هل حدثتكم قبلاً عن "نتالي" ؟

تلك الشعرها بلون الليل وعيناها الخضراوان بعمق البحر ...
ذلك الوجه الدافيء الذي ما فتيء يغمرني كما يغمر الوسمي وجه الأرض في تشرين ...

رأيتها أمس على مقعد عتيق متعب بجانب بحيرة باردة، تطعم طيور النورس ويستمد الصبح نقاءه من ثغرها ....

قلت، بعدما سلمت، وتأملت فرحتها وهي تنثر فتات الخبز فوق سطح الماء فيتهافت عليه الطير والشمس والريح: ما رأيك بفنجان قهوة فائق التركيز يستحضر بعض الماضي ويعيد للأرض دورتها ؟

أجابت وهي تغمرني بطرف عين كليلة وابتسامة قادرة: وحديث طويـــــــــل ؟!!!!
هززت رأسي موافقاً وأنا أرتشف الفجر من مبسمها، فتأبطتني إلى أقرب "مقهى".

بسرعة، بدا لي كما لو اني ركبت قطار الزمن وعدت بضعة عشر عاماً إلى الوراء. نفس عطر "كريستيان ديور" ونفس معطف "لونفان" ونفس الهزة التي كانت تعروني عندما كنا نذرع "السان ميشيل" قبيل الصبح كي نشرب آخر كأس و"باريس" تصحو من نومها.
يومها، كان قلبي يستمد سقطه من زندها، وكنت أنظر إلى "باريس" بعيني "لويس الرابع عشر" ثم أستشعر نبضات قلبها فوق ذراعي فتغمرني مشاعر "نابليون" في "أوسترليتز" ...
آآآآآآه .. نتالي .... نتالي ... لقد جرت في النهر مياه كثيرة منذها ...

نظرت إلى شفتيها وهما تأخذان بتؤدة بعضاً من القهوة الإيطالية، وتمتمت مبتسماً:
"يترشفن من فمي رشفات
هن فيه حلاوة التوحيد "
ابتسمت "بشقاوة" قائلة: ما زلت كعهدي بك، متسكعاً تهذي بأبيات شعر منفلت.
غسلني لمعان عينيها فقلت بوضوح:
"نحنا متل ما من قبل كنا
وبعدو الشوق عم يحمل ضميري
شهر خلف القصايد والمعنّى
وسني خلف الفساتين القصيري"

كانت "نتالي" قد تعودت، منذ دهر، أن تسمعني، وكنت متعوداً، في حضرتها، أن أقول. فمعها تنشق الحجب وبها تتشكل الكلمات. حياتها – رغم مآسيها – شعر، وحضورها شعر، ونشوتها على الشعر شعر مصفى. أوليست هي من قالت لي يوماً بأن الكلمة المبدعة المجنونة أجمل لديها من كأس "تاكيلا" قبيل الصبح في "مونمارتر". ولو كنت مثلي تدرك غرام "نتالي" بكأس "التاكيلا" ودرج "كنيسة الساكر كير" في "مونمارتر" فأنت تدرك مثلي أيضاً بأن الشعر نسمة مضيئة جلببت روح "نتالي" في البدء قبل أن تقول لها السماء : كوني ... فتكون ...


***********************

قلت لها: أريد أن أرحل في وجهك .. فحدثيني ؟
- ماذا تريد أن تسمع ؟
- كل شيء ... كل شيء منذ أن غاب عني وجهك في مطار "شارل ديغول" ذلك الصيف من عام 1988.

تراكضت في وجهها سحابة حزن قاتمة سرعان ما تكثفت على شكل دموع توشك أن تنفلت من مآقيها. اشعلت سيجارة وأخذت نفساً عميقاً نفثته في سماء الغرفة، وأمعنت في السكوت والتدخين والنظر إلي بعينين شاردتين تنفست تعابيرهما عن حزن وأسى وعتاب وفرحة وكثير من الصور الهاربة ..... ثم ... ثم طردت بسرعة مذهلة جميع ما كانت فيه وبدأت طلائع إشراقة جذابة ترتسم على محياها وهي تنظر إلى باب "المقهى" وتقول: "جان – كريستوف" جٌ سْوي لا (أنا هنا بالفرنسية).

اتجه إلينا "جان – كريستوف" بقامته المديدة الرشيقة وعينيه الزرقاوين، وطبع على ثغر "نتالي" قبلة عابرة هامساً: لقد بحثت عنك بجانب البحيرة ...
- نعم، الآن دخلنا إلى هنا بعد أن انتظرتك طويلاً بجانب البحيرة ..
- آسف على التأخير، ولكني لم أستطع الانصراف من الاجتماع قبل الآن.
- "بسيطة" .. تعال أعرفك على "العلماني*"، صديقي القديم الذي رأيته قبل أيام صدفة، وهاهي الصدف تعود كي تجمعنا من جديد.
ثم نظرت إلي وقالت: جان- كريستوف فورييه، رجل أعمال ورئيس حزب الديموقراطيين المسيحيين في المدينة.

ابتسمنا لبعض وأخذنا بأسباب الحديث .. كان حديثاً عادياً سألني فيه "جان كريستوف" منذ متى أسكن "بلده" وهل أنا "مبسوط" هنا وعن المناخ وأحوال الطقس ومقارنته "بمناخ البحر المتوسط" ، وما إلى هذا من أحاديث عادية مكررة تقتل الوقت بتأفف وبطء إلى أن التفت إلى "جريدة" ملقاة على الطاولة حدق بها هنيهة وقال: هذا مستحيل، يحررونهم من النظام الديكتاتوري كي يحصدوا مظاهرات ضدهم ... هذا ليس معقولاً ...
نظرت إليه بإنكار، وسمعت "نتالي" تقول: ماذا حدث ؟
- العراقيون يطالبون أمريكا بالانسحاب. عوضاً من أن يشكروها على صنيعها. فلقد خلصتهم من حكم ديكتاتوري خانق ما كان لهم أن يفلتوا منه قط بقوة ساعدهم وحدها.
لم أطق السكوت فقلت: ولكن لماذا خلصتهم ؟ ومن دعاهم أصلاً إلى العراق ؟
أجاب : لنقل بأنها مصالحهم، ولكن علينا أن نتفق بأن مصلحة الشعب العراقي توافقت مع مصلحتهم في حالة الإطاحة بنظام صدام.
قلت: وهل مصلحة الشعب العراقي بتهديم بلده ؟
أجاب: لم يتهدم الكثير، وأظن بأنه من الانصاف القول بأن ما تهدم من العراق لا يعادل ما ربحه العراق من اقتلاع الديكتاتورية. بل ان الآلاف التي ماتت هم ثمن لحرية الآخرين.
قلت وقد ارتفعت نبرة صوتي: حرية ؟!! تكلمني عن الحرية والجيش الأمريكي في بغداد ؟!! كيف يستقيم هذا ؟
قال: هي حرية منقوصة حتى الآن ولكنها حرية كبيرة بالقياس للحرية المتاحة في عهد صدام حسين ..
ضحكت بمرارة وأنا أقول بنبرة حادة: والله يا صاحبي أنت كمن يقول لي " هي عفيفة شريفة ولكن جميع أبناء صفي قد ضاجعوها " ...
احتد "جان كريستوف" ولكن نتالي قاطعت الحوار قائلة له: علينا أن نذهب إلى موعدنا يا "جان كريستوف" فالجماعة ينتظرونا منذ أكثر من نصف ساعة.
ثم التفتت إلي وقالت مبتسمة: ولكني لن أعفيك من تبعات هذا الحوار يا "علماني"، ما رأيك أن تأتي مساء إلى البيت وتتعشى معنا ؟
أخذتني "النمرة" على حين غرة ... قلت بتلعثم: لم لا ؟
قالت مبتسمة: إذاً، على بركة الله ... وقامت وقام معها "جان كريستوف" الذي ودعني ومشى نحو الباب فيما تشاغلت "نتالي" لحظة مع حقيبتها ريثما تقول لي غامزة قبل أن تمشي: "على مهلك عليه، ننتظرك مساء".
مشت، ومشت الدماء في عروقي وأنا أنظر إليها وأتذكر الأعشى وهو يقول:
كأن مشيتها من بيت جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
ثم تفرست أكثر بها مدبرة ورددت مع "ذي الرمة":
تنوء بأخراها فلأياً قوامها
وتمشي الهوينا من قريب فتبهرٌ

وانصرفت على أمل برؤيتها مساء ...

وللحديث بقية ...


* طبعاً نادتني باسمي ولكن "العلماني" يكفي الخبر ...

جميل
وجميله اطلالتك
والتسائل (الانساني) الذي يراودني حول مثلك اليست مضاجعة (ابناء صفك) لتلك الغجرية اهون عليها من مضاجعة (كل المدرسة) مع مصادرة حقها في الاستغاثة والصراخ :P

(f)

لربما أجبتك من خلال الموضوع ، إذ لا أعلم مع الحرف متى أكتبه ومتى يكتبني ...

تابع معي ... لعل وعسى (بعبارة الجاحظ) ...


واسلم لي
العلماني

تمطر بغزارة وإمعان ...

ليس هناك أثر لأي ريح، ولكن المطر يغمر كل شيء؛ الشجر، البيوت، الشوارع، الأرصفة، دخائل الناس، أعشاش العصافير، وهذه النفس المثقلة التي أحملها بين أرداني.

تمطر ... ويعيدني المطر دائماً إلى "الجليل" ونكهة ترابه المميزة، لكنه اليوم يشدني إلى بضعة عشر عاماً وغرفة هادئة على سطح إحدى الينايات الرصاصية في "الحي اللاتيني" في "باريس".

كان دبيب الخمر في جسدينا ما زال صاحياً، ونشيش الحب في عروقنا، بعد سهرة صاخبة، قد بدأ يستفيق. كنت يومها أرى "نتالي" للمرة الثانية، وللمرة الألف رأيتني أنظر إليها بتوق السجين للحرية ولهفة الجائع إلى كسرة خبز. أما عن عزمي إلى الرحيل نحوها ومحادثتها فلا تسل، فالهزة المشوبة بانتفاضة " العصفور الذي بلله القطر*" كانت قد اعترتني مرات ومرات منذ اللحظة التي لمحتها بها.
بعد قليل اغتنمت فرصة مناسبة وتقدمت نحوها في غمرة أصدقاء ومعارف، وقلت: هذه المرة الثانية التي تتقاطع بها دروبنا، فلقد رأيتك في حفلة عيد ميلاد "بيير" قبل أسبوعين.
أجابت مقبلة مبتسمة كأنها كانت تتوقع جملتي: صحيح، "بيير" صديق عزيز علي وقميصك الأزرق كان جميلاً ....

واااااااااو .. اللئيمة :) ...

مدت إلي يدها مصافحة مبتسمة وقالت: إسمي "نتالي"..
قلت، ولما استفق بعد من جملتها السابقة: نتالي "كلاي" ..
- "كلاي"؟!!!
قلت مبتسماً: لا يجيد هذه الضربات النوعية الخاطفة المباشرة إلا "محمد علي كلاي"، وأحسبك من ذريته ...

ضحكت، وأخذنا بأسباب الأحاديث بيننا، وسكر الليل بنا، وقطعنا فيافي وأبعاد وآماد. وكانت كاس، وكانت أخرى. ورأينا بان مفعوليهما حسن، فقلنا: ليكن رقص .. وكانت رقصة وكانت أخرى و"تأودت أعطاف بانها في يدي"، وبدأت خيوط الفجر توقظ الليل من سباته وتهدد نشوتنا بالرواح.
قلت: ما رأيك بفنجان قهوة عربية "يعيد للأرض دورتها" ويشكل السماء بالنجوم ؟
قالت: وأين نجد هذا؟
قلت ببعض القلق والترقب: عندي في غرفتي ... وهي، وهي ليست بعيدة من هنا ...
نظرت إلي باسمة مهددة بسبابتها قائلة: فنجان قهوة فقط ....
قلت وقد أعطيت لصوتي نبرة جدية وقورة : "بيان .. أوني فا" (حسناً،هيا بنا )

كانت تمطر في الخارج، وبعكسها، لم يكن معي ما يقيني ماء السماء المنهمر سوى ثيابي ... أشارت لي بأن أستظل بمظلتها معها، فلم أتردد ومشينا نحو غرفتي "الباريسية".

لا لم تكن "نتالي" المرأة الأولى في حياتي، ولكني كنت أحس وأنا أسير معها بانني أولد من جديد. كان كل شيء فيها يحييني ويميتني ألف مرة في اللحظة ذاتها. كانت نكهة مميزة وخبزاً طازجاً وماء كوثراً وظلاً ظليلاً وهواء عليلاً في صحراء أيامي. وكانت عندما تكلمني بتلك الفرنسية العذبة الدافئة أحس بأنها تستل قلبي من مكانه وتغسله برقة شفتيها ثم تعيده إلى مكانه أبيض طاهرا. بعدها، سوف أقول لها دائماً: سبحانك ....

عند باب الغرفة قالت لي: هنا في الداخل، سوف أفاجئك بما لم تكن تتوقعه مني ..
قلت مبتسماً: أكثر من حضورك معي إلى هنا ؟
غمزتني وهمست متريثة: أصبر، ولسوف تحكم ...
ابتسمت بحياء وأنا أقول لنفسي وخبرتي تقودني ... وتعميني: تالله منك، هذه دعوة مباشرة لركوب بحر الهوى المستعر.

في الداخل نظرت بعين نسر إلى غرفتي المتواضعة ريثما ساعدتها في خلع معطفها، واستدارت قائلة: ما رأيك أن أحضر لك القهوة العربية؟
أشرت لها إلى مكان "الدلة" و"البن" و"الهال" و"السكر" وأنا أحدث نفسي بأن هذه هي ولا شك المفاجأة التي تريدني أن أندهش لها... ثم عقدت العزم على أن "أتفاجأ" بحسن صنيعها مهما كانت نتيجة هذه التجربة غير المأمونة العواقب.

بدلت ملابسي حين انشغالها بإعداد القهوة، وجلست على الكنبة الوثيرة أمام التلفاز، ونظرت ملياً إلى جسدها المسبطر بعين ذابلة ورأس ما زالت الراح تعبث به وتمتمت:
بَرَهْرَهَة رَوْدةُ رخْصة
كخٌرعوبَة البانة المٌنبهرْ **

وما هي إلا لحظات حتى استادرت نتالي وجاءتني بالقهوة وقالت وهي تجلس: "هلأ المفاجأة ... ما قلتلك إني بدي فاجأك؟"...
قالت جملتها بلهجة عربية لبنانية صافية لا شائبة تشوبها.. "فبحلقت" فيها هنيهات ثم قلت:
"يلعن يومك .... صار لنا سبع ساعات نحكي فرنساوي وانت بتحكي عربي ؟ .. طيب قولي من الأول " ....

كانت دهشتي كبيرة، وكانت فرحتي أكبر ... وكانت قهقهتها عالية، ندت عنها كلمات من مثل: "ما قلتلك إنك رح تتفاجأ" ؟ :)


"للحديث بقية" ....

* وإني لتعروني لذكراك هزة
كما انتفض العصفور بلله القطر
** امرؤ القيس

(f)

:)

(f) (f) (f) (f) (f) (f) (f)
سبعة والمعنى .. كما ذكره العلماني

رائع يا عميد ..
بفارغ الصبر للمزيد

اقتباس: ابتسمت بحياء وأنا أقول لنفسي وخبرتي تقودني ... وتعميني: تالله منك، هذه دعوة مباشرة لركوب بحر الهوى المستعر

:lol:


يعني دغري ضرب معك الديجانتور الي هناك


عربي والله انك عربيييي


:wr:

العلماني يشبه الحب..!!

كم أتمنى لو كنت قد درست الأدب بدلا من القانون..

راغب..

الســـــــــكر حرام
ســـــواء كان بالخـمر أو بمعــصور الكلام .

يحرق حريشك يا علماني

لأن الجمال لا يغرق ... يطيش الورد على صفحة الماء (f)