{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
طبائع الاستبداد .... عبد الرحمن الكواكبي
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #1
طبائع الاستبداد .... عبد الرحمن الكواكبي
من أعلام العروبة والإسلام الشيخ عبد الرحمن الكواكبي

------------------------------------------------------


--------------------------------

ولد ألكواكبي في حلب (1855) لأسرة عربية، تمتد جذورها إلى الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) من جهة الوالدين (1).

توفيت والدته عـفـيـفة آل النقيب وعمره ست سنوات، فكفلته خــالته صفية واصطحبته إلى بيتها في أنطا كية، حيث بقي هـناك ثـلاث

ســنوات، عــــــاد بعـــدها إلى حلب، ليتعلم فيها على يـد الشيخ "طاهر الكلزي" وبعد أن تعلم القراءة والكتابة، وأتم قراءة القرآن

وحفظه، عـــاد إلى خالته، كي ترعــى تنمية علومه، فاستعانت بقريبها "نجيب النقيب" ( أصبح فيما بعــــد أستاذا للخديوي عباس

الذي كان على عرش مصر حين لجأ إليها الكواكبي).‏
وحين أتمّ تعليمه هناك، عاد إلى حلب ليتابعه بالعـربية والفارسية، بعــــد أن أتقن التركية في أنطاكية، فدرس الشريعة والأدب وعلوم

الطبيعة والرياضة في المدرسة الكواكبية، التي كانت تتبع مناهج الأزهـــر في الدراسة، وكان يشرف عليها ويدرّس فيها والده مع نفر

من كبار العلماء، لم يكتفِ ألكواكبي بالمعلومات المدرسية، فقد اتسعت آفاقه أيضا بالاطلاع على كنوز المكتبة الكواكبية التي تحتوي

مخطوطات قديمة وحديثة، ومطبوعات أول عهد الطباعة، فاستطاع أن يطلع على علوم السياسة والمجتمع والتاريخ والفلسفة…الخ.

لاشك أن هذه الثقافة المنفتحة التي تمتع بها الكواكبي بالإضافة إلى التربية الإسلامية منحته شخصية متميزة.‏





عمله الصحفي:‏

-------------------


بدأ حياته بالكتابة إلى الصحافة، ويرجح حفيده (سعد زغلول الكواكبي) أن جده عمل في صحيفة "الفرات" الرسمية سنتين لا أكثر، وقد ترك العمل فيها نظرا لمعاناته (الرقابة، الاضطهاد لكونه لا يمدح السلطة…).‏

بدأ حياته بالكتابة إلى الصحافة، ويرجح حفيده (سعد زغلول الكواكبي) أن جده عمل في صحيفة "الفرات" الرسمية سنتين لا أكثر، وقد ترك العمل فيها نظرا لمعاناته (الرقابة، الاضطهاد لكونه لا يمدح السلطة…) .‏
وقد أحس أن العمل في صحيفة رسمية يعرقل طموحه في تنوير العامة وتزويدها بالأخبار الصحيحة، لذلك رأى أن ينشئ صحيفة خاصة لاعتقاده أنه يستطيع الكتابة فيها بحرية أكبر من الصحيفة الرسمية للدولة، فأصدر صحيفة "الشهباء" (عام 1877) باسم صديق له (هاشم العطار) كي يفوز بموافقة السلطة العثمانية، لأنه لو طلب الترخيص باسمه لما فاز به، وكان عمره آنئذ حوالي اثنين وعشرين عاما!‏
لم تستمر هذه الصحيفة طويلا، عطلت ثلاث مرات قبل أن تغلق بشكل نهائي بعد صدور العدد السادس عشر، إذ لم تستطع السلطة تحمل جرأته في النقد، فالحكومة كما يقول الكواكبي نفسه "تخاف من القلم خوفها من النار".‏

تابع جهاده الصحفي فأصدر (عام 1879) باسم صديق آخر جريدة الـ"اعتدال" سار فيها على نهج "الشهباء" فعطّلتها السلطة، فتابع الكتابة في صحف عربية تصدر في بلدان عربية وغربية ("النحلة" بنسختيها العربية والإنكليزية، و"الجنان" و"ثمرات الفنون" و"الجوائب" و"القاهرة" والمؤيد"..)‏
كان قلمه نصير الحق، يقف إلى جانب المظلوم بغض النظر عن انتمائه الديني أو العرقي، لذلك وجدناه يشرّع قلمه في وجه المستبد، فينقد تصرفاته وتهاونه تجاه مواطنيه، فكتب مقالا ينتقد فيه عدم قبول بعض المسيحيين في الجيش العثماني إلا بعد اشتراط تغيير أسمائهم بأسماء إسلامية!!‏

المهن التي زاولها الكواكبي:‏
بعد أن تعطّلت صحيفتاه، انكبّ على دراسة الحقوق حتى برع فيها، وعيّن عضوا في لجنتي المالية والمعارف العمومية، والأشغال العامة (النافعة) ثم عضوا فخريا في لجنة امتحان المحامين، وفي سنة 1886 صار مأمو للإجراء.‏
وبعد أن أحس أن السلطة تقف في وجه طموحاته، وتعرقل مشاريعه، بل وصل الأمر بها إلى عزله وقطع رزقه، لذلك انصرف إلى العمل بعيدا عنها، فاتخذ مكتبا للمحاماة في حي (الفرافرة) قريبا من بيته وسراي الحكومة يستقبل فيه المظلومين من سائر الفئات وسائر أنواع الظلم، فيسعى إلى تحصيل حقوقهم ورفع ظلاماتهم بكتابة الشكاوي وإرشادهم إلى طرق الاحتجاج القانوني، وقد كان يؤدي عمله، في معظم الأحيان، دون أي مقابل مادي، حتى اشتهر بلقب (أبي الضعفاء)‏.
ولكن إلى جانب هذا العمل الخاص نجد الكواكبي قد شغل مناصب عامة كثيرة، دون أن تفلح الدولة في جعله تابعا لها، أو تغيير منهجه في نصرة الحق وخدمة المصالح العامة، لذلك سيواجه المتاعب في كل أعماله، وسيحاربه كل المستفيدين من الفساد والتسيّب، فحين عين رئيسا لبلدية حلب (في زمن الوالي الذي كان مقدرا لمواهبه عثمان باشا 1893) قام بمشاريع عمرانية، كما حاول الحفاظ على سوق المدينة الأثري، فأقام أعمدة حديدية تحول دون دخول الجمال إلى السوق التي كانت تصدم المارة وتملؤه أوساخا، درس مشروع سد الفرات، وتجفيف مستنقعات الروج، وكلّف بعض المهندسين باستثمار (حمامات الشيخ عيسى) بعد تجميلها وترميمها، وقد كانت المكافأة التي تلقاه الكواكبي على إصلاحاته هي العزل، فقد ضجّ التجار الذين منعت دوابهم من دخول السوق، ولم يكتفِ الوالي بعزلـه، بل غُرّم قيمة الأعمدة الحديدية، وفروق رواتب موظفي البلدية التي زادها لهم قطعا لدابر الرشوة!!‏
ثم تسلّم رئاسة المصرف الزراعي، ورئاسة غرفة التجارة في حلب، فأسس شركة للتبغ بالتعاون مع تجار حلب، كي يخفف الضغط على الفلاحين، بالإضافة إلى قيامه بإصلاحات أخرى تضرر منها أصحاب السلطة، الذين كانوا يشاركون المهربين في تهريب التبغ، فأحرقوا مواسم الفلاحين من هذا المحصول، فاضطر الكواكبي إلى حلّ الشركة ودفع قيمة الأسهم المستحقة من جيبه الخاص!!‏ في عام (1894) تسلم وكالة المحكمة الشرعية بحلب، فاستطاع أن ينظّم ديوان المحكمة، ويحارب شهود الزور الذين يجلسون أمام المحكمة على المصطبة متظاهرين بالتدين (كانوا يدعون بشهود المصطبة) فحاربه هؤلاء وغيرهم من الفاسدين حتى عزل.‏
بعد ذلك عين رئيسا للجنة بيع حق الانتفاع من الأراضي الأميرية (التي أصدر السلطان أمرا بتملكها هو وورثته) فبدأ الكواكبي يوزعها على الفقراء ويحجبها عن المتسلطين من رجال الدولة، لذلك عملوا على الإسراع بإقالته!‏



معاناة ألكواكبي مع السلطة العثمانية:‏

--------------------------


عرف ألكواكبي بمقالاته، سواء في حلب أم في خارجها، التي تفضح فساد الولاة، لذلك ناصبه هؤلاء العداء، ولم يوفروا أية فرصة لإيذائه، فقد استغلت السلطة محاولة اغتيال (أو بالأحرى تهديد) والي حلب (جميل باشا) من قبل شاب (أرمني) يتدرب على المحاماة في مكتب الكواكبي، فألقت القبض عليه بتهمة التحريض على قتل الوالي، لكنه خرج من هذه التهمة بريئا، رغم ذلك لم يتخلص من مضايقات والي حلب، فقد اتهمه الوالي (عارف باشا) بالتآمر مع الأرمن لإثارة المشاكل في حلب، وقد استغل حادثة تعرض القنصل الإيطالي للإصابة بحجر قرب بيت الكواكبي، ليثبت هذه التهمة، فقبض عليه وصودرت أملاكه، وحكم عليه بالإعدام في محكمة حلب، وكان رئيسها من أعوان الوالي، فقدم الكواكبي استئنافا لإعادة محاكمته في بيروت، نظرا للخلاف بينه وبين الوالي، حيث بُرّيء وعُزل الوالي، بعد أن عانى الكواكبي من السجن مدة عام تقريبا في حلب وبيروت.‏

لم تكتفِ السلطة بمصادرة حريته الصحفية بمنعه من إصدار صحيفة، ومصادرة حريته الشخصية بالسجن والاستيلاء على أملاكه، بل وصل الأمر بالاستبداد أن اغتصب منه نقابة الأشراف، وأعطاها لأبي الهدى الصيادي الذي زوّر انتسابه لآل البيت، مع أنه من المعروف أن نقابة الأشراف تتوارثها أسرة الكواكبي في حلب والأستانة وبغداد، باعتبارهم من آل البيت من جهتي الأم والأب منذ أيام أحمد الكواكبي في منتصف القرن الحادي عشر الهجري، وقد كانت نقابة الأشراف مغتصبة من ابن عمه الأكبر منه سنا (حسن الكواكبي) من قبل الصيادي صديق السلطان عبد الحميد ونديمه الأثير!‏
بعد وفاة ابن عمه استحق عبد الرحمن الكواكبي نقابة الأشراف، وكان يعدّ نفسه وأهل حلب أيضا النقيب الحقيقي وإن لم يصدر أمر سلطاني بذلك، لأن النقابة تكون في الأكبر سنا من أفراد الأسرة المؤهل علميا واجتماعيا.‏

اعترض على تزوير نسب الصيادي لآل البيت، بل نجده يحرج أبا الهدى الصيادي أمام جمع من الناس أتوا لتهنئته بمناسبة خروجه من السجن، حين قال له "الحمد لله على السلامة يا بن العم" فردّ عليه أمام الناس جميعا "وعليك السلام لكن ابن العم هذه من أين أتيت بها؟" قاطعا عليه طريق الاعتراف بنسبه إلى آل البيت، مبطلا ادعاءه أمام الناس جميعا، ومن المعروف أن النسب إلى آل البيت يحتاج إلى تصديق ممن يعدّون أنفسهم يمثلونه، وقد كان عبد الرحمن يمثلهم خير تمثيل، لهذا كان إحراجه للصيادي كبيرا، سيردّه له أذى مضاعفا‍.‏

لم تكن ثورة الكواكبي على الصيادي بسبب اغتصابه نقابة الأشراف فقط، وإنما كانت بسبب أعماله وظلمه للرعايا، فقد استغل تأثيره الكبير على السلطان عبد الحميد في اضطهادهم، ولهذا من الطبيعي أن يكون الصيادي أحد الذين كادوا له وأوصلوه إلى منصة الإعدام، وهذا ما أشار إليه الكواكبي في مرافعته ببيروت.‏
ضيق الاستبداد الخناق على الكواكبي، حتى كان يقترض ليعيش بعد أن صودرت أملاكه، ومنع من مزاولة أي

عمل، رغم ذلك لم تستطع السلطة شراءه بالمناصب، فرأت أن تتخلص منه، بعد أن أصبح شخصية مؤثرة في حلب، بل امتد تأثيره إلى سائر البلاد العربية، بسبب مقالاته التي كان يرسلها إلى الصحف العربية، لذلك أرسلت له شخصا ملثما لاغتياله، وفعلا طعنه أثناء عودته إلى بيته ليلا، بعد هذه الحادثة التي نجا منها بأعجوبة، رأى أن المقام في ديار الاستبداد باتت مستحيلة، فقرر الهرب إلى مصر (1900) حيث ستصلها يد الاستبداد وتفلح في قتله، بأن تدس له السم في فنجان قهوة في مقهى يلدز (1902) لا فرق أن تكون هذه اليد هي يد السلطان عبد الحميد أو يد أبي الهدى الصيادي، ومما يؤكد هذه الجريمة الإسراع بدفنه على نفقة الخديوي عباس دون أن تفحص أمعاءه، خاصة أنه صرّح لصديقه في القاهرة (عبد القادر الدباغ) قبيل وفاته قائلا: "لقد سموني يا عبد القادر"‏

لعل الأذى الأكبر الذي تعرض لـه الكواكبي من قبل الاستبداد هو سرقة مؤلفاته وأوراقه، إذ يقال أن السلطان عبد الحميد أوعز إلى من يدّعي صداقة الكواكبي (عبد القادر القباني) صاحب جريدة "ثمرات الفنون" في بيروت بالرحيل إلى مصر وسرقة مؤلفات الكواكبي المخطوطة، وقد فعل ذلك من أجل أن يفوز بمنصب رفيع في الدولة، فتمّ الاستيلاء عليها وتسليمها إلى القاتل، ليقضي عليها كما قضى على مبدعها، لذلك افتقدنا كثيرا من المخطوطات التي كتبت في المرحلة الأخيرة من حياته قبل خروجه من حلب وبعده، وكان من الممكن أن تضاف إلى مؤلفيه المطبوعين ("أم القرى" و"طبائع الاستبداد") وقد ذكرها لنا حفيده سعد زغلول الكواكبي في كتابه "عبد الرحمن الكواكبي:السيرة الذاتية" وهي ("العظمة لله"، "صحائف قريش"، "الأنساب"، "أمراض المسلمين والأدوية الشافية لها" "أحسن ما كان في أسباب العمران"، "ماذا أصابنا وكيف السلامة"، "تجارة الرقيق وأحكامه في الإسلام") ويلاحظ من دلالة عناوينها أنها كانت استمرارا لما كان قد طرحه من أفكار في كتابيه السابقين، وإذا كانت هناك بعض الإضافات فلاشك أنها نتيجة رحلاته التي قام بها في السنتين الأخيرتين قبل استشهاده، ونتيجة نضج معاناته، ورغبته في مناقشة القضايا الإشكالية التي قد تشوّه الدين الإسلامي كقضية الرق.‏

وهكذا لم يكتف الاستبداد باغتيال الكواكبي وإنما سارع إلى اغتيال كلمته، التي كانت لظى على الاستبداد، يخافها كما كان يخاف الكواكبي، ويرى فيها تجسيدا لروحه، لذلك لا معنى لقتل الجسد وبقاء روحه الثائرة‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! لكن هذه الروح، بفضل الله تعالى، باقية بيننا رغم كل هذا القهر، وجدناها حية متألقة ثائرة في وجه الاستبداد في كتابيه ("أم القرى" و"طبائع الاستبداد) وفي بعض مقالاته التي استطاع الباحث جان دايه العثور عليها (جريدة "الشهباء" و"اعتدال" و"العرب") وهي مازالت حية بفضل عناية الباحثين في كل مكان في العالم بما بقي من إنتاجه، لأن عظمة أي إنتاج فكري لا تقاس بكميته، وإنما بفعاليته التي تتجاوز الشرط الزماني والمكاني.‏

وبذلك نجد أن الكلمة الصادقة التي هي نبض المعاناة اليومية للكواكبي، بقيت حية لا تموت، رغم ما تعرضت له من محاولة اغتيال وقهر على يد الاستبداد، فقد بدت لنا أقوى من المستبد قادرة على مواجهته والقضاء عليه في أي زمان وأي مكان.‏



رحلات الكواكبي:‏

--------------------------


ذاق الكواكبي صنوف المعاناة على يد الاستبداد العثماني وأعوانه، حتى لم يبق له مصدر رزق، وصار يستدين من أجل متطلبات حياته اليومية، لذلك حين عرض عليه السلطان منصب قضاء (راشيا) كي يبعده عن بلده (حلب) ويضعف تأثيره، تظاهر بقبوله، وسافر إلى الأستانة سرا، ليقوم بتحريات سرية عن أعمال السلطان وزبانيته، ويرى أنواع استبداده في عقر داره، لكن سرعان ما اكتشف أمره، ودعي للإقامة في قصر خاص بالضيافة، وقد التقى أثناء زيارته تلك بجمال الدين الأفغاني (1895) الذي جاء إلى الأستانة (1892) وبقي هناك (حتى وفاته أو بالأحرى قتله 1897) في منـزل للضيافة تحت الإقامة الجبرية، وقد أحس الكواكبي بعد لقائه بالمصير المشابه الذي ينتظره ، لذلك سارع بالعودة إلى حلب سرا.‏
لقد كان ظاهرا للعيان رغبة السلطان في التخلص منه، خاصة بعد أن أدرك أن المناصب في حلب لم ولن تغيره، فرأى الكواكبي حين عرض عليه السلطان منصب القضاء في راشيا وسيلة جديدة لإبعاده، خاصة أن هذا المنصب قد جاء بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها والتضييق على حريته في الأستانة، لذلك قرر الهرب إلى مصر سرا (1900) بعد أن رهن البيت الذي كان مسجلا باسم زوجته، ليؤمن تكاليف سفره.‏
ولو تأملنا أسباب اختيار الكواكبي مصر موطنا له، للاحظنا أنها تنحصر في الحرية: جوهر الوجود الذي عاش من أجله الكواكبي ومات في سبيل تحقيقه، وهذا ما تخيل وجوده في مصر زمن الخديوي عباس، فقد كانت ملاذا للكتاب، الذين هاجر إليها أغلبهم من بلاد الشام، رغبة في الحرية، (التي يلمسها المرء خاصة في الجرائد المصرية التي كانت تتمتع بحرية نقد السلطان عبد الحميد) وإلى جانب الحرية في التعبير، كانت هناك حرية في استخدام اللغة العربية في الكتابة التي كانت شبه ممنوعة في شرقي السلطنة، لذلك أسس المهاجرون إليها صحفا ومجلات، واستطاعوا أن يسهموا في إغناء الحياة الأدبية والفكرية في مصر، وقد شكّلوا صوتا واضحا في الصحافة عرف فيها، واشتهر باسم "الشوام"‏.

عاش الكواكبي في القاهرة حوالي سنتين حيث ذاع صيته، وتابع نشر مقالاته في الصحف المصرية، بل نجده قد أصدر فيها "صحيفة العرب" التي لم تلبث أن توقفت، دون أن نعرف السبب، ربما قد يكون بسبب تقارب الخديوي عباس والسلطان عبد الحميد!! وقد كان أحد أهم شروط هذا التقارب، ألا يساند الخديوي المناوئين للسلطة العثمانية!!‏

كذلك استطاع أن ينشر فيها كتابيه "أم القرى" و"طبائع الاستبداد" اللذين كتبهما في حلب ولم يستطع نشرهما إلا بعد هربه منها، ويقول نديم الكواكبي (عبد المسيح الأنطاكي) إن الكواكبي ظل مختفيا في القاهرة حتى طبع كتاب "أم القرى" إذ أرسل منه نسختين إلى الخديوي في الإسكندرية، ونسخة إلى"الشيخ محمد عبده" والثالثة إلى"الشيخ علي يوسف" وقد سرّ الخديوي بالكتاب فطلب إلى الشيخين أن يسعيا للتعرف على صاحب الكتاب الذي لم يذكر اسمه عليه، ومنذ ذلك الوقت نشأت صداقة بين الخديوي والكواكبي التي يبدو أنها لم تعمّر طويلا، بسبب التقارب بين الخديوي والسلطان عبد الحميد، ورفض الكواكبي طلب الخديوي للسفر معه إلى الأستانة للتصالح مع السلطان.‏

أثناء إقامته في القاهرة، قام برحلتين زار فيهما بلادا عربية وأخرى إسلامية، ليتفهم أحوال المسلمين وليدرس عن كثب مشروع رابطة أم القرى الذي تحدث عنه بشكل نظري في كتابه "أم القرى" فزار السودان والجزيرة العربية واليمن، والتقى القبائل العربية، ليعرف مدى مقدرتها على القتال، وليحرضها على الثورة ضد الأتراك، لكن اللافت للنظر اهتمامه بالشؤون الاقتصادية والجيولوجية لبلاد العرب، حيث ذكر ابنه (كاظم) الذي رافقه في رحلته الثانية، أنه كان يجمع نماذج من صخورها، ويجلبها معه إلى مصر لدراستها من قبل المتخصصين لمعرفة الثروات المعدنية التي تحتويها الجزيرة (وقد كان من بينها على ما يذكر ابنه زيت النفط الذي دلّه عليه الأعراب في الجزيرة) .‏

إذاً لا تبدو الغاية من رحلاته دراسة أحوال الأمة العربية والإسلامية من الناحية السياسية والعسكرية فقط، بل دراسة أحوال البلاد الاجتماعية والاقتصادية، كي يؤسس لدولة عصرية، ترتكز على إمكاناتها الاقتصادية الذاتية، لذلك سعى إلى معرفة ما تملكه من ثروات باطنية بالإضافة إلى ما تملكه من استعداد حربي، فهو يدرك أن حرية الدول لا تكون بجلاء الغريب عنها، وإنما بامتلاك القدرة الاقتصادية التي تستطيع حماية الحرية، وتأسيس بنيان الدولة على أسس متينة، تمنحها استقلالا حقيقيا.‏

لقد امتلك الكواكبي وعيا سابقا لعصره، فسعى إلى الحرية بأفضل معانيها، جنّد في سبيلها كل ما يملكه من مواهب أدبية وفكرية، وضحى من أجلها بكل ما يملك، حتى دفع حياته ثمنا لها.‏


الحواشي:‏
***‏

- جميع المعلومات التي في وردت في هذه المقدمة، أخذت من كتاب حفيد الكواكبي القاضي سعد زغلول الكواكبي، وهو بعنوان "عبد الرحمن الكواكبي: سيرة ذاتية" دار بيسان، بيروت، ط1، 1998، ص15120_ بتصرف اتحاد الكتاب العرب – دمشق.
11-17-2004, 11:26 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #2
طبائع الاستبداد .... عبد الرحمن الكواكبي
الذكرى المائوية المنسية

للكواكبي وطبائع الاستبداد

مائة عام تكتمل اليوم على وفاة المصلح العربي الجرئى صاحب الكتاب ـ الحدث طبائع الاستبداد عبد الرحمن الكواكبي ـ رحمة الله عليه ـ مائة عام كذلك تقريبا على صدور ذلك الاثر العظيم الذي نظر قبل كتب اوروبا لأسباب التخلف وجذور التقهقر وحللها وفك آلياتها وحدد معطياتها وشخصا وقدم للعرب علاجها. مائة عام تمر ولا حياة لمن تنادي، لا الحكومات العربية ولا جامعة الدول العربية ولا الجامعات العربية ولا مراكز البحوث الاستراتيجية اغتنمت هذه الذكرى المائوية لاحياء هذا التراث العربي المتميز وقول كلمة حق في ذلك الرجل الامين الذي دفع حياته ثمنا لقول الحق.. لا شئ كما قال عبد الرحمن الكواكبي نفسه في توطأة كتابه : (وهي كلمات حق وصيحة في واد، ان ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غدا بالاوتاد..). ان مجتمعات العالم كلها تحتفي بذكريات رجال اقل شأنا من الكواكبي واقل تأثيرا بل ان مجتمعات اوروبا واميركا واليابان والصين تقتنص كل ذكرى لاحياء امجادها بحق او بباطل.. ونحن العرب غافلون كأنما فقدنا ثقتنا في امجادنا وكنوز ماضينا البعيد والقريب وقطعنا الصلة مع ذلك الفيض الرائع من الفكر الحر واصبحنا ايتام حضارة بارادتنا !!

ولد عبد الرحمن الكواكبي عام 1854 لأسرة عربية كريمة في مدينة حلب الشامية وتلقى علومه في المدرسة الكواكبية وعمل في الصحافة والمحاماة كما تقلد بعض المناصب الوظيفية وبدأ يجلب لنفسه السجون والاضطهاد ومصادرة المال والدار عندما كتب عن الاستبداد في الصحف. هاجر من حلب سنة 1900 وطاف الجزيرة العربية وشرقي افريقيا والهند وأقصى الشرق ثم استقر في مصر، وفيها كتب (طبائع الاستبداد) كما كتب (أم القرى) وتوفي بالقاهرة عام 1902 ضحية سم دُس له في فنجان قهوة.. معيدا قصة ارسطو فيلسوف الاغريق وضحية الدفاع عن الحرية هو ايضا ومن الغريب ـ بل من العار على العرب ومؤسساتهم الثقافية ـ أن صدور الكتاب وطبعاته المتلاحقة كانت دائما بسعي نجله اسعد الكواكبي في الثلاثينيات وبسعي حفيده الدكتور عبد الرحمن الكواكبي في السبيعينيات. وكانت جميع الطبعات تنفذ حال نزولها للمكتبات والمعارض واعتنت الثقافات الغربية بالكتاب فنشر بطبعات في مختلف اللغات وادرجته الجامعات الاوروبية والاميركية في برامج دراساتها السياسية والاجتماعية كأحد ابرز آثار الفكر العربي الاصلاحي بل تتلمذت على الكواكبي ثلة من منظري علم الاجتماع السياسي في الغرب وابرزهم الاستاذة هانا ارندت صاحبة كتاب الاستبداد الذي أصبح المرجع الاساسي للعلوم السياسية وهو المؤلف بعد ثمانين عاما من كتاب الكواكبي الذي اجمله العرب للاسباب التي نعرفها جميعا ولم يعد بالامكان اخفاؤها وان تأملنا في عصر الكواكبي وجدناه عصر نهضة عربية مباركة بحيث لم يأت كتاب طبائع الاستبداد من فراغ بل كأنما هو حلقة ضرورية الى جانب حلقات نهضوية تشكل سلسلة تمهيد لانطلاقة عربية شاملة فقد صدر عام 1901 كتاب (المرأة الجديدة) لقاسم امين وصدر كذلك كتاب الشيخ محمد عبده (الاسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) وكتابه (الاسلام والرد على منتقديه) واصدر صطفى كامل صحيفة اللواء وفي المغرب العربي بدأت حركة علي باش جانيه الاصلاحية تنشط ضد الاستعمار.

كان ذلك المناخ الفكري كالتربة الصالحة لبذرة الكواكبي.. وهي البذرة الوحيدة التي لم تتحول الى سنبلة طيلة القرن .. لان حركات الاصلاح تمكنت من طرد الاستعمار والابقاء على جذوة الاسلام السليم حية لكنها فشلت فشلا ذريعا في تطوير الفكر الشوروي ـ أي الديمقراطي ـ في بلاد العرب جميعا مما تسبب في نكبات وكوارث عربية قديمة وحديثة لانزال نحمل اوزارها الى اليوم فغياب الديمقراطية في نظري المتواضع ادى على الاقل الى نكبة الهزيمة العربية يوم 5 يونيو 1967 وكارثة الاحتلال العراقي للكويت يوم في اغسطس 1990.. الى فتنة 11 سبتمبر 2001 وكل هذه المصائب اذا ما حللناها من زوايا السياسة والتربية والثقافة وجدناها نتيجة طبيعية للاستبداد بالرأي وعدم اشراك الناس في التفكير والتخطيط والحكم.

[U][SIZE=5]وان الذي يبقى خالدا في رسالة الكواكبي ويصلح لهذا الزمن العربي العصيب هو تركيز طبائع الاستبداد على امرين: الاول مؤامرة الغرب المستمرة والطبيعية على العرب والمسلمين وممارسة استبداد الجنس الابيض على ما عداه والثاني قابلية العرب والمسلمين.. واستعدادهم المريض لتقبل ذلك الاستبداد مخالفة منهم لفلسفة تراثهم الاصيل والمنادية بالمقاومة والفداء والاستقلال.

يقول حفيده. د. عبد الرحمن الكواكبي : (انه الاستبداد الذي يظل يرافق الحياة كلها بوجه عام والحكم بوجه خاص، على تباين اثره وتفاوت شره، فهو يشتد او يضعف، وبقدر ما يخبو الوعي السياسي او ينمو، وبقدر ما يمحي التخلف او يزداد، وبقدر ما يصفو الفكر او يتعكر، وبقدر ما تظهر النزعات الوجدانية والمراحم الانسانية ومكارم الاخلاق او تضمر..).

لهذه الاسباب سيظل الكتاب اثرا خالدا فريدا في صنفه، نوعا من انواع ايقاظ الموتى من رقدة العدم ويكفي ان تلقي نظرة على فهرست الكتاب لتعلم ايها القارئ العربي ان الكواكبي انار بشعلته الوقادة كافة جوانب الاستبداد وعلاقته بحياتنا فنجد الفهرست كما يلي : ما هو الاستبداد؟ والاستبداد والدين الذي اوضح فيه اصول الاسلام وبعدها عن الطاغوت، وكذلك الاستبداد والعلم لينفذ نظريات فطرة الناس على قبول الاستعباد، وايضا الاستبداد والمجد لزرع الثقة في نفوسنا حتى لا يستبد علينا احد.

ثم يتطرق المؤلف الى موضوع العلاقة بين الاستبداد والمال، فيكون الكواكبي سباقا لعصرنا الراهن، مستطلعا آفاق ارتباط الاستبداد كسلوك سياسي وثقافي بالمال كعصب محرك للمجتمعات وبعد ذلك يحلل الكواكبي محور الاستبداد والاخلاق من منظور فلسفي عميق قل ان يدركه عالم متخصص ثم يحلل علاقة الاستبداد بالتربية، فالتربية لديه هي خميرة المجتمع واساسه وعليها مسؤولية تخريج جيل رافض للاستبداد.

ثم هو في فصل الاستبداد والترقي وبعده في فصل الاستبداد والتخلص منه يقدم وصفة الحكيم المتمرس الامين لتحقيق نهضة عربية واسلامية ديمقراطية تعتمد احترام رأي الاغلبية والحكم بفضائل الاخلاق وتجسيد المحاسبة والمراجعة والعزل كأدوات لمراقبة الحاكم حتى لا يستبد وقد ختم الرجل كتابه بحكمة لا بد ان نوردها: (ان الله جلت حكمته قد جعل الامم مسئولة عن اعمال من يحكمه عليها وهذا حق فاذا لم تحسن امة سياسة نفسها اذلها الله لأمة أخرى تحكمها كما تفعل الشرائع باقامة القيم على القاصر او السفيه وهذه حكمة ومتى بلغت امة رشدها وعرفت للحرية قدرها استرجعت عزها وهذا عدل..).

فكيف نعذر العرب على نسيان هذا الرجل وكتابه ونحن لم نجب بعد قرن على الاسئلة التي طرحها الكواكبي منذ قرن ؟ وظللنا نعاني نفس العلل بدرجات متفاوتة.. الى يوم الناس هذا.

د. أحمد القديدي
11-17-2004, 11:35 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #3
طبائع الاستبداد .... عبد الرحمن الكواكبي
قراءة في العلمنة القومية في سوريا والعالم العربي
(1)
د. ربيع الدبس
لعل المنهجية تفرض علينا الانطلاق من تحديد وظيفة الفكر، وهذا الانطلاق بدوره يسوّغه كون هذه الوظيفة القاسم المشترك الذي يجعل المقارنة بين فكر وفكر أمراً ممكناً. فوظيفة أي فكر إنما هي الإجابة عن أسئلة مصيرية، تلبية لحاجات بشرية حيوية وجوهرية. والانطلاق من تحديد التساؤلات والحاجات البشرية لا بد منه لتحليل بنية كل من الفكر الديني والفكر الصحافي وللتحقق من نوعية أو صلاحية الإجابة التي يقدمها كل منهما. فإذا كان الفكر الديني ينطلق من فرضية أن الوجود الإلهي، ذا العلاقة بالإنسان، هو الأساس، وأن كلام الله يتخطى الإدراك البشري لما يحتويه من قدرة خارقة وغيبيات، ومن أن الغرض الديني هداية الناس في دنياهم كي يحظوا بنعيم الآخرة، فإن الفكر العلماني ، ومن موقع مختلف، ينطلق من مبادئ أخرى ، أكثرها جدية أن العقل البشري سيد نفسه . وأن الدين وٌجد لتشريف الحياة لا الحياة لتشريف الدين، وأن الخبرة الحسية أساس المعرفة. أضف إلى ذلك الاعتقاد بمبدأ تاريخية الكيان البشري والوجود البشري. من هنا رفض المسبقات والماورائيات والغيبيات(1) .

ويرى بعض الباحثين أن النظرية العلمانية مرت في خمس مراحل كما هو الأمر في أوروبا ، حيث نشأ الفكر العلماني أواخر القرون الوسطى ثورة على هيمنة الدين وتسلط رجاله ، وعلى اضطهادهم أصحاب الفكر وإذلالهم الناس باسم الدين.

وكانت نشأته نتيجة التقدم العلمي الذي تلا استقلال العلم عن الفلسفة الميتافيزيقية وعن الدين وغيبياته. وفي مراحل تكوين العلم برزت القيم التي ارتكز عليها والتي استند إليها تصوره لما هو الإنسان .

مراحل نشوء العلمانية الأوروبية:

- المرحلة الأولى: تجسدت بما سمي عصر النهضة في القرن السادس عشر ، وهذا عُرف بالأنسنة ، أي بالإنسان قيمة مركزية عليا، كما عرف بالاختبار اليقيني مصدراً للمعرفة ، كما شهد حركة الإصلاح الديني عبر وثائق فهم المسيحية فهماً جديداً يدين الباباوات ، ويطرح نهجاً جديداً شكل فيما تلاه من تنظيرات دستور البروتستنتية.

- المرحلة الثانية: يمثلها ما سمي عصر التنوير في القرن الثامن عشر ،.. حين أعطي العقل مكانته الأسمى باعتباره مصدر المعايير والمعارف والقوانين والقيم الحضارية.

- المرحلة الثالثة: كانت جملة الثورات السياسية، بدءاً بالثورة الفرنسية القائلة بالحرية والفردية قيمة مطلقة. وانتهاءً بالثورة الروسية أوائل القرن الحالي.

- المرحلة الرابعة: كانت الثورة الصناعية بدءاً من أواسط القرن التاسع عشر، ومن نتائجها التكنولوجيا التي تنقل الحضارة إلى مستوى جديد من الاختراعات الآلية، وتنقل الانسان إلى مناخ جديد هو العالم الصناعي- الاصطناعي.

- المرحلة الخامسة والأخيرة: تمثلت بالثورات الثقافية المعاصرة، وهي ثورات أحدثها العلم من جهة والفكر الحر من جهة أخرى(2).

نقول هذا دون أن نأخذ بالطرح القائل إن العلمنة في أساسها وفروعها مفهوم غربي. قد تكون الثورة العلمانية بدأت في الغرب حرباً على السلطة الكنسية، لكن ذلك لم يكن آخر المطاف.



العلمنة بالمنظور القومي مفهوماً وروّاداً:

في تراث أمتنا شرارات علمانية بل ومضات. وربما اعتبر بعضنا أن إرهاصات الثورة العلمانية انطلقت من عندنا بدءاً من الرواقية التي وضع أسسها الفيلسوف السوري العظيم زينون قبل الميلاد.

ولعل مفاصل الرواقية تقوم على أمرين: أولهما ريادتها في شرعة العقل والدعوة التي تسييده في تسيير شؤون الحياة، والثاني ريادتها في مبدأ الأخوة البشرية. ثم أتى السيد المسيح ليعلن باللغة الآرامية السورية على أرض فلسطين قوله الواضح: "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما بالنسبة للإسلام فيرى بعض الباحثين أن القرآن الكريم دعا إلى إقامة الدين لا إلى إقامة الدولة . وذلك في كل نصوصه كما رأى الإمام عبد الرحمن الكواكبي أن الدولة الدينية التي نشأت خلال التاريخ الإسلامي كانت دولة بشرية لا دولة إلهية وإلا لما زالت.

غير أن ما يعنينا في هذا الباب إنما هو الإشارة إلى رواد العلمنة في العالم العربي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وقد بثوا ومضاتها إما عبر الصحف التي كانوا يصدرونها، أو الحركات التي أنشأوها أو الخطب التي ألقوها أو الكتب التي ألفوها.

· نبدأ بالدكتور شبلي الشميّل الذي نشر معظم أفكاره في "المقتطف" . والشميّل يعتبر رائد فكرة التطور على المدى العربي ، وبعضهم دعاه "داروين القرن العشرين". وهو نقيض غيره من المفكرين الأحرار معاصريه، أدان التعصب القومي ، وكان حذراً تجاه الطرح القومي بشكل عام. ومن قوله: "العلم هو دين الانسان الحقيقي".

· ثانياً: بطرس البستاني الذي يمكن اعتبارهDynamo النهضة السورية في القرن الماضي ، أو معلم القرن التاسع عشر من دون منازع . وقد دعا بوضوح وإلحاح إلى نبذ الفروقات المذهبية والاعتصام بالمبادئ الوطنية القائمة على العلمنة.

· ثم يأتي دور فرنسيس المرّاش ، المثقف الحلبي الذي أظهر منذ حداثته نزعة قوية إلى الروح الجديدة في عصره. وأتى كتاباه "مشهد الأحوال" و "غابة الحق" دليلين على إيمانه بالصالح العام، لكن نزعته الأدبية الطاغية على الروح العلمية، إضافة إلى عدم ربط العلمنة بالشأن القومي ، قللا من فعله في مسيرة عصر النهضة .

الدكتور خليل سعاده ربما كان قائد الحركة القومية في المهجر الأميركي الجنوبي حيث لجأ بعدما اضطهده الأتراك. لقد كان صارخاً في علمانيته ، ودعا إلى إحلال الرابطة الوطنية مكان الرابطة الدينية .

· [U][SIZE=5]أما الكواكبي . الإمام والمفكر ، فقد ميز بين العرب والمسلمين، بعكس جمال الدين الافغاني والشيخ محمد عبده. سماه مارون عبود "مرجل اليقظة العربية"، كما اعتبر أنطون سعاده أن الثورة الثقافية السورية قد ابتدأت بحركة الكواكبي الثورية.

وفي مقال نشر في المقطم عام 1899 دعا الكواكبي علناً إلى فصل الدين عن الدولة ، وتساءل: إذا سقطت الدولة فهل يسقط الدين الذي نربطه بها؟ وهذه فقرة مما كتبه في مؤلفه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".

" يا قوم، وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين، أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد ،.. وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فُعل ذلك على أيدي المثيرين، وأجلّكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون. فهذه أمم أوسترية وأميركية قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني ، دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري، فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهه، فيقول عقلاؤنا لمثيري الشحناء من الأعاجم والأجانب: دعونا يا هؤلاء. نحن ندبر شأننا، نتفاهم بالفصحاء ونتراحم بالإخاء ، ونتواسى في الضراء ، ونتساوى في السّراء. دعونا ندبر حياتنا الدنيا ، ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط. دعونا نجتمع على كلمات سواء ، ألا وهي: فلتحي الأمة، فليحي الوطن، فلنحي طلقاء أعزاء(3).


· نتقدم الآن إلى فرح أنطون ومجلته "الجامعة".فإذا كانت مجلة "المقتطف" مخصصة للعلوم و"الهلال" للتاريخ فإن "الجامعة" كانت للثقافة العامة والأدب العالمي. وعلى صفحات هذه المجلة برزت ردوده العلمية الواضحة على محمد عبده حول الدين والدولة. وقد تأثر فرح أنطون بابن رشد في الفلسفة العربية ، وبإرنست رينان في الفلسفة الغربية. لكنه كما يقول دونالد ريد في كتابه القّيم عنه : إنه أحد أوائل السوريين الذين تصدّوا علناً للمسألة العلمانية وتبنوها(4). والحق أن هذا الرائد العلماني الآتي من طرابلس الشام والذي ثقف نفسه بنفسه ولم ينل شهادات عليا قد بلغ أصفى فكره، ربما، في خطبته أمام شلالات نياغرا، وفي كتابه عن القدس الجديدة ، وكذلك في قصيدته بعنوان "بين نيتشه وتوليستوي".

وفي كتابه بعنوان "ابن رشد وفلسفته" يلحظ فرح أنطون أن لا مدنية، ولا عدالة، ولا تراحم، ولا مساواة، ولا استقرار، ولا حرية، ولا فلسفة، ولا علم ، ولا تقدم ما لم يتم فصل السلطتين الدينية والمدنية عن بعضهما.

· يأتي الآن دور جبران خليل جبران الذي كان رائد الحركة الثقافية السياسية في أميركا الشمالية بالنسبة للجالية السورية، بدءاً بالدور الانقلابي الذي تنكبته الرابطة القلمية، وصولاً إلى المرامي الاجتماعية البعيدة في الأدب الجبراني الذي دعا إلى وحدة سورية الطبيعية وفق أسس علمانية. ومن يراجع كتابه(البدائع والطرائف) وسائر كتبه يتبين الاتجاه القومي اللاطائفي في تراثه كله. ولعل قطعته الفكرية- الأدبية الرائعة في "حديقة النبي" تنطق بما هو أبلغ من أي تحليل:

" ويل لأمة تكثرُ فيها الطوائف والمذاهب ويقلّ فيها الدين".

" ويل لأمةٍ مجزأةٍ ، وكل جزءٍ فيها يحسب نفسه أمة". إلخ...

وعلى المستوى السوري العام شارك آخرون بنسبٍ متفاوتة في الإضافة النوعية لنهر العلمنة. نذكر منهم أمين الريحاني، فارس نمر، يعقوب صروف، نجيب عازوري، شكري غانم، بشارة زلزل، فارس صهيون، لويس الخازن، إسكندر بارودي، قسطنطين زريق، ساطع الحصري. وإذا كان مؤسسو حزب البعث العربي الاشتراكي ومفكروه قد قالوا بالعلمنة فإن وسائل التعبير لديهم تباينت عن وسائل الآنف ذكرهم ،.. باعتبار أنهم نظروا إلى العروبة جسماً روحه الإسلام، بكل ما يرمز إليه من سمات حضارية.

وقبل أن ننتقل إلى الإضاءة على العلمنة في أعمال أنطون سعاده، نعّرج على مصر منوهين بالدور الذي مارسه مفكرون علمانيون أو ليبراليون في تاريخها وتاريخ العالم العربي المعاصر. من هؤلاء: لطفي السيد، طه حسين، رفاعة الطهطاوي، سلامة موسى، إسماعيل مظهر، الشيخ علي عبد الرزاق الذي أثار كتابه "الإسلام وأصول الحكم" دوياً ،.. بل عاصفة من الجدل والحوار الهادئ والانفعالي معاً. ومجمل طرح الكتاب الذي صودر من الأسواق أننا لسنا بحاجة إلى الخلافة سواء في شؤوننا الدينية أو في شؤوننا الزمنية. إن الخلافة كانت دائماً وتستمر لتكون كارثة على الإسلام والمسلمين، ومصدر شر وفساد(5). ولا نغفل ذكر المفكر المصري جمال حمدان ،.. مع أن قراءه قلة بل ندرة. كذلك يصعب إغفال التيار النقدي أو الفكري المتعلمن من المغرب العربي والذي يعبر عنه بعمق أمثال محمد عابد الجابري ومحمد أركون.

كما يُحسن بنا ألاّ ننسى التيار العلماني الذي غذّته في العالم الثورة الشيوعية والمبادئ الماركسية – اللّينينية ، وان بمنحى إلحادي آخر. كذلك لا بد من ذكر الدور الذي قام به مصطفى كمال أتاتورك في علمنة تركيا- وريثة دولة الخلافة الاسلامية المنهارة في أوائل هذا القرن. وما تركه ذلك من صراع فكري وحوافز. فالعلمنة أولاً موقف من الوجود والحياة في المبدأ. وهي تلفظ- عربياً – بفتح العين لأنها من جذر "عالم" لا "علم" لكونها تختص بهذا العالم، بهذا الوجود،.. بهذه الحياة، لا بالحياة الأخرى الموعودة أو بالماورائيات المفترضة في الاطروحات الدينية.

هذا التعريف المبدئي يسير بنا من النظر المبسط إلى النظر المركب لنرى أنه في الميدان السياسي /الاجتماعي الذي هو ساحة العملية العلمانية – من القضايا المحسومة أن تستقل الدولة القومية عن الشريعة الدينية والرابطة الدينية
11-17-2004, 11:39 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #4
طبائع الاستبداد .... عبد الرحمن الكواكبي
طبائع الاستبداد

تحية إجلال وإكبار لذكرى الكواكبي المثقف الماجد



جاد الكريم الجباعي

مرت الذكرى المئوية الأولى لوفاة الرائد النهضوي عبد الرحمن الكواكبي، والذكرى المئوية الأولى لولادة كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، بصمت يوحي بأن الاستبداد الذي وقف الكواكبي حياته على مقاومته ومقارعته لا يزال مقيماً في بلاد العرب. [U]وكان حرياً بالمثقفين العرب (الماجدين)، مفكرين وباحثين وأدباء وفنانين وصحفيين أن يجعلوا من هذه الذكرى مناسبة لاستكمال ما بدأه الكواكبي، والبناء على ما أسسه، في سبيل نظرية في الاستبداد، تكون نظرية في الحرية. وستظل هذه المهمة المعرفية والثقافية بامتياز على جدول الأعمال حتى تنجز، ما دام الاستبداد واقعاً قائماً؛ فوظيفة الفكر هي إنشاء صورة الواقع كما هو والوقوف على تعارضاته الجدلية واتجاهات تطورها. فالاستبداد، كما وصفه الكواكبي، هو الاستبداد، سواء كان مملوكياً أم عثمانيا، أم "وطنياً" و "تقدمياً"، أم "ثورياً"، أم "قومياً" و "اشتراكيا"، ومن البديهي أن يكون قبلياً وعشائرياً ومذهبياً. الاستبداد هو الاستبداد لا دين له ولا ملة ولا مذهب ولا جنسية ولا قومية، وهو هو في كل زمان ومكان، على تفاوت في الدرجة، لا في النوع، بحسب الظروف والملابسات والمعطيات التاريخية: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية؛ ومن ثم فإن طريقة الكواكبي في تحليل الاستبداد العثماني الذي عانى من ويلاته الأمرين تصلح قاعدة لتحليل الاستبداد عامة؛ لذلك لا يملك قارئ هذا الكتاب من عرب اليوم، إذا كان ثمة من قارئ، إلا أن يسقط مضمونه على حكومة بلاده وعلى نظامه السياسي، فإذا وجد أن ما وصفه الكواكبي من استبداد الدولة العثمانية لا يزال قائماً، بعضه أو جله أو كله، في دولته ونظام بلده وعلاقات مجتمعه ونفوس مواطنيه، فمعنى ذلك، إما أن العلاقات الاجتماعية والسياسية ونمط تقسيم العمل وتوزيع الثروة وشكل الملكية وما يؤطرها من بنى وتشكيلات و "مؤسسات" لم تتغير على نحو جذري يحول دون قيام الاستبداد وإعادة إنتاجه، وإما أن هذه جميعاً قد انتكست إلى ما كانت عليه في عصور الظلم والظلام، بعد تقدم في هذا المجال أو ذاك وتحسن على هذا الصعيد أو ذاك.

[U]والاستبداد هو "اقتصار المرء على رأي نفسه في ما ينبغي الاستشارة فيه"، وهو اقتصار ينم إما على غطرسة و وغدنة واستعلاء وطغيان، وإما على وهم ذاتي بالتمامية والكمال وامتلاك الحقيقة الكلية الناجزة التي لا يأتيها الباطل، لا من بين يديها ولا من خلفها. وثمة علاقة بين الرأي والمصلحة تجعل من الرأي تعبيراً وهمياً أو إيهامياً عن مصلحة فعلية. وهو في اللغة، كما يقول الكواكبي: "غرور المرء برأيه والأنَفَة عن قبول النصيحة، أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة. و يراد بالاستبداد، عند إطلاقه، استبداد الحكومات خاصة، لأنها أعظم مظاهر أضراره التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة. .. والاستبداد، في اصطلاح السياسيين هو تصرف فرد أو جمع بحقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تَبِعةٍ. .. وأشد مراتب الاستبداد التي يُتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية، ولنا أن نقول: كلما قل وصف من هذه الأوصاف خف الاستبداد إلى أن ينتهي بالحاكم المنتخب الموقت المسؤول فعلاً" . ويلفت الدارس والباحث أن الكواكبي الذي رأى في الاستبداد بنية أو منظومة متكاملة ومتآخذة، أي تأخذ عناصرها بعضها برقاب بعض، لم يجعل من هذه البنية أو المنظومة نسقاً مجرداً، بل جملة متعينة أو كلية عينية، كما يقول الفلاسفة، صفاتها هي تعييناتها وحدودها، فكل وصف هو حد وفرق، لذلك أكثر الكواكبي من وصف الاستبداد، ووصف آثاره، لكي يعيِّن جميع حدوده وتعييناته وتعيُّناته أو مظاهره التي كلما زال أحدها أو ضمر خف الاستبداد؛ ومن ثم فإن هذه الجملة الكلية، أو الكلية العينية، جملة أو كلية تاريخية، صيرورة اجتماعية سياسية تاريخية، جدلية إذا شئتم، تعيِّن نظاماً اجتماعيا / اقتصاديا وسياسياً، أو نمط إنتاج وعلاقات وبنى وتنظيمات تتكثف جميعها في بنية الدولة ونظام الحكم ونمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين الدولة والمجتمع والسلطة والشعب. كما يلفت النظر أنه لم يجعل من الاستبداد بنية مغلقة، جوهرية، عصية على قوانين الكون والفساد، بل جعل منه بالأحرى بنية مفتوحة تتغير أشكالها ومظاهرها، وتختلف من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر، ويمكن تغييرها تدريجاً؛ لذلك رأيناه في "أم القرى"، وهو نص لا ينفصل عن "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، ينشئ خطبة لكل وفد من الوفود العربية والإسلامية التي استدعاها إلى مؤتمره المتخيَّل في مكة المكرمة، أم القرى، وإلى جمعيته، "جمعية الموحدين" الذين لا يعبدون إلهاً سوى الله وحده جلت عظمته وتعالى مجده على كل ماجد أو متمجِّد؛ وفي كل خطبة جواب عن سؤال: لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم غيرهم؟ أو مقاربة للإشكالية النهضوية التي لا تزال قائمة، وإن تغيرت الظروف والمعطيات؛ ولم تخل خطبة من مقاربة معنى من معاني الاستبداد وخطة لمقاومته والخروج من أسواره. فبدا على نحو لا لبس فيه أن الاستبداد قرين التأخر يتغذى منه ويغذيه، بل يعيد إنتاجه كلما بدرت بادرة للخروج منه. فهو لا يتعلق بمزايا الحاكم وصفاته الشخصية، بل بالشروط التي أنتجت الحكم. وتلفت النظر أيضاً رؤية الكواكبي أن مقارعة الاستبداد تحتاج إلى أدوات، كالمؤتمر والجمعية، وإلى سياسة عملية، أو عمل سياسي يعارض الاستبداد ويناهضه، بقدر ما يقوم على وعي صحيح بأسباب التأخر ومظاهره.

وإذ كشف الكواكبي النقاب عن العلاقات الضرورية، السلبية منها والإيجابية، بين الاستبداد والدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والتربية والترقي، وأكد وجوب مناهضته والتخلص منه، فليس من اليسير، ولا من المستحب، أن تجمل هذه العلاقات في مقالة واحدة؛ لذلك اخترت علاقة الاستبداد بالمجد، لما ينطوي عليه عمل الكواكبي، في هذا المجال، من وصف دقيق وأصيل للمتمجدين ساسةً ومثقفين، أو أهلَ سيف وأهلَ قلم، ورغبة في تتويج سلسلة المقالات السابقة عن اغتراب المثقف العربي واعترابه، أي انكفائه على "خصوصية" وهمية وهوية حصرية، نافية للآخر ومعادية له، وذلكم أحد وجوه الاستبداد.

الاستبداد، في نظر الكواكبي، أصل لكل فساد، إذ يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، ويغالب المجد ويقيم مقامه التمجُّد. فالمجد والتمجد ضدان. "المجد هو إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكل إنسان، لا يترفع عنه نبي أو زاهد، ولا ينحط عنه دني أو خامل. للمجد لذة تقارب لذة العبادة عند الفانين في الله، وتعادل لذة العلم عند الحكماء، وتربو على لذة امتلاك الأرض مع ثمرها عند الأمراء، وتزيد على لذة مفاجأة الإثراء عند الفقراء، ولذا يزاحم المجد في النفوس منزلة الحياة". ولا يُنال المجد إلا بنوع من البذل في سبيل الجماعة؛ ولهذا البذل أسماء مختلفة عند الأمم والشعوب المختلفة؛ فهو "إما بذل مال للنفع العام، ويسمى مجد الكرم، وهو أضعف المجد، أو بذل العلم النافع المفيد للجماعة، ويسمى مجد الفضيلة، أو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق وحفظ النظام، ويسمى مجد النبالة، (وبودي أن اسميه مجد الحق والعدالة) وهذا أعلى المجد، وهو المراد عند الإطلاق، وهو المجد الذي تتوق إليه النفوس الكبيرة وتحن إليه أعناق النبلاء". ولا يخفى على بصير ارتباط فكرة المجد بفكرة الجماعة، أي بفكرة الأمة أو فكرة الشعب، وبفكرة الخدمة العامة أو العمومية التي تحيل على عمومية المخدوم، أعني المجتمع والدولة. ولا تخفى كذلك الإشارة العبقرية إلى عدم حصره في قلة من الأشخاص؛ فهو "محبب للنفوس، لا تفتأ تسعى وراءه، وترقى مراقيه، وهو ميسَّر في عهد العدل لكل إنسان على حسب استعداده وهمته، وينحصر تحصيله في زمن الاستبداد بمقاومة الظلم على حسب الإمكان". [U]ويقابله التمجد مقابلة الضد للضد والنقيض للنقيض، والتمجد "خاص بالإدارات المستبدة، وهو القربى من المستبد بالفعل كالأعوان والعمال، أو بالقوة (كالملقبين بألقاب الشرف والجاه)، أو الموسومين بالنياشين أو المطوقين بالحمائل، وبتعريف آخر، هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية". ولا يخفى هنا أيضاً اقتران التمجد بالاستبداد والفساد، ولا تلك الفكرة العبقرية الأصيلة، فكرة تساوي جميع الأفراد وتماثلهم في الإنسانية، وهي جذر لمفهوم المواطنة وتساوي جميع المواطنين أمام القانون الذي وضعه الكواكبي في مرتبة لا تدانيها مرتبة مهما علت. وبوصف أخصر، يضيف الكواكبي، "هو أن يتقلد الرجل سيفاً يبرهن به على أنه جلاد في دولة الاستبداد، أو يعلق على صدره وساماً مشعراً بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان .. ، وبعبارة أوضح وأخصر هو أن يصير الإنسان مستبداً صغيراً في كنف المستبد الأعظم". والمستبد الصغير أدهى من المستبد الأعظم، إذ لا يخلو هذا الأخير أن يكون "عادلاً" أو "مصلحاً". فالمستبد الذي يصفه الكواكبي هو المستبد وبطانته وأعوانه على الاستبداد ومتمجدوه معاً، المستبد الذي لا يصير كذلك إلا بهذه البطانة وهؤلاء الأعوان، وإلا فللنظام المعني اسم آخر. فلا يكون المستبد مستبداً إلا بالمستبدين الصغار المتمجدين، ولا سيما "أهل القلم" بالمعنى المملوكي العثماني الإقطاعي للكلمة؛ وجريرة هؤلاء لا تقل عن جريرة المستبد الأعظم، بل ربما تزيد عليها لما يتوفرون عليه من أساليب التمويه والتضليل والإيهام وتزييف الوعي.

التمجد خاص بالإدارات المستبدة، "وذلك لأن الحكومة الحرة التي تمثل عواطف الأمة تأبى كل الإباء إخلال التساوي بين الأفراد، إلا لفضل حقيقي، فلا ترفع قدر أحد منها إلا رفعاً صورياً أثناء قيامه في خدمتها، أي الخدمة العمومية، وذلك تشويقاً له على التفاني في الخدمة. كما أنها لا تميز أحداً منها بوسام أو تشرفه بلقب إلا ما كان علمياً أو ذكرى لخدمة مهمة وفقه الله إليها. وبمثل هذا يرفع الله الناس بعضهم فوق بعض درجات في القلوب لا في الحقوق". فالتفاوت والتفاضل بين الأفراد لا يكونان في الإنسانية ولا في المواطنة ولا في الحقوق، بل في الهمة والكفاية والمقدرة على البذل في سبيل النفع العام والخدمة العمومية؛ وليس كما هي الحال في التمجد والرياء والنفاق، أو في درجة الولاء للمستبد، على أي وجه من وجوه الولاء. وهكذا يكون المتمجدون، كما وصفهم الكواكبي، "أعداء للعدل، أنصاراً للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة؛ ولهذا يقال: دولة الاستبداد دولة بله وأوغاد، فلا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله، أو الخبيث الخائن الذي يرضيه ويغضب الله".

ويضيف الكواكبي أن " الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن السفلة لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أيٍ كانت ولو بشراً أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه، فيشاركهم ويشاركونه. وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته؛ فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفة وقرباً. ومن ثم فالمستبد، وهو من لا يجهل أن الناس أعداؤه لظلمه، لا يأمن على بابه إلا من يثق به أنه أظلم منه للناس، وأبعد منه عن أعدائه". ويبدو لي أن فكرة العداوة هنا تستحق التأمل والبحث، إذ لا ينظر المستبد والمتمجدون إلى سائر المواطنين إلا على أنهم أعداء موضوعيون، وذلك بقدر ما يكون المستبد والمتمجدون قد انتهكوا من حقوق وأعراض وحرمات. فكلما أمعن هؤلاء وأوغلوا في العسف والظلم والنهب والفساد يتعمق شعورهم بأن سائر المواطنين "أعداء موضوعيون"، فيمعنون في القمع والإرهاب، وينشبون أنيابهم ومخالبهم في لحم الشعب. "والنتيجة أن وزير المستبد هو وزير المستبد، لا وزير الأمة، كما في الحكومات الدستورية. كذلك القائد يحمل سيف المستبد ليغمده في الرقاب بأمر المستبد لا بأمر الأمة، بل هو يستعيذ من أن تكون الأمة صاحبة أمر، لما يعلم من نفسه أن الأمة لا تقلد القيادة لمثله". والنتيجة المقابلة أن الإصلاح الذي يفضي إلى الخروج من عالم الاستبداد يبدأ بنفي التمجد والحجر على المتمجدين.

ألا ما أكثر المستبدين الصغار في وقتنا وزماننا، ألا ما أكثر المتمجدين من "أهل السيف وأهل القلم" في وقتنا وزماننا، ألا ما أكثر هؤلاء الذين لا يزيدون على أن يكونوا "كعب حذاء المستبد" الذي يسد به المستبد أفوه المواطنين. ألا ما أحوج بلداننا إلى نفي التمجد والحجر على المتمجدين. ألا ما أحوجنا إلى روح الكواكبي، المثقف الماجد، وإلى نبله وأصالته وشجاعته، وما أحوج الفكر العربي إلى إعادة صلته التي انقطعت بفكر النهضة والتنوير في العصر الليبرالي. ولعل تشابه الظروف يقتضي ذلك بإلحاح.
11-17-2004, 11:46 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #5
طبائع الاستبداد .... عبد الرحمن الكواكبي
11-17-2004, 11:49 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #6
طبائع الاستبداد .... عبد الرحمن الكواكبي
الوعي بالإستبداد عند عبد الرحمن الكواكبي 15.12.2002 9:13 PM

المصدر: -

بقلم: عبد الله خليفة

يعتبر عبد الرحمن الكواكبي من مشاهير المثقفين العرب في القرن التاسع عشر المناضلين من أجل الديمقراطية والحرية، وقد ولد سنة 1854 بمدينة حلب، وعمل في الصحافة والمحاماة والتجارة، وتعرض للاضطهاد والسجن مراراً وصودرت أمواله وممتلكاته، فهاجر من سوريا وطاف بالبلدان العربية، وألف كتابيه الشهيرين : ] طبائع الاستبداد وأم القرى [، وكتباً أخرى ضاعت.

وقد قُتل بدس السم له سنة 1902، بمصر في القاهرة، وهو ما زال في عز عطائه. وقد أثرت آراؤه في التطور الفكري والسياسي للأمة العربية، التي اعتبرته أحد رموز التنوير والنهضة باختلاف تياراتها، لما قام به من جمع بين جذور الأمة والدفاع عن قضايا الحرية والإسلام والتحديث. وقد توصل الكواكبي في ذروة تفكيره، وهو يجاهد لإعادة تكوين وعي العرب، إلى أن الاستبداد السياسي هو سبب الانحطاط التاريخي للمسلمين، لهذا نراه يقول: إن ]أصل الداء هو الاستبداد السياسي [، وذلك في مقدمة كتابه طبائع الاستبداد، وهو يقصد بالطبائع ما نفهمه الآن بالظاهرات والأسباب العامة للحالة المُشخصة، أو لقوانينها كذروة للغوص في تحليلها. يقول : ]وأنا لا اقصد في مباحثي ظالماً بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه..[، ]طبائع الاستبداد، طبعة المدى، ص16[. إن بحثه عن هذه ] الطبائع [ وقد اكتوى بنارها، جعلته يشتغل على درسها في المصادر العربية القديمة والحديثة والغربية المعاصرة، بحيث يتمكن من الغوص إلى مختلف تجليات هذه الظاهرة، وطبائعها أي ظاهراتها المختلفة، وتشير كلمة ] طبائع [ إلى التعبير العربي القديم بكون الأشياء ذات خصائص ثابتة شبه طبيعية.

ويقوم خطاب الكواكبي على جانبين متداخلين ومتضادين، الأول يعتمد على فحص وتحليل الظاهرة، عبر الغوص في مختلف تجلياتها، سواء في المجال السياسي أو الديني أو العلمي أو الأخلاقي أو المالي أو التربوي، أم في العودة إلى جذورها في التاريخ الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي أو البوذي الخ، بل أحياناً العودة إلى التاريخ المشرقي القديم، لدى الفراعنة والرافديين، وأيضا تحليلها من خلال التاريخ المعاصر لدى العرب والغربيين، بحيث نجد الكواكبي يتنقل في فصل واحد، أو حتى في فقرة واحدة بين أزمنة شتى، ومراحل تاريخية متباينة، وهذا الانتقال يستهدف مناقشة الظاهرة السالفة الذكر، وتتبع أصولها ومظاهرها لدى الأمم. والجانب الثاني من خطابه هو جانب غير تحليلي، جانب وعظي وخطابي، يندد فيه ويدعو ويتحسر، وهو جانب يعبر عن انقطاع التحليل واستبداله بالخطب، وهو يعبر عن طريقة منبرية تلاقى فيها المحامي بالواعظ، مثلما يقول في فصل الاستبداد والدين من كتابه:

] ولكن واأسفاه على هذا الدين الحر، الحكيم، السهل، السمح، الظاهر فيه آثار الرقي على غيره الخ..[، وهذا الجانب لا يقوم بتطوير قضايا التحليل المطروحة، بل هو يقفز إلى النتائج، ويعبر عن موقف المؤلف بشكل تقريري. وبالتأكيد فإن أبرز جانب عقلي هو في القسم الأول، الذي بهر الناس على مدى القرن العشرين لما فيه من جرأة ونفاذ بصيرة. ومنذ البدء يدخل الكواكبي إلى موضوعه معرفاً الاستبداد السياسي بقوله:] إن الاستبداد هو صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين[، وهذه الحكومات على نوعين إما حكومة مطلقة بشكل ظاهر، وإما حكومة مقيدة ] بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى، وهذه حالة الحكومات التي تسمى نفسها بالمقيدة أو بالجمهورية[، ] ص23 ــ 24[. إن الكواكبي هنا يدمج بين شتى أنواع الحكومات الدكتاتورية، سواء أكانت الشرقية المستبدة بشكل كلي وكامل، أم الغربية التي تنفذ من الشكل الديمقراطي بآلية دكتاتورية عميقة.


يستطيع الكواكبي أن يغوص في المظاهر الاستبدادية لحكومات عصره الشرقية والغربية برؤية شجاعة، فهو يكتب انه ليس بالضرورة أن تكون الحكومة الدستورية حكومة ديمقراطية، فالحكومة التي تعمل بالدستور ولكنها تقوم بالتفريق بين الجوانب الثلاثة الأساسية لعملية الديمقراطية المتكاملة وهي ]قوة التشريع[ و ] قوة التنفيذ [ و ]قوة المراقبة [، فما لم تكن هذه القوى، أو السلطات، منفصلة فإن الدستور لا معنى له.

ويقول في عبارة دقيقة حاسمة:]لأن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسئولية فيكون المنفذون مسئولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسئولين لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى.[، ص .24 ولديه أن صمام الأمان في الحياة الديمقراطية هو وجود قوة اجتماعية واسعة تفرض ]المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه[ وهو يضرب مثلاً من قوة الصحابة والناس في أيام الخلفاء الراشدين وقدرتهم القوية على تبليغ صوتهم، وسماع الخلفاء لهذا الصوت بل دعوتهم إلى استمراره وتأثيره. وبهذا الصدد يعتبر ان التجنيد الإجباري وجهالة الأمة هما من الظواهر الكبيرة المكرسة للاستبداد، ولا شك ان وضعه هذين السببين في مقدمة المظاهر المكرسة للاستبداد، يعود إلى رؤيته لدورهما في تجهيل وعسكرة الجمهور البسيط، خاصة الريفي والمدني الفقير الذي يستخدم لضرب الأقسام المدنية المتحررة، لأنه يمضي بعد ذلك في تحليل هذه الأقسام الشعبية وخطورة جهلها وعسكرتها على الديمقراطية. فهو يقول ]وأما الجندية فتفسد أخلاق الأمة حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء[، إن الكواكبي يقوم بتتبع مظاهر لا تبدو بينها خيوط ارتباط دقيقة في الظاهر، لكن سنرى العلائق بينها، فبعد قليل يعود إلى بحثه مؤكداً النموذج الإنكليزي في النظام السياسي، حيث الشعب لا يكف عن مراقبة ملوكه، وإن الوزارة المنتخبة هي التي تدير كل النظام السياسي بما فيها الملك وحاشيته وعلاقاته.

وفجأة من هذا النظام السياسي المتقدم يعود إلى الحكومات البدوية، فيقرر ان المجتمعات البدوية قلما عرفت الاستبداد ] وأقرب مثال إلى ذلك أهل جزيرة العرب فإنهم لا يكادون يعرفون الاستبداد من قبل عهد ملوك تبع وحمير وغسان إلى الآن إلا فترات قليلة[، وهذا التعميم في الواقع بين ملوك تبع، والقبائل البدوية، فيه جانب محدود من الموضوعية، فالقبائل الرعوية لم تتجذر فيها السلطات الدكتاتورية، ولكنها أيضاً تحمل بذور الدكتاتورية عبر الخضوع المطلق لشيخ القبيلة، وعبر ]وحدة الدم[ فيها، التي تشكلها الحياة القاسية للصحراء وهيمنة الشيوخ. وعبر هذه الدكتاتورية أمكن لهؤلاء أن يشيدوا الإمارات والدول الاستبدادية المنبثقة من التطور القبلي. وهذا المثال يعطينا كيف أن وعي الكواكبي يستقي بعض المظاهر الحقيقية لكنه يقوم بحالات من التعميم، وبتغييب الدراسة التاريخية للظاهرة الجزئية المدروسة. والمثال السابق يدعوه إلى دراسة تطور الإنسان عبر التاريخ، فانتقل من تحليل البدو إلى تحليل تاريخ الإنسانية، وكيفية الاجتماع، فهو يعتبر ان الجماعات والشعوب المتلاصقة هي التي تعيش حياة الاستبداد كالأمم الشرقية، أما الشعوب المتفرقة في السكن كالبدو والإنكليز والأمريكيين فإنهم يعيشون حياة أقرب إلى الحرية. إن الكواكبي هنا يعطي سبباً جغرافياً مطلقاً مفصولاً عن التطور الاجتماعي المركب، لكن الأمم الرعوية أقرب إلى الحرية بسبب عدم تجذر السلطة الاستبدادية داخلها، أي عبر غياب مؤسسات القمع الراسخة، وحضور الجمهور المسلح وعدم رسوخ الطبقات، فالأمر يعود إلى بنية اجتماعية معينة، وليس لمسألة التفرق والبعثرة السكانية، فالإنكليز والأمريكيون لا يعيشون هذه البعثرة بل التركز السكاني كالهنود والعرب ولكن مسألة الحرية تعود إلى التطورين الاجتماعي والسياسي، حيث تمكن الناس في هذين البلدين من إخضاع الحكام للمؤسسات الدستورية.

وهكذا فإن الكواكبي عبر تحليل ظاهرات معينة، تغيب عنه قراءة التشابك بين الاجتماعي والسياسي.


إن الطابع الخطابي لدى الكواكبي يتضح في هذه العبارة البليغة النارية: ]المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم اخوتهم الراشدون. إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت[، ] السابق، ص 26[.

في مثل هذا الخطاب الحماسي الموجه لإيقاظ الشعب واستثارته، تتشكل المفاهيم من كلمات مجردة بلا خلفية اجتماعية وتاريخية، كتعابير : المستبد، والحق، والحرية، والعوام، والعلماء، فكل هذه الكلمات تتشكل في غياب الفضاء التاريخي، فالحق هنا مقصود به ولا شك حقوق الناس الديمقراطية التي أوضحها الكواكبي في أماكن أخرى، ولكن الكلمة تتجرد من دلالتها، مثلما تتجرد كلمة العوام، فهم نائمون بشكل مطلق وليس لأسباب موضوعية في ظرف تاريخي معين، كذلك فالعلماء هم أصحاب الإيقاظ المطلق. هنا يعبر الكواكبي عن العرب في بداية القرن حيث يستفز العامة للثورة، كما يستفز العلماء، علماء الدين، لكن لا يقوم بالتحليل لهذه التعبيرات العامة، ولكننا ندرك ان مسائل الوعي والثقافة والناس والمثقفون والأوضاع الموضوعية لا تترابط وتتداخل في فهمه، فليس ثمة شروط وقوانين موضوعية للتطور الاجتماعي، فالأمور خاضعة لديه لإرادة ذاتية يقوم بها العلماء، وإلى جسم عامي مرتبط بهذه الإرادة، وليس لجسم شعبي مرتبط بظروف معقدة يتداخل فيها الذاتي والموضوعي. ولهذا فإن هذه التعميمات تتحول إلى رؤية كونية عامة مجردة مضطربة فيقول:] إن الله جلت نعمه خلق الإنسان حراً قائده العقل، ففكر وأبى إلا أن يكون عبداً قائده الجهل[،

فهو هنا لا يضع مسافة موضوعية بين الله والإنسان، عبر التاريخ الذي تشكل فيه الناسُ، فتأتي كلماتُ: الإنسان، الحر، العقل، العبد، الجهل، بلا ركائزها في التاريخ الملموس، أي يغيب التاريخُ الحقيقي في المواضع المختلفة من تطور الحضارات وكيفية نشوء الدولة وانتقال الإنسان من المجتمع المشاع إلى مجتمع العبودية المعممة في المشرق العربي، فمثل هذه السيرورة تغيب عن الكواكبي، ولهذا ينهال على رأس هذا الإنسان المجرد بأقذع الهجوم:]فكفر وأبى شكره وخلط في دين الفطرة الصحيح بالباطل ليغالط نفسه وغيره[، ]فكفر الإنسان نعمة الله وأبى أن يعتمد كفالة رزقه فوكله ربه إلى نفسه وابتلاه بظلم نفسه وجنسه وهكذا كان الإنسان ظلوماً كفوراً[، ] نفسه ص 27[. هذا الخطاب جزء من خطبة العالم الديني، الذي يمثله الكواكبي هنا، وهو يقوم بالتعميمات المجردة اللاتاريخية، ويسكب الخط الديني الغيبي:فهنا الله وجنته ودينه الصحيح، وهناك الشيطان والنار والدين الباطل، وثمة الإنسان المجرد الكافر الذي يتوجه إلى المعصية، ولكننا لا نعرف لماذا يتوجه هذا الإنسان العام اللاتاريخي إلى الشر؟ ما هي ظروفه؟ وكيف تسهل قيادته من قبل الشيطان؟

في هذا الخطاب يعود الكواكبي إلى الغيبية، ويبتعد عن دوره كمحلل تاريخي، لكنه يعود إلى هذا الدور بعد أن ينهي فصل الاستبداد السياسي، منتقلاً إلى الاستبداد الديني، اللذين يعتبرهما صنوين، ووجهين لعملة واحدة:]هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب[، ص .29 ويقوم الكواكبي بالحكم المُعمّم على الإنجيل والتوراة فيقول إن الحكم السابق حقيقي على ] مغزى أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المُضافة إلى الإنجيل، ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما[، لكنه لا يقوم بعرض وجهة نظره هذه، وكيف استطاع أن يفصل الأقسام التاريخية عن الأقسام التعليمية والأخلاقية؟ وهل الرسائل، ولعله يقصد رسائل بولس الرسول، تنفصل عن الأناجيل الأربعة، لأنه لا يوجد إنجيل واحد؟! إن الكواكبي لا يدخل معمعمة البحث هنا، وينتقل إلى الظواهر الاجتماعية البسيطة والمنتشرة عبر العصور، وهي استخدام رجا ل الدين للأديان من أجل المصلحة، ويقول إن أساس وضعهم يعتمد على ما في الأديان من تهديد بالعقوبات الكبرى أو بالثواب العظيم، وإن الأمر يعود إلى سيطرة رجال الدين على هذا الطريق بين الإنسان وربه، فهم يقيمون الحصالات المالية و يأخذون المكوس على أرواح البشر الحرة:] ولكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة والكهنة والقسوس وأمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول ما لم يعظموهم مع التذلل والصغار ويرزقوهم باسم نذر أو ثمن غفران[، ص 29 ــ .30 لكن هذه العملية في رأيه ناتجة عن المماثلة في وعي العوام بين الخالق والحاكم: ] وبعبارة أخرى يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات، وهم هم، ليس من شأنهم أن يفرقوا مثلاً بين (الفعال المطلق) والحاكم بأمره.[ وهذا ما يؤدي في رأيه إلى انتحال بعض الحكام القدماء صفات الألوهية.


في رؤية العلاقة بين الأديان والاستبداد يعطي الكواكبي للعوامل الشخصية الدور الكبير في صياغة الاستبداد، فرجال الدين والحكام، كلٌ على حدة، أو مجتمعين، يقومون بالدور الاستبدادي كلٌ في مجال اختصاصه، وهم يشكلون عالماً استبدادياً مشتركاً، وهم يفرقون الشعوب إلى شيع وطوائف " فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ"، ص 31، أو مثل قيام "السلاطين الأعاجم في الإسلام بالانتصار لغلاة الصوفية"،
إن هذه الظواهر التي يقدمها الكواكبي تركز على الشخوص ولا تقوم بالتحليل الذي يربط بين هذه النماذج الشمولية والأفكار، فلماذا استطاعت هذه النماذج دوماً احتكار صياغة معاني الأديان واستغلتها للسيطرة، وما هو التداخل بين الفكري والسياسي والاجتماعي هنا؟ أي كيف حدثت هذه الديمومة ولماذا؟ ولماذا لم تظهر شخصيات تركز على معاني الأديان الإيجابية وتستمر في الدعوة إليها؟ لقد استطاع الكواكبي بعد هذه الفقرات أن يكشف معاني دقيقةً، لاتزال حتى وقتنا الراهن غير معروفة لكثير من المثقفين، هي تلك الرؤية الدقيقة لتطور المذاهب الدينية في أوروبا، حيث يتمكن من تمييز التحرر في البروتستانتية والتقليد في الكاثوليكية، فهو يفسر تحرر القسم الأول على ما يستقيه من الرواية التي يستشهد بها، بأنه راجع إلى أن التحرر الديني ساهم في تطور تلك الشعوب السياسي، في حين أن الحرية السياسية في الدول الكاثوليكية لم تؤدِ إلى التحرر الديني، ورغم أن هذه ملاحظة دقيقة منه، فإن الكواكبي عبر منهجه المثالي "فلسفياً" يقوم بفصل تطور الوعي في شكليه الديني والسياسي عن التطور الاجتماعي، فهو هنا لا يقرأ تطور الرأسمالية الأوروبية ودرجاتها، حيث سارعت الأقطار الأكثر والأسبق في النمو الرأسمالي في إنتاج البروتستانتية، في حين كانت الأقطار الجنوبية الأقل تطوراً قد أنتجت المذاهب المتشددة، أي أن نمو الحريات الاقتصادية قام بتفكيك شبكة الإقطاع في المستويات المختلفة للبنية الاجتماعية، بدءا من حرب الفلاحين مروراً بنشوء عمليات الإصلاح الديني حتى الثورة الصناعية الخ...

ولكن كان طرح الكواكبي هنا يتصف بطابع متقدم، وسنجد في مقاطع تالية، أفكاراً مدهشة متقدمة أخرى حتى على وقتنا الراهن. ولكننا وجدنا هنا مشكلة وعي الكواكبي المحورية حيث التحليل النقدي للاستبداد الديني والسياسي تنقصه عمليات تشريح اقتصادية واجتماعية وفكرية متضافرة، وفي الفقرات الكبيرة التالية المتعلقة بتفسير نشوء ظواهر الألوهية في بلاد الإغريق يرجعها الكواكبي إلى عمليات الخداع التي قام بها حكماء بلاد الإغريق، كوسيلة للإصلاح الديني الذي هو البوابة للإصلاح السياسي كما يرى. وهو تفسير لا علاقة له بالتاريخ، وإذا كان هو هنا يواصل عدم معرفة التاريخ الموضوعي وأهمها نشوء المدن الحرة والصناعة والطبقات الوسطى القوية التي أنتجت الديمقراطية الأثينية، إلا أن استنتاجه بشأن أسبقية الإصلاح الديني هو غير دقيق، لكون الإصلاحين السياسي والديني كانا متداخلين، بل ان المحافظة الدينية ظلت قوية في بلاد اليونان رغم التقدم السياسي، ثم لعبت دوراً كبيراً في الارتداد عن النهضة. بطبيعة الحال كان دخول الكواكبي لتحليل الظواهر التاريخية في بلاد اليونان هو بحد ذاته إنجازاً، كما يشير إلى محاولاته الموسوعية لتفسير الظواهر الإنسانية، رغم نقص المواد المعرفية والمنهجية في زمنه.

ويأتي تحليله للإسلام معبراً عن هذا الترابط في وعيه بين الإسلام والديمقراطية والحداثة بل الاشتراكية، إلى استبصاره المدهش لكون الإسلام ثورة اجتماعية وضعت العرب والمسلمين على طريق التطور والتحديث، وهو يقول: إنها وضعت "أصول حكومتها: الشورى الأرستقراطية أي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم. وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي أي الاشتراكي حسبما يأتي فيما بعد"، ]ص 36 ــ 37[. إن شورى الأشراف التي أقيم عليها الحكم الإسلامي لم تنفصل عن رغبات ومصالح الرعاة العرب، أي الجمهور الأوسع. ونستشف هذا الفهم من تعبيره الاجتماعي الدقيق هنا: "الأرستقراطية" فالفئات الوسطى القرشية التي تسلمت زمام الدولة الوليدة، ظلت أشرافية، واعتمدت شورى أهل الحل والعقد، وليس النظام الديمقراطي الانتخابي، أي لم تعتمد التصويت الواسع للجمهور، ولهذا فإن تقييم الكواكبي للحدث الإسلامي رغم نواته الموضوعية، يظل مضطرباً، ولهذا فإن جمعه للديمقراطية والاشتراكية هنا يشير إلى رؤيته لعملية الديمقراطية الاجتماعية العميقة: توزيع الأراضي على الجنود العرب، وتأميم أراضي الفتوح لصالح الناس، ووجود السلطة في متناول نقد وتصحيح الجمهور، وعدم وجود هياكل بيروقراطية ومؤسسة أمن وقمع الخ... لعل هذه الرؤية الاجتماعية التي عبر عنها الكواكبي بشكل مشوش، هي التي فصلت رؤيته الدينية عن الشمولية، وجعلتها رؤية دينية ديمقراطية، خاصة مع التحامها بالوعي الحديث.


إن الكواكبي بتقويمه للإسلام كثورة اجتماعية لعب أشرافُ مكة دوراً طليعياً فيها، لا يقوم بمتابعة التحليل لمسار هذه الثورة، فهو يجد بعدئذٍ ان تلك الفترة المضيئة قد زالت لأسباب ليست عبر قراءة تحليلية لتطورها، فهو يعيدها إلى:.. ]هذا الإهمال للمراقبة، وهو إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود.[، ]نفسه، ص 37[.
فهو يعيد ظهور الاستبداد إلى مجال ضعف المراقبة الجماهيرية للحكام، وغياب جماعة الأمر بالمعروف، والحقيقة ان المسلمين لم يقصروا في هذا المجال، ونحن نجد مختلف الجماعات السياسية والفكرية طوال العهد الأموي تناضل وتتصدى بالسيف والكلمة للحكام الجائرين، وامتد ذلك إلى العصر العباسي، كما حدث في انتفاضة النفس الزكية والمعتزلة ضد جور بني العباس الخ.. ونستغرب من الكواكبي كيف لم يقم بدراسة هذه الظاهرات الواضحة في التاريخ الإسلامي، ثم كيف يقفز إلى جانب جديد اعتبره هو المسئول عن انهيار الحكم الإسلامي العادل، إلا وهو ] والخلاصة أن البدع التي شوشت الإيمان وشوهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد، ألا وهو الاستعباد[، ص .39 فما هو شكل هذا الانحراف، أي كيف تمكنت مظاهر دينية أخرى غير إسلامية من التغلغل في الإسلام، وما هي الأسباب؟ لا بد أن نرى الشق الأول من السؤال، ويبدأه بأن المسلمين اقتبسوا من المسيحيين مقام البابوية وحاكوا مظاهر القديسين وعجائبهم وقلدوا الكهنوت في مراتبهم والوثنيين في الرقص وتطبيب الموتى والاحتفال الزائد في الجنائز وشاكلوا الكنائس في مراسمها وجاءوا من المجوسية باستطلاع الغيب وتعظيم الكواكب الخ.. الخ..

تغيب هنا عن منهجية الكواكبي مثلما غابت في السابق، القراءة المتابعة لتغير المراحل التاريخية، فهو لا يقوم بدراسة الإسلام التأسيسي وظروفه وتطوره، واعتماده على رعاة الجزيرة لتغيير المنطقة، وتأثير ذلك في توحيديته وبساطته، ثم ظهور مرحلة جديدة بانتقال العرب إلى البلدان المفتوحة، وتأثير ثقافاتها ومقاومتها وصراعها على تطور الإسلام، وبالتالي تغلغل تقاليد جديدة تعكس التداخل والصراع بين مستويين من الوعي والتطور، وهو ينتبه إلى دور الاستبداد في تبديل هذه الثقافة المشتركة وتوظيفها لخدمة سيطرتها، لكنه لا يرى كذلك ان هذه الثقافة لعبت دوراً في مقاومة السلطة الشاملة وتفكيكها. هذا الجانب التركيبي المعقد لا تستطيع أدوات الكواكبي فرزه وإعادة تحليله، فهو ينطلق من رؤية تبسيطية للدين وللإسلام، وهذه العمليات المركبة من التطور الاجتماعي الروحي تصعب على أدواته أن تدرسها.

لكنه ينجح في تحليل ظاهرة عصره التي خبرها بمرِ تجاربه، وهي التي تعبر عن مضمون رؤيته، ألا وهي ظاهرة النبالة، أي الإقطاع، ففي فصل الاستبداد والمجد، يقوم بكشف أصحاب الأمجاد هؤلاء الذين يتجه المستبد للإكثار ]منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر الأمة على أضرار نفسها تحت اسم منفعتها[، ]والخلاصة ان المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن أو توسيع المملكة أو تحصيل منافع عامة.. [، ] ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز.[ ثم يقوم الكواكبي بتعرية واسعة لقيم المجد الزائف متغلغلاً في ظاهراته بلغة نارية ساخرة كاشفاً سمات التنبلة الاجتماعية حيث يرث ابن العائلة ] الترف المصغر للعقول[ و ] الوقار المضحك للباطل السائد[ ولا ] يستخدم الثروة في غير الملاذ الدنيئة البهيمية ويرتبط ] باقران السوء المتملقين المنافقين [ الخ.. هذه المظاهر الاجتماعية للاقطاع يتبعها الكواكبي بتحليل اجتماعي سياسي مترابط ودقيق، ] فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة الأشراف[، فقدرة الأسر الإقطاعية العربية على تأسيس الحكم يعتمد على قدراتهم العشائرية العسكرية، وهو أمر سبق لابن خلدون تشخيصه باتساع، لكن الكواكبي يتتبع مختلف المظاهر المترتبة على فكرة الأصالة الأرستقراطية، فتظهر النبالة العربية بشكلها القبلي المترفع، وبحياتها الاجتماعية الخاوية، ويظهر الاستبداد العربي مرتكزاً عليها، ثم على رؤساء العشائر الأخرى وعلى الإدارة الفاسدة، بحيث يستطيع المستبد أن يستمر في حكمه المتفرد. بطبيعة الحال لا يقوم الكواكبي بربط هذه الجوانب الدقيقة من تحليله الاجتماعي المعاصر بالقوى الاجتماعية المختلفة، وبالمسار التاريخي للأمة العربية، فتحليلاته تحليلات موضعية جزئية لا تتسع في تعميمات وتكتشف قوانين، ولهذا يغلب على ملاحظاته التجزؤ والتفتت وغياب الترابطات المختلفة، فهو هنا يكشف جذور الاستبداد الإقطاعي في المنطقة، لكن لا يربطه بما فحصه سابقاً عن المذاهب الأوروبية، أو عن التاريخ العربي، فتتحول ملاحظاته الدقيقة إلى وعي جزئي بالتطور العام

11-17-2004, 11:53 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #7
طبائع الاستبداد .... عبد الرحمن الكواكبي
اقترح نقل الموضوع لساحة حقوق الانسان وشكرا

(f)
01-15-2005, 01:00 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  اعتذر عما فعلت...! (عبد الرحمن اليوسف) إسماعيل أحمد 5 1,062 08-29-2007, 02:08 PM
آخر رد: عادل نايف البعيني
  أين اللغة والأدب : عبد الرحمن منيف؟ ابن العرب 25 3,910 05-31-2005, 08:21 PM
آخر رد: إبراهيم

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS