كتاب "أزمة الحضارة العربية في أدب عبدالرحمن منيف" كتاب أقرأه هذه الأيام بمتعة كبيرة وهو كتاب في النقد الإجتماعي ينطلق المؤلف من مواضيع علم الإجتماع الحميمة لدراسة أدب الروائي الراحل عبدالرحمن منيف قراءة سوسيولوجية ويظهر تلك المشكلات الحضارية عند العرب التي دار حولها أدب منيف .
وهذه مقالة لعمر كوش نشرها تعريفا ومراجعة للكتاب :
تنفتح روايات عبد الرحمن منيف على عالم قائم، يتجسد في بنية ما، لها مقوّماتها وتمثيلاتها، ويمكن للباحث الاجتماعي دراسة أحوال العيش، كالطعام والشراب واللباس، في العالم الروائي، وقراءة مختلف تفاصيل هذا المجتمع، من خلال الوقوف على تاريخية النص الأدبي، أو مقابلته بالتاريخ، خصوصاً وأن روايات عبد الرحمن منيف تنهل من التاريخ، وتبني تاريخها الخاص.
وقد روى عبد الرحمن منيف "التاريخ" في نصوصه الروائية العديدة، واستطاع أن يبني فضاء، تتحرك فيه الأزمة التي تعصف ببلدان شرق المتوسط وجنوبه. وفي هذا السياق يلجأ صالح ابراهيم في كتابه "أزمة الحضارة العربية في أدب عبد الرحمن منيف" (المركز الثقافي العربي، بيروت، 2004) الى اتباع المنهج الاجتماعي لدراسة فضاء الأزمة الحضارية التي جسّدتها روايات عبد الرحمن منيف، منطلقاً من اعتبار أن دراسة "الحضارة" يجب أن تبدأ أولاً، بدراسة وعائها الزماني والمكاني، حيث يأخذ هذا الوعاء أهمية مضاعفة حين يطرق باب الحضارة في الرواية، من جهة كونه عاملاً مهماً من عوالمها، وفضاء تتحرك الأزمة فيه.
وتتخذ روايات عبد الرحمن منيف متن الدراسة، خصوصاً مدن الملح وأرض السواد وشرق المتوسط وسباق المسافات الطويلة والأشجار واغتيال مرزوق والنهايات وقصة حب مجوسية، حيث يتم الارتكاز عليها لدراسة مقوّمات الأزمة الحضارية، بدءاً بالأزمة الاجتماعية المتجسّدة في بنية المجتمع وشؤون المرأة والدين، ومروراً بالأزمة السياسية والإدارية من خلال استعراض نظام الحكم والمؤسسات الإدارية، ووصولاً الى الأزمة الاقتصادية وعلاقاتها بالنفط وتجلياتها المالية والتجارية، وانتهاء بالأزمة الفكرية والثقافية من خلال تناول قضايا الاستشراق والتفاعل الحضاري والعلم والأدب والفن.
وتبرز الأزمة الاجتماعية في روايات عبد الرحمن منيف بواسطة تركيزه على ظواهر اجتماعية وأنماط محددة من العلاقات المتشابكة بين مختلف الفئات الاجتماعية، وتظهر حدّتها في القمع والاستبداد ووضع المرأة واتساع الهوة ما بين الأغنياء والفقراء، حيث يعيش الفقراء في أسوأ الأوضاع، وهم في حالة ثبات كلي، إذ "في هذه الدنيا كل شيء يتغير إلا الفقر والفقراء. الفقر يبقى والفقراء يزدادون"، الأمر الذي يفضي الى أن الحراك الاجتماعي هو حراك هابط. في المقابل تظهر أعماله ازدياد سطوة ونفوذ الأغنياء الى درجة سيطرتهم الكاملة على الثروات ومراكز القرار، وازدياد تسلطهم واستقوائهم على الفقراء. كذلك فإن أحوال العيش تعبر عن خلل واضح في الانتماء، وفي وعي الذات الجماعية، إضافة الى إشكالية معنى التواصل والاستمرارية ما بين الأمس واليوم والغد.
المستضعفون
في كل ذلك انحاز عبد الرحمن منيف الى جانب المستضعفين، فحكى عن جرح المرأة المقيم في البلاد العربية، وعن مدى الظلم الواقع عليها، فاضحاً عقم وقسوة التقاليد الاجتماعية التي يؤطرها، وتحد من انطلاقها وقدراتها. فهي كائن لم يرحمها المجتمع، حطمها أحياناً وحطمته، همّشها فخسر ما يمكن أن تقدمه المرأة وتعطيه، وهو لم يعترف بقيمة لها إلا جسدها، فشحنت جسدها بكل طاقاتها واستوت على عرشه أميرة الإغواء أو الدعارة. وتصوّر روايات منيف المرأة وهي محبوسة في القصور التي عمدت الى هزّ أركانها، من خلال المؤامرات التي تحيكها، والاحتيال الذي تمارسه، وهي وإن حسبت متاعاً، إلا أنها تسللت الى صناعة القرار من "نوافذ" الليل.
كذلك، لا يبتعد الدين في روايات منيف من الأزمة العامة البنيوية التي يعانيها المجتمع، فهو يسهم بصورة فعّالة في بلورتها، وفي حثّ الناس على تقبّل بعض جوانبها الاجتماعية والسياسية، وبذلك لم يرفض منيف الدين، بوصفه إيماناً مقدساً، بل وجه سهام نقده الى الممارسات السلبية الملحقة بالدين، والمعتقدات التي تقترب من الخرافة، ومن هذه الزاوية يكمل الدين الأزمة الاجتماعية.
ومن طرف الأزمة السياسية والإدارية، لم يحصر منيف هذه الأزمة في مؤسسات الدولة، بل في مجمل المراحل التي شهدت تشكل الدولة، فقد صنعتها "دولة" الصحراء عبر حقبات تحوّلها، فأنتجت عقماً وقمعاً وتسلطاً، الى جانب الارتهان بالأجنبي، ودلّت عليها جملة الهزائم الداخلية والخارجية، وتبعاً لهذه الوقائع يعتبر المؤلف أن منيف لا يؤمن بأن النهضة العربية قد بدأت بالفعل في تلك المراحل، لذلك نجده يعيد طرح الأسئلة من جديد. وتفاقمت الأزمة حيث بلغت مستويات معقدة مع مراكز القوى الداخلية ومع شبكة العلاقات الدولية، إذ تنافرت مراكز القوى وتضاربت مصالحها، في حين بقيت العلاقات الدولية غير متكافئة، مع محاولات سيطرة الدول الغربية على الدول العربية، فلم تقم علاقات تعاون أو تحالف، بل علاقات تسلّط ورضوخ، أتاحت للغرب أن يعمق نفوذه، وأن ينهب ويصادر القرار. وتجسدت الأزمة في طبيعة السلطة ونظام الحكم، فالسلطة غالباً استبدادية، ولم تبذل أي جهد من أجل التنمية، بل كان همها الحفاظ على مواقعها ومصالحها الخاصة.
وظف عبد الرحمن منيف، كما يقول المؤلف، كل مقوّمات العمل الروائي الفنية للتعبير عن الأزمة، وطرح إشكاليات عديدة، من بينها إشكالية الثقافة والفكر، وهي إشكالية مطروحة في الساحة الثقافية منذ بداية ما عرف بعصر النهضة، وتعبر عن مأزق التفاعل الحضاري بين "الشرق" و"الغرب"، ولم تفض طبيعة العلاقات بينهما في روايات منيف الى شكل من أشكال التفاعل المثمر والبنّاء، فالغربيون لم يؤسسوا علاقة تفاعلية مع "الشرق" على أي مستوى من المستويات، لأنهم أرادوا أن يفرضوا سيطرتهم وتوسيع دائرة نفوذهم، لذلك وظفوا، خدمة لأغراضهم، رجال السياسة والعسكر والاقتصاد وحتى الفكر والثقافة. وقد صوّر عبد الرحمن منيف في رواياته الكيفية التي تنهب بواسطتها الدول الغربية ثروة المنطقة، ومحاولاتها شرعنة هذا النهب عبر التنظير الفكري له، تحت رايات الاستشراق، للنهوض والتمايز والبدائية والتخلّف.
إن الجديد الذي قدمه منيف في هذا المجال، قدمه روائياً، من خلال معالجة انعكاساته فنياً على الغالبية العظمى المنسية من الناس، حيث حكى عن السجون والمعتقلات، وعن الفقر والفقراء، وأرّخ لمن أهملتهم كتب التاريخ، وأعاد الحياة لأسئلة مصيرية كدنا نحسبها بسيطة لكثرة ما كررناها في خطابنا النهضوي.
http://www.almustaqbal.com.lb/stories.aspx...x?StoryID=53216