سقى الله أيام الطرطيرات
منذ ستة أشهر وأنا أبحث عن سيارة , ولأن السيارة في سوريا شيء عجيب فعلى المواطن أن يبذل جهوداً كبيرة وأن يمضي زمناً طويلاً في جمع الإشاعات والتقولات والمصطلحات في سوق السيارات العجائبي .
فالبحث عن سيارة أشبه ما يكون بالبحث عن مفقود لدى المافيا , فمهما تبدلت الأمور والتصريحات والقوانين تظل المافيا هي المسيطرة وكأن كل ما يقوله المسؤولون والمدراء عبارة عن خدمات لدعم جناح في مافيا السيارات ضد جناح آخر فيها .
فجأة يقولون لك صرح مدير الجمارك في إحدى الصحف المحلية أن السيارات ستنخفض جماركها 30% وهي غالية في بلادنا - الحمد لله أنه اعترف بالحقيقة - فتؤجل الشراء حتى يصدر وعد المدير ولكن السيد وزير المالية وبعد شهر يتعجب ببراءة ويقول أننا لم نقرر ذلك فتهب الأسعار أكثر مما كانت عليه, وفوقها يغيرون أشياء غامضة لا يفهمها المواطن فتصبح التسعيرة الرسمية أعلى من قبل .... السيارات ارتفعت مجدداً ولا تستطيع أن تسأل مدير الجمارك لماذا صرح بذلك , ولا أن تسأل وزير المالية لماذا أخجل الرجل , خاصة وأن الوزير أعلى من مدير الجمارك وهو عضو في القيادة القطرية وبالتالي كلامه أقدر على رفع أسعار السيارات من مدير الجمارك الذي لم يراع المقامات على ما يبدو , والمقامات بدورها لا تحب أن تتعامل مع المواطن إلا بتجاهل كامل لتزيد هيبتها وتكبر سطوتها وتصبح اسطورية علينا !!!
لم أسمع كلام الناس ولا كلام المسؤولين الذين يزيدون نار الأسعار لصالح التجار بحجة أننا بعون الله ماشين إلى اقتصاد السوق بعد أربعين سنة اشتراكية وتهديد ووعيد لكل من يعادي النظام الاشتراكي أو ينتقده بكلمة واحدة أو حتى بربع كلمة !!
أصررت على البحث في أسواق السيارات وقضيت حتى تاريخه ستة أشهر مقابل ثلاث ساعات يقضيها أي مواطن في العالم لشراء سيارة طبعاً ليس في اليابان بل في لبنان والأردن والسعودية والعراق المحتل وتركيا وقبرص وافريقيا جنوب الصحراء!!!
وخلال بحثي رأيت الأشياء العجيبة في سوق يستنزف من السوريين مئات الملايين شهرياً والمسؤولون لا يدرون ولا يريدون أن يدروا أي شيء عن مافيات السيارات لأنهم في الحقيقة منسجمون مع هذا التشليح العلني لمدخرات المواطنين , وإلا ما معنى القرارات تلو القرارات لتخفيض الأسعار والجمارك فترتفع الأسعار!!!
أو ما معنى أن يتكلم مدير عام الجمارك كلاماً يعاكسه فيه وزير المالية بعد شهر , هل هذا انسجام حكومي من أجل مصلحة المواطن أم غموض إيجابي لصالح مافيات السيارات !
ما معنى أن نجد وكيلاً واحداً لمعظم الماركات العالمية الشهيرة يحتل نصف طريق عام دمشق- حلب بمبانيه وإعلاناته , وانه الوكيل الحصري المعتمد !!
ما معنى أن تدخل السوق السورية سيارات من ماركات تتطلب نقلها من الوكالة إلى المنطقة الصناعية مباشرة أو بعد أيام ؟!
ما معنى أن تمتلئ المجلات الإعلانية بإعلانات تبيع السيارات المستعملة من موديل 1967 و جر، وكلها منفوضة وخالية العلام!!
ما معنى أن تكون مكاتب السيارات في مناطق الجزيرة السورية عبارة عن مصارف للربا الفاحش أو ما يسمى سيارات (السد) حيث يضطر المزارع للاقتراض منهم بربح يصل إلى 40% سنوياً مما أدى إلى رهن معظم الملكيات الزراعية وغيرها؟!
هل هذا هو الإصلاح المصرفي الذي يطنطن به المدراء ومعاوني المدراء ومنافقي المدراء وحاشيتهم الجليلة!!
تعالوا إلى الجزيرة السورية وشاهدوا البنوك التي تتقنع بقناع بيع السيارات وكيف تنهب مئات ملايين الليرات من المزارعين ومن الناس تحت شعار بيع سيارة سد!!
السيارة ليست رفاهية وإنما هي ضرورية للعمل وحسن إنجازه , فأنا مهندس لا أستطيع شراء سيارة معقولة بعد عشرين سنة تخرج , لأن مافيات السيارات ترضع من جيوب المواطنين وبرضا المسؤولين وفي أحسن الأحوال في ظل صمتهم المريب !!
صحيح أن شبكة الخليوي تسببت بالكثير من القهر والإزعاج للناس لكنها مع ذلك حسنت من أداء العمل وأعطت مرونة لصاحب العمل وللحرفي وللمسافر وللسائح , أما احتكار السيارة بهذا الشكل الذي صار مخجلاً , فهو عقبة أمام العمل وحسن سيره وأداءه وهو هدر للسيولة بين أيدي الناس , وتوجه نحو استثمار خدمي لا ينبغي أن تكرس فيه كل هذه المليارات التي نشكي ونبكي للمغتربين من أجل أن يأتوا إلينا بها من أجل أن يهدروها لشراء سيارة بثلاثة أضعاف ثمنها وربما خمسة أضعاف ثمنها الحقيقي !!
نعم لقد تخلصنا من زمن الطرطيرات )الطريزينات) التي كانت تملأ سورية , لكننا الآن نعيش زمن السيارة التي بالكاد تجر نفسها وهي تشر شر الزيت ولا يعرف أحد قطعها إلا بعض المسؤولين المستفيدين من جلب الزبالة وتكويمها في بلادنا!!
سقى الله أيام الطرطيرات التي كانت تملأ أريافنا ومدننا الصغيرة في الثمانينات , كانت واضحة وصريحة في تخلفها ورخيصة بثمنها الذي لا يزيد عن ما يعادل ألف دولار , أما الآن وبعد انحسار هذه الموجة من حيث الشكل وبقاءها من حيث المضمون , فالسيارات الرديئة ذات منظر جميل وفيها نظرياً كل المواصفات الفنية لكنها مثل كثير من مسؤولينا الذين يركبون أحلى السيارات ويدعون أنهم يحملون أعلى الشهادات وكثير منهم يحمل لقب مخضرم في المجال الإعلامي أوالإقتصادي أو غيره , ولكن أداؤه الحقيقي مثل أداء الطرطيرات لأنه ترفع وكبر في زمن انتشارها!!
وما أزمة اغتيال الشهيد الحريري التي هزتنا جميعاً إلا مثال عن أداء إعلاميينا الرسميين الذين بدوا في دفاعهم عن بلدنا بلا أي امكانات ولا أي معلومات ولا أي قدرة على وعي متغيرات العالم , ولا تعرف وأنت تتفرج عليهم هل تضحك أم تبكي أم تشعر بالقرف من هذا الأداء الطرطيري أمام الأداء المعاكس المزود بالمعلومة وبالثقافة الذاتية وبالمرونة العقلية ويجبر المشاهدين على التعاطف معه رغم معرفتهم أنه يلوي عنق الحقيقة لمصلحته وعلى حساب مصلحة بلادنا التي يدافع عنها مسؤول من طراز طرطيري عتيق !!
ولابد من سماع تأكيدات أحد الذين يخططون مستقبلنا ومستقبل أولادنا وهو رئيس هيئة تخطيط الدولة الذي يعدنا أن السيارات ستنخفض أسعارها في الخطة الخمسية القادمة مع غيرها من السلع بسبب توقيعنا على عدد من الاتفاقات مع الدول الأخرى , أي ليس الأمر تيسيراً للمواطن وأعماله وإنما بسبب وساطة الدول الأخرى لنا عند المسؤولين , وهذا ما أعلنته الصحف مرات متكررة من أن السيارات ستنخفض إذا وقع الأوربيون بشكل رسمي الاتفاق أما إذا غضبوا - لا سمح الله - فالويل والثبور لنا !!!
ورغم إننا لا نثق كثيراً بمصطلح الخطط الخمسية التي خلقت أباطرة من المسؤولين ومن أبنائهم وأوصلت أبناءنا إلى أن يعملوا زبالين في لبنان وغير لبنان من أجل أن يؤمنوا لأولاد المسؤولين وسماسرتهم سيارات همر ومرسيدس وأودي وغيرها , لكننا مع ذلك سننتظر وعود الخطة الخمسية القادمة ورضا الله ورضا الأوربيين علينا ليوقعوا اتفاقهم معنا الذي سيفك أسر السيارات من أيدي مسؤولينا وسماسرتهم !!
وفي الختام لا بد لي من أن أبدي إعجابي بسيارة بيجو موديل 1975 تقف على رصيف المصرف التجاري السوري بدمشق وأسأل السيد مدير المصرف التجاري السوري الذي نتعاطف معه ضد الحملة الأمريكية على المصرف !! نسأل السيد المدير إن كانت السيارة الفتية خالية العلام! فأرجو أن يبيعني إياها لسببين :
- أولهما لأنني شاهدتها(خلال زيارتي لدمشق قبل شهر) واقفة أربعة وعشرين ساعة على الرصيف الداخلي للمصرف وبدا الغبار متراكماً عليها مما يدل على أن المصرف ليس بحاجة إليها
-ثانيهما لأن لسيارة البيجو في بلادنا مجد عريق , ففي السبعينيات ذهب أحد بلدياتنا إلى فرنسا وعندما عاد سأله الناس عن أعجب شيء رآه في فرنسا , فلم يقل برج إيفل أو الشانزلزيه أو بوابة النصر إنما قال أعجبه الشعب الفرنسي !
- لماذا؟
- لأنهم كلهم مسؤولون بالحزب
- كيف عرفت؟
- لأنهم لا يركبون إلا سيارات البيجو!!!.
syria-news.com
|