ترتيب الموضوع .. والقراءة:
"والحقيقة ان كل خطاب فكري ينطلق من "فروض أساسية" تنبثق عنها التطبيقات وتتحاكم إليها ... "
إبراهيم السكران
قبل أن نشرع في النقد ، سنقوم بترتيب للموضوع ، الذي يبدو للوهلة الاولى مشتتا ومتفرقا، بل إن القديمي وصفه بأنه مجموعة "نقود لا ينظمها عقد". وأنا أخالف هذه الرؤية وأزعم أن البحث عبارة عن بنية متماسكة البناء.
وهو – أي البحث – ينقسم إلى جانبين رئيسين : جانب تكويني ، وجانب بنيوي. الجانب الاول يبحث في "تكوين ظاهرة الخطاب المدني"، وييتناول السياق التاريخي الذي نشا فيه هذا الخطاب. وهذا الجانب التكويني يستغرق المقدمة والفقرات من الأولى إلى الرابعة. ومن الفقرة الخامسة إلى ما قبل الاخيرة ، يتناول البحث "بنية الخطاب المدني" بنقد أهم مقولاتها وأدواتها .
ونحن سنقسم هذا النقد إلى قسمين رئيسين : قسم يتعلق بـ "نقد الجزء الاول" ، وآخر يتعلق بـ "نقد الجزء الثاني".
البحث يتناول ظاهرة فكرية سعودية ويحاول فهم تكوينها ونقد بنيتها، لكن البحث يصرّ على عدم توثيق هذه الظاهرة. وهنا نحن امام خيارين : إما ان نكتفي بالحكم على البحث بانه بحث غير موثق ، وبالتالي خلوه عن اي قيمة علمية ، ونرتاح من عناء تتبع البحث بكافة تفاصيله. أو أن نتجاوز هذه العقبة مقرين بوجود هذه الظاهرة وبحث مدى التطابق بين "تفسيرية" هذا البحث و "واقع" هذه الظاهرة ، بالاحتكام إلى "تفسيرنا" الخاص بها .
نحن اخترنا هذا الاختيار الثاني ، وذلك لثلاثة اسباب : الأول أننا نقرّ أن هناك ظاهرة فكرية جديدة متشكلة في الأفق الفكري السعودي ، الثاني أن البحث لم يكتف بعدم توثيق بحثه، ولكنه أيضا لم يبنِ بحثه على أشخاص الخطاب المنقود ، وبالتالي يصبح نقده مشروعا من هذه الناحية. والسبب الثالث ، يتعلق بما قاله "القديمي" من ان أي احد باستطاعته تصوّر أي شيء مهما كان غريبا والكتابة حوله ونقده ، أقول انا : نعم ، بإمكان أي احد ذلك ، لكن ليس كل بحث عن أي شيء سيلامس الناس ويلقَ مثل ردات الفعل التي لقيها بحث السكران، وهنا – في ردة الفعل هذه – إثبات لوجود هذه الظاهرة المنقودة. إذ لو كان النقد عن اتهام لتيار من التيارات بالتأثر بالبوذية ومتابعة المسلسلات المكسيكية ، لما تكبد الناس عناء النظر فيه ، بله الرد عليه والتعقيب عليه ، بل رُكن في أحد الاندية الادبية تحت باب "الأدب الفنتازي".
في بعض الأحيان فقط ، يتكئ الباحث على مقولات شخصية لمن يسميهم "غلاة المدنية" تستوجب الاستفسار عن مدى صحّة فهم الباحث لها ، حتى لا يقع في "آفة الفهم السقيم" التي ذكرها الشاعر بحق كثير من "العائبين للأقوال الصحيحة" .
إذن، سيكون نقدنا هذا على مستويين: المستوى الأول وسيكون في الإجابة على هذا السؤال: هل التفسيرات التي فسر بها الباحث "نشوء" هذا الخطاب و"تشكله" و"تنبؤه" بزواله القريب صادرة عن منهج تفسيري مقارب للواقع ؟ أم هي صادرة عن منهج يقترب من واقع هو إلى السراب أقرب ؟
المستوى الثاني ويتعلق بالجانب البنيوي، حيث أراد فيه الباحث قياس مقولات الخطاب المدني بأصول الوحي ، وفي هذا المستوى نركز النقد في الإجابة على هذه الأسئلة :
1- هل ما يسميه الباحث "أصول الوحي" هي أصول للوحي فعلا؟
2- وعلى فرض ذلك هل عملية "المقايسة" كانت منصفة ؟
والآن ننتقل للمستوى الأول ...
المستوى الأول:
1- صورة ... ورسام
"لم يوجد أبدا أي تواد بين المؤرخ والمتنبئ"
بيتر غييل
ما هي الصورة التي يرسمها لنا ابراهيم السكران؟
هي كالتالي : أن هناك لحظة تاريخية مركزيّة ، هي 11 سبتمبر. "ما قبل" هذه اللحظة ، كان عبارة عن مجموعة من الشباب الإسلامي المشغولين حول "الحاجة إلى التجديد" و "مشروعية المراجعة" ، وتقدم اطروحات ’منتمية تتحاكم للمعايير الشرعية وتطرح "التجديد" مستهدفة تعزيز الحضور الإسلامي وامتداده إلى مناطق جديدة، لا التجديد بهدف إزاحة المحتوى الديني أو تقليص وجوده‘ (مآلات الخطاب المدني، ابراهيم السكران ، ص: 1 ، ونحن سنحيل إلى ترتيب الصفحات كما في نسخة مجلة العصر).
إلا أن "ما بعد" هذه اللحظة ، وبسببها أيضا ، ’تعرض الاتجاه الإسلامي إلى حالة محاكمة عالمية شرسة حدت من انسيابه ودويه وتراجعت معها شعبيته الاجتماعية بشكل ملموس‘ (ص9). وهنا ، في هذه اللحظة ، تبيّنت "ثغرة" نفذت من خلالها ’أبحاث المدرسة الفرانكفونية/المغاربية كإجابة جديدة نجحت في استغلال الظرف الأمني الحالي وحققت اكتساحا استثنائيا في فترة قصيرة‘ (ص9). وهذا "الاكتساح" ليس نتيجة لـ’عبقريّة طروحاتها الخاصة‘ وإنما ’رواجها بعد كسادها كان تبعا لزلزال الظرف السياسي السبتمبري‘ (ص9).
وفي هذا الإطار التاريخي تشكّلت "أزمة القيم" التي أفرزت "التيار المدني". فالشباب الإسلامي الذين كانوا يقرؤون ’مجلة البيان والمودودي وسيد قطب والندوي ومحمد قطب ... أصبحوا "عشية سبتمبر" يقرؤون للمدرسة الفرانكفونية/ المغاربية التي كان أشهر عمالقتها محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد اركون ...‘ (ص9). وهم -أي الشباب- لم ينتهوا من قراءة كتبهم حتى تشربوا "منطقها الداخلي"، وسلم قيمها التي تقف على رأسه ’مركزية المدنية وغائية الحضارة‘ وقامت - هذه الكتب - بإعادة صياغة نمط تفكيرهم وأسلوب نظرهم للوقائع وإعادة ترتيب الهرم الداخلي للقيم.
وعن سبب إقبال الشباب على هذه الدراسة فيرجع إلى "التكتيك الجديد" الذي تتبعته العلمانية العربية بعد 1984 – العام الذي شهد صدور بداية سلسلة نقد العقل العربي- وهذا التكتيك يتمثل في ’التحول من "الاستهداف المباشر للشريعة" إلى "إعادة تفسير التراث"‘(ص11) ، وهذا التحول هو ’بالضبط مصدر الجاذبية والإثارة لدى القارئ الإسلامي، وهي اللغة التي يفهمها جيدا‘ (ص11). هذا الخطاب الفرانكفوني تمكن من النفاذ إلى أسوار الداخل الإسلامي ممارسا هيمنته على الشباب الذين انتقلوا إلى مدرسته انتقالا لم يكن عاديا بقدر ما كان تحولا شهد ’ارتجاجات فكرية مذهلة كانت نتيجة لصدمة السؤال المركزي بين المدرستين‘ (ص11). السؤال المركزي الذي انتقل من "سؤال انتصار الإسلام" إلى "سؤال الحضارة". هذا التغيّر الجذري في المركزيّة، بالاضافة إلى الادوات المعرفية الهائلة التي تتملكها المدرسة الفرانكفونية؛ كل هذا ، جعل انتقال هؤلاء الشباب بين المدرستين عبارة عن ’استقالة فكرية غير ودية من معسكر سابق وتسجيل لعضوية جديدة في المعسكر المقابل‘ (ص12).
هذا عن مصادر التلقي ، أما بالنسبة لمظاهر الازمة القيميّة : فقد آل خطاب هذا التيّار إلى حالة "انقلاب معياري" ، طالت ’الموقف من التراث، والموقف من الغرب ، والموقف من الدولة الحديثة ... وكأن دخان سبتمبر قد مد ذراعه إلينا وقلب ساعة الرمل ليعيد دبيبنا إلى الوراء‘ (ص4).
تطوّر حال هذا التيار من الذب عن الدين والتراث – بعد استسلامه للأساس الضمني في الأبحاث الفرانكفونية المتمثل في أداتي : التسييس والمديونية - بإثبات أنهما يتضمنان أولوية المدنية والحضارة أصلا. ومن هنا ، مرورا بهاجس التفسير المدني للتراث والوحي ، الذي جعلت صورة الخطاب ’صورة تلفيقية باهتة تعاني في تركيبها الداخلي من هشاشة معرفية عميقة نتيجة كونها تعتمد على الانتقائية والتغييب دون منهجية‘ (ص14)؛ فإن الخطاب تطور إلى محاسبة الحركة الإسلامية والقسوة عليها ، اعتمادا على قربها وبعدها عن الحضارة الغربيّة، ليؤول أخيرا لشكل أسوأ كالقول أن المشكلة في "السنة النبوية" ’وهكذا يتسلسل الامر من سيء إلى أسوأ‘ (ص15). وزاد الطين بلّة ، المظالم الانترنتية التي تعرض لها هؤلاء من قبل المنتسبين للاحتساب ، وكذلك حفاوة المؤسسات الإعلامية التي وجدت فيهم أداة لتصفية ’حساباتها القديمة مع ما تسميه الإسلام السياسي‘ (ص15).
ويتساءل ابراهيم السكران : كيف نفهم هذا الخطاب ؟
وانطلاقا من مسلمة "أن لكل خطاب فروضه الأساسية" ، قرر أن ’النواة الخفية التي انطلقت منها كل هذه التحولات الجذرية ... هي "المغالاة في قيمة المدنية والحضارة"‘ (ص7).وهذا الغلو هو الجذر الأساسي لكل الانقلابات التي حدثت ، وهو النموذج التفسيري الذي ’يقدم اجابات دقيقة حول تطبيقات هذه الظاهرة‘ وهو ’ينبوع الانحراف الثقافي‘ (ص7).
وهذه الظاهرة كلها – أي ظاهرة الغلو المدني : ’ظاهرة مؤقتة‘ (ص12). إذ ان الرواج الذي حققته الدراسات الفرانكفونية هو رواج مؤقت بسبب الأزمة الامنية التي يعيشها التيار الإسلامي بسبب 11 سبتمبر، الذي يعني أن ’الخطاب الإسلامي المعاصر سيسترد عافيته وموقعه الاجتماعي الريادي‘ تماما كما استعاد الخطاب الاسلامي موقعه بعد الردة التي أعقبت موت الرسول.
******
بهذه ’البشارة‘ تكتمل الصورة التي يرسمها ابراهيم السكران عن هذه الظاهرة، التي لا نستطيع أن نقول أمامها سوى انها صورة لواقع "متخيّل" لا واقع "معاين" ، صورة يرسمها لا لشيء "يراه" بقدر ما هي صورة لشيء "يتخيله".
ففي هذه الصورة حاول السكران أن يجيب على هذه الأسئلة :
لماذا تحوّل الشباب من قراءة كتب التيار الإسلامي والصحوة إلى كتب المدرسة "الفرانكفونية"؟ أو بصيغة اخرى: هل الإنتقال تمّ بسبب "ميزة" فكرية في كتب تلك المدرسة ، أم بسبب "تعثّر" التيار الإسلامي ؟
ما هي الأسباب الاجتماعية لظهور مثل هذا التيار ؟ هل هناك شيء آخر غير "مركزيّة 11 سبتمبر" ؟
كيف نفهم "المنطق الداخلي" لتشكلات هذه الظاهرة ؟
وأخيرا : هذه الظاهرة : بداية عصر ، أم ظاهرة ’مؤقتة‘؟
طبعا ، قمنا بتجاوز سؤال : "هل توجد ظاهرة أصلا ؟" لأننا نتفق مع الباحث على وجود ظاهرة جديدة في المجتمع ، ولهذا سنقدم أجوبتنا على هذه الأسئلة التي ، وبصورة جذرية ، نختلف مع الباحث في أجوبتها.
2- طاحونة "الفرنكفونية"
"ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ... "
متى يفشل الناقد؟
ببساطة، يفشل الناقد إذا انساق خلف مقولات ومفاهيم منقوده وخضع لسلطتها، هو في هذه الحالة يكفّ عن ان يكون ناقدا ، ليتحول لمجرد "مدقق" يعيد النظر في نطاقات تلك المفاهيم وتنزيلها على الوقائع. وهذا هو الذي وقع فيه "المبرك" فهو- على سبيل المثال- لم يخالف السكران على "مركزية" 11 سبتمبر ، بقدر ما خالفه حول "تفسير هذه المركزية".
ولهذا، وقبل أن نبني أجوبتنا للأسئلة السابقة لا بد أن نتحرر أولا من إسار المفاهيم التي أحاطها السكران بها، وأول تلك المفاهيم : مفهوم الفرنكفونية.
هل هناك تعريف للفرنكفونية ؟ لا نجد في بحث السكران أي تعريف او توضيح لهذه الفرنكفونية، كل ما نجده هو أنها نعت لمدرسة فكرية تسببت في انحراف الشباب الإسلامي. وهكذا نجد أن ’هذا الخطاب (= أي الخطاب المدني) ... اكتنفته أربعة ظروف رئيسية شكلت أضلاع الوعاء الجوهري لتناميه ، ألا وهي : مناخ سبتمبر ، والضخ الفرنكفوني ..‘(ص 9).
لماذا لا نجد تعريفا للفرنكفونية ؟ لا يخلو السبب من أن تكون هذه الفرنكفونية واضحة جدا بحيث أنها لا تحتاج أبدا لتعريف ، وهذا أمر منتفٍ ، فقد وجهت هذا السؤال لبعض من أعرف أنهم قد طالعوا البحث فأجابوا أنهم صادفوا هذه الكلمة لاول مرة في هذا البحث، بل إن أحدهم – كما أُخبرت- يقول : لو لم يكن من بحث السكران سوى اني تعرفت على "الفرنكفونية" و "اللائكية" لكفاه.
إذن نحن أمام "مفهوم" غير معرّف يُقدم كنعت لمدرسة يتم التعريف بأفرادها بأنهم ينتمون لعلمانية ما بعد 1984 ، وهي مدرسة تتمركز حول "سؤال الحضارة" ، ويتوقف البحث عند هذا، ولا يعطينا المزيد حول هذا النعت. لذلك لا خيار امامنا سوى البحث عن هذا المفهوم خارج "المآلات".
"الفرنكفونية : حركة فكرية ، ذات بعد أيديولوجي ، تهدف إلى تخليد قيم (فرنسا الام) في كل مستعمراتها التي انسحبت عنها عسكريا، ومدافعة التيارات القومية واللغوية الاخرى، وذلك من خلال اعتماد اللغة الفرنسية باعتبارها ثقافة مشتركة بين الدول الناطقة بها كليّاً أو جزئيا"(1). ويحدثنا الدكتور فريد الأنصاري، أن مصطلح "الفرنكفونية" يعود إلى ’عالم الجغرافيا (اونزيم ركلو) الذي وضعه في اواخر القرن التاسع عشر: 1880م للدلالة على الدول التي تستعمل اللغة الفرنسية‘ (2).
الفرنكفونية : مصطلح جغرافي أم مصطلح ايديولوجي ؟ في "المآلات" نجد السكران دائما يستخدمه مع "المغاربية"، وكمقابل للـ"مشارقة". مما يوحي بأنه يستخدمه كمصطلح جغرافي للدلالة على مجموع دول المغرب : الجزائر وتونس والمغرب. لكنه عندما تحدث عن طه عبد الرحمن وصفه بأنه "فيلسوف المغرب" (ص59). هل يعني هذا شيئا ؟
وصف بلاد المغرب بالفرانكفونية ، هو كوصف بلاد جنوب غرب آسيا وشمال شرق أفريقيا بالـ"شرق الأوسط"، هي مصطلحات جغرافية : نعم ، لكنها ، أيضا وهذا هو المهم ، مصطلحات: سياسية. فهناك حركة نشطة في المغرب لمناهضة هذه "الفرنكفونية" وهناك منظمة دولية كاملة تضم أكثر من 55 دولة، هي المنظمة العالمية للفرانكفونية. وهناك دورة ألعاب رياضية، تسمى دورة الالعاب الفرنكفونية تضم مجموعة من الدول الأفريقية وكندا وفرنسا. وهناك الجمعية العامة للكتاب الفرانكفونيين. وهناك 200 مليون متحدث باللغة الفرنسية حول العالم.
الفرنكفونية هي نوع من انواع توظيف العولمة في خدمة ثقافة وقيم محددة ضدا على ثقافات وقيم أخرى. فكما نتحدث هنا في الخليج عن نوع من "الامركة" يكتسحنا في وسائل إعلامنا وحياتنا اليومية نظرا لكوننا مجتمعات مستهلكة تقريبا في كل شيء. فهناك في بلاد المغرب نجد نوع من "الفرنْسَة" إن صح التعبير ، في كل مناحي الحياة ، وكمقاومة لهذه الهيمنة الثقافية شرعت الحركات الإسلامية في المغرب والحركات القومية لتاكيد هويتها المتجذرة في التراث العربي الإسلامي وتبديها في لغتيها الأساسيتين "العربية والامازيغية". هذه الحركة ابتدأت منذ القدم مع علال الفاسي سعيا للاستقلال السياسي عن فرنسا، وتستمر اليوم في كافة مناحي الحياة.
وهناك كذلك "تشكي" من هذه الفرنكفونية نظرا لعدم فعالية اللغة الفرنسية كلغة للعلوم والتقنية ، فعالية كتلك التي تتوفر عليها اللغة الإنجليزية. بل إن احد المغاربة قد افتتح موقعا على الانترنت لشن حملة على اللغة الفرنسية سماه "بلا فرنسية"(3).
على الضفة الاخرى ، سعت فرنسا منذ أيام الاستعمار لتكريس ثقافتها القومية في أبناء المستعمرات لتحقيق حلمها في قيام "فرنسا الام الثانية" التي تقصد بها "فرنسا الأفريقية". ويحدثنا – وهنا كل المفارقة – محمد عابد الجابري في سيرته الذاتية "حفريات في الذاكرة" عن تغلغل هذه "الفَرنْسَة" في التعليم حيث كانوا يتعلمون أن اجدادهم يقبعون هناك في بلاد الغال (الاسم القديم لفرنسا)، ويحدثنا عن اغتباطه عندما انتقل من هذه المدرسة الفرنسية لمدرسة أخرى "وطنية". وحرصت فرنسا على تدعيم ثقافتها بالمنجزات المادية الحديثة عن طريق خلق مفارقة عمرانية بين المراكز القضائية والادارية الفرنسية ، والمراكز القضائية والادارية التقليدية المغربية. وسعيا لاستغلال البربر قامت بالترويج لقومية "امازيغية" كتمهيد لدمجها في الإطار الفرنكفوني (4). وباستيعابنا للفرنكفونية ، نستطيع أن نفسر بها الكثير من الاحداث العالمية، كاحكام نزع الحجاب والقبعة اليهودية والصليب المسيحي في فرنسا، بانها نوع من هدم أي تعبير "ثقافي" مغاير للثقافة الفرنكفونية التي تتكئ على التراث الفرنسي المنحصر في عصر الأنوار والثورة الفرنسية.
وهذا النزوع للهيمنة ، هو أحد المحورين الرئيسين الذين دار حولهما الفكر الغربي: الطوباوية ومناهضتها. فالثقافة الطوباوية التي تنزع إلى إقامة مجتمع متجانس يتوفر على قيم مشتركة كلها فضيلة، هي ثقافة تقوم على عدة مسلمات: أهمها أنها تؤمن بأن هذا المجتمع المنشود هو أصل البشرية ، وهو حالة سابقة على التاريخ ، ولكن – وبسبب تفكك هذه الوحدة : ابتدأ التاريخ، وهو – أي التاريخ – ليس شيئا إلا السعي للعودة إلى تلك المدينة الفاضلة، التي بالعودة إليها نكون قد وصلنا إلى "نهاية التاريخ". المسلمة الثانية هي أن هناك "قيم فاضلة" يتفق عليها كل البشر ، وكلهم يؤمن بها ، ولكن هناك من يتجاهلها وهناك من يتنكب لها ، والمطلوب العودة لتمثلها من اجل العودة إلى حالة المدينة الفاضلة السابقة، ولذلك يصبح العنف والإجبار وفرض الهيمنة أمرا مبررا في سبيل تحقيق المدينة الفاضلة (5).
ولن أضرب أمثلة دينية ، كخروج آدم من الجنة وسعي الأديان للعودة إليها ، بل سأقتبس الجملة الأولى من كتاب جان جاك روسو "العقد الإجتماعي" – الكتاب الذي يعتبر ذا دور جوهري في الثورة الفرنسية : " يولد الإنسان حرا، ويوجد الإنسان مقيدا في كل مكان" (6). ويؤمن روسو بأن الحالة الطبيعية التي كان عليها الإنسان أنه كان يعيش حياة حرة لا سلطان فيها لأي شيء عليه (ما قبل التاريخ) ، ونظرا لانه انتقل إلى الحالة المدنية (التاريخ) فإن عليه ان ينظم اموره بحيث يتحقق له أكبر مقدار من حريته التي استلبتها المدنية ... وعند تحقق هذا الأمر تتحقق المدينة الفاضلة (نهاية التاريخ). بعد الثورة الفرنسية ، وبعد بداية السعي نحو الجمهورية ، بدأت فرنسا نابليون بفرض هيمنتها على اجزاء كبيرة من اوروبا. وهذا هو التلازم بين "الطوباوية والهيمنة"، وهذا الذي يجعلنا نفسر سعي الإنسان للتبشير والدعوة لما يؤمن به، لأنه يفترض في الشخص الذي يدعوه تسليمه بفضيلة ما يدعو إليه، وكل ما هنالك أنه يحتاج لتنوير أو لإرشاد إليها، ويدعوه للخلاص بالسعي معه لتحقيق المدينة الفاضلة ، التي إن لم يكن معه فيها فهو بالضرورة غير موجود. ومن هنا ، من "من لم يكن معنا فهو ضدنا" (7) ، نستطيع أن نتعرف على سبب هذه الهوس الأمريكي في ربط حروبه في افغانستان والعراق مع "نشر الديمقراطية"، وذلك فقط اتكاءً على هذه الثقافة الطوباوية التي تتميز بها الثقافة الأمريكية عموما، وجولة بسيطة في أفلام هوليوود تعطينا هذه الحقيقة، ففي فلم "سمكة السيف" بطولة جون ترافولتا ، يقوم ترافولتا بالاستيلاء على جزء من ميزانية الحكومة الامريكية، وذلك لانفاقها في عمليات مضادة للعمليات الارهابية مبررا ذلك بالحفاظ "على نمطنا بالمعيشة".
هذا الاستطراد الطويل كان ضروريا لطرح هذا التساؤل : هل اتهام – وهو الآن اتهام وليس مجرد نعت - الجابري والعروي وغيرهم من المثقفين العرب بالـ"فرنكفونية" هو من قبيل كونهم انحازوا لها "اختياريا" – فراحوا يروجون لها ضدا على الثقافة العربية الاسلامية- ام أنهم ، ولانهم في مناطق تخضع للهيمنة الفرنكفونية، انحازوا لها عفويا بشكل لاواعي واخترقت نسيجهم الفكري والقيمي وباتوا مرددين لها بغير وعي ؟
في الحقيقة هناك ثلاثة انواع من "الانحياز الثقافي" - كما يحدثنا حنا عبود : ’عفوي وانتهازي وليبرالي، فالأول ينتج من الفرد المستسلم للثقافة التي يعيش ظروفها. لا يعمل الفكر على النقد والتنقيب ... والنوع الثاني : الانحياز الانتهازي قريب من النوع الاول، وإن كان يختلف عنه في أن درجة الوعي اعلى ... فهو انحياز تقيّة، هربا من الاضطهاد. والنوع الثالث ... وهو النوع الذي يمتلك صاحبه حصانة فكرية تمكنه من المحاكمة، من السجال مع الذات ... ‘ (8). وبعيدا عن تسمية "لبرالية" التي لا نتفق معها ونستبدلها بتسمية "اختياري"، نقول : أي معنى من هذه المعاني يشير السكران ؟
هناك معنى ثالث ، وهو أن السكران نفسه خاضع لهيمنة مقولة "الفرنكفونية"، وبسبب خضوعه هذا ، راح يعتبر أي نتاج فكري مغاربي هو نتاج "فرنكفوني" بالضرورة، ولكن هذا المعنى مستبعد تماما ، وما طرحه هنا إلا على سبيل الفرض العقلي.
وبكل المعنيين السابقين ، لا يمكن تسمية أفراد هذه المدرسة بالفرنكفونية ، فهم في كتاباتهم لم يروجوا للثقافة الفرنسية وقيمها ، بقدر ما يتركز اهتمامهم الرئيسي بإعادة تفسير التراث ، و "إعادة التفسير": شيء ، و "ترويج قيم ثقافية أخرى": شيء آخر ، قد يتداخلان : نعم ، ولكنهما لا يعنيان الشيء نفسه . وهم أيضا يتحدرون من التيارات الوطنية والقومية ، التي ناهضت الاستعمار ، وساعدت في مجالات التربية والتعليم (على سبيل المثال للجابري كتاب عن بحث في مشكل التعليم وللعروي بحث عن اشكالية الترجمة والتعريب وغيرهما) لتعميق البعد القومي ضدا على الهيمنة الفرنكفونية.
إن كان هناك من يمكن أن نصفه بالفرنكفونية فهو "محمد أركون" وذلك لأنه يسعى لدمج مسلمي فرنسا في المجتمع الفرنسي ، وسعيه هذا يتشكل من جزءين: إذابة – سواء عن قصد ايديولوجي او حسن نية – العقبات الذهنية في التراث الاسلامي ، باعادة تفسيرها لتمكن مسلمي فرنسا من الاندماج ، تعميق الوجود الاسلامي في فرنسا عبر التأريخ لوجوده ، وذلك باشرافه على كتاب ضخم يتناول تاريخ الاسلام في فرنسا منذ العصور الوسطى الاوروبية . هذا السعي للدمج ، لا يكفي وحده لاتهام اركون بالفرنكفونية ، لكن لا بد من توافر شرط ثاني وهو سعيه لـ"فرنسة" المسلمين، أي بسلخهم عن روابطهم بهويتهم الثقافية الاسلامية، ودمجهم بثقافة أخرى .. كما فعلت أمريكا بالزنوج والهنود الحمر.
الآن ، لنطرح هذا السؤال: كيف يستسهل السكران دمغ هؤلاء المثقفين بالفرنكفونية؟
صراحة، لا أجد إجابة إلا باتهامه بما اتهمهم به وهو استخدامه لأداة "المديونية" التي يشنع على هذه المدرسة اتكائيتها عليها. ففي مجتمع مثل مجتمعنا ، لديه حساسية مفرطة من كل ما هو غربي – رغم ان كل ما يشكله غربي – يجنح السكران لاستغلال هذه الحساسية وربط تلك المدرسة بأصول غربيّة، ليتقرب لقراءه من أسهل الطرق، فلا أسهل من أن أنسب غيري لغربي وأستشهد بسلفي ليصبح كلامي مقبولا في مجتمع يحتلّ الرمز فيه مكانة وقيمة أعظم واكبر مما يقوله هذا الرمز ويتحدث به.
قد يقول البعض : وماذا بعد ؟ هل في نفي نسبة الفرنكفونية عن هؤلاء تغيير لأي شيء في فحوى خطاب السكران ؟ الجواب : نعم ، فيه تغيير أساسي. فالسكران قد ربط هذه المدرسة بالآخر، الآخر الذي لا يتمثل لنا إلا كعدو متحفز للقضاء علينا باي وسيلة، وكل الذي أثبتناه ها هنا أن هذه المدرسة – إن كانت مدرسة – جزء من الانا . وبالتالي إعادة توطينهم ، ونفي الشبهة المؤامراتية عنهم.
بعد إعادة التوطين هذه ، كيف نفهم هذه "المدرسة" دون التوسل بمفهوم الفرنكفونية؟ ذلك ما سنتحدث عنه لاحقا.
(1) موقع مجلة البيان ، تمهيد الملف الخاص بالفرنكفونية المعنون بـ "الفرنكفونية المفروضة والصبغة المرفوضة".
(2) مقالة "الفرنكفونية في سطور"، في نفس الملف السابق.
(3) http://www.blafrancia.com
(4) مقالة "الأبعاد الثقافية والايديولوجية للفرنكفونية في المغرب" ، في نفس ملف مجلة البيان المذكور آنفا.
(5) نسيج الإنسان الفاسد ، إيزايا برلين ، "أفول الأفكار الطوباوية في الغرب"، دار الساقي: ص : 31 .
(6) العقد الاجتماعي ، جان جاك روسو ، ترجمة عادل زعيتر ، مؤسسة الابحاث العربية ، ص: 29.
(7) جزء من خطاب بوش للكونجرس الأمريكي في الـ 20 من سبتمبر عام 2001 ، عقب احداث التفجير، وهو منشور في موقع البيت الأبيض.
(8) الأمن الثقافي : النشأة والتطور ، بحث منشور في مجلة حوار العرب ، عدد رقم 24 ، سنة 2006 : ص 46-47.
3- أسطورة "1984م":
يقول محمد عابد الجابري : " إذا كان لا بد من تحديد نقطة ينقسم عندها الفكر العربي الاسلامي، منذ عصر التدوين إلى اليوم، إلى ما قبل و ما بعد ، فإن هذه النقطة لا يمكن ، في نظرنا ، أن تكون شيئاً آخر غير لحظة الغزالي" (1). هذا النمط من التفكير نجده أيضا عند السكران الذي يتساءل : ’مالفرق بين العلمانية العربية ما قبل (1984م) والعلمانية العربية ما بعد (1984م)؟‘(ص10)، على اعتبار ان هذا العام هو العام الذي أُلف فيه أول أجزاء "نقد العقل العربي".
نحن الآن أمام نمط من التفكير، يعتقد أن بإمكان رجل واحد ، بل مؤلَف واحد ، أن يكون منعطفا رئيسيا ولحظة تأسيسية في مسار فكر ما، بحيث يقسم هذا المؤلَف تاريخه إلى "ما قبل" و "ما بعد". ماذا يلغي هذا النمط ؟ يقول جورج طرابيشي في معرض تحليله لـ "مصائر الفلسفة في الإسلام والمسيحية" عن الدور الذي قام به الغزالي كمسدد للضربة القاضية للفلسفة – كما يقول الجابري: " ونظرية "الضربة القاضية" الغزالية، التي يتبناها الجابري ... هي إما نظرة ساذجة أو سيئة النيّة ... ساذجة لأنها تتصور أنه في مستطاع فقيه متكلم ... أن ينهي بمفرده الفلسفة ويهير صرحها .. وسيئة النية لأن الغرض المسكوت عنه الذي تقوم على أساسه هو أن الفلسفة العربية الإسلامية هشّة بتكوينها وسريعة العطب بطبيعتها "المستوردة" وقابلة للسقوط من الضربة الأولى .. ولئن ماتت (= الفلسفة الاسلامية) فما ذلك بضربة من عصا ساحر أسماها صاحبها (تهافت الفلاسفة)، وإنما بأسباب تاريخية. "(2) .
"الأسباب التاريخية" ، أو التاريخ ، هو "عبّاد الشمس" – كما تعلمنا في الكيمياء – الذي يبيّن لنا الحمض عن القاعدة، والتفسير الأسطوري عن التفسير الواقعي. فالفكر هو استجابة للأحداث التي يتشكل في أحضانها ، وتحولاته لا تجد تفسيرا إلا في تحولات الواقع الذي يحتضنه. وهذه العلاقة الجدلية بين الفكر والتاريخ ، هي التي تمكننا من تفسير الاثنين ، أو الاقتراب من ذلك على أقلّ تقدير.
ولنعد الآن لسؤال السكران السابق ولنمارس بعض التفكيك عليه:
أولا ، عندما يتسائل السكران عن الفرق بين العلمانية العربية قبل وبعد 1984 : ماذا يسكت عنه ؟ إنه يسكت عن أن غير "العلمانية العربية" : هي هي ، لم تشهد أي تحولات. و"غير العلمانية" لن يكون سوى "الفكر الإسلامي". بينما نحن نقول أن الفكر العربي كله – علمانيه وإسلاميه - شهد تحولا كبيرا ، سنبينه بعد قليل.
ثانيا ، أنه يمارس نوعا من "المكارثية" بنسبة أفراد تلك المدرسة المزعومة كلهم إلى العلمانية ، في حين أن البعض منهم ، ومنهم الجابري ، يتبرأون من العلمانية! وسواء قصد السكران العلمانية بمعناها الشامل او بمعناها الجزئي- إذا أردنا استعارة لغة المسيري، فالجابري – ونحن نركز عليه للدور الرئيسي المنسوب له في هذا التحول الكبير - يصرح بأن العلمانية ، باعتبارها استقلالا عن المؤسسة الدينية، لا حاجة إليها في الإسلام طالما أنه لا وجود لمؤسسة دينية فيه، ويسعى دائما إلى تفسير أحكام الإسلام تفسيرا يزعم أنه يريده "أصيلا ومعاصرا" وفي كلا الحالتين تنتفي عنه شبهة العلمانية بمعنييها .
ثالثا ، مالعبقرية الكبيرة التي تادت "بنقد العقل العربي" لأن تكون له هذه المكانة التأسيسية في تحوّل العلمانية العربية ؟ يجيب السكران بأنه ’التحول من "الاستهداف المباشر للشريعة" إلى إعادة تفسير التراث"‘. وبغضّ النظر عن المضمون المؤامراتي لهذه الإجابة ، إلا أننا يحقّ لنا التساؤل: هل فعلا أن هذا التحول ابتدأ فقط عند هذه اللحظة ومع الجابري ؟
سنبدأ من العام 1926 وهو العام الذي نشر فيه طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي وجه سهام الشك إلى الشعر الجاهلي وحقيقة وجوده ، مما حدا بالمفكر الإسلامي مالك بن نبي أن يقول "فالمشكلة بوضعها الراهن – إذن تتجاوز نطاق الادب والتاريخ، وتهم مباشرة منهج التفسير القديم كله " وتبعا للتطور الجديد في الفكر الاسلامي ، فان ضرورات هذا "التطور تقضي بتعديل منهج التفسير القديم تعديلا يناسب في حكمة وروية مقتضيات الفكر الحديث". ومن هنا بنى مالك بن نبي إثباته لنبوّة محمد بمنهجية تختلف عن "التفسير القديم" الذي لا يتناسب مع "مقتضيات الفكر الحديث"(3).
بل يمكننا العودة إلى أقدم من ذلك، إلى 1902م ، حيث تلك المدونة الضخمة التي كتبها جورجي زيدان عن "تاريخ التمدن العربي". وشهدت فترة ما بين الحربين تناميا لدراسة التراث الإسلامي عند كبار المفكرين والادباء والفقهاء، فنرى توفيق الحكيم يؤلف مسرحيته عن النبي ، ويكتب هيكل كتابه عن "حياة محمد" ويكتب علي عبد الرزاق – الازهري- كتابه "الإسلام وأصول الحكم" في عام 1925م نافيا كون "الخلافة" من الإسلام في شيء.. وتتوالى الدراسات حول التراث في تلك الفترة التي شهدت فسحة من الحريّة.
وان كانت هذه الدراسات دراسات متفرقة ، فإن أنضج مشروع متكامل لدراسة الحضارة الإسلامية هو ذلك المؤلف الذي كُتب عام 1928 ويبحث "عن الحياة العقلية في صدر الإسلام إلى آخر الدولة الاموية" ، عنينا "فجر الإسلام" لمؤلفه أحمد أمين، وما تبعه من اجزاء : "ضحى الإسلام" (1933-1936) "ظهر الإسلام" (1953) الذي ينشر الجزء الاخير منه بعد وفاته. وهذا المشروع ليس مجرد كتابا مدرسيا همّه العرض والتنقيب، بل إن كتابه انحاز انحيازا تاما للمعتزلة وتحسّر على اندراس علومهم ومدرستهم.
ولو نظرنا إلى المشاريع التي درست التراث متوسلة بمناهج غربية، فإن محمد جابر الأنصاري يقدم لنا صورة بانوراميّة عنها : فنجد دراسة محمود امين العالم " الفكر العلمي عند العرب" تحمل قبس السبق (1956). ويستكمل اليساريون دراساتهم في التراث، فنجد طيب تيزيني يخرج لنا دراسته "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي الوسيط" (1971).بعد ذلك نجد حسن مروة يقدم لنا في اواخر السبعينات كتابه "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية". وقبل أن نصل إلى الجابري علينا ان نتوقف عند البحث الذي قدمه أدونيس عام 1973 عن "الثابت والمتحول : بحث عن الاتباع والابتداع عند العرب". وفي ضمن هذا السياق فقط ، لا بالانفصال عنه ، تندرج دراسات المغاربة منذ مالك بن نبي مرورا بالعروي والجابري والمرزوقي وطه عبد الرحمن وغيرهم.
فنحن لا نتكلم عن جماعة سريّة ، تُسمى "العلمانية العربية" ، هدفها الرئيسي : تحييد الوحي ، وتكريس قيم المدنية؛ بقدر ما نتحدث عن مجموعة من المفكرين العرب الذين سعوا – كل بحسب مقصده – إلى دراسة التراث بعيدا عن النظرة التقليدية له، وهذا الابتعاد عن النظرة التقليدية ليس تقصدا للمغايرة ، بقدر ما هو محاولة للاقتراب من حقيقة هذا التراث ، باكبر قدر ممكن. ونحن هنا لا ندعي أن هذه المحاولات كانت تتم لأهداف علمية ، وإنما نقول أن الكثير منها خالطه الانحياز والانتقاء والتأثر بالاستشراق وما إلى ذلك.
والغريب أن الذي سيعقد مرافعة عن التراث متهما الثقافة العربية –بكافة أطيافها الماركسية والقومية والاسلامية والعلموية - أنها المسؤولة عن "ذبحه" هو المفكر ذو الأصول المسيحية جورج طرابيشي. فيتناول دراسات لسمير أمين 1984، والأرسوزي 1972، ومحمد عمارة 1980، زكي نجيب محمود 1974، الجابري 1984، متهما إياها بانها دراسات غير علمية ولا تهدف لمعرفة – او حتى الاقتراب من هذه المعرفة – "ما قد جرى" بقدر ما تهدف إلى "تجيير" التراث بالكيفية التي تسندها أيديولوجيا. وهذا كله في كتابه "مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة".
ومن هذا كله يتبيّن أن دعوى مركزيّة "1984" ومفصليّة نقد العقل العربي ، بأنه بداية المرحلة الثانية من التكتيك العلماني الجديد بالابتعاد عن استهداف الشريعة لإعادة تفسير التراث، ما هي إلا أسطورة لا نعلم لها مستندا تاريخيا ولا معنى بنيويا . بل إن الأنصاري – وهو ذاك المؤرخ للفكر العربي عبر مؤلفاته "الفكر العربي وصراع الاضداد" و "تحولات الفكر والسياسة" و "مساءلة الهزيمة" – يقول عن الجابري ونقده : "(نقد العقل العربي) أشبه ما يكون ببناء معماري فسيح له واجهة زخرفية جذابة واروقة تبهر القادمين إليه ، لكنه من الداخل لا يضم إلا القليل من الغرف الصالحة للسكن" ويصف نتائجه بانها "موضع نظر ويتصف بعضها بالهشاشة المعرفية والتنظيرية التي لا تمثل بناء يذكر في الفكر العربي" ويرجع ذيوعه ، لا إلى مضمونه ، بقدر ما أرجعه " إلى قدرته على تبسيط القضايا الفلسفية والفكرية لجمهور عربي من عامة المثقفين والمتعلمين الذي لم يلموا بتاريخ الفلسفة العربية والإسلامية، .. فوجدوا في تبسيط الجابري لها غذاءً ثقافيا ... وحيث أن مثقفي المشرق كانوا أكثر جهلا بقضايا الفلسفة الإسلامية ... فقد كانوا أكثر افتتانا بما جاء به الجابري " (4).
حتى الآن قمنا بنفي تهمة "الفرنكفونية" عن تلك الدراسات التي تناولت التراث، وبالتالي نفي ارتباطها بقوى خارجية، ونفينا عنها أسطورة "1984" ، وبالتالي نفي المغزى المؤامراتي لهذه الأسطورة، يتبقى الآن أن نتناول قضيتين : "الفكر الإسلامي"، ذاك المسكوت عنه في دراسة السكران، و "الفكر العربي وكيفية النظر إليه".
(1) نحن والتراث ، محمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة العربية : ص 161.
(2) مصائر الفلسفة في الإسلام والمسيحية ، جورج طرابيشي ، دار السافي : ص 80-82.
(3) الظاهرة القرآنية ، مالك بن نبي ، دار الفكر ، ص 57.
(4) مساءلة الهزيمة ، محمد جابر الأنصاري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر: ص124-125.
4-تحولات الفكر الإسلامي:
"أنا أعذر هذا الكاتب .. لقد كنت مثله من قبل .. كنت أفكر على النحو الذي يفكر هو عليه الآن .."
سيد قطب يتحدث عن مالك بن نبي
يقول السكران : ’فالسؤال المركزي في مدرسة الفكر الإسلامي كان سؤال : "انتصار الاسلام"‘ (11)، وهنا نجد أنفسنا أيضا امام اختزال آخر. فهو يُظهر لنا وجها واحدا من وجهي الفكر الإسلامي ، ويقوم بردّ الفكر الإسلامي كلّه إليه ، ويعمم إشكالية هذا الوه على مجمل الفكر الإسلامي. وما سنقوم به الآن هو الإجابة على سؤالين:
هل إشكالية الفكر الإسلامي تدور حول "انتصار الإسلام" أم أن "انتصار الإسلام" هو الإجابة التي يسعى لتأكيدها اتجاه واحد من اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر ؟
هل الفكر الإسلامي يتأثر بالتاريخ ؟ بمعنى آخر هل هناك "تحولات" في الفكر الإسلامي ؟
بالنسبة للسؤال الأول فكل الذي سنقوم به ، هو عرض لكتابين اثنين لمفكرين إسلاميين : الأول "واقعنا المعاصر" لمحمد قطب ، والثاني "وجهة العالم الإسلامي" لمالك بن نبي. وسنركز في عرضنا على كيفية نظر هذين المفكرين للتاريخ الإسلامي ، وللحضارة ، وكيفية الخروج من مشكلة "الانحطاط" – بحسب مالك بن نبي ، أو "الانحراف" - بحسب محمد قطب.
بعد أن يتحدث عن عصر الصحابة الذي يسميه "الجيل الفريد" ، يقوم محمد قطب بتناول "الانحراف" الذي ابتدأ منذ العصر الاموي وأخذ يتزايد ، حتى وصل إلى "الجاهيلة" في هذا القرن ، ومن هنا يؤرخ لبزوغ "الصحوة الإسلامية". بأنها الدعوة الجديدة التي قام بها "الأفندية" الحركيين – بدلا من المشايخ المتجمدين – والتي لا ترفض الحضارة الغربية ، ولا تتنكب لها كليا، بل تاخذ منها الأشياء النافعة كالعلوم والتقنية ، وتنسب تأخر المسلمين إلى "بعدهم عن الإسلام" لا للإسلام، وانتشرت هذه الدعوة بين المهندسين والاطباء وغيرهم من أصحاب المعرفة العلميّة التطبيقية، بهذه الأوصاف يصوّر لنا قطب نشوء "الاخوان المسلمين". ثم يدخل في الحديث عن مضايقات القوى "الصليبية والصهيونية" للدعوة التي انتهت بمقتل زعيمها حسن البنا، ولكن ما إن يمر عامان حتى يكتسح الإخوان المؤسسات الاجتماعية في مصر، وتنتشر الدعوة في كل مكان ، وبسبب هذا قررت القوى "الصليبية الصهيونية" تجنيد "عبد الناصر" ليقمع هذه الحركة، فاستجاب لهم في "مذبحتي الخمسينات والستينات".
بعد هذا العرض التاريخي يبدأ محمد قطب بمراجعة الدعوة، ويشير إلى أنها تعجلت في أمور كثيرة، وأنه كان عليها أن تؤسس "القاعدة الإسلامية". وهم الأعمدة الضرورية لقيام الدعوة، لا أن تتوسع جماهيريا فقط ، بل عليها أن تتأسس في نفوس عصبة يمثلون قاعدة إسلامية متينة. ولهذا عليهم تجاوز العقبات التالية : الجهل بمعنى "لا إله الا اله" ، الجهل بحقيقة المعركة التي على الدعوة خوضها وإعداد العدّة لها. وأخيرا يقرر محمد قطب أن الدعوة بعد المجازر الناصرية اكتست بخاصيتين : الخاصية الاولى: الانتشار الكاسح والمتزايد للدعوة بحيث أضحى "الالتزام" باعثا ذاتيا ، لا يشترط الانضواء تحت جماعة أو حركة؛ والخاصية الثانية تعدد الجماعات واختلافها وتنازعها فيما بينها.
هكذا يرى "منظر الصحوة" الامور، فهو يقسمها إلى ثلاث مراحل: "مرحلة الجاهلية" ، "مرحلة الإخوان المسلمين" – التي انتشرت انتشارا أفقيا منذ تأسيس البنا وحتى مذبحة الستينات؛ "مرحلة بناء (القاعدة الإسلامية)" : وهي المرحلة التي على الصحوة أن تصلها. (1)
ننتقل الآن لمالك بن نبي وكيفية رؤيته للامور. يبدأ الانحطاط بالتشكل عند مالك بن نبي من معركة صفين ، ويكتمل تماما بعد ابن خلدون ، وهي المرحلة التي يسميها "ما بعد الموحدين" ، التي بانهيار هذه الدولة ابتدأ تاريخ الانحطاط، الذي خلق "انسان ما بعد الموحدين" ذو التركيبة القيميّة الفاسدة الغير متحضرة. هذا الانسان هو الذي قابله الأوروبي عندما جاء مستعمرا للعالم الإسلامي ، ومن حيث لم يحتسب ، قدم هذا الاوروبي خدمة جليلة لهذا الانسان بأن فجّر الوضع الاجتماعي الذي يعيش فيه. ونتيجة لهذا الوضع الجديد انطلقت النهضة متمثلةً بتيارين : الاول إصلاحي مرتبط بالضمير الإسلامي ، وقد خط طريقه منذ ابن تيمية وادى إلى تكوين دولة الموحدين في المغرب والدولة الوهابية في الجزيرة ، والآخر "تجديدي" وهو يعبر عن مطامح طبقة تخرجت من المدرسة الغربيّة. انطلق التيّار الاصلاحي بجهود روّاده امثال جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ، التي لم تستطع التخلص من نقائص "انسان ما بعد الموحدين" : من حرفيّة ، وانعدام الفاعلية، والهيام بالكمّ ، والتعلق ببلاغة القول. وبالجملة لم تفلح الحركة الاصلاحية بتغيير هذا الانسان ، بل كل الذي فعلته انها حركت الركود الذي كان يعيش فيه.
بعد هذه الهزّة الحضارية، دخل العالم الإسلامي في حالة فوضى عارمة تتحكم بها عوامل داخلية يحملها معه انسان ما بعد الموحدين ، وعوامل خارجية يحملها معه الاوروبي الذي يتبدى كـ"مستعمر" بمجرد أن يخرج من قارته الاوربية.، أو بمعنى آخر فوضى يتحكم بها "الاستعمار" و "القابلية للاستعمار". تبدّت هذه الفوضى في السياسات العربية في حرب 48 في فلسطين ، ومن هنا، من هذه "الهزيمة المباركة"، يستشرف مالك بن نبي بوادر نهضة عامة ، نهضة تتجاوز ما يسميه "ذهنية الاستحالة" و "ذهنية الاستسهال" ، نهضة تتجاوز حالة "السياسة العمياء" ، ومن تبديات هذه النهضة الحركة الاصلاحية الجزائرية وجماعة الاخوان المسلمين التي تمثل "أول جهد يستهدف إعادة بناء المجتمع الإسلامي ، مسترشدا بالتخطيط الذي وضعه المهندس الاول : محمد صلى الله عليه وسلم"(2).
نحن الآن أمام رؤيتان أزعم انهما الاتجاهان المشكلان للفكر الاسلامي المعاصر، ومحورهما الرئيسي ، هو المحور الذي يحدد جميع الفكر العربي ، أقصد "النهضة" وكيفية تحقيقها. والفكر الإسلامي بكافة أطيافه يتفق على أن النهضة تنطلق من "الإصلاح"، ولكن آلية الإصلاح تختلف إلى اتجاهين اثنين : اتجاه يرى أن سبب الانحطاط هو التنكّر لـ "لا إله إلا الله" ، هو خلل عقدي ، انحراف عن فهم الإسلام الصحيح ، إسلام جيل الصحابة ، الجيل الفريد ، وإذن ، فالاصلاح يكون بالعودة إلى ذلك الفهم الذي أنتج ذلك الجيل . وهذا تيار وإن كان يجد بذوره في بدايات الدعوة الوهابية وجانب من جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وبعض كتابات حسن البنا، إلى أنه يتشكّل كنظرية مع المودودي وسيد قطب ويمتد كتطبيق في تيارات اسلامية متنوّعة وتشكلت في شخصيات دعوية وجهادية كبيرة كعبد الله عزام ومحمد قطب ومحمد سرور وغيرهم. وانطلاقا من هذه النظرة للإصلاح ، يتم الخلاص إلى أن "الحضارة" ليست شيئا سوى الإسلام ، وأن كل ما عدا الإسلام جاهلية. ومفهوم الجاهلية يتسع ويضيق من تيار لتيار داخل هذا الاتجاه ، فهناك من يصف كل المجتمعات والدول بانها جاهلية ، وبالتالي كافرة ، وهذا ما تمثله التيارات الجهادية التكفيرية كأقصى تطرّف وتوسع في مفهوم الجاهلية. وهناك من يحصر الجاهلية في النظريات والفلسفات الاخلاقية الغربية دون الوسائل التطبيقية، فيرى أن الديمقراطية –مثلا ، التي هي كفر عند الموسعين لنطاق الجاهلية- وسيلة فعّالة في دائرة المباح ، وهذا الذي أفهمه من قراءتي للمودودي في قوله : " إن البرلمانات لا يُباح لها ان تسن نظاما معينا ، أو تصدر حكما فيما ورد فيه نص واضح وصريح ... أما ما لم يرد فيه نصّ شرعي ... فلأهل العقد والحل أن يجتهدوا في سن الأنظمة ... "(3). ومن هنا ينزع هذا التيّار إلى محاولة أسلمة "الوسائل" بترشيدها لتحقيق مقاصد إسلامية بعد ان كانت تُستخدم لمقاصد "جاهلية". وتأتي الحاكميّة ، كقيمة مركزية ، وهي – كما تبدو جليّة في "معالم" سيد قطب وكتابات المودودي – معيار الحكم على الدول ، فلا يكفي أن يوجد المسلمون في البلاد حتى تكون هذه البلاد مسلمة ، بل عليها أن تقوم على "حاكمية الله للبشر" حتى تكون إسلامية ، لا أن تكون "حاكمية البشر للبشر" كما هي الحال في البلاد الجاهلية.(4)
الاتجاه الآخر ، هو اتجاه يرى أن الانحطاط "حضاري" ، بمعنى أن المسلمين لم يفقدوا إيمانهم، بل إن هناك أسبابا وظروفا حضارية نقلتهم من الحضارة إلى الانحطاط ، وبالتالي لا بد أن تتمثل عملية الاصلاح ، بالخروج بالمسلم من تكوينه الفكري والقيمي والاجتماعي الذي استولى عليه في عصر الانحطاط إلى تكوين فكري وقيمي واجتماعي يستلهم التجربة النبوية القديمة، ويتوافق مع شروط الحاضر. هذا الاتجاه يتوسل بالعلوم الانسانية الغربية من علم اجتماع ونفس وانثروبولوجيا ، لدراسة أسباب الانحطاط ، وتفسيرها واستجلاء سبل الخلاص منها .. وبالتالي هو يعتبر "الحضارة" مشترك إنساني ، قد توجد بلا إسلام ، وقد يوجد إسلام بلا حضارة. وهذا التيار يظهر بشدّة عند محمد عبده ومالك بن نبي ، وإن كان اختفى في عصر القوميات إلا أنه يعاود الظهور بشكل كبير في كتابات عبد الوهاب المسيري وإدارته لسلسلة "إشكالية التحيز"، التي صدرت في سبعة كتب باحثة في إشكالية الانحياز إلى الغرب في التعليم والنظرة للتراث والتاريخ والعلوم الطبيعية والطب وغيرها.
كل الذي قمنا به الآن هو أننا وضحنا أن الفكر الإسلامي المعاصرأوسع من عمليّة الاختزال التي يتفق عليها كل من علمانيي السلطة ، وتيار "الحل الإسلامي". والآن لنجيب على السؤال الآخر المتعلق بتحولات الفكر الإسلامي ، وسنجيب عليه من خلال مقاربتين اثنتين : سيرة سيد قطب الفكرية ، وملامح عامة للتحولات الاسلامية.
فسيد قطب ، الذي هو مثال يحتذى في الإخلاص للقضية والموت دونها، باعتباره رائدا فكريّا من رواد الفكر العربي الحديث، والمشكل الأكبر لتيارات عريضة من الفكر الإسلامي، سيّد نفسه كان قد مرّ بثلاث مراحل فكريّة: المرحلة الأدبية، ومرحلتين إسلاميتين. ففي مرحلته الادبية كان ينتمي لمدرسة العقاد ،ونتج عنه في هذه المرحلة روايته "أشواك" و كتابه النقدي "أصول النقد الادبي" و "التصوير الفني في القرآن " و"مشاهد القيامة في القرآن" الذَين استغرب أتباع الدعوة الإسلامية عدم تصديرهما بالبسملة. بعد هذه المرحلة التي كانت أدبيّة على الغالب، أدى التفات قطب للمظالم الاجتماعية في بلاده إلى إصدار كتابه " العدالة الاجتماعية في الإسلام" الذي يعتبر مرحلّة تحول إلى الفكر الاسلامي بعد ان عمل لدى حكومة ما بعد الثورة مدة ثلاثة أشهر، تلى كتابه الأخير كتاب معنون بـ "معركة الاسلام والراسمالية" وآخر بعنوان "السلام العالمي والإسلام" وكذلك ، الأجزاء الاولى من "في ظلال القرآن"، بعدها توّجه لتسجيل عضويته في حركة الاخوان. بقي أخيرا أن نشير إلى المرحلة النهائية التي تمثلت في "معالم في الطريق" والاجزاء الاخيرة من الظلال والطبعة الثانية من الاجزاء الاولى، بانها فترة نتجت بعد تحوّل الثورة المصرية إلى النهج الاشتراكي ، والقمع الذي مارسته على الاخوان المسلمين ، وكذلك بعد اطلاع سيد قطب على كتابات المودودي وتجربة باكستان . هذه التحولات الفكرية من "توجه إسلامي" إلى "توجه اسلامي آخر" في شخصية واحدة ، تحمل في طيّاتها دليلا صارخا على تفاعل هذا الفكر مع التاريخ والواقع ، تفاعلا يتبادل معه التأثير والتشكّل.
وعموما ، أدى الاستبداد السياسي في مصر وسوريا والعراق ، والتفجّر السكاني، وفشل الأيديولوجيات القومية واليسارية ، إلى انتشار الحركة وانتقال روادها إلى أرجاء أخرى من البلدان العربية ، كدول الخليج. ونتيجة مخالطتها للطبيعة الفكرية والاجتماعية لهذه البلدان تشكلت تيارات فكرية جديدة ، تفترق مع النهج الاخواني العام. وهذا على صعيد الحركة ، أما على صعيد الفكر فمنذ البداية كان هناك مفكرين اسلامين في مصر وغيرها لم ينخرطوا في الحركات الاسلامية كشكري والطنطاوي والعقاد في اسلامياته وغيرهم .
لذلك فالحديث عن تحول في "الفكر العلماني" وحده ، حديث ناقص ، وتناول "الفكر الاسلامي" على اعتبار أنه تيار متجانس متماثل في الرؤية ، هو أيضا تناول زائف. وأخيراً نستطيع ان نعود إلى هذا السؤال الأخير - الذي ننتهي بعده من الحديث عن الفكر العربي : كيف ننظر إليه؟
(1) واقعنا المعاصر ، محمد قطب، الطبعة الثالثة ، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر.
(2) وجهة العالم الإسلامي ، مالك بن نبي ، دار الفكر ، ص : 161.
(3) نقلها عبد المنعم الهاشمي عن كتاب "الاسلام والمدنية الحديثة" للمودودي ، في كتابه "ابو الاعلى المودودي" – دار ابن كثير : ص 66.
(4) معالم في الطريق ، سيد قطب ، دار الشروق ، الطبعة الثامنة : ص 47.
5- الفكر العربي: من ’المركزية‘ إلى ’التشظي‘
"حنا العرب
يا مدعين العروبة
وحنا هل التوحيد
وانتم له اجناب"
خالد الفيصل
كيف اعترفت الدول العربية باستقلال الكويت ؟
هذا السؤال، ليس سؤالا سياسيا يتناول جانبا من التاريخ القومي الخاص بالكويت، بل هذا السؤال يتضمن إبراز حقيقة "المركزيّة" العربيّة ، التي سنتناولها عما قريب.
وإجابةً على السؤال المطروح، تقول مريم جويس أنه في سبيل تحقيق الكويت لاعتراف الدول العربيّة باستقلالها عرضت "على بغداد قرضا فوريا مقداره مليونا دولار ... بعد ذلك وافق الجانبان على تبادل الوفود للتفاوض حول قرض مقداره عشرون مليون دينار ...كما تم التوصل لاتفاق آخر تقدم فيه وزارة المالية الكويتية قرضا إضافيا مقداره عشرون مليون دينار"(1). أما سوريا فقد "أعلنت ... اعترافها باستقلال الكويت مرفقا بقرض من الإمارة بمناسبة الاتفاقية"(2).
هذا التعامل التي تعاملت به دول عربيّة "قوميّة" مع استقلال دولة عربيّة ساهمت معهم في المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل ، وأسست صندوق الكويت للانماء الاقتصادي العربي، وشاركت الامة "العربية" في أفراحها وأتراحها؛ أقول : هذا التعامل الابتزازي – الذي لا يمر عليه ثلاثون عاما إلا وتقتحم الجيوش العراقية أراضي الكويت والسعودية- لا يمكن تفسيره إلا بطرح السؤال التالي : ما المقصود بكلمة "عرب" في الأدبيات المصرية والشامية والعراقي ؟ هل الفكر "العربي" كان فعلا تعبيرا عن العرب من "المحيط إلى الخليج" أم كان فقط تعبيرا عن عرب الهلال الخصيب ومصر ؟
هذه الأسئلة كلها ستصب في إجابة واحدة ، وهو أن الفكر العربي كان منحازا بشكل صارخ لعرب دون عرب. وهذا الانحياز والتمركز، يشابه المركزيّة الأوروبية التي تمارسها على الفكر العالمي ، فهي ليست دعوى أيديولوجية يتم التنظير لها بشكل واع، بقدر ما هي بطانة إيبستمولوجية تمارس سلطتها على كل التفكير في "الفكر العربي".
سنضرب عدّة أمثلة على هذه المركزية ، وهذه الأمثلة بالغة الدلالة على هذه المركزيّة إذ أنها مؤلفات لمفكرين ينتمون جغرافيا لخارج منطقة المركزيّة ، أقصد مفكرين من المغرب العربي والخليج. نبدأ بمحمد جابر الأنصاري ، ففي كتابه "الفكر العربي وصراع الأضداد" نجد أن الفكر العربي ليس شيئا سوى مسارات الفكر في مصر والشام ولبنان والعراق، وفي حالة خروجه عن هذه المسارات ، فإن المفكرين الآخرين الذين يستشهد بهم هم مفكرين اندمجوا في الإشكاليات المصرية والخصيبية ، كعبد الله القصيمي ، فهو ،وعلى الرغم من كونه سعوديا ، إلا أنه ومنذ "هذه هي الاغلال" اندمج في الاشكاليات الفكرية لبلاد المركز. وكذلك نجد إقبالا عربيا على روايات عبد الرحمن منيف، وما هذا إلا لأنه تخلى تماما عن اشكالياته المحلية لينخرط تماما في اشكالية المركز. وحتى "مدن الملح" التي أُريد لها أن تكون ملحمة الجزيرة العربية والنفط، تحولت – كما يقول القصيبي- إلى كاريكاتير سياسي. ونضيف نحن أن الشخصيات الجوهرية والتي تتصف بالوعي في الرواية كانت شخصيات من المركز، أما غيرها فلم تكن سوى شخصيات بدوية ساذجة !
بل حتى تأريخ الفكر العربي، نجده ينحاز تماما لتلك المنطقة ، فهو يُقَسَّم عادة من حملة نابليون إلى عهود الاستقلال، ومن عهود الاستقلال إلى نكبة 1967م. وهذا التأريخ في حال تطبيقه على السعودية نجده تأريخ مقلوب لا يعكس أي معطيات واقعية ، فدعوة محمد عبد الوهاب، هي التي أثرت في الجزيرة ، لا حملة نابليون، و"توحيد الملكة" على يد الملك عبد العزيز هو الحدث التأسيسي في تأريخ الجزيرة، لا "عصور الاستقلال" .. و"عصر الطفرة" هو الذي أثر على التركيبة الديموغرافية للسعوديين أكثر من تأثير كل حروب عرب المركز مع اليهود.
بل حتى في التحليلات الاجتماعية نجد انحيازا واضحا لتلك المنطقة ، فيتم بحث تأثير "الاستعمار" على الفكر العربي، وبحث انتقال العرب من الأرياف إلى المدن، وتأثير مؤسسات الدولة العثمانية التقليدية في بناء الدولة العربية الحديثة، واتفاقية سايكس بيكو ...إلخ. وهذه الاحداث لا تطرح على انها قضايا تتعلق بجزء من أرض العرب، بل تطرح على أنها قضايا العرب، ويتم تعميم نتائجها على باقي العرب.
نجد كتابا لعبد الله العروي ، وهو مغربي ، عنوانه "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" ، دافع الكتابة لهذا البحث هو ما لاحظه "من تعثر واضح ، على المستويين السياسي والثقافي، في مسيرة المغرب بعد عشر سنوات من استقلاله" و لكنه عند دراسته للمغرب يوضح أنه لم يستطع "الوقوف عند حدود الوطن المغربي. لم تلبث الدراسة أن شملت مجموع الشعوب الناطقة بالعربية." ويبرر ذلك بأن المغاربة يلجأون " إلى اشكالية سبق أن لجأ إليها مفكرون من بلدان عربيّة أخرى. فلا يمكن الحكم على البعض دون الحكم على الجميع"(3). وهنا ، من عدم إمكانية الحكم على البعض دون الجميع، تتبدّى كل المشكلة؛ فـ"الجميع" هنا لا تحيل دلاليا إلا لعرب مصر والشام والعراق ، وهذا ما سيتبين من الفصل الأول ، فهو يقول " يمكن أن نميز ضمن الايديولوجيا العربية المعاصرة ثلاثة تيارات أساسية. يفترض التيار الاول أن أم المشكلات في المجتمع العربي الحديث تتعلق بالعقيدة الدينية ، والثاني بالتنظيم السياسي ، والثالث بالنشاط العلمي والصناعي"(4). وهذا التعميم الذي يطلقه العروي ، لا يجد نموذجه إلا في مصر ، فالشيخ الممثل للتيار الأول لن يكون سوى محمد عبده، ورجل السياسة الممثل للتيار الثاني سيتجسد في كل من الكواكبي وخالد محمد خالد وطه حسين وعلي عبد الرزاق، أما داعية التقنية الممثل للتيار الثالث فلن يكون سوى سلامة موسى. واخيرا يتدارك العروي، فينفي محاولة اتهامه بأي انتقائية مؤكدا ان هذه الشخصيات الثلاث "لحظات ثلاث يمر بها تباعا وعي العرب، وهو يحاول ، منذ نهاية القرن الماضي ، إدراك هويته وهوية الغرب"(5). هكذا ، وبجرّة قلم، يشطب تاريخ غالبية الدول العربية ويستبعد افكارها استبعادا تاما – بما فيها بلاد المغرب – لصالح دول المركز!
هذه المركزية ، نستطيع تسويد الصحف في إثباتها ، فنجد مثلا في كتاب يحمل عنوان "الخطاب العربي المعاصر"، نجد الجابري يحلل خطاب العرب ، وقائمة مراجعه لا تخرج أبدا عن حدود مصر والشام والعراق، وإن خرجت فهي لصالح مثقفين انحازوا لاشكاليات دول المركز. وفي كتاب ضخم أصدره مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان "الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام" شارك فيها حوالي أربعين مشاركا ، ليس من بينهم خليجي واحد، والموضوعات كانت كالتالي : "الإشكاليات العامة"، " الفلسفة في مصر" ، "الفلسفة في المغرب العربي"، "الفلسفة في الشام والعراق". ولا نجد شيئا آخر غير ذلك ! قد يُقال : "أنه لا وجود للفلسفة والفكر في الخليج"، وهذه الدعوى هي صدى للفكر المركزي العربي، فبعد ان تم تقنين مفهومي "الثقافة" و"الفلسفة" بالشكل الذي يتلائم واحتياجات المركز، المنحاز هو الآخر إلى المركزية الأوروبية، بعد عملية التقنين هذه يتم استبعاد كل لون من ألوان التعبير الفكري، على اعتبار أنه لا يتطابق مع النماذج المنحوتة من قبل دول المركز. بل إن حضور دول الخليج لم يجد له مكانا إلا في جزء من العرض البانوراميّ الذي قدمه حسن حنفي، ولكن هذا الحضور كان لمن تخلوا عن إشكاليتهم الداخلية لحساب اشكاليات العرب الأخرى ، والمصيبة كل المصيبة ، أن هذا الانتقال من اشكاليات منطقة عربية لمنطقة عربية اخرى يسمى انتقالا من "الهم القطري" إلى "الهم العربي"!
نجد هذه المركزيّة أيضا في كتابة التاريخ ، فثورة الشريف حسين على سبيل المثال تسمى "ثورة عربيّة"، بينما توحيد الجزيرة العربية يظل عملا قطريا خاصا ، والثورة الجزائرية التي تكبدت خسارة مليون عربي لا تعدو عن أن تكون ثورة "جزائرية". بل إن العروي والجابري عندما ينظرون للتجربة المغربية التاريخية ، يتناولونها كاستثناء ، كتميّز، وهذا يتضمن إقرارا غير شعوري بحتميّة التماثل والتطابق !
وأنا أرى أن هذه المركزيّة تعود لعدة عوامل اهمها : انتقال مركز الخلافة من الجزيرة إلى دمشق فالعراق فمصر فتركيا، الطبيعة الصحراوية للجزيرة العربية ، حدود الدولة العثمانية وانتشار الاستعمار الاوروبي على حدود خطوط التجارة العالمية، انشقاق المغرب المبكر منذ دولة الادارسة . هذه العوامل أثرت على مناظر الإدراك، فأصبح الاستشراق الغربي التقليدي ينظر للإسلام ، الذي هو دين يمتد لمساحات واسعة من الكرة الارضية، والعروبة، من خلال احكامه المتعلقة بإسلام وعروبة الجانب الآخر من الحوض المتوسط.
هذا بما يتعلق بالطبيعة المركزيّة للفكر العربي، فمؤدى هذه الطبيعة هي أن هذا الفكر لا يعبر عن إشكاليات العرب الأطراف ، ولا يطرح حلولا لها.
أيضا، هناك طبيعة أخرى لهذا الفكر هي الطبيعة "الاستلابية"، فهو قائم على استقدام إشكاليّات لا تستجيب لواقعه والغرق الإغراق الجدلي حولها ، كاستقدام إشكالية أوروبا مع السلطة الكنسية الدينية ، وعملية الاستقدام هذه تمارس تشويش للنظر أكثر من أنها تصححه، فلاجل ان تستفيد من الحل الغربي لهذه الإشكالية، فهي تسعى لصنع هذه المشكلة، وذلك عبر تطويع الإسلام وتصويره كمؤسسة دينية ذا سلطة كهنوتية، وبالتالي تصبح المطالبة باستقلال السلطة الدنيوية عن الدينية مبررة. وكذلك، استقدام سيد قطب لإشكالية الحركات الاسلامية في الهند مع القومية. فالمودودي عندما هاجم دعاوى القومية ، كان ذلك من منطلق ان المسلمين أقليّة في الهند ، والانخراط القومي سيؤول لاستبداد الاغلبية على الاكثرية ، لهذا طالب باستقلال يمنع الاستبداد، لكنه مشروط بارتباط يحافظ على المصالح المشتركة بين الهنود. فالمودودي كان يتفاعل مع اشكالية تواجهه فعلا ، ويحاول حلها، لكن سيد قطب وغيره ، قاموا بنقل هذه الاشكالية في مواجهة القومية العربية، التي لا تتصادم مع وجود المسلمين واستعبادهم ، بل على العكس من ذلك تماما ! وكعادة أي استقدام للأفكار يتم قبل إيراد الحلّ المستقدم زرع المشكلة، فتم التنكر لكل الميراث الفكري باعتباره سلسلة من محاولات نصارى الشام لتمرير القومية بغية هدم الإسلام.
الطبيعة الثالثة لهذا الفكر، هي الإنحياز الآيديولوجي لتيارات بعينها ضد اخرى. فعند حديثه عن الإسلام ، ينطلق من مسلمات انحيازية ، فتتم مصادرة الشيعة – الذين يتم تحويلهم من كتلة فكرية لها وزنها في التاريخ الإسلامي، إلى مجرد فرقة مذهبية قديمة و"إثنية" تقاس بعدد الأفراد- والسلفية ، والدروز ، والإباضية وغيرهم، لحساب الإسلام الأشعري الصوفي الشافعي. وكذلك عند الحديث عن الحضارة الإسلامية يتم دمغها باسم "الحضارة العربيّة" في انحياز قومي صرف ضد كل الإثنيات والشعوب والأعراق التي شاركت في بناء تلك الحضارة . فلا أعلم حقيقة كيف نستطيع ان نسمي انتشار الإسلام في الهند والحضارة التي قامت هناك بانها حضارة "عربية" ؟ لذلك نقول أن هذه التسمية تحمل معها انحيازاتها لأنها لا تشير إلا إلى الرقعة العربية من الحضارة الإسلامية. وهل دولة "المماليك" و "الدولة العثمانية" التي هي أجزاء من الحضارة الإسلامية ، يصح أن نطلق عليها حضارة عربي ؟ بل على العكس من ذلك يتم تصوير هذه الدول بأنها كانت تمارس نوعا من الاحتلال للعرب في عمليّة إسقاط تاريخي لا تبالي أبدا بتحري الدقة العلمية للتاريخ.
وعبر إعادة الاعتبار لهذه الطبائع ، نستطيع ان نعيد تحليل هذا الفكر، بالتأريخ له بأحد أمرين: إما بانتقال المركز من مناطقه الجغرافية القديمة إلى مناطق جديدة كالمغرب والخليج، أو عن طريق تشظي هذا المركز بعد الهزيمة الشاملة التي تعرض لها عام 67، وانسحابه تماما بعد كامب ديفيد، وتحول التركيز في المنطقة من ناحية سياسية واعلامية لمنطقة الخليج ابتداء من الحرب الايرانية العراقية . والتأريخ الأول لا أميل إليه لانه لا يملك مادة ضخمة يرتكز عليها تثبت هذا الانتقال المركزي. والذي أميل إليه هو ان المركز تفجّر وانتزعت عنه كل مقومات مركزيته ، واستعادت كل الاراضي الاخرى وعيها بذاتها.
ومن خلال هذا التشظي ، نستطيع أن نتلمس ملامح فكر سعودي جديد متوثب يعاني من مخاطر الوقوع في ذات المزالق التي وقع فيها الفكر العربي المركزيّ، وبهذا السياق نستطيع الإجابة عن أسئلة السكران حول ظهور هذا اللون الجديد من الفكر في السعودية.
(1) الكويت : 1945-1996 ، مريم جويس ، دار أمواج ، ترجمة مفيد عبدوني : ص 172-173.
(2) نفس المصدر : ص174.
(3) الأيديولوجيا العربية المعاصرة ، عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي : ص 23.
(4) نفس المصدر : ص 39.
(5) نفس المصدر: ص 48.
6- من الطرح الأيديولوجي إلى الطرح المعرفي:
"رأيتُ العروبةَ معروضةً في مزادِ الأثاث القديمْ...
ولكنني...ما رأيتُ العَرَبْ!!... "
نزار قباني
يتساءل السكران : ’مالفرق بين مدرسة صادق جلال العظم وزكي نجيب محمود ... وبين مدرسة الجابري وأركون وحسن حنفي ونظرائهم؟
بمعنى ما سر الجاذبية في دراسات العلمانية العربية الحديثة التي خلبت أذهان الشباب الإسلامي وجعلته يقبل بنهم هذا اللون من الدراسات والابحاث‘(ص 10). يجيب على هذا السؤال قائلا: ’الفرق الأساسي هو التحول من "الاستهداف المباشر للشريعة" إلى "إعادة تفسير التراث"‘ (ص11).
قد وضحنا فساد المسلمات التي انبنى عليها كلا السؤال والجواب :
فأولا ، هذه الدراسات لا يمكن ضمها كلها تحت مسمى "الدراسات العلمانية العربيّة الحديثة".
وثانيا ، أن "إعادة تفسير التراث" ليس فعلا جديداً ، بل هو موجود منذ بزوغ عصر النهضة المصريّة.
هل هذا يعني أن السؤال باطل ؟ الجواب : لا . فالجزء الوحيد الذي نتفق فيه مع السؤال هو الجزء الأول : " مالفرق بين مدرسة صادق جلال العظم وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا .... وبين مدرسة الجابري ووأركون وحسن حنفي ونظائرهم؟" لكن هذا الجزء ناقص ، وصياغته السليمة تكون بهذا الشكل : " مالفرق بين دراسات العرب في طور المركزيّة – الليبرالية (طه حسين ، سلامة موسى ...إلخ) واليسارية (ميشال كامل، ياسين الحافظ ... ) والقومية (عفلق ، والارسوزي .. ) والاسلامية (قطب ، الغزالي ، ... ) – وبين دراساتهم بعد التشظي – وهنا تندرج دراسات كل من الجابري والعروي واركون وحنفي وغيرهم ؟ ".
هذا السؤال بهذه الصيغة يبتعد تماما عن المسلمات التآمرية التي انبنى عليها سؤال السكران، هو سؤال يربط ما بين الواقع والفكر، والتأثر فيما بينهما. نقول : أن الجواب يتمثل بالتركيز على التفكير النقدي. التفكير النقدي ، هذا المُؤجّل دائما ، المنسي أبدا في دراسات عرب المركز، تلك الدراسات التي لا تتجاوز كونها دراسات أيديولوجية، غير نقدية، لا ترى الواقع إلا من خلال حُلم.
سنضرب عدة أمثلة توضح هذا الفارق. المثال الأول هو "في سبيل البعث" لـ ميشيل عفلق . سنذكر عناوين بعض الفصول : " عهد البطولة"، "ثروة الحياة"، "البعث العربي حركة تاريخية"، "البعث العربي هو الانقلاب"، "حول الرسالة (=العربية) الخالدة" ، "معنى الرسالة الخالدة" ، "القومية حب قبل كل شيء" ... وهكذا تمتد العناوين. أعلم أن العنوان ليس كافيا للحكم على المضمون، لكن اختيار الكاتب للعنوان، هو عمل تسويقي، يسعى من خلاله إلى جذب قراءه، بناء على ما ترسب في لاوعيه عن "حاجات قرائه" ... أتساءل الآن : هل هذه العناوين تمارس أي جاذبية للقارئ الحالي ؟ لا أعلم ، ولكن - عن نفسي - فهي لا تدفعني إلا إلى الهرب من قراءتها.
سنعرض رأي عفلق في مسألة واحدة : "الموقف من الدين". يبدأ عفلق بالتاكيد على أن الدين "شيء اساسي في حياة البشر"، وانه لابد من التفريق بين حقيقة الدين وظاهر الدين، الذَين قد يختلفان فيما بينهما حدّ التناقض. بعد ذلك يلفت النظر إلى ظاهرة تستحق التأمل وهي ظاهرة بزوغ الإسلام، الذي كانت تمثّل حركة ثورية على عصره. وبالتالي لن يفهم الإسلام سوى الثوريون، لأن الثورة حالة واحدة ... خالدة ، لايمكن أن تتجزأ. ولهذا، من الغريب ان يتنكر للإسلام الجيل الثائر، بينما يتمسك به أعداء الثورة الذين لم يفهموا الإسلام على حقيقته. فالإسلام الذي ابتدأ بفئة ضعيفة مضطهدة ، لا يمكن ان يتحدث باسمه من لم يعرف الضعف والاضطهاد. ولو تخيلنا أن أفراد الإسلام الاوائل قد جاؤوا لهذا العصر ، فطبيعي أنهم سينحازون مع الثوريين. فالدين الحقيقي مع المظلومين لكنه تم تشويهه من قبل أصحاب المصالح. لذلك علينا أن ننقذ الدين، حتى لا تسري فينا موجة الإلحاد التي سرت في الغرب، ويجب ألا نعمم فساد ظاهر الدين على جوهره ، فهذا تعميم سطحي. يجب أن نكمل حربنا على ظاهر الدين، ولكن ليس بغية إلغاءه ، وإنما لإحياء جوهره. فالدين "قادر على أن يعود إلى حقيقته إذا وجد افرادا مؤمنين متجردين يعيدون إلى الدين صفاءه الأول"(1).
"يعيدون إلى الدين صفاءه الأول" ، نظرة ستتكرر،لكن ليس من قبل قومي آخر، ولكن من قبل ألدّ اعداء القوميّة، أعني محمد قطب في "واقعنا المعاصر". هذا الكتاب الذي عرضناه سابقا ، سنعيد النظر إليه من زاوية اخرى ، فهو يبدا بـ"نظرة إلى الجيل الفريد": "الجيل الذي تم فيه اللقاء بين المثال والواقع". ونحن نريد التعرف على ذاك الجيل الفريد "لنعرف مكان الأسوة لنا فيه في واقعنا المعاصر، ولنقيس على ضوئه مدى قربنا وبعدنا عن حقيقة الإسلام". بعد ذلك يناقش مسألة كون جيل الصحابة جيل متفرد وغير متكرر، فاي معنى للنظر فيه طالما أنه لن يتكرر؟ يؤكد قطب أنها فقط تلك "الدرجة الفذّة في تحقيق الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي المستمدة كلها من الكتاب والسنة ... هي التي لم تتكرر في التاريخ". هذه الدرجة التي لا يمكن الوصول إليها ، ستصبح هي النموذج التي يسعى المسلمون للوصول إليه. ثم يبدأ الحديث عن "حركة البعث الإسلامي المعاصرة" بانها هي الأقرب بأن تتمثل خصائص ذلك الجيل الفريد. وهذه الخصائص هي صدق الايمان وجدية الاخذ بالكتاب والسنة وصدق الجهاد في سبيل الله وتحقيق معنى الامة في صورتها الحقيقية وتحقيق العدل الرباني على الأرض وأخلاقيات لا إله إلا الله والوفاء بالمواثيق (2).
على الرغم من الاختلاف الصارخ – الذي يصل حدّ العداء وتبادل الاحكام القيمية فالقومي هو العلماني الكافر بالنسبة للإسلامي والإسلامي هو الرجعي المتخلف بالنسبة للقومي ؛ أقول: على الرغم من هذا الاختلاف بين الاختيار الايديولوجي بين الإثنين؛ إلا أن نوعية "الخطاب" واحدة، فهذا الخطاب: خطاب أيديولوجي صرف، لا يهتم أبدا بتحري الحقيقة، بقدر ما ينصرف جهده دائما لتأكيد موقفه واختياره، فالقومي يرجع لعهد الصحابة ليؤكّد على قوميته، والإسلامي يرجع إلى نفس العهد مؤكدا النقيض. فنحن هنا امام "استناد" أيديولوجي، كل خطاب يستند إلى التراث ليدعم موقفه ، ولسنا امام طرح معرفي ، يهدف إلى "الفهم" ... بمعنى آخر : لسنا أمام طرح نقدي.
في الحقيقة أن هزيمة 67م وموت عبد الناصر والحرب اللبنانية واتفاقية كامب دايفيد التي بددت انتصار حرب رمضان. كل هذه الأحداث المتوالية أدّت إلى انهيار المركز الذي كانت الاطراف الصاعدة (الملك فيصل ، النفط ، دعم الولايات المتحدة الأمريكية للقوى المنحازة للكتلة الغربية في الحرب الباردة، انحيازات شمال افريقيا لفرنسا) مهيأة لتسلم مكانه .. هذا التغير على أرض الواقع ، صاحبه تغيّر على صعيد الفكر. توزع هذا التغيّر على عدة ألوان : هناك الجوّ المُحبَط الذي تجسده تماما – كما يصف لنا الأنصاري - قصيدة نزار "متى يعلنون موت العرب؟". وهناك المراجعات الفكريّة ككتاب نصر حامد أبو زيد "قرن الهزائم العربية" و الجلسات النفسية التي عقدها طرابيشي في "التحليل النفسي للعصاب الجماعي" للفكر العربي ، ومحاولات كشف تناقضات خطاب هذا الفكر التي قادها محمد عابد الجابري في "الخطاب العربي المعاصر" . هذه المراجعات – كما يقول الانصاري دائما - أكدت على أن المشكلة الأساسية في الفكر العربي كانت "التضخم الأيديولوجي على حساب تقلص البعد المعرفي". ومن هنا ابتدأت هذه الدراسات "المعرفيّة" ، فأصدر حافظ الجمالي كتابه "العرب والمستقبل" عام 1976م ، وفي الكويت صدرت مجلة العلوم الاجتماعية عام 73م ، وفي المغرب دعا عبد الكريم الخطيب إلى تأسيس علم اجتماع عربي. وفي عام 84م أصدر في مصر كتابا عن "اشكالية العلوم الاجتماعية في الوطن العربي". ومن هنا ابتدأ الفكر الإسلامي بطرح دراسات معرفية كـ "اشكالية التحيز" التي اشرف عليها المسيري، وهنا صدرت سلسلة "مفاهيم" العروي – وهو المثقف المخضرم الذي تحول من الايديولوجيا إلى "مفهوم الايديولوجيا" و "مفهوم الدولة" و"مفهوم التاريخ" .. وغيرها– وسلسلة نقد العقل العربي ، وكتب حسن حنفي وغيرهم . أخيرا ، ومن الخليج هذه المرّة، تأتي "العصفورية" لغازي القصيبي بكل سخريتها وعمقها لترسم صورة كاريكاتوريّة للحال العربية لقرنٍ مضى.(3)
وسنضرب مثالين على هذه الدراسات الحديثة : "مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة" و "الخطاب العربي المعاصر" . يبدأ طرابيشي بالحديث عن الجرح النرجسي الذي أصيب به العرب وبقية الشعوب غير الغربية نتيجة التقدم الغربي، وهو جرح مضاعف بالنسبة للحالة العربية نتيجة الهزيمة من قبل الصهاينة. هذا الجرح الذي أدى ، في طور الاستقلال، لتضخم الايديولوجيات الحارقة للمراحل، هو نفسه الذي يؤدي ، بعد ان كشفت الهزيمة مأزق الأيديولوجيات، إلى "نقل الصراع الأيديولوجي إلى ساحة التراث". ويؤكد طرابيشي على أنه مهما يكن من أمر فإن "اللحظة الغائبة أو الواهنة الحضور هي اللحظة المعرفية، بأداتها التي هي التحليل العلمي الموضوعي، وبغايتها التي هي الحقيقة التاريخية". بعد هذا يقوم بمناقشة نماذج لتلك الدراسات التي نقلت صراعاتها الايديولوجية للتراث.(4)
الجابري، الذي أزعم أن كل الوجاهة التي يكتسيها لم تتاتَ له من خلال مشروع نقد العقل العربي، بل من خلال تحليلاته ونقده للاتجاهات المعاصرة في "الخطاب العربي المعاصر" ومقدّمات كتبه التي تتناول التراث. يبدأ كتابه بالتساؤل " هل تمكّن العرب فعلا من تحقيق نهضتهم ؟ هل يعيشون اليوم في الواقع ما عاشوه منذ مائة عام في "الحلم"؟" بعد ذلك يتساءل ما هو الشيء الذي لم تتوجه له المراجعة والمساءلة ؟ فيجيب : " هو تلك القوة أو الملكة أو الاداة التي بها "يقرا" العربي و"يرى" و "يحلم" و"يفكر" و"يحاكم" ..إنه (العقل العربي ذاته) ". ومن هنا يشرع في نقد هذا العقل كما يتبدى في خطابه. على ضوء هذه المقدمة ينتقل الجابري لمراجعة الخطاب النهضوي فالسياسي فالقومي فالفلسفي ، وفحصه من كافة وجوهه.(5)
والآن ، يحق لنا أن نتسائل : أين "الفكر السعودي" من هذا كله ؟ بل لنقل : "هل هناك فكر سعودي أصلاً؟" ... هذا ما سأجيب عنه في المداخلة القادمة.
(1) في سبيل البعث ، ميشيل عفلق، الكتابات السياسية الكاملة (طبعة إلكترونية): ص 116-121.
(2) واقعنا المعاصر ، محمد قطب ، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر ، ص: 15-33.
(3) مساءلة الهزيمة ، محمد جابر الأنصاري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص :95-127.
(4) مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، جورج طرابيشي ، دار الساقي : ص 5-10.
(5) الخطاب العربي المعاصر، محمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة العربية : ص 7-10.
7- الفكر سعودي .. والمخاض الصعب
"أنا هنا..
قبل بئر النفط كنت هنا
قبل البدايات...
قبل الريح والحقب..."
عبد العزيز العجلان
يقول السكران : ’هذا الخطاب (= الخطاب المدني) ... اكتنفته أربعة ظروف رئيسية ... ألا وهي: مناخ سبتمبر ...‘. ويقول : ’فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعرض الاتجاه الإسلامي إلى حالة محاكمة عالمية شرسة حدت من انسيابه ودويه وتراجعت معها شعبيته الاجتماعية بشكل ملموس وفي ظل هذا الفراغ الجزئي ... برزت أبحاث المدرسة الفرانكفونية/المغاربية ...‘(ص9).
بكلمة واحدة نستطيع أن نقول : هذا الكلام تسطيح كامل للواقع والفكر السعودي. بل نستطيع أن نزيد في القول ونتهم السكران بما يتهم غيره، ونقول أن هذا التفسير يعتمد نفس الآليتين التي يندد على ما يسميها: المدرسة الفرنكفونية توسلها بهما، أقصد آليتي التسييس والمديونية. فهو يفسر ظهور هذا الخطاب بحدث سياسي أولا، و- ثانيا - بارجاعه إلى ما يسميه: الخطاب الفرانكفوني .
إذن كيف يمكن أن نفهم هذا الخطاب ؟
الجواب : بردّه إلى سياقه العام ، أقصد إلى جدلية الفكر والواقع السعوديين، ومن خلال هذه الجدليّة نستطيع فهم هذا الخطاب.
وقبل أن نشرع في الحديث عن الفكر السعودي، لابد أن نتخلص من بعض المفاهيم المركزيّة التي تؤطّر مدلولات كلمات كـ "فكر" و "مثقف" .. وغيرها. فالفكر- بالنسبة لي، هو مجموع الأطروحات التي تتناول إشكاليات جامعة أفرزها او استجلبها واقع ما. وبهذا التعريف، تصبح أي اطروحة مساهمة في هذا الفكر، بغض النظر عن وسيط هذه المساهمة، أو منهجها ، أو مضمونها. ففتوى الفقيه، وتحليلات السياسي المرئيّة، ورقائق الوعّاظ المسموعة، وتنظير الأكاديمي المقروء، كل هذا يدخل في تشكيل الفكر وإشكالياته. وبهذا التعريف أيضا ، نقرر أن أي تجمع بشري لا بد أن يكون محكوما بإشكاليات جامعة تفرز فكرا خاصا بهذا التجمع البشري، سواء كان أسرة ، أوعشيرة ، أو قبيلة ، أو دولة. فالفكر ليس قيمة ، بل هو خاصيّة أو طبيعة لازمة لأي تجمع البشري.
ومن خلال هذا التوضيح نقول أن اللحظة التاريخية التي نستطيع تكشّف بدايات الفكر السعودي من خلالها هي "معركة السبلة" الواقعة عام 1929م. هذه المعركة تحمل معها دلالات رمزيّة كثيرة، بل تكاد تختصر كل إشكاليّات الفكر السعودي في أحشائها. هذه المعركة لم تكن قتالا – كما يقال لنا بكل استسهال- بين بدو متشددين دينيا ، وبين الملك عبد العزيز، هذه معركة نشأت عن اختلاف جذري في تفسير "العقد الاجتماعي" الذي قامت عليه الدولة. فجيش "اخوان من طاع الله" يضم أولئك البدو الذين "هاجروا" من الصحراء إلى "الهجر" التي اسسها عبد العزيز، وكانوا القوّة الضاربة التي مهدت للملك عبد العزيز ضمّ حائل والحجاز.
لماذا حارب هؤلاء البدو مع الملك عبد العزيز؟ ما هو العقد الاجتماعي الذي ، بناءً عليه ، انضموا إليه ؟ الجواب هو الدين، فالأسماء هنا تحمل دلالات رمزيّة كبيرة، فهم بعد أن كانوا قبائل : مطير وعتيبة وعجمان ، تحولوا إلى "أخوان من طاع الله". وهم بعد ان كانوا يعيشون في الصحاري ويسكنون بيوت الشعر ، إنتقلوا للحياة الحضريّة، في قرى من اللبن والحجر تسمى "هِجر". كما أنهم لم يقاتلوا جيوش آل رشيد، أو الحجازيين أو الاحسائيين، لاعتبارات سياسية، بل كان قتالهم لهم لأنهم "مشركين"، تجب مجاهدتهم. يذكر الشيخ ابراهيم بن عبيد آل عبد المحسن في تاريخه "تذكرة أولي النهى والعرفان" عما حدث في واقعة الطرفية الصغرى: ’لما كانت ليلة خامس شعبان من هذه السنة (=1325هـ) جاء رجل من بريدة ... منذرا يقول أن ابن رشيد قد خرج برجاله .... ولما هجم ابن رشيد ذلك الهجوم على السعوديين ... استيقظوا وهبوا سراعا للدفاع وجرت مصادمة هائلة واختلط الحابل بالنابل وتضاربوا بكعاب البنادق ثم بالسيوف فسالت الدماء وعلت الأصوات بهذه الكلمة (على المشركين على الخونة) ...‘(1). ومن هذه الزاوية، نستطيع النظر إلى تلك المعركة ، لا بوصفها تمرّد بدوي ضد الحكم، بل بوصفها خلاف أساسي على تفسير الآيديولوجيا التي قامت عليها الدولة.
فبعد التوحيد، جاء الانتقاد الاول الذي وجهه الإخوان لعبد العزيزمتمثلا بمنعهم من الجهاد ضد العراق رغم أنه شيعيّ كالقطيف تماما، ومن يحكمه من الهاشميين هم نفسهم الذين قُوتلوا في الحجاز. فإذا كان أساس العقد الاجتماعي هو مجاهدة المشركين، فلماذا يتم إيقافه ضد مشركين وإيجابه ضد آخرين رغم تماثلهم في الشرك ؟! وهذه الإشكالية الاولى التي ستعيد إنتاج نفسها مرات كثيرة بأكثر من شكل ، وهي إشكاليّة "تفسير كون المملكة دولة إسلامية"، مما يستتبع عدّة أسئلة : هل نحن مسلمون فقط ؟ أم أننا سعوديون أيضا ؟ هل "الديني" مقدم على "الوطني" أم "الوطني" مقدم على "الديني"؟ وهل يتعارضان ؟. كان الملك عبد العزيز يستثمر بعبقريّة الهامش السياسي الذي توفره له لعبة مصالح الامبراطورية البريطانية، وكان يتوسع بالمقدار الذي لا يتعارض مع هذه المصالح، وكان إيقافه للتمدد حتى حدود العراق والكويت نتيجة مصالحة بينه وبين البريطانيين. فكان هذا التحديد الذي تفرضه عليه لعبة القوى المتعارضة، يتعارض مع الدعوى التأسيسية القائمة خلف العقد الاجتماعي الذي ينظم الدولة السعودية. فهو في نظر الأخوان : موالٍ للكفار و مانع للجهاد ، وهم في نظر عبد العزيز : مهددين للمكتسبات، يفتقرون لبعد النظر الاستراتيجي.
بعد التوحيد، شرع الملك عبد العزيز في عمليّة التمدين، وربط أجزاء المملكة عن طريق الوسائط الحديثة من سيارات وبرق وغيرها. فنقم الإخوان على عبد العزيز ذلك باعتبار انها "سحر"، وكان ردّ العلماء المناصرين لعبد العزيز : "أننا لا نعلم ما هيتها فلا نستطيع الحكم عليها حتى نعلمها". وهذه هي الإشكالية الثانية التي ستعيد إنتاج نفسها بأكثر من شكل وهي إشكالية "استهلاك التقانة والحكم عليها رغم الجهل بها"، وما تتضمنه من أسئلة: هذه الوسائط والتقنية هل هي خير أم شر؟ هل يمكن الحكم عليها ؟ هل استهلاكها - وما يتبعه من إعادة تشكيل للمجتمع نتيجة- يلعب دور إيجابي أم سلبي؟ هل قضيّة التقنية قضيّة فقهية أم قضيّة معاصَرة؟ بمعنى آخر: هل هي "اختيار" أو"ضرورة"؟
بعد التوحيد، شرع الملك عبد العزيز بإرسال ابنيه سعود وفيصل إلى مصر ولندن، وقام بعقد اتفاقيات مع بريطانيا، فنقم الاخوان على هذا التصرف من منطلق حُرمة السفر إلى الخارج الكافر سواء إلى لندن او مصر المستعمرة وحرمة موالاة الكفرة. وهذه الإشكالية الثالثة : "قضيّة التفاعل مع الآخر" : هل كفر الآخر مانع من التعامل معه ؟ هل التعامل معه قضيّة عقديّة تقاس بمعايير الولاء والبراء أم قضيّة فقهيّة متضمنة في فقه المعاملات أم قضيّة بشريّة بحتة خاضعة للرغبات الشخصيّة؟ هل التعامل معه مناطه "الرغبة وانتفاءها" أم " الضرورة"؟
بعد التوحيد، لم يكره الملك عبد العزيز الشيعة الموجودين في المنطقة الشرقية على التحوّل عن مذهبهم، وذلك مما أثار حفيظة الاخوان عليه. وهذه الاشكالية الرابعة : "إشكالية وجود الشيعة في السعودية"، وتدور حول هذه الأسئلة : هل الشيعي مسلم ؟ هل ولاء الشيعي للمملكة ؟ هل- فعلا- تتم معاملة الشيعة كمواطنين من الدرجة الثانية ؟
هذه الإشكاليات الرئيسية التي لم تنتهِ مع هزيمة الإخوان، بل نستطيع تتبع مساراتها، مما يدعونا للقول أنها "إشكاليات كامنة" في التيار الديني التقليدي، المرتبط بدعوة محمد بن عبد الوهاب. فاتهام الدولة في دينها، يتكرر فيما بعد مع جهيمان ، ويتكرر في العمليات التفجيرية الأخيرة، التي تنطلق كلها من الحكم على الدولة بالكفر لعدم التزامها بلوازم دعوى الاحتكام للكتاب والسنة.
أما بخصوص الإشكالية الثانية، فهناك مؤلفات كثيرة وفتاوى أكثر حرمت الراديو والجرائد والتلفاز والفضائيات وجوالات الكاميرا وغيرها، كل هذا لأنها تؤدي إلى مفاسد أو يحتمل ذلك. وكمثال على هذه الكتب، سنمر سريعا على كتاب "الإجهاز على التلفاز" لمؤلفه محمد بن احمد المقدّم. فهذا الكتاب يقوم على "تناول مشكلة التلفاز من منظور شرعي، على أساس الحلال والحرام، والولاء والبراء، والصلاح والفساد"(2). ثم بعد ذلك يقوم بذكر مفاسد التلفاز: بأنه يلهي عن الصلاة، وبانه سبيل لمطالعة الفسق والفجور، وبانه مدرسة إجرام ، وملوث للبيئة الخلقية، ومخرب للبيوت ، وهاتك للأستار ، ومبيد الغيرة ، ومحرقة الحياء، ومذبحة العفة ، وناسف الشرف ...إلخ. فهو في تعاطيه مع الوسيط، يقوم بسرد مفاسده بغية إزالة الوسيط، لا أن يحاول أن يسرد مفاسده بغية تغييرها واستبدالها بمصالح يمكن تحصيلها، فهو يعتبر الوسيط:اختيار، وليس حتم. وهذا التعاطي السلبي مع الوسائط يكرّس الانهزامية أمام هذه التقنيّة.
وكذلك، نستطيع تتبع مسار الإشكالية الثالثة، عن طريق أحكام السفر إلى الخارج، واحكام تقليد الكفار في الملبس والمشرب والمأكل، والمسألة الفقهية الشهيرة في حكم الاستعانة بالكفار أيام أزمة الخليج. أما إشكالية الشيعة، فنستطيع تتبع مسارها من خلال التمرد الذي قاموا به تضامنا مع الثورة الإسلامية في إيران ، في العام نفسه الذي استولى فيه جهيمان على الحرم. هذا بالاضافة إلى المطالبات التي يقدمونها للملوك، وكذلك في الفتاوى التي تصدر في حقهم كتكفيرهم وتبديعهم وتخوينهم، بالإضافة إلى الممارسات التمييزية التي تمارس ضدهم في بعض قطاعات الحكومة.
هناك إشكاليتين أخريين نشأتا بمعزل عن معركة السبلة، ولكنهما متزامنتين مع تلك الفترة التوحيدية. الإشكالية الأولى هي تغيير اسم المملكة من "المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها" إلى "المملكة العربيّة السعودية". هذا التغيير ليس حدثا عاديّا، بل هو نقلة نوعيّة للوعي التاريخية والمعاصر لأهالي هذه الرقعة الجغرافية. فالمسمى الأول أقرب للواقع من المسمى الثاني، إذ أنه يعترف بالتمايز والاختلاف التاريخي بين اجزاء المملكة، وأن الاشتراك فيما بينها ليس اشتراكا تاريخيا واجتماعيا ، بقدر ما هو اشتراك سياسي فرض بالسيف والسياسة. أما المسمى الثاني فهو يتضمن تنميطا لجزء على باقي الأجزاء، ويتضمن بما يقابل التنميط من مصادرة لتاريخ وخصوصية باقي الأجزاء. هنا يصبح تاريخ منطقة نجد تاريخا لكافة الرقعة الجغرافية التي تتكون منها المملكة. فيدرس السعودي الحجازي تاريخا غريبا عنه، يتناول مناطق لم يرها ولا يعرفها في محيطه كالدرعية والعيينة وغيرها. هذا التنميط السياسي تكامل مع التنميط الوهابي في إقصاء كافة المظاهر الدينية والاجتماعية المختلفة التي كانت تزخر بها الحجاز والجنوب والساحل الشرقي. وستعود هذه الإشكالية للظهور من جديد مع تجدد الوعي الذي تحياه تلك المناطق وقد يكون كتاب ابنة أهم الشخصيات السعودية النفطية أحمد زكي يماني، أقصد ابنته "ميّ" المسمى "مهد الإسلام : البحث عن الهويّة الحجازية" أحد تبديّات هذه الإشكاليّة.
الإشكالية الأخرى هي تلك التي يرصدها الدكتور عبد الله الغذامي في كتابه "حكاية الحداثة في المملكة العربيّة السعودية" ، هي تلك التي تتمثل في النشاطات الأدبية والإجتماعية التي قام بها كل من محمد سرور الصبان و محمد حسن عواد وحمزة شحاتة، هذه النشاطات التي كانت تعبّر عن استجابة لبوادر مرحلة عصريّة جديدة، تم وأدها تماما، لا بالمواجهة الفكرية، بقدر ما هو الاستقواء بالرفض الاجتماعي والتضييق السياسي (3). هذه الحادثة ستعيد إنتاج نفسها من جديد، بل ستتحول إلى صراع ديكة بين من ينتسبون إلى الحداثة، وبين من ينتسبون إلى التديّن.
في البداية كان هذا التيار التقليدي يناهض التيار التحديثي الذي تقوده الأسرة الحاكمة، فاستجلاب التقنية، والتعاطي المبني على المصالح والمفاسد مع الآخر، وتطوير التعليم ومؤسسات الحكومة، كانت مبادرات حكومية تستلزمها إدارة الدولة، واجهت ممانعة دائمة من هذا التيار التقليدي المدعوم من الشعب الذي تم "تخليصه" من الخرافات بواسطة "المطوعين" الذين كان يرسلهم عبد العزيز لتعليم الناس أمور دينهم.
هذه الإشكاليات الاولى التي كانت متضمنة في "العقد الاجتماعي" الأساسي الذي انبنت عليه الدولة، وهي إشكاليات نتجت عن عمليّة التوحيد ذاتها، وهي اشكاليات لم تزل تمارس فعالياتها داخل الفكر السعودي، وهي أخيرا ليست الاشكاليات الوحيدة، فالسعوديّة بعد لحظة التوحيد مرت بثلاث لحظات اخرى ، قامت بإنتاج اشكاليات جديدة، قد تعتبر تفريعات للإشكاليات القديمة، وقد تعتبر مستقلّة تماما. هذه اللحظات وإشكالياتها سنتناولها في المداخلة القادمة.
(1) تذكرة اولي النهى والعرفان بايام الله الواحد الديان وذكر حوادث الزمان، الشيخ ابراهيم بن عبيد آل عبد المحسن ، الطبعة الاولى ، مطابع مؤسسة النور للطباعة والتجليد: الجزء الثاني ، ص 76. وهنا عرض للكتاب والمؤلف : http://www.al-jazirah.com.sa/2001jaz/mar/25/wo1.htm
(2) الإجهاز على التلفاز، محمد احمد بن اسماعيل المقدم، دار طيبة الخضراء : ص 11.
(3) حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية ، عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي : ص 50-67.
8- الفكر السعودي .. وتعقّب مسار:
بعد لحظة التوحيد، مرّت السعودية بثلاث لحظات أساسيّة: لحظة اكتشاف النفط بكميّات تجارية عام 1938م، ولحظة الملك فيصل بما تضمنته من دلالات رمزيّة ، ولحظة الطفرة. هذه اللحظات الثلاث أثرت تأثيرا كبيرا على الواقع السعودي مفرزةً إشكاليات جديدة، ومضيفة للإشكاليات القديمة الكثير من التعقيد. وهذه الاشكاليات كلها ستبدأ بالتفجّر مع أزمة الخليج.
اكتشاف النفط في المملكة، حوّلها من بلد مهم بالنسبة للمسلمين، وذلك لوجود مكّة والمدينة، إلى بلد مهم للبلدان الصناعية الكبرى، وتلك النامية ، بسبب انتقال اعتماد الصناعة العالمية من الفحم كمصدر للطاقة إلى النفط. هذه الأهميّة المركبة، أثرت على السياسة السعودية، فهي من جهة بلاد تهتم بالقضايا الإسلامية، وهي من جهة تعتمد كليّا على الشركات الغربيّة في استخراج وتوزيع ونقل وتسويق النفط. هذا بما يتعلق بالسياسة الخارجية، أما على الصعيد الداخلي ، فقد سبب وجود النفط في المنطقة الشرقيّة إلى تحولات سكانيّة كبيرة في خارطة المملكة، وإلى تأسيس وإعادة تأسيس مدن حديثة كالدمام والخبر والظهران وبقيق والجبيل ورأس تنورة، فهذه المدن يكاد يكون غالبيّة سكانها من المهاجرين من بلدان أخرى لطلب الرزق والعمل. وأخيرا ، وهذا الأهم، نقل النفط المملكة من دولة فقيرة جدا تعتمد على ايرادات الحج ، إلى دولة غنيّة جدا، وفي فترة قصيرة جدا تقدر بأقل من 40 سنة. هذه التحولات الداخليّة والخارجيّة، ستكون المحرك الخفي للسياسات السعودية والتي ستبدو كثيرا على أنها سياسات متناقضة أو سياسات عميلة، وكذلك سياسات قوميّة وسياسات معادية للغرب!
بعد وفاة الملك عبد العزيز عام 1953م، الذي تم في عهده التوحيد والتأسيس الاقتصادي والمدني والاعتراف الدولي بالمملكة العربية السعودية، يبدأ عهد الملك سعود(1953م-1964م) الذي سيجني ثمار الفترة السابقة، ويقوم بتطويرها. ففي عهده تأسست الجامعة الأولى في السعودية، وتم التمهيد لامتلاك شركة آرامكو، وفي عهده بدأ الجيل الأول الذي اكمل تعليمه في الخارج بالعودة إلى السعودية وتسلم المهام الإدارية التي تساهم في التنمية، وفي عهده تطورت الحركة الأدبية حيث أصدر أكثر من 92 عملا عبارة عن 46 ديوان شعري و 21 مجموعة قصصية و10 مجموعات مقاليّة و5 سير ذاتية و3 رحلات ومسرحيّة (1).
ونستطيع أن نحدد فترة الملك سعود بمحددين: سياسته الخارجية، وسياسته الداخلية. ففي سياسته الخارجية كان يتوجه للإندماج مع دول المركز العربي، وذلك عن طريق الدخول في تحالفات عسكرية واستراتيجية مضادة لحلف بغداد ، وكذلك قام باستخدام النفط لاول مرة كسلاح مضاد للمعتدين على الدول العربية. كذلك فتح الباب امام المعلمين المصريين والسوريين للمساهمة في الحركة التعليمية في المملكة. أما في سياسته الداخلية فقد قام بتأسيس السياسة المركزية، وذلك يتجلى بقرار نقل جميع الوزارات إلى الرياض حوالي عام 1958م، مما أدى إلى تحويل الدولة إلى مركز هو الرياض- وتشاركه جزئيا منطقة مكة المكرمة (العاصمة الدينية) والمنطقة الشرقية (العاصمة الاقتصادية)، وباقي المناطق إلى أطراف. ونستطيع أن نلمح هذه المركزيّة اليوم بلغة الأرقام، وذلك في موقع وزارة التخطيط والاقتصاد(2)، وعلى سبيل المثال في الرياض حوالي 170 ألف سعودي جامعي بينما تاتي منطقة مكة المكرمة في المركز الثاني بحوالي 150 ألف، بينما تأتي المنطقة الشرقية في المركز الثالث بـ 100 ألف، ومجرد ان نخرج عن مدن المركز لنصطدم بان العدد في المدينة حوالي 40 ألف فقط !
في الحقيقة لا نعلم: هل المنجزات التي تمت في عهد الملك سعود، تعود لسياسته هو أم لسياسات الملك فيصل؟ ففيصل قد ترأس مجلس الوزراء لفترتين يكاد يقارب مجموعهما نصف فترة حكم الملك سعود، والملك فيصل – كرئيس لمجلس الوزراء- هو من ألغى الرقّ ، وأسس بحزم لتعليم البنات ، وغيرها من قرارات المهمّة.
سيرة الملك فيصل سيرة رمزيّة بكافة فصولها، فتسلمه للحكم كان نتيجة إنقلاب، هذا الانقلاب ليس انقلابا على الحكم فقط، بل تجلى على المؤسسات أيضا، ولنضرب مثال في جامعة الملك سعود، فبعد تولي الملك فيصل الحكم، حوّل اسمها إلى "جامعة الرياض"، في عمليّة رمزيّة تحمل دلالة عميقة في التحوّل من نظام "القبيلة" إلى "نظام المدينة". قام الملك فيصل بفصل ميزانية الأسرة المالكة عن ميزانيّة الدولة، وقام كذلك بقمع كل الاحزاب القوميّة واليساريّة التي تتشكل سرّاً في المملكة، وتكاد تكون "أطياف الأزقّة المهجورة" لتركي الحمد صورة لكيفية تولد تلك الاحزاب وقمعها. بالمقابل تابع مسيرة التحديث فتم إنشاء الجامعات في عهده وزاد إرسال البعثات إلى الولايات المتحدة وبريطانيا. وكانت مسيرة التحديث تسير على وتيرة هادئة وبطيئة جدا بالنسبة لما حدث بعده.
أقام الملك فيصل سورا حديديا، عزل المجتمع عن العالم تماما. فنجد أن المجتمع لم يتأثر نسيجه بهزيمة 67 ولا نجد فيه أي صدى للحرب اللبنانية ولا لحرب تشرين 73. هذا السور الحديدي : هل أفاد المجتمع فيما بعد أم لا ؟ لا أعلم الجواب بدقّة ولكن أستطيع أن أقول أنه جنبه خوض "المرحلة القومية" التي خاضتها الدول العربيّة من حولنا، وبالمقابل أكسبه لا مبالاة عجيبة ، بحيث أصبحت حتى الحوادث الداخلية لا تصدمه صدمة عنيفة، وهذه اللامبالاة قد تأكدت أكثر فأكثر مع الفورة النفطيّة.
قبل أن ننتقل للحديث عن الفورة النفطيّة، لا بد أن نشير إلى أن عبقريّة الملك فيصل تتجلى في سياسته الخارجيّة، ولعلها السياسة التي لم تستطع المملكة الخروج من تبعاتها حتى اليوم. قام الملك فيصل بتأسيس رابطة إسلاميّة عالمية ، بالتعاون مع المملكة المغربيّة وباكستان. كانت هذه الرابطة الموالية للغرب مضادة للرابطة القوميّة العربيّة الموالية للاتحاد السوفيتي. وبعد 67 ، وبعد اتفاقية الخرطوم تحديدا، أسس الملك فيصل – كما يقول جورج قرم : لسياسة "نعم للغرب ، لا لإسرائيل"، كان الملك فيصل يوازن بدقّة بين "إسلاميّة المملكة" و "تبعيتها الاقتصادية للغرب". وكانت حرب 73 هي المحطم لهذه المعادلة عندما قاد عمليّة حظر النفط للدول المساندة لإسرائيل.
وقبل أن نختم ملف الملك فيصل، نركز على قضيّة مهمّة أثرت في الفكر السعودي، فالملك فيصل هو من فتح الباب أمام المنظرين الحركيين للجماعات الإسلامية للقدوم للمملكة، مما مهّد لتطورات كبيرة في الفكر السعودي. وأخيرا، كان اغتيال الملك فيصل، نهاية بالغة الرمزيّة. فالاغتيال جاء بعد الحظر النفطي، وبعد تصريحه برغبته في الصلاة في بيت المقدس، والاغتيال جاء من أحد المستفيدين من العائلة المالكة من الإبتعاث للخارج، والاغتيال جاء كثأر لأخو القتيل الذي قُتل في حركة الممانعة الشعبية ضد التلفزيون. نستطيع ان نقول أن موت الملك فيصل فتح الباب امام كل شيء : فبعد موته زادت معدلات تصدير النفط لأرقام عالية جدا، وموته من شخص جاء من امريكا (الحداثة) وثأرا لأخيه (الأصالة) ، تعتبر تحطيما لسياسة إمساك العصا من المنتصف.
كان أثر سياسة الملك فيصل على الفكر السعودي أنه أدخله في حالة استلاب مضاعفة، فالسعوديون أضحوا مشدودين لإشكاليات المركز العربي، ولا يتعرفون على غيرهم إلا من خلاله. ولا أدل على ذلك من نشوء "الصحوة" التي تتطابق مقولاتها مع دول المركز، بينما لا يكرس لوجود هذه المقولات في المملكة سوى الاستلاب الفكري. وكذلك تمّ استجلاب إشكاليات الحداثة والعلمنة التي تعانيها دول المركز، بل إن التعرف على الحداثة والعلمنة ، لا يتم إلا عن طريق قنطرة المركز. وتولدت المعارك التي ستبدأ التصاعد منذ ذلك الوقت.
بالنسبة للمجتمع فقد أدى اغتيال الملك فيصل إلى إدخالهم إلى مرحلة "الطفرة"، التي تتناقض مع سياسة التغيير البطيء، هذه الأموال المتدفقة، زادت وعمقت من "لامبالاة" المجتمع، وحيدتهم تماما عن جميع ما حولهم، فأصبحت أحداث كبرى كاحتلال الحرم من قبل جهيمان ، والتمرد الشيعي في المنطقة الشرقية، هذه الاحداث لم تترك أي أثرا في الذاكرة الجمعية. أدت الطفرة لتحوّل المجتمع لمجتمع استهلاكي، يتنافس على الاستهلاك ، لا على التصنيع. وكذلك ، وكاستمرار للسياسة المركزية، تركزت آثار الطفرة في المناطق المركزيّة، في المملكة، فتكاد مدن الأطراف لم تمر عليها هذه الطفرة ... مما عمّق من هذه المركزيّة، التي تعبّر عنها رواية "الطين" لعبده خال أصدق تعبير، في تصويره لمجتمعات أقصى الجنوب وما حولها.
كان المجتمع بانتظار أزمة حقيقية حتى تتفجّر كل هذه الإشكاليات الكامنة فيه، وهكذا كانت أزمة الخليج هي المفجّر لكل هذه الاشكاليات. هنا في هذه الأزمة تداخلت الإشكاليات جميعها. فحتى تبقى "الدولة الإسلامية" عليها أن تلجأ للآخر "الكافر": هنا تفجرّت القضيّة الفقهيّة الشهيرة .. التي أظهرت أول اختلاف في التيار الديني: ما حكم الاستعانة بالكفار؟ . فقد تعامل التيار الديني الوهابي التقليدي مع المسألة كتعامله مع كل القضايا، تعامل معها تعاملا فقهيا بسيطا، باعتبارها مسألة منفصلة عن ما قبلها وعن ما بعدها، و"نازلة" تحتاج لإرجاعها للأصول الشرعية لتبيين حكمها. في حين أن التيار الاسلامي الثاني الذي كان لاهيا في معارك وهميّة مستلبة مع التيار الحداثي كما تبدّى ذلك في كتاب عوض القرني : "الحداثة في ميزان الإسلام"، معارك لا تنبعث من الواقع السعودي ، ولا تمسه من قريب ولا من بعيد. هذا التيّار، تمخض عن النموذج الأول للمثقف السعودي ، أعني "سفر الحوالي".
كان "وعد كسينجر" ينطلق من الواقع ليغيره، ينطلق من الواقع ليحافظ عليه، وهو أيضا – وهذا الأهم – ينطلق من الواقع بعد أن يفهمه. لم تكن المراجع التي اعتمد عليها سفر الحوالي كتبا تنظيرية أصدرها عرب المركز وتلقفها عرب الأطراف في عمليّة استلابية مكررة، لا .. كانت عبارة عن أبحاث استراتيجية ، وتحليلات لأخبار الصحف، واستقراءات للتحركات العسكرية. وكل هذا كان غريبا جدا على التيار الديني التقليدي، بل على الفكر السعودي بمجمله.
أيضا أزمة الخليج ترافقت معها قيادة بعض الأكاديميات للسيارات في الرياض، وكذلك تقديم عريضة الاصلاح من قبل المشائخ والمثقفين السعوديين. هذه الأحداث المتلاحقة والمتتالية، هي تعبيرات تلك الاشكاليات عن نفسها. ومن هنا من هذه الأزمة بدا المجتمع لاول مرة يقول رأيه في أوضاع الدولة. ومنها أيضا، بدا الجيل الجديد يعبر عن تناقضاته الداخلية.
هذه الحركة ما لبثت أن عادت للخمول من جديد ، فبعد اعتقال قيادات "الصحوة"، وإصدار لتركي الحمد لثلاثيته الروائية التي قامت بالخوض في المحرمات الاجتماعية الثلاثة : الجنس ، والدين ، والسياسة. رغم أن خوضها في السياسة لم يكن خوضا مباشرا، بل وصفا لمرحلة انتهت. وكذلك، بعد انفتاح الفضاء السعودي ، وابتداء البث الفضائي. تسارع تحرّك المجتمع في التسعينات تسارعا كبيرا. وعاد الفكر إلى استقطابه ، وهذه المرة ليس بين الحداثيين والإسلاميين: بل بين "الليبراليين" والإسلاميين. تحولت الثقافة السعودية إلى ثقافة رمزية، يحتل فيها الرمز قيمة أساسية. وافتقرت للعمق المعرفي والتحليل النقدي للواقع والمشهد الفكري. وعادت حالة الاستلاب من جديد، ولكن هذه المرّة ليست لعرب المركز، بل توجهت إلى المغرب والكويت لتستقي منها دراساتها التنظيرية والفكرية والعملية والإدارية والتاريخية وغيرها. وكان على المجتمع أن ينتظر عام 99 ، ليزداد الفكر السعودي فوضى وتعمقّا في الاستقطاب.فهذا الفكر لم يزل يحمل معه تناقضات جيل كامل من التحديث المشوه. جيل يتربى على قيم القبيلة وينشأ على حداثة الغرب. الجيل الذي واكب بداية الفضائيات والانترنت والجوال والبيجر وما إلى ذلك من وسائط التقنية التي يتنافس في استهلاكها دون أن يفهم منطق عملها. هذا الجيل بدأ التعبير عن نفسه في الانترنت منذ عام 99، وهو العام الذي شهد وفاة ابن عثيمين وابن باز.. آخر المرجعيات الدينية المتفق عليها من قبل طبقات المجتمع.
والذي عاق دون نشوء مرجعية جديدة، هو تفجّر ذاك السور الحديدي الذي دشنه الملك فيصل منذ حرب الخليج، عن طريق الوسائط المتجاوزة للخراسان، وعن طريق تولد حقول تواصل بعيدة عن السلطة في عالم الانترنت. وأخيرا : أحداث سبتمبر، التي عمقّت من اختلاف العلماء في السعودية حول تقييم الحدث. فسبتمبر، لا يتمثّل أثره بـ"المحاكمة العالمية التي تعرض لها الإسلام"، بقدر ما ينحصر أثره بالاختلاف الذي نشأ في السعودية داخل التيار الديني من الموقف منه. وكذلك بسبب زيادة هامش الحريّة في السعودية.
وعلى عكس اطروحة السكران، نقول أن التيار الجديد هو تعبير عن جيل جديد، جيل يحمل كل تناقضات السعودية معه، فهو جيل يدعو للمحافظة والتحديث معا، وهو جيل يعجب ببن لادن وبالسياسة الأمريكية معا، وهو جيل يكره ويدافع عن الهيئة معا، وهو جيل يشتكي من فساد المؤسسات العامة، وجيل متذبذب بين قيم القبيلة وقيم المدينة ، ويتجلى هذا التذبذب في النقاش الحاد حول "زواج القبيلي من خضيرية أو العكس".جيل يعاني من ازمات اجتماعية حادة في التعليم والتوظيف والزواج والتعايش مع الآخر، وهو – أخيرا - جيل لا يتوفر على أي آلية نقديّة في فهم ذاته ، بله فهم ما حوله.
هذا التيّار سارع من عمليّة ظهوره نشوء وسيط الانترنت واختلافات العلماء حول تفسير 11 سبتمبر، والعمليات التفجيرية التي أدخلت البلاد في شبه حرب أهليّة. هذا الجيل أشبه ما يكون بالجيل السوفسطائي الذي مرّ على الحضارة اليونانية، أو جيل عصر التنوير ، او علماء الكلام الذي ظهروا في أواخر دولة بني اميّة. وهذا الجيل يتوفر على تيارات مختلفة، من ضمنها تيار واحد هو الذي توجهت "مآلات" السكران لمحاولات فهمه، وفهمه لا يتأدى إلا بفهم الظرف التاريخي المحيط به كله، وعلى تفاعله مع باقي التيارات. وتوّج نشوء الجيل الجديد هذا وفاة الملك فهد وتولي الملك عبد الله، الذي ترافق مع سلسلة الحوارات الوطنية وطفرة سوق الأسهم والحروب المتتالية المحيطة بالبلاد.
ولهذا "دراسة السكران" تقع داخل الإشكاليّة نفسها، إذ أنها انتصار لأيديولوجيا ضد أيديولوجيا على نفس الصعيد الإيبستمولوجي. دون محاولة نقد كامل للأيديولوجيا السعودية كلها بكافة تناقضاتها. وسنحاول أن يكون نقدنا للسكران في المستوى الثاني المتعلق بالجانب البنيوي نقداً لا يدافع عن التيّار المنقود، بقدر ما يوجه النقد للمناقشات التي عقدها السكران على طول الطريق مع مقولات هذا التيار، وبهذا تتحول من نقد للسكران، لنقد عام للأيديولوجيا السعوديّة المعاصرة.
(1) الملك سعود بن عبد العزيز، "الحركة الأدبية في عهد الملك سعود"، عبد الله الحيدري، إصدارات الدارة : ص45.
(2) http://www.cds.gov.sa/statistic/cdso...ts/shealth.asp
خاتمة المستوى الأول:
الآن أتممت حوالي الـ33 صفحة على المايكروسوفت وورد، وهذا كله من أجل نقد أول 16 ورقة من مبحث السكران. خرجنا عن الإطار وعدنا إليه من جديد ، كل هذا لنقرر التالي :
• أنه لا يوجد أي معنى من اتهام المدرسة المغاربية بالـ "فرنكفونية".
• أن "إعادة تفسير التراث" ليست "تكتيكا" جديدا انطلق منذ 1948، بل هو ظاهرة موجودة منذ بداية النهضة المصريّة.
• أن اتهام المشتغلين بالتراث بالعلمانية ، نوع من "المكارثيّة" الغير علميّة.
• أن التغيّر في الفكر العربيّ تغيّر في طبيعته المركزيّة، لا في أيديولوجيّة تيّار واحد من تياراته.
• أن الانتقال من "المركزية" إلى "التشظي" قد طالت أيضا الاتجاهات الاسلامية.
• أن التحوّل في القراءات السعودية لا يمكن فهمه إلا عبر إعادة الاعتبار للتغير في الفكر العربي كله ، وفي الواقع السعودي.
• أن الفكر السعودي المعاصر ، لا يمكن دراسته أبدا بإرجاعه فقط إلى 11 سبتمبر.
• أنه لفهم الفكر السعودي المعاصر ، لا بد من تتبع إشكالياته المتنوعة التي لازمته منذ لحظة التوحيد.