قبل ثلاث سنوات التقيت الشاعر (السعودي) علي الدميني في قطر، وكنّا مدعوين للمشاركة في مهرجان الدوحة الثقافي الثاني.
عرفت عليّاً شاعراً قبل أن التقيه ـ صدرت له مجموعتان هما: رياح المواقع، وبياض الأزمنة، ولكنه فاجأني بإهدائي روايته الأولي وعنوانها (الغيمة الرصاصية)، وكتب لي إهداء يقول: أهديك الغيمة الرصاصية، مليئةً بالأحلام المجهضة، والبريق البعيد...
تكلّمنا عن الصديق الشاعر فوّاز عيد الذي علّم لسنوات في (السعودية)، ثمّ افترقنا بعد أيّام علي وعد أن نلتقي، ولكننا لم نلتق...
علي الدميني نزيل أحد السجون في السعودية، تهمته أنه يطالب بحكم ملكي دستوري، بأسلوب سياسي، بعيداً عن العنف، أو التحريض علي العنف.
رواية علي الدميني (الغيمة الرصاصية: أطراف من سيرة سهل الجبلي) تدور في أجواء بوليسية خانقة، كافكاوية.
بطل الرواية سهل الجبلي موظف بنك، كاتب يؤلّف رواية، ملاحق من البوليس، متورّط مع قبيلة كتب عنها ما لا يسّرها، يجري اختطافه والتحقيق معه من القبيلة التي أساء لها والتي تطالبه بالاعتذار.
سجن سهل الجبلي ، كما تعلمنا زوجته التي تجهل مكان سجنه واختفائه: كانت الدقائق تمر بثقلها المعدني علي ليلتي وأنا أنتظر عودته. وحينما تجاوزت الواحدة قرّ في خاطري يقين يدّق بلا توقّف: لقد حدث له شيء خطير، فلا يمكن أن يتأخّر هكذا بدون اتصال.
في الرواية تبحث الزوجة عن زوجها المختفي، في المستشفيات، عند الأصدقاء، وأخيراً يخبرها زميل له في العمل (البنك) أنه خرج مع (زبون) طلب قرضاً، ليطّلع علي قدرة ذلك الزبون علي تسديد القرض، وأنه لم يعد...
سهل الجبلي اعتقل من قبل، والزوجة تتذكر كيف داهم رجال الشرطة البيت واقتادوه معهم: حملوا الكثير من الكتب والأشرطة ومضوا به في الثانية ظهراً بعد أن تعلّق به الصغير حتي البكاء، فسحبته من بين يديه، وسألتهم: متي يعود؟ فقال المسؤول: قريباً، وأعطاني أرقام هواتف عمله للاستفسار عنه، وأوصاني بألاّ أبلّغ أحداً بما حدث...
وإذ تتصل الزوجة بالمسؤول لا يرد عليها بحجّة أنه خارج المكتب، والذي يجيب يخبرها بالقطع أن أحداً باسم زوجها غير موجود عندهم!...
أساليب سجون عربية ! ممارسات سلطات عربية متشابهة مستنسخة...
الغيمة الرصاصية تغطّي سماء الوطن العربي من محيطه إلي خليجه، تكتم الأنفاس، تسد سبل رؤية سماء الله، تحرم الطير من التحليق، تهججه من سماء بلا نور، بلا شمس، بلا نسمة هواء...
الغيمة الرصاصية تكتم غناء الشاعر علي الدميني، تدحر حلمه بعيداً، تسّد برصاصها الكثيف الثقيل أي فتق في السماء يتيح لخيط نور أن يتسرّب...
رواية كابوسية كاتمة للأنفاس، مرهقة، مرعبة، ينوس فيها الشاعر الكاتب المثقف الإنسان بين القبيلة والأجهزة البوليسية محزوناً مكلوماً مقهوراً، تتلاعب به شروط حياتيه بشعة لا رحمة فيها ولا مجال للجدل أو التفكير...
في السجن صار سهل الجبلي رقماً، لم يعد له اسم بشري، إنه الرقم (139). لقد تمّ مسخه، إلغاء إنسانيته، وأده. هذا هو السجن العربي، وهذه مشيئة السجّان !...
يطالب علي الدميني بإصلاح سياسي دون عنف، فهو لايحمل قنبلة في يده،لا يلغّم جسده بغير الغضب، لا يحرّض علي حمل السلاح، بل هو صاحب قلم وفكر ورأي، ومع ذلك يزّج به في السجن ـ مع زملائه الذين مثله يطالبون بحكم ملكي دستوري بوسائل شرعيّة معلنة ـ وينسي في عتمة السجن ...
من الذي يصنع الإرهاب في بلاد العرب إن لم تكن هذه الممارسات؟ ممارسات سلط ترفض الحوار بالتي هي أحسن، الحوار المعلن الذي لا يستقوي بدعم خارجي، وإنما دافعه حاجة للإصلاح والتغيير وحرص داخلي علي الوطن ومواطنيه المذلين المهانين، وانفتاح علي مستقبل لجميع أبناء وبنات الوطن الواحد، يعيشون أحراراً علي ثراه، يبنونه معاً، ثرواته لمنفعتهم جميعاً لا للتكديس أرقاماً في البنوك؟!
علي الدميني في سجن ما، هناك، هو واحد منّا، يحّق لنا أن نفخر به، فهو المثقف المبدع الذي عرف دوره ورسالته، وها هو يدفع الثمن عن طيب خاطر، بشرف وكبرياء...
لم ينتظر علي الدميني أن يمّن (جورج بوش) علي وطنه بالحريّة، وأن يرسم وينعم عليه ببركات الديمقراطية الأمريكية، لأن عليّاً هو ابن الجزيرة العربية التي غيّرت مجري التاريخ الإنساني ذات يوم عظيم، والتي علي ثراها وجد من أطلق صيحة الحريّة والكرامة الإنسانية: متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً..
علي الدميني رغم إجهاض الأحلام ما زال يحلم بضياء نجم بعيد يقترب مع كل صرخة حريّة في وجه الطغيان.
يا علي الدميني: نحن معك، ولن ننساك. سنقرأ قصائدك، وروايتك، وسنحفظ اسمك دائماً، فأنت تعلي من شأن المثقف العربي، وأنت بالكلمة الصادقة تجابه التخلّف والجور...