دنيا الثقافة

44760 ‏السنة 133-العدد 2009 يونيو 24 ‏غرة رجب 1430 هـ الأربعاء





..‏ وما أدراك ما الذاكرة؟
كتبت‏-‏ماجـدة الجـندي‏:‏

‏يستحق هذا العمل نوعا من الاحتفاء الخاص‏,‏ ليس فقط لانه يندرج تحت نوعية من النشر الثقيل‏(‏ أو الصناعة الثقيلة في النشر‏..‏ التي تستلزم وعيا وجدية وعدم انطواء تحت شعارات الدعاية السهلة‏(‏ والفجة أحيانا‏)‏ ولكن لانه يسهم في تأسيس وتأكيد وتوثيق الذاكرة المصرية وهو أشبه بالعمل لحماية أمن الوطن من عبث لصوص الذاكرة والتاريخ الذين غالبا ما يبدأون بالاستيلاء علي الذاكرة قبل استيلائهم علي الأرض‏.‏

سجلات تاريخية من مصر القديمة العمل الأول والرئيسي لعالم المصريات الأمريكي جيمس هنري برستد الذي ذاع اسمه بعمله الفريد عن قدامي المصرين وكيف علموا الدنيا الأخلاق الرفيعة بل الضمير فكتب عنهم فجر الضمير أربعة مجلدات يتجاوز عدد صفحاتها الألفين‏,‏ تسجل تاريخ المصريين من الأسرة الأولي وحتي الأسرة السادسة والعشرين نقلها جيمس هنري برستد من اللغة المصرية القديمة إلي اللغة الانجليزية‏,‏ قبل اكثر من قرن‏,‏ ولأول مرة يطالعها القاريء العربي باللغة العربية بعدما تصدت دار سنابل وأخذت علي عاتقها مواجهة لصوص التاريخ‏,‏ بادئة منذ‏2002‏ بنشر عصور في فوضي لتتوالي مهمتها في مواجهة تهديد التاريخ‏..‏ ولينتقل المترجم أحمد محمود الذي نجح في صك اسم جاد في عالم الترجمة‏,‏ مهمة الترجمة من الانجليزية التي سجل بها جيمس هنري برستد عمله إلي اللغة العربية ثم ليراجع هذا العمل الفني د‏.‏ جاب الله علي ويصدره لنا بمقدمة‏,‏ هي بمثابة المفتاح بالذات لمتلق غير متخصص وهو الذي تضع الصفحة عينها عليه دون تجاهل للمتخصص الذي ولا شك يعرف طريقه جيدا ولا نمنحه في معالجتنا غير اجتهاد الاشارة لوجود مثل هذا العمل متاحا‏.‏

يحتاج تعرف متلقينا علي قيمة هذا العمل إلي العودة بضع خطوات مع الزمن للتعرف علي ميلاد علم المصريات وهو العلم المعني بالشأن المصري القديم والذي يؤرخ لميلاده باللحظة التي تمكن فيها العالم الفرنسي الشاب جون فرنسوا شامبيليون من حل طلاسم حجر رشيد وشفرة اللغة أو الكتابة المصرية القديمة علي حجر رشيد وكان ذلك عام‏1822.‏ تلك اللحظة هي التي سمحت ومكنت الدنيا من الولوج إلي ثراء الحضارة المصرية الفرعونية بفكرها الديني والدنيوي‏,‏ وبنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأيضا بفكرها الأخلاقي‏.‏

قبل هذه اللحظة لم تكن المعرفة عن مصر تتجازور كتابات بعض الرحالة والمؤرخين الجغرافيين ومشاهداتهم التي كثيرا ما اعتراها الاضطراب والخطأ وان بقيت أسيرة لرؤية من الخارج وينطبق ذلك علي أزمان اليونان والرومان‏(‏ بمن فيهم الأشهر‏(‏ هيرودوت‏)‏ وكذلك كتابات العرب المسلمين‏(‏ اليعقوبي والمسعودي والادريسي وياقوت الحموي وابن بطوطة والمقريزي والسيوطي وغيرهم‏)‏ هؤلاء جذبتهم آثار مصر ومعابدها لكنها غير ما يتناقله الناس وما يجود به خيالهم لكن ظل السر مستغلقا حتي التاريخ الذي أوردناه والذي بموجبه ولد علم المصريات علي يد شامبيليون وانفتح السر العظيم عما كتبه المصريون القدماء الذين عرفوا ثلاثة خطوط‏,‏ هي الهيروغليفية والهيروطيقية والديموطيقية وسجلوا حيواتهم بأدق التفاصيل علي جدران المعابد وغيرها‏.‏

بعد ميلاد العلم وفك الشفرة صارت المهمة الأولي للعلماء هي نقل نصوص اللغة اليهروغليفية إلي اللغات الحية‏(‏ الانجليزية أو الفرنسية أو الألمانية‏).‏

فهذه النصوص عن اللغة والأدب والفكر والمعتقدات الدينية والاحوال الاجتماعية والاقتصادية ونظم الحكم والادارية والعسكرية والسياسية وغيرها كانت هي مهمة العلماء الأول لتأتي بعدها الشروح والتفاسير من أوائل هؤلاء العلماء العالم الأمريكي العظيم جيمس هنري برستد الذي ولد عام‏1865‏ وتوفي‏1935‏ وهو أحد القمم في تاريخ علم المصريات علي الرغم من أنه لم يذهب إلي هذا التخصص إلا بعد أن درس خلاله علوم الصيدلة وتلك حكاية أخري برستد عرف عربيا بترجمة العالم المصري سليم حسن كتابه فجر الضمير عام‏1956‏ بعدما ترجم له د‏.‏ حسن كمال ابن رائد علم المصريات المصري أحمد باشا كمال كتاب تاريخ مصر القديم عام‏1905.‏ وهذا الكتاب عند نشره اعتبر أفضل ما كتب عن مصر الفرعونية‏.‏

يقول لنا د‏.‏ جاب الله عن حياة جيمس هنري برستد انه تعلم علوم الصيدلة واشتغل بها لبعض الوقت ثم انجذب إلي دراسة المصريات وحصل علي درجة علمية فيها من جامعة ييني الأمريكية‏,‏ لكن معرفة المصريات في هذه الجامعة وقتها كانت أقل مما يطمح اليه برستد فانتقل إلي برلين ليحصل علي درجة الدكتوراه في المصريات‏.‏

أول مرة زار فيها برستد مصر معشوقته كانت عام‏1894‏ أتاها وزوجته في شهر عسل يقول د‏.‏ جاب الله إنه خلاله جمع المحبوبتين‏:‏ مصر والزوجة‏.‏

شغل برستد أول كرسي ينشأ في امريكا لأستاذية علم المصريات وتاريخ الشرق‏,‏ ولذلك يعد المؤسس الفعلي لهذه الدراسات في العالم الجديد‏.‏

لكن كيف اتيح لجيمس هنري برستد جمع هذا الكم العظيم من فوق جدران المعابد والمسلات وغيرها‏..‏؟

ظهر ميله كفكرة دراسة النص المصري القديم مما دفع بأساتذته في اكاديميات ألمانيا‏.‏ وقد كانوا يعدون لواحد من أعظم الأعمال العلمية أو ما عرف ـ بقاموس برلين ـ عهدوا إلي برستد بنسخ وتصنف النصوص المكتوبة علي الآثار المصرية المحفوظة في مناطق أوروبا‏.‏

الدقة التي انجز بها برستد المهمة وإعجاب الأساتذة بما أنجزه دفعت برستد للتفكير في العودة للمنابع الاصلية للنصوص المصرية وهكذا جمع أكثر من عشرة آلاف نص أو صحيفة تشكل الأجزاء الأربعة التي بين أيدينا الآن بالعربية بفضل الله طبعا ثم فضل دار نشر سنابل والمترجم أحمد محمود‏.‏

برستد منذ زيارته الأولي لمصر ادرك وضعية الآثار المصرية مابين التلف والضياع فأنشأ في عام‏1924‏ قسما في المعهد الشرقي ليتخصص في نقل ونسخ المناظر والنصوص المصرية بمنطقة الأقصر وبمنحة سخية من روكفلر المليونير الأمريكي أنشأ فرعا في الأقصر لنفس المعهد وهو ما يعرف الآن باسم‏(‏ بيت شيكاغو‏)‏ بالقرب من معبد الكرنك‏(‏ ان لم يكن قد نقل في هوجة ما‏!)‏

أنهي برستد عمله في كتابه الضخم عن تسجيل الوثائق المصرية القديمة عام‏1905‏ وبعد مائة واربعة عام هو الآن في متناول قارئ العربية‏.‏ أمضي برستد في نسخ أو نقل النصوص المصرية وجمعها وترجمتها‏,‏ عشر سنوات انتهت بنهاية عام‏1904‏ وبدأ التحرير النهائي ونشر العمل في خمسة مجلدات ككتب منفصلة عن الأسر من الأولي للسادسة والعشرين ونصوص العمل مرتبة تاريخيا حسب فترة حكم كل ملك وداخل كل فترة حكم هناك تقسيم حسب الموضوع وفي مقدمته لطبعة الينوي يقول بيتر أ‏.‏بيتشوني إن برستد لم يعد العمل للمتخصص وحده ولكن للقارئ العام أيضا وانه وعلي الرغم من انجازات برستد في علم المصريات إلا أن لعمل برستد قيمته العظيمة إذ يظل ما يزيد علي عشرة آلاف نص مصري قديم تمثل اكبر ما نشره باحث بمفرده وأيضا مازال يحوي عمل برستد نصوصا لم يترجمها من الهيروغليفية للانجليزية غيره‏,‏ انه بمثابة الاكتشاف لتراث المصريين ناهيك عن اهمية الوصل في دائرة علم المصريات بالبذرة الأولي وتحليلاتها التي تدعم الفهم الأساسي‏.‏

عن القيمة العلمية لعمل برستد هناك المزيد والمزيد ولكن قيمة أخري لا تقل في اهميتها ينبغي الالتفات اليها وهي قيمة توثيق ذاكرة مصر وتاريخها مما يحفظ الحقوق في زمن أيسر مافيه اختلاق اساطير ينبني عليها حقوق مختلفة لشراذم وأفاقين يستوطنون‏!‏