة، وراضية، وفخورة، بما حققته في أفغانستان.. فقد جاء الرد الأمريكي علي الرفض الأوروبي شديدا، وقاسيا، ومتطرفا، ضد فرنسا وألمانيا، بصفة خاصة، وباقي الدول الأوروبية.. بصفة عامة.
وسمعنا كبار أعوانك مثل وزير الدفاع.. السيد رامسفيلد يقلل من شأن فرنسا وألمانيا فيصفهما بأنهما تمثلان 'القارة العجوز' التي فات زمانها، وفقدت دورها التأثيري والقيادي..علي المستوي العالمي. ليس هذا فقط.. بل إن أجهزة الإعلام الأمريكية سارعت تلقائيا، أو تنفيذا للتوجيهات بشن حملة عنيفة ضد فرنسا وألمانيا، وطالبت الرأي العام الأمريكي بالامتناع عن تناول الأطعمة الفرنسية، والتوقف عن شراء مشروباتها، وعطورها، إلي جانب مقاطعة المنتجات الألمانية وخاصة الأدوية والسيارات. وهي الحملة الشرسة التي وجدت قبولا، والتزاما من بعض المستهلكين الأمريكيين، كما نجحت وقتذاك في إزعاج المنتجين الأوروبيين، لكنها في الوقت نفسه زادت من حدة الرفض الأوروبي للضغوط الأمريكية.
وواصلت فرنسا وألمانيا سعيهما المشترك لممارسة المزيد من الضغوط علي أعضاء مجلس الأمن لإقناعهم بتأجيل التدخل العسكري إلي حين فشل الجهود الدبلوماسية من جهة، وثبوت وجود أسلحة دمار شامل في العراق.. من جهة أخري.
***
ولتسمح لي سيادة الرئيس بمصارحتك بأن جبهة الرفض الأوروبية، بزعامة فرنسا وألمانيا، كانت أبعد نظرا، وأكثر علما من أجهزة استخباراتك، عندما رفضت مشاركة الولايات المتحدة وبريطانيا في التدخل العسكري الكاسح ضد العراق، بزعم وجود أسلحة دمار شامل لدي الرئيس العراقي 'الهباش'، 'البكاش': صدام حسين.
فما أكثر ما سمعناه، وشاهدناه، وقرأناه، حول مبررات صقور الإدارة الأمريكية لشن الحرب ضد النظام الفاسد الديكتاتوري في بغداد:
سمعنا تحذيراتهم من أن نظام صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل، وأنه أي الرئيس العراقي ينوي استخدام هذه الأسلحة لتدمير الدول المجاورة له، ثم تدمير الأمن العالمي باستهداف العالم الحر في أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية.
ولسوء طالع هذه الصقور.. ثبت فيما بعد أن 'البكٌاش' صدام حسين لم يكن يملك شيئا من أسلحة الدمار الشامل، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بتنظيم 'القاعدة'، وأنه كان قانعا، وهانئا، ومتفاخرا فقط بالجرائم والمذابح التي ارتكبها ضد شعبه، والتهديد بتكرار حشد قواته استعدادا لغزو جارته الكويت، والإصرار علي ضمها إلي داخل حدوده !
هذه الحقيقة لم تكن خافية علي قادة القارة الأوروبية 'العجوز'. وكثيرا ما حاولت فرنسا وألمانيا إقناعكم بها، لعلكم تعيدون النظر في قراركم باستخدام القوة العسكرية في العراق لأن ويلاتها علي الشعب العراقي ستكون فادحة، ولن تحقق للعراق ما يتمناه العالم له، من سلام، وحرية، وديمقراطية.
ولعلك لم تنس سيادة رئيس أقوي وأغني دولة في العالم
المقولة الشهيرة التي قالها الرئيس الفرنسي، وصارت مثلا.. فيما بعد:
'إن الديمقراطية لا تصدٌر إلي الآخرين داخل الحافلات المصفحة'!
ولأنك عزيزي السيد بوش كنت قد قررت بالفعل شن الحرب ضد العراق، فإنك لم تعر نصائح قادة القارة العجوز ما تستحقه من اهتمام، وأصدرت أوامرك ببدء الحرب الصاعقة ضد العراق، وإسقاط نظام حكم رئيسه الديكتاتور، و تدمير أسلحة الدمار الشامل التي يكدسها.
وحققت في غزوك العراق ما لم يكن مفاجأة لأحد..
فالنظام الإرهابي، الديكتاتوري لم يصمد أكثر من 21يوما، هرب خلالها، أو بعدها صدام حسين وقادته، وأشاوسته، وماجداته، إلي كهوف الجبال، وأوكار ما تحت الأرض، ليتساقطوا في أيديكم الواحد بعد الآخر.
***
أعترف أنني كنت سعيدا بهذه النهاية، ومتشفيا في هذا الديكتاتور الذي هرب واختفي في وكر الجرذان، تاركا بلده ونظامه تحت رحمة قوات الاحتلال.
وأعترف أيضا أنني كنت متسرعا عندما صدقت ما كنت تقوله، وقتذاك، عن أن التدخل العسكري سينتهي بعد إسقاط نظام صدام حسين، وتدمير أسلحة الدمار الشامل، وتسليم الحكم والسلطة إلي الشعب العراقي لينعم بالديمقراطية، والأمن، والسلام، والرخاء.. بعد غياب طويل.
ولست في حاجة إلي تذكيرك بما حدث، ومايزال يحدث في العراق.. حتي لحظة كتابة هذه السطور.
فنشرات الأخبار اليومية المقروءة، والمذاعة، والمرئية تتصدرها مشاهد الدمار الشامل الذي عم البلاد، والانفجارات التي لا تتوقف في قلب العراق، شماله وجنوبه، شرقه وغربه، كأبشع ما توصف به حرب أهلية يبتلي بها أي شعب من الشعوب.
وهكذا.. تحوٌل النصر الخاطف، والصاعق خلال أقل من شهر واحد إلي 'كابوس' لم يستطع المواطن العراقي الاستيقاظ منه، رغم مرور الأيام، والشهور، والسنوات.
وليست هناك بادرة أمل واحدة في أن تنصلح الأحوال في المستقبل القريب، خاصة بعد أن انقسمت البلاد إلي فرق، وجماعات، وميليشيات، وطوائف، وعنتريات، وكلها تتصارع مع غيرها.. وكلها أيضا لا تعرف من هو عدوها، ولا إلي من توجٌه ضرباتها!
ولا بأس من التلميح أمامك من بعيد لبعيد بأهوال المذابح، وبشاعة التعذيب، التي ارتكبها عدد من جنود 'العم سام' في البلد الذي جاءوا من أجل تحريره، وطمأنته، وإعادة حقوق الإنسان إلي مواطنيه.. واتضح أن ما ارتكبه بعض الجنود الأمريكيين ضد أفراد من العراقيين كان مشابها لما ارتكبه النظام الديكتاتوري البائد!
وليس خافيا عليك سيادة الرئيس بوش أن استخدام صدام حسين العنف، وممارسة التعذيب، والقتل العشوائي، إلي جانب المقابر الجماعية التي امتلأت بجثث عشرات الآلاف من ضحايا نظام الحكم الديكتاتوري، خلال العهود العديدة الماضية، كان هدفه الأوحد هو تصفية الخصوم، وتأديب المعارضين، ونشر الخوف والهلع في قلوب المواطنين. وهو ما حفظ للعراق وحدة أراضيه، وفرض الضبط والربط في ربوع البلاد نتيجة الخوف والرعب من العقاب.
وعندما نجحت القوات الأمريكية والبريطانية في غزو العراق، وإسقاط نظام حكمه الديكتاتوري، تصورنا أن الشعب العراقي سيسترد أمنه، وسلامه، واحترام حقوقه.
وللأسف.. فوجئنا بالعهد الجديد يخرج 'العفريت من القمقم'.. كما يقولون.
فالخائفون تخلٌصوا من خوفهم..
والسجناء تحرروا من قيودهم..
والحدود المغلقة فتحت أبوابها 'علي الآخر' لاستقبال المرتزقة، والمجاهدين، والإرهابيين من كل الملل، وكل الجنسيات، ليعيثوا في البلاد فسادا، وضربا، وتخريبا، وتفجيرا، وهدما، لكل شيء..وأي شيء، بصرف النظر عن الضحايا الأبرياء الذين استهدفتهم الضربات، أو الذين سقطوا، واحترقوا، لمجرد وجودهم بالصدفة البحتة أثناء انفجارات السيارات المفخخة!
***
وكم من المآسي المبكيات ما يتطلب الاستظراف، والسخرية..
إن أقوي دولة في العالم نجحت في احتلال بلد، وإسقاط نظام حكمه، وتسريح جيشه..في أقل من شهر واحد، لكنهاعجزت بعد ذلك عن توفير الأمن، والسلام، والديمقراطية، وحقوق الإنسان و.. و.. وإلي آخر القائمة التي وعدت سيادة الرئيس جورج بوش بتحقيقها للشعب العراقي، ولم يتحقق معظمها..حتي اليوم!
هناك من يبرر عجز القوات الأمريكية والبريطانية عن وقف هذه المذابح اليومية بكثرة الجماعات والدول التي تمول وتنفذ الحرب الأهلية الدائرة في العراق.
وهناك من يضيف محددا هذه القوي الإرهابية بأنها من مرتزقة 'تنظيم القاعدة'،أو شياطين 'جماعة الزرقاوي'، وصولا إلي عملاء 'دول محور الشر' التي تمنحهم المال، وتزودهم بالسلاح، وتسهٌل لهم التسلل عبر حدودها إلي داخل العراق لممارسة كل جرائم القتل، والحرق، والاختطاف، والتعذيب، وتفجير السيارات المفخخة التي تمزق أجساد الضحايا الأبرياء من العراقيين بلا ذنب فعلوه أو جريمة ارتكبوها!
وهناك أيضا من يرفض تحميل الإرهابيين متعددي الجنسيات مسئولية كل ما يحدث حاليا في العراق.
فمن رأيهم أن القوات الأمريكية مسئولة أيضاعن معاناة العراقيين. فلولا استمرار وجود هذه القوات فوق أرضهم لما وجد الإرهابيون مبررا لمواصلة ارتكاب جرائمهم، ومذابحهم.
ولولا بشاعة الجرائم التي ارتكبها عدد من الجنود الأمريكيين في العراق بطشا بالرجال، واغتصابا للنساء، وتعذيبا للسجناء، وضربا للأطفال، وتشريدا للعائلات، وإذلالا للمواطنين.. لما تضاعف رفض الرأي العام العراقي، والعربي، والعالمي لاستمرار بقاء القوات الأمريكية في العراق مادامت هذه القوات تنتهك أبسط حقوق الإنسان، وهي التي جاءت بزعم إعادتها إليه!
حقيقة أن الإدارة الأمريكية لم تسكت علي هذه الجرائم، وأمرت بالتحقيق مع مرتكبيها، وتوقيع العقوبة عليهم وفقا للقانون، ولكن الضرر الذي أحدثته هذه الممارسات أصبح من الصعب تجاهله، أو التسامح فيه.. اليوم أو في الغد القريب.
***
لعلك توافقني سيادة الرئيس بوش أنه ليس مهما تحديد هوية الإرهابيين، والكشف عن الدول والمنظمات والجماعات التي تقف وراءهم.. لأن المهم بالنسبة للمواطن العراقي أن تتوقف هذه المذابح فورا، ويفرض الضبط والربط في ربوع البلاد، ويعود للقانون احترامه. وإذ لم يحدث هذا.. فإن الشعب العراقي الذي صفق وهلل للتخلص من حكم الطاغوت، لابد أن يقارن بين ماض بشع وحاضر لا يقل بشاعة.. وبين نظام ديكتاتوري سابق ملأ القلوب بالخوف والرعب، وبين نظام ديمقراطي حالي يعاني من ويلات الحرب الأهلية، المشتعلة في كل مكان، وتهدد بتقسيم البلاد إلي دويلات، وإقطاعيات، وجماعات إرهابية، وعصابات إجرامية !
من حق كل عراقي أن يخاف، ويقلق، مما يمكن أن يحدث في بلده.. خاصة بعد أن سقطت البلاد في مستنقع الحرب الأهلية، وعجزت قوات الأمن وقوات الاحتلال من خلفها.. عن فرض الضبط والربط في العراق، وتركته الآن ومنذ فترة طويلة ماضية 'سداحا مداحا'.. لكل مغامر، وكل متطرف، وكل مرتزق، وكل حالم بالهبش، والنهب، وفرض حكم الغاب في الشارع، والحي، والقرية؟!
***
السيد الرئيس جورج بوش
كلنا نقر، ونعترف، بأنك عازم علي نشر الديمقراطية، والإصلاح السياسي، والاقتصادي، والثقافي، في مناطق العالم التي تتصوٌر أنها مهددة بالسقوط بين أيدي المتطرفين، أو تعتبرها مصدرة للإرهاب والإرهابيين.
آخر مرة أكدت، وكررت، فيها هذا العزم، وهذا الحسم.. كان يوم الثلاثاء الماضي عندما ألقيت خطابك المهم أمام جامعة الدفاع الوطني، وخصصت معظم فقراته لاستعراض نتائج ومستقبل 'الحرب ضد الإرهاب' التي فرضت نفسها علي الإدارة الأمريكية منذ كارثة11سبتمبر 2001، وحتي اليوم.
لقد رحبت مشكورا بما يحدث حاليا في بعض دول الشرق الأوسط من خطوات إصلاحية عديدة.
فمثلا..
سمعناك تشيد بالإصلاح السياسي الذي تحقق في مصر عندما دعا الرئيس حسني مبارك إلي تعديل الدستور، بحيث يسمح بتعدد المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية، بالانتخاب المباشر والسري. وقلت تعليقا علي تلك الخطوة الإصلاحية المصرية:
'إن لدي مصر الآن إمكانية إجراء انتخابات تنافسية، وتعددية، علي منصب الرئيس. ومثل هذه الانتخابات الحرة تتطلب حرية الاجتماعات، وتعدد المرشحين، وحرية استخدام المرشحين لوسائل الإعلام، وحق تشكيل أحزاب سياسية'.
وكل ما حددته سيادة الرئيس من إصلاحات سياسية تواكب قرار التعددية التنافسية علي منصب رئيس الجمهورية هو ما تحقق بالفعل في مصر، وقبل سنوات عديدة ماضية.
لدينا العديد من الأحزاب السياسية.. التي تعقد اجتماعاتها، وندواتها، وتصدر صحفها، ويعترض نوابها تحت قبة البرلمان علي ما لا يوافقون عليه من سياسات وقرارات الحكومة.
ولدينا حرية صحافة لا تقل في تصوري عن حرية الصحافة في أكبر الديمقراطيات العالمية في أوروبا أو أمريكا. وإذا لم تصدق ياسيادة الرئيس فأرجو أن تطلب ترجمة بعض ما يكتب في الصحف القومية، والحزبية، والمستقلة..فربما تغير رأيك في صحافتنا، وإعلامنا، وحرية أقلامنا.
ومن المؤكد أن أجهزة الإعلام المصرية سوف تحرص علي تخصيص مساحات واسعة لتغطية برامج المتنافسين علي منصب رئيس الجمهورية.. التزاما من جانب أجهزة الإعلام بحق المواطن في المعرفة، والاطلاع علي ما يطرحه كل مرشح من آراء، وأفكار، وحلول لكل أو بعض الأزمات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وغيرها.
***
معني هذا أن كل البديهيات الإصلاحية التي تفضلت سيادة الرئيس بوش بتنبيهنا إليها نتفق معك عليها، وننبهك بدورنا إلي أننا أخذنا بها بالفعل منذ زمن طويل.
وليس هذا نهاية المطاف بالنسبة لإصلاحاتنا.. فالقائمة طويلة، وممتدة، وجاء قرار الرئيس حسني مبارك بتعديل مادة في الدستور ليعطي دفعة قوية، غير مسبوقة، لتعديل العديد من مواد الدستور الأخري التي فات زمانها، ولم تعد تتماشي مع ما نطبقه حاليا من قوانين وقرارات : سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وتعليمية، وثقافية.
ولأننا لم نبدأ من فراغ.. فإن ما ننتظره من تعديلات، وتغييرات، يصعب كثيرا الأخذ بها كلها في يوم وليلة، ويفضل تحقيقه علي مراحل يحددها الحوار الدائر، والمستمر، بين أحزابنا السياسية.. علي ضوء ما يتفق عليه ممثلو تلك الأحزاب.
السيد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية..
آسف علي الإطالة. وكنت أتمني أن أزيد وأعيد خاصة أن لدينا في مصر الكثير جدا من الملاحظات علي الجديد الذي طرأ علي العلاقات الثنائية التي تربطنا بالولايات المتحدة الأمريكية.
لأسباب عديدة نعرف بعضها، ونجهل بعضها الآخر دأبت بعض أجهزة الإعلام الأمريكية وخاصة كبريات صحفها الأوسع انتشارا والأكثر تأثيرا علي نشر وإذاعة وعرض الكثير من الأكاذيب، والافتراءات، ضد مصر، ومواقفها، وسياساتها، وإصلاحاتها.
والمدهش أن العديد من أعضاء الكونجرس يتلقفون هذه الافتراءات كلها، ليضيفوا إليها، ويجمعوا الأصوات لطرحها علي المجلس، تمهيدا لإصدار بيانات، أو توصيات، أو قرارات.. أقل ما يقال فيها أنها تؤثر سلبيا علي العلاقات القوية التي كانت وما تزال تربط بين البلدين الصديقين.
وليس سرا أن جهة معروفة في واشنطون تتولي ترجمة ما ينشر في الصحافة المصرية، وتختار منها سطورا مبتورة من هنا، وسطورا غير مفهومة من هناك، بحيث تحقق لهذه الجهة دليلا علي أن الصحافة المصرية متفرغة للإساءة إلي الولايات المتحدة، ولا تنشر إلاٌ كل ما يسيء إليها، وإلي إدارتها، وإلي رئيسها. وتقوم هذه الجهة التي تسعي إلي إحداث التوتر في العلاقات بين البلدين، بتوزيع ما اختارته وترجمته من الصحف المصرية وتجد فيه إساءة إلي الولايات المتحدة علي جميع أعضاء الكونجرس، وقيادات الإدارة الأمريكية.. لتعطي لهم صورة مشوهة لما يقال، ويكتب، في الإعلام المصري. والأخطر من ذلك أن معظم القيادات الأمريكية يعتقدون أن الصحافة المصرية ليست حرة، وإنما تفرض الحكومة المصرية علي أصحاب الأقلام فيها ما يكتبون، وينشرون!
ما من مرة زار فيها الرئيس حسني مبارك العاصمة الأمريكية واشنطون إلاٌ عرضوا عليه نماذج مما نشرته الصحف المصرية، من نقد مشروع للسياسة الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وما يجري في العراق، ويتساءلون عما إذا كان هذا هو رأي الصحافة المصرية، أم هو رأي الحكومة المصرية التي تملي علي صحفها ما تراه؟!
إن المشكلة مع بعض من يحيطون بك يا سيادة الرئيس إنهم يتصورون أن الصحافة المصرية تخضع لرقابة الحكومة، ولا تنشر كلمة إلاٌ بتوجيهاتها، وتعليماتها، وموافقتها المسبقة عليها!
كأن الصحافة الأمريكية وحدها التي تتمتع بحرية أقلامها، أما الصحافة المصرية فلا تتمتع بها، وإذا كتبت نقدا مشروعا، وموضوعيا، للسياسة الأمريكية.. فلابد أن تكون مجبرة، ومضطرة، بأوامر عليا تتلقاها من الحكومة!
والطريف ياسيادة الرئيس أن ما يكتب في الصحف الأوروبية من نقد جارح، وإساءات بالغة للسياسة الأمريكية، والرئيس الأمريكي، أضعاف أضعاف ما تنشره الصحف المصرية أو الصحف العربية، ورغم ذلك لم نسمع أن أعضاء في الكونجرس، أو وزراء في الإدارة الأمريكية.. غضبوا مما ينشر، أو اتهموا أصحاب الأقلام الأوروبيين بأنهم لسان حال حكوماتهم، أو من المتعاطفين مع تنظيم القاعدة، وعصابة الزرقاوي!
إن الحكومة المصرية عندما يعن لها رأي مخالف لرأي دولة أخري، فإنها لا تتردد في إعلانه بلسان من يمثلها. فهي أي الحكومة المصرية ليست في حاجة إلي تكليف أحد الكتاب الصحفيين ليكتب رأيها، أو يوجه نقدا نيابة عنها!
والدليل علي ذلك سيادة الرئيس أن السيد أحمد أبو الغيط وزير الخارجية أدلي بحديث إلي إحدي الصحف الأمريكية أمس الأول أعرب فيه عن استيائه من التقارير التي نشرت حول تأجيل زيارة كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية إلي القاهرة، بسبب مايسمي ببطء وتيرة الإصلاحات في مصر! وأضاف أحمد أبوالغيط قائلا: 'إن الشعب المصري يرفض الوصاية، وهو وحده الذي سيحدد وتيرة الإصلاحات في مصر'. والأهم من ذلك ما قاله وزير الخارجية المصري حول 'هوجة' الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير، فتساءل:
'ماهي الديمقراطية التي تتحدثون عنها في العراق؟ القنابل تتفجر في كل مكان، والعراقيون يقتلون كل يوم في الشوارع'.
وأنهي وزير الخارجية المصرية أحمد أبو الغيط حديثه محذرا من أن 'الضغوط الأمريكية علي سوريا ولبنان يمكن أن تؤدي إلي حدوث فوضي في لبنان'.
كلمات واضحة، قوية، وتحمل نقدا موضوعيا ورسميا لما يقال ويتردد في الولايات المتحدة في هذه الأيام عن ديمقراطية دول الشرق الأوسط الكبير.
وهذا ما يؤكد سيادة الرئيس بوش أن الرأي الرسمي للحكومة المصرية يقال علنا، وبلسان وزير الخارجية.. وليس من خلال 'توجيه' أو 'تكليف' حكومي للكتاب الصحفيين!
***
مرة أخري.. أعتذر عن الإطالة. مع أطيب التحيات والتمنيات.
إبراهيم سعدة
http://www.akhbarelyom.org.eg/homepage/ibs...2&articleid=399