(08-24-2009, 10:38 AM)ليلاء كتب: كثيرا ما استحضر فكرة ان زجاجة العطر حتى وان خلت من العطر الذي يسكن جوانبها.. هي حتما كالقلب الذي يخلو من الحب..
لكن حتى وان رحلو سكانه تبقى ذكراهم منقوشة على جدران القلب لا تبرحها ابدا..
والامر سيّان مع زجاجة العطر..حتى وان خلت تلك الزجاجة من العطر فالرائحة القوية المعتقة لا تبرح جدران الزجاجة تلك.. وكأنه العطر لا زال يسكنها..
وبمجرد انك شممته او قمت بالرش منه او استخدمته .. فمطر غزير من الذكريات يبدأ بالهطول من ذاكرتك..
واحاسيسك.. ومشاعر تدغدغك ..
مقدمة رائعة أحييك عليها
وكذلك على فكرة الموضوع الجديدة
منذ الصغر أتعرض لمحنة شديدة مفادها: الروائح النفاذة ، والفظة.
في البيت وفي المدرسة، حيث نشأت في مجتمع يعتقد أنك لو أنفقت ثلث مالك على الطيب لما كنت مسرفاً ، رغم أن بن باز قال إن هذا الحديث لا أصل له. ولكن:
إذا الشعب يوماً أراد التطيب فلا بد أن يستجيب قزاز! وإن اعترض ابن باز!
والمقصود هو محلات Gazzaz قزاز التي تعتبر الأشهر في السعودية لبيع العطور.
ومحنتي كانت أن الروائح التي كنت أتعرض لها كلها ذكورية فجة، من نوع المسك والعود والعنبر الخ..
وهي نفسها تقريباً الروائح التي يشمها الإنسان إذا ما اقترب من "الشرشورة" ( غرفة تغسيل الأموات كما تسمى في السعودية ) حيث تبرز نفس الروائح بشكل نافذ حول المكان.
كرهت تلك الروائح كثيراً وكنت أعزي نفسي بأن المسك الذي سيكون في الجنة لا شك مختلف عن الذي في الدنيا ، قياساً على أنهار اللبن والعسل والخمر.. وأنها تتفق فقط في المسميات.
بعد العودة إلى مصر، أصبت بالذعر عند شم روائح البرفان الفجة النسائية التي كانت البنات يسكبنها فوق أنفسهن في الكلية، إلى درجة لا تحتمل.
وقد ساهم التدخين والشيشة في تخفيف حدة حاسة الشم عندي والتي كانت تزعجني بهذه الروائح الفظيعة.
حتى في النهاية وبعد أكثر من عشر سنوات من التدخين الشره ، أقلعت عن التدخين بعد إصابتي بحساسية الصدر ، واليوم لا أستطيع أن أشم الدخان، أو البخور ، أو العطور النفاذة أبداً . وإذا دخلت إلى مكان به دخان أو عطر نفاذ أو بخور، أصاب بالإختناق، ويتحتم عليّ أن أتناول دواءً - وليس بخاخة - لإزالة ضيق التنفس من الرئتين.
ما لاحظته خلال سنوات طويلة من شم روائح البشر ، هو انقسام الناس إلى قسمين كبيرين ، وقسم صغير :
1- القسم الأول الكبير: يهملون الروائح تماماً ، إما لعدم اكتراثهم، أو عدم توفر المال اللازم، أو لكسلهم. والبعض من هذا القسم يكتفي بالحفاظ على نظافته الشخصية ونظافة ملبسه. والبعض الآخر ، فهم أولئك الذين يبتلى بهم الضحايا ممن حكم عليهم حظهم العاثر أن يقعوا في طريقهم بروائحهم المعفنة، المتعرقة، العطنة.
2- القسم الثاني الكبير: يسرفون في وضع الروائح على أجسادهم إلى درجة بشعة، وهم يفعلون ذلك غالباً لجذب الناس إليهم ، غير أن هذه الفجاجة تصنع مفعولاً عكسياً فتنفر الناس، وبعضهم يحرص على إظهار رائحة برفانه كنوع من إعلان تميزه وارتفاعه عن محدودي الدخل في المجتمع. وهي عقدة لحظتها كثيراً لدى مدراء الشركات، من ذوي البدل الأنيقة، وحقائب اللابتوب الغالية الثمن، فهو نوع من التعالي فوق الطبقة العادية، والتي لا يخرج عنها عادة هذا المدير أو الموظف المنفوخ.. ، والبعض يستثمر فجاجته العطرية واعتداءه السافر على حاسة الشم لدى الآخرين كنوع من الجاذبية الجنسية، خاصة الفتيات من ضحايا الدعايات التجارية التي تتعمد أن تجعل منهنّ مجرد أزهار بلاستيكية زائفة للمتعة الذكورية الإستهلاكية... إضافة إلى بعض الذكور من المتأثرين بنظرية الرائحة النفاذة التي تثير المحفز الأنثوي الجنسي، ولا يخفى علينا إعلان Axe الشهير والذي تدخل فيه امرأة إلى المصعد مع رجل يضع هذا العطر، ثم ينتهي الأمر بأن يفتح المصعد وهي تقوم بتعديل ملابسها بدلال ما بعد ممارسة الجنس! ، نهاية الإعلان طبعاً ليست في صالح الفتى كما هو واضح!
حتى وإن كانت هذه الروائح تثير رغبة ما أو تؤدي إلى فرز هرمون ما لدى الأنثى، فهي لا زالت فظة ومزعجة جداً عند الكثيرين ، منهم أنا.
3- أما الروائح التي أحببتها هي تلك التي تشبه البحر الهادئة أمواجه في ساعة يتزاوج فيها بهدوئه مع نسيم بارد غير قارس وهذا يدفعني إلى الولوج في الفريق الثالث من القلة القليلة المتبقية من البشر، في منهجهم مع الروائح ، وهم أولئك الذين لا يسعون إليك لفتنتك، بل يتركونك على عماك وظنك أنهم "عاديون" ، حتى تقرر(ي) أنت خوض المغامرة بكل مخاطرها والإقتراب منهم، وقتها فقط، تظهر الرائحة الساحرة، أحب كثيراً اللفظة الإنجليزية المعبرة عن الشعور وهي : charming ، رائحة هادئة ، جميلة ، كالزهرة التي ارتفعت بتلاتها في شموخ ، ومع ذلك لم تترفع أن تمن على كل من يقترب منها بأريجها الساحر، فقط جزاءً وفاقاً لأنه اقترب! لا لمالٍ أو جمال.
مثل أولئك الناس الذين ينتمون إلى هذا الفريق، هم تلامذة الحكماء، ومرشحو الإستنارة القادمون. من يعرفون أن من يستحق العطاء هو من يجتهد من أجل الأخذ، لا من يمر بلا اكتراث مرور الكرام العابرين غير الآبهين. فهم بفلسفتهم العطرية، سواءً أدركوا ذلك أم لا، يتمثلون نهج الشيخ الصوفي مع مريديه، والمسيح مع تلاميذه، وبوذا مع أتباعه، فلا يلقون بدررهم إلى الخنازير، ولا إلى الغرباء من البشر، وإنما يعطون من يسعى لفك طلاسمهم ، ويقترب منهم إلى حد أن يتنسم أنفاسهم ويعانق أرواحهم ويستكين في حضرتهم ، وعندها يقعون في حبهم، ولا يملكون تعويذة لفك سحرهم، أو الفرار من الجاذبية الآسرة في حضرتهم، فهم مثلهم مثل العطور التي يضعونها : هادئون كالبحر في يوم صافٍ ، واسعون كمحيط ، وإلى الأعماق تشدك نفوسهم بلطف ودون خوف من غرق.
هذا هو الفريق الذي عرف كيف يستعمل العطر ويفتض خاتم الزجاجة بحقه.
وفي الختام أضع صورة النوع الذي أحبه، ولا أحيد عنه قيد بخة، ولا أزيد في خروجي عن تلك البخة حينما أضعه، ولا أسهو عنها كذلك . أبقيها خفية مستترة ، وفيها كل سحر الهدوء والجاذبية لمن أراد الإقتراب يوماً.